من كتاب الأشاعرة في ميزان أهل السنة للشيخ فيصل بن قزار الجاسم
لما كانت دعوى الأشعريين في جواز تأويل الصفات، بل وتحتُّمه، عريضة، لم يكن بد من الاستدلال عليها من كلام السلف، فإن كلام المتأخرين إن لم يكن له أثارة من السلف الماضين، فإنه لا يسمن ولا يغني من جوع.
وقد حاول الأشعري أن يجمع ما أمكن من أقوال الصحابة والسلف من التابعين وأتباعهم، ليستدلوا به على أن تأويل الصفات ثابت عن السلف، فوقعا في أخطاء جسيمة، هي كالتالي:
الخطأ الأول: أنهما لم ينقلا عن السلف من الكتب المسندة في الآثار، وإنما نقلا من كتب المتأخرين، بلا إسناد، ولا عزو لمصادرها.
الخطأ الثاني: أنهما لم يتحققا من صحة وثبوت ما نسباه عن السلف، واكتفيا بالدعاوى المجردة.
الخطأ الثالث: أنهما ينقلان ما يوافق هواهما من كلام بعض السلف، من غير أن يجمعا كل كلامه في المسألة ليتبين معنى كلامه ومراده. ومن المعلوم أنه لا بد من جمع كلام الإمام أو الصاحب في الباب حتى يمكن التحقق من رأيه، كما يفعله أتباع الأئمة الفقهاء من جمع كلام أئمتهم كله في كل باب.
الخطأ الرابع: أنهما ربما نقلا كلاماً لبعض السلف في غير موضعه، كأن ينقلا بعض كلامهم في غير آيات الصفات، أو في آية مختلف على كونها من آيات الصفات.
وهذه الأخطاء تفقد الباب قيمته، بل تجعله كلا شيء، وتبين بعد كاتبه عن أصول التحقيق والبحث العلمي.
وأما طريقة أهل العلم في مثل هذه المسائل، فعلى خطوات:
الخطوة الأولى: التحقق من كون الآية المستدل على كلام السلف فيها، أنها مما اتُّفق على كونها من آيات الصفات، وكذا الأحاديث.
الخطوة الثانية: جمع كلام السلف في الآية أو الحديث من الكتب المسندة، حتى يُتحقق من وجود أصل لها.
الخطوة الثالثة: جمع قول كل إمام على حدة.
الخطوة الرابعة: نخل هذه الآثار، وتمييز الصحيح والثابت منها، من الضعيف.
الخطوة الخامسة: محاولة الجمع بين ما صح عن كل إمام إن كان ثمة شيء من التعارض.
الخطوة السادسة: التوصل إلى الصحيح من قول كل إمام، والجمع بينه وبين كلام غيره من الأئمة.
وبهذه الخطوات يمكن الوصول إلى نتيجة علمية صحيحة في كل دعوى، وإلا كان الجدال عبثاً وسفهاً.
وبالنظر إلى ما استدل به الأشعريان من كلام السلف مما زعما أنه يدل على صحة ورود التأويل عن السلف، يتبين أنه لا يخرج عن أحد أمرين:
الأول: عدم ثبوته عمن نقلا عنه، إما لكونه لا أصل له، أو لضعف سنده، أو لمعارضته لما هو أصح وأشهر من كلامه.
الثاني: أنه في غير موضعه، كأن يكون في غير آيات الصفات، أو مختلفاً فيه.
وقد سبق أن عقدنا فصلاً في إجماع السلف وإطباقهم على منع تأويل الصفات، ومعلوم قطعاً أن الذين حكوا إجماع السلف على ترك التأويل ممن نقلنا بعض كلامهم هم من أعلم الناس بالخلاف، ومن أعلمهم بالحديث والآثار، وبعضهم من كبار أئمة السلف كمحمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، وأبي عبيد القاسم بن سلام وغيرهم، ويستحيل في العادة أن يحكي جميعهم الإجماع على ترك التأويل، ويكون ثابتاً عن السلف في نفس الأمر. بل هذا ضرب من المحال. وهذا رد إجمالاً.
أما تفصيلاً فأنا أذكر هنا جميع ما استدلا به من كلام السلف في التأويل المزعوم، ليتبين لنا بطلان ما ادعياه.
ومن الأهمية بمكان أن يلحظ القارئ فيما سيأتي، أن جميع ما استدلا به هو عين استدلالات الجهمية!!
