من خصائص المجتمع المسلم أنه مجتمع يقوم على عقيدة الولاء والبراء،
الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من كل من حادّ الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين .
وهاتان الخاصيَّتان للمجتمع المسلم هما من أهم الروابط التي تجعل من ذلك المجتمع مجتمعا مترابطاً متماسكاً، تسوده روابط المحبة والنصرة، وتحفظه من التحلل والذوبان في الهويات والمجتمعات الأخرى، بل تجعل منه وحدة واحدة تسعى لتحقيق رسالة الإسلام في الأرض، تلك الرسالة التي تقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعوة الناس إلى الحق وإلى طريق مستقيم .
أهمية عقيدة الولاء والبراء :
تنبع أهمية هذه العقيدة الإسلامية الأصيلة من كونها فريضة ربانية، ومن كونها كذلك سياج الحماية لهوية الأمة الثقافية والسياسية، ولا أدلَّ على أهمية هذه العقيدة من اعتناء القرآن بتقريرها، فمرة يذكرها على اعتبار أنها الرابطة الإيمانية التي تجمع المؤمنين فتحثهم على فعل الصالحات،
قال تعالى:
"وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "(التوبة:71 )،
ومرة يذكرها محذرا من الانسياق وراء تحالفات تضع المسلم جنبا لجنب مع الكافر في معاداة إخوانه المسلمين،
قال تعالى
" لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ"(آل عمران:28)،
ومرة يذكر عقيدة الولاء والبراء على أنها الصبغة التي تصبغ المؤمنين ولا يمكن أن يتصفوا بما يناقضها،
قال تعالى:
"لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"
(المجادلة:22).
إلى غير ذلك من الآيات.
وفي بيان أهمية هذه العقيدة يقول العلامة أبو الوفاء بن عقيل :
" إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة، عاش ابن الراوندي والمعري - عليهما لعائن الله - ينظمون وينثرون كفراً .. وعاشوا سنين، وعظمت قبورهم، واشتريت تصانيفهم، وهذا يدل على برودة الدين في القلب "
وقد كان النبي -- يبايع أصحابه على تحقيق هذا الأصل العظيم، فكان يقول لبعضهم:
( أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين )
رواه النسائي وأحمد .
ولولاء المؤمن لأخيه صور متعددة نذكر منها:
1. ولاء الود والمحبة:
وهذا يعني أن يحمل المسلم لأخيه المسلم كل حب وتقدير، فلا يكيد له ولا يعتدي عليه ولا يمكر به. بل يمنعه من كل ما يمنع منه نفسه، ويدفع عنه كل سوء يراد له، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، قال : ( مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) رواه مسلم .
2. ولاء النصرة والتأييد:
وذلك في حال ما إذا وقع على المسلم ظلم أو حيف، فإن فريضة الولاء تقتضي من المسلم أن يقف إلى جانب أخيه المسلم، يدفع عنه الظلم، ويزيل عنه الطغيان، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قالوا يا رسول الله: هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما ؟ قال : تأخذ فوق يديه ) أي تمنعه من الظلم. رواه البخاري ، فبهذا الولاء يورث الله المجتمع المسلم حماية ذاتية، تحول دون نشوب العداوات بين أفراده، وتدفعهم جميعا للدفاع عن حرماتهم ، وعوراتهم.
3. النصح لهم والشفقة عليهم:
فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال:
" بايعت رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم "متفق عليه .
هذا من جهة علاقة الأمة بعضها ببعض والذي يحددها واجب الولاء .
أما من جهة علاقة الأمة أو المجتمع المسلم بغيره من المجتمعات الكافرة والتي يحددها واجب البراء، فقد أوجب الله على الأمة البراء من الكفر وأهله، وذلك صيانة لوحدة الأمة الثقافية والسياسية والاجتماعية، وجعل سبحانه مطلق موالاة الكفار خروجا عن الملة وإعراضاً عن سبيل المؤمنين، قال تعالى: " لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ"(آل عمران:28)
فكأنه بموالاته للكافرين يكون قد قطع كل الأواصر والعلائق بينه وبين الله، فليس من الله في شيء.