دعاوى التأويل الوارد عن السلف :
أولاً: دعوى تأويل ابن عباس t للكرسي:
استدلا عليه بما رواه الطبري من طريق جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن عن ابن عباس t أنه قال: ({وسع كرسيه} البقرة255، كرسيه: علمه)[1] اهـ.
وهذا لا يصح عن ابن عباس t لأمور:
أولاً: أن مداره على جعفر بن أبي المغيرة، وفيه لين، فقد لخص الحافظ ابن حجر الحكم فيه فقال: (صدوق يهم)[2]. ومثل هذا لا يُقبل تفرده بمثل هذا عند المحدثين، لا سيما عن المكثرين كسعيد بن جبير، ما لم يكن له به اختصاص، فإذا أضيف إلى ذلك مخالفته للثقات المكثرين من أصحاب سعيد بن جبير، فلا شك أنه يتعين الحكم بخطئه وشذوذه، كما هو الحال هنا، وتفصيله على النحو التالي:
ثانياً: فقد خالف جعفر بن أبي المغيرة فيه من هو أوثق منه في سعيد بن جبير.
فقد رواه مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس t أنه قال: (كرسيه موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره)[3] اهـ.
ومسلم البطين من أوثق الناس في سعيد بن جبير، وقد أخرج له البخاري ومسلم عنه.
وقال ابن منده عن جعفر بن أبي المغيرة: (ولم يتابع عليه جعفر، وليس هو بالقوي في سعيد بن جبير)[4] اهـ.
ثالثاً: أن المحدثين والأئمة قد صححوا رواية القدمين، وضعفوا رواية المغيرة في "العلم":
- فقد صححها أبو زرعة، فقال فيما روى عنه ابن منده في التوحيد قال: (وسئل أبو زرعة عن حديث ابن عباس: موضع القدمين، فقال: صحيح)[5] اهـ.
- وروى الدارقطني في الصفات بإسناده: عن العباس بن محمد الدوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: (شهدت زكريا بن عدي يسأل وكيعاً؟ فقال: يا أبا سفيان، هذه الأحاديث يعني: مثل الكرسي موضع القدمين، ونحو هذا؟.
فقال وكيع: أدركنا إسماعيل بن أبي خالد، وسفيان، ومسعراً، يحدثون بهذه الأحاديث ولا يفسرون شيئاً)[6]. اهـ.
- وقال الدارمي في "الرد على المريسي": (فيقال لهذا المريسي: أما ما رويت عن ابن عباس فإنه من رواية جعفر الأحمر، وليس جعفر الأحمر ممن يعتمد على روايته، إذ قد خالفه الرواة الثقات المتقنون. وقد روى مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الكرسي خلاف ما ادعيت على ابن عباس. – ثم أسنده عن مسلم البطين به، ثم قال: فأقر المريسي بهذا الحديث وصححه.)[7] اهـ.
- وروى البيهقي الطريقين في "الأسماء والصفات" وقال: (وقال تبارك وتعالى: {وسع كرسيه السماوات والأرض} البقرة255. وروينا عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: علمه.
وسائر الروايات عن ابن عباس وغيره تدل على أن المراد به الكرسي المشهور المذكور مع العرش)[8]. اهـ.
- وقال الذهبي في العلو: (وقال ابن عباس: كرسيه: علمه. فهذا جاء من طريق جعفر الأحمر، لين، وقال ابن الأنباري: إنما يروى هذا بإسناد مطعون فيه)[9]. اهـ.
- وقال أبو منصور الأزهري في تهذيب اللغة: (والصحيح عن ابن عباس في الكرسي ما رواه الثوري وغيره عن عمار الدهني عن مسلم البطين –وذكره- ثم قال: وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها، والذي يُروى عن ابن عباس في الكرسي أنه العلم فليس مما يثبته أهل المعرفة بالأخبار)[10] اهـ.
رابعاً: أن تفسير الكرسي بموضع القدمين، هو الموافق لما صح عن النبي r، ولأقاويل الصحابة y:
فعن أبي ذر t أن النبي r قال: (ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة)[11].
وقال عبد الله بن مسعود t: (ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، ثم ما بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وغلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، ثم ما بين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وما بين الكرسي وبين الماء خمسمائة عام، والكرسي فوق الماء، والله تعالى فوق العرش، ولا يخفى عليه من أعمالكم شيء)[12].
وعن أبي موسى t قال: (الكرسي: موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل)[13].
والآثار في هذا الباب كثيرة.
وبهذا يتبين عدم صحة هذا الأثر عن ابن عباس t وشذوذه، وخطأ من استدل به.
ثانياً: دعوى تأويل ابن عباس t لمجيء الرب عز وحل:
زعم الأشعريان أن ابن عباس t تأول مجيء الرب عز وجل، معتمدين على ما ذكره النسفي في تفسيره عند قوله تعالى: {وجاء ربك والملك} الفجر 22، ما نصه: (وعن ابن عباس: أمره وقضاؤه) اهـ. ومثله ما نقلاه عن الحسن.
وليس لهذا أصل ولا إسناد، لا عن ابن عباس ولا عن الحسن البصري، ولا ذكره أحد من المصنفين من أهل الرواية.
ثالثاً: دعوى تأويل ابن عباس t للفظ (الأعين)
زعم الأشعريان أن ابن عباس t تأول العين لله تعالى، فقالا: (قال تعالى: {واصنع الفلك بأعيننا} الطور 48، قال ابن عباس t: بمرأى منا...).
والجواب أن يقال:
أولاً: أن هذا الأثر ليس بثابت عن ابن عباس t، فإن البغوي ذكره بغير إسناد، والثابت عن ابن عباس t أنه قال في قوله: {واصنع الفلك بأعيننا} هود37: بعين الله[14].
وقال عطاء: عن ابن عباس t في قوله عز وجل {تجري بأعيننا} القمر14، قال: أشار بيده إلى عينيه[15].
وهذا صريح منه في إثبات العينين لله تعالى.
وهذا هو المعروف عن السلف، فقد صح مثله عن أبي عمران الجوني، وقتادة، ومطرف، وخالد بن معدان، وأبو نهيك، وغيرهم.
ثانياً: أن هذا الأثر - على فرض ثبوته - ليس من التأويل في شيء، وإنما هو من التفسير باللازم، إذ أنه من المعلوم أن الله تبارك وتعالى يبصر ويرى ما يصنعه نوح عليه السلام، وما يكيده به قومه، فقال له مسلياً: إنك تحت نظرنا، وبمرأى منا، فلا تخف، وليس هذا من تأويل العينين في شيء، ولا من صرف اللفظ عن ظاهره.
إنما يصح التأويل الذي يزعمانه إذا لم يُثبت لله تعالى عين.
ومعلوم لكل عاقل أن نوحاً عليه السلام لم يكن في نفس عين الله تعالى، فذات الله ليست محلاً للمخلوقات، تعالى الله عن ذلك، وإنما المراد الحفظ والكلاءة.
بل ثبوت اللازم ثبوت الملزوم. كما لو قال قائل في قوله تعالى: {إنني معكما أسمع وأرى} طه46، أي: أنتما في حفظي ورعايتي، لكان صحيحاً، وليس هذا تأويلٌ للرؤية أو السماع، بل هو إثبات لهما لثبوت لازمهما.
قال الدارمي في رده على المريسي: (وأما تفسيرك عن ابن عباس في قوله: {فإنك بأعيننا} الطور 48، أنه قال: بحفظنا وكلاءتنا، فإن صح عن ابن عباس في قوله: {فإنك بأعيننا} الطور 48، أنه قال: بحفظنا وكلاءتنا، فإن صح قولك عن ابن عباس فمعناه الذي ادعيناه، لا ما ادعيت أنت، يقول: بحفظنا وكلاءتنا بأعيننا، لأنه لا يجوز في كلام العرب أن يوصف أحد بكلاية إلا وذالك الكالي من ذوي الأعين، فإن جهلت فسم شيئاً من غير ذوي الأعين يوصف بالكلاية. وإنما أصل الكلاية من أجل النظر، وقد يكون الرجل كالياً من غير النظر، ولكنه لا يخلو أن يكون من ذوي الأعين، وكذلك معنى قولك: عين الله، فافهم)[16] اهـ.
وقد نقل أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين، والإبانة، إجماع أهل السنة على إثبات العينين لله تعالى، كما سيأتي بيانه في الفصل الثاني من الباب الخامس.
رابعاً: دعوى تأويل ابن عباس t للفظ (الأيد):
زعم الأشعريان أن ابن عباس t تأول اليد لله تعالى، فقالا: (قال تعالى: {والسماء بنيناها بأيد} الذاريات47، قال t: بقوة وقدرة. (القرطبي)) اهـ.
والجواب: أن لفظ "الأيد" هنا ليس جمع اليد، بل أصله "أيد".