وتحريم الإسلام لكل أشكال التبعية للكافرين, لا يعني حرمة الاستفادة من خبراتهم وتجاربهم، كلا ، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها، ولكن المقصود والمطلوب أن تبقى للمسلم استقلاليته التامة، فلا يخضع لكافر، ولا يكون ولاؤه إلا لله ولرسوله وللمؤمنين.
ومن صور الموالاة التي يحرمها الإسلام ايضا :
1- ولاء الود والمحبة للكافرين:
فقد نفى الله وجود الإيمان عن كل من وادَّ الكافرين ووالاهم، قال تعالى :
"لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"(المجادلة:22) ،
إلا أن هذه المفاصلة والمفارقة لا تمنع من البر بالكافرين والإحسان إليهم - ما لم يكونوا لنا محاربين
قال تعالى:
" لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ "
(الممتحنة:8 ) .
2- ولاء النصرة والتأييد للكافرين على المسلمين:
ذلك أن الإسلام لا يقبل أن يقف المسلم في خندق واحد مع الكافر ضد إخوانه المسلمين، قال تعالى :
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا" (النساء:144)
وقال أيضاً :
"وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ "(المائدة:81 )
يقول ابن تيمية عن هذه الآية :
" فذكر جملة شرطية تقتضي أن إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف لو التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط فقال:
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ
فدلّ ذلك على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، لا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودلَّ ذلك على أن من اتخذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي، وما أنزل إليه .. ".
وهناك صور أخرى للولاء المحرم منها:
1- تنصيب الكافرين أولياء أو حكاما أو متسلطين بأي نوع من التسلط على المسلمين،
قال تعالى: "وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا " (النساء:141)،
ولأن أبا موسى الأشعري قدم على عمر رضي الله عنه ومعه كاتب نصراني فانتهره عمر وقال :
" لا تأمنوهم وقد خونهم الله، ولا تدنوهم وقد أبعدهم الله، ولا تعزوهم وقد أذلهم الله " ويقول النووي فيما نقله صاحب الكفاية: " لأن الله تعالى قد فسّقهم فمن ائتمنهم فقد خالف الله ورسوله وقد وثق بمن خونه الله تعالى ".
2- اتخاذهم أصدقاء وأصفياء:
قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ }(آل عمران:118) قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: " لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم من دونكم، يقول: من دون أهل دينكم وملتكم، يعني من غير المؤمنين .. فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء، ثم عرفهم ما هم منطوون عليه من الغش والخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذرهم بذلك منهم ومن مخالتهم".
3- البقاء في ديار الكفر دون عذر مع عدم القدرة على إقامة شعائر الإسلام،
قال تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا }
(النساء:97-98).
4- التشبه بهم في هديهم الظاهر ومشاركتهم أعيادهم، قال :
( من تشبه بقوم فهو منهم )رواه أبو داود .
من ثمرات إحياء عقيدة الولاء والبراء في الأمة :
1. ظهور العقيدة الصحيحة وبيانها وعدم التباسها بغيرها وتحقيق المفاصلة بين أهل الكفر وأهل الإسلام، قال تعالى:
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ }(الممتحنة:4).
2. حماية المسلمين سياسيا، وذلك أن ما يوجبه الإسلام من مبدأ الولاء والبراء يمنع من الانجرار وراء الأعداء، وما تسلط الكفار على المسلمين وتدخلوا في شؤونهم إلا نتيجة إخلالهم بهذا الأصل العظيم .
3. تحقيق التقوى والبعد عن مساخط الله سبحانه، قال تعالى:
{ تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ }(المائدة :80)،
وقال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ }(هود:113) .
إن عقيدة الولاء والبراء هي عقيدة صيانة الأمة وحمايتها من أعدائها، كما أنها سبب للألفة والإخاء بين أفرادها، وهي ليست عقيدة نظرية تدرس وتحفظ في الذهن مجردة عن العمل؛ بل هي عقيدة عمل ومفاصلة، ودعوة ومحبة في الله، وكره من أجله وجهاد في سبيله؛ فهي تقتضي كل هذه الأعمال، وبدونها تصبح عقيدةً نظرية سرعان ما تزول، وتضمحل عند أدنى موقف أو محك .
تعليق