قال ابن منظور في اللسان باب "أيد": (أيد: الأَيْدُو الآدُ جميعاً: القوة، قال العجاج: من أَن تبدّلت بآدِي آدا يعنـي قوّة الشباب. وفـي خطبة علـي كرم الله وجهه: وأَمسكها من أَن تـمور بأَيدِه أَي بقوّته، وقوله عز وجل: {واذكر عبدنا داود ذا الأَيْد} ص17، أَي: ذا القوة.... وقد أَيَّدَه علـى الأَمر. أَبو زيد: آد يَئِيد أَيْداً إِذا اشتد وقوي. والتأْيـيد: مصدر أَيَّدته أَي قوّيته، قال الله تعالـى: {إِذ أَيدتك بروح القدس} المائدة110، وقرىء: {إِذ آيَدْتُك} أَي قوّيتك)[17] اهـ.
وقال صاحب مختار الصحاح في باب "يدي": (وقال الله تعالى: {والسماء بنيناها بأَيْدٍ} الذاريات47، قلت: قوله تعالى {بِأَيْد} أي: بقوة، وهو مصدر آد يئيد إذا قوي، وليس جمعاً ليد ليذكر هنا، بل موضعه باب الدال، وقد نص الأزهري على هذه الآية في الأيد بمعنى المصدر، ولا أعرف أحداً من أئمة اللغة أو التفسير ذهب إلى ما ذهب إليه الجوهري من أنها جمع يد)[18] اهـ.
وقد أجاب عن استدلالهما هذا إمامهم أبو الحسن الأشعري حيث قال في "الإبانة" في رده على الجهمية والمعتزلة الذين تأولوا صفة اليد لله تعالى: (مسألة: وقد اعتل معتل بقول الله تعالى: {والسماء بنيناها بأيد} الذاريات47، قالوا: الأيد القوة، فوجب أن يكون معنى قوله تعالى: {بيدي} ص75، بقدرتي، قيل لهم: هذا التأويل فاسد من وجوه:
أحدها: أن "الأيد" ليس بجمع لليد؛ لأن جمع "يد" أيدي، وجمع "اليد" التي هي نعمة أيادي، وإنما قال تعالى: {لما خلقت بيدي} ص75، فبطل بذلك أن يكون معنى قوله: {بيدي} ص75، معنى قوله: {بنيناها بأيد})[19] اهـ.
وقال ابن خزيمة في التوحيد: (وزعم بعض الجهمية: أن معنى قوله: «خلق الله آدم بيديه» أي بقوته، فزعم أن اليد هي القوة، وهذا من التبديل أيضا، وهو جهل بلغة العرب، والقوة إنما تسمى الأيد بلغة العرب، لا اليد، فمن لا يفرق بين اليد والأيد فهو إلى التعليم والتسليم إلى الكتاتيب أحوج منه إلى الترؤس والمناظرة. )[20] ا.هـ.
خامساً: دعوى تأويل ابن عباس t لقوله تعالى {الله نور السموات والأرض}:
زعم الأشعريان أن ابن عباس t تأول وصف الله تعالى بالنور.
فقالا (ص 234): (جاء في تفسير الطبري ما نصه: عن ابن عباس قوله {الله نور السموات والأرض} النور35، يقول: الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض) اهـ.
والجواب: أن يقال:
أولاً: أن هذا الأثر مداره على علي بن أبي طلحة.
فقد رواه ابن أبي حاتم (8/2593) وابن جرير (18/135) وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات (ص102) واللالكائي (2/201) في شرح أصول أهل السنة كلهم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس t به.
وهذا إسناد منقطع، لأن علي ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس.
قال دحيم: لم يسمع التفسير من ابن عباس، وقال ابن حبان: روى عن ابن عباس ولم يره.
وقد اختلف أيضاً في حاله، فقواه بعضهم كأبي داود والنسائي وابن حبان، وضعفه آخرون، فقال يعقوب بن سفيان: ضعيف الحديث، منكر ليس محمود المذهب[21]. ولخص ابن حجر القول فيه فقال في التقريب: صدوق قد يخطئ، وقال الذهبي في الكاشف: قال أحمد: له أشياء منكرات.
ثانياً: إن صح هذا الأثر فإنه ليس من التأويل الذي يزعمانه، لأن تفسيره بالهادي لا يمنع من كون الله تبارك وتعالى نوراً، فإن من معاني كونه تبارك وتعالى نوراً هدايته لخلقه، فهما إذاً متلازمان. وابن عباس وغيره لم ينفوا ما سوى ذلك.
ولذلك قال تعالى بعده: {مثل نوره} أي في قلب العبد المؤمن.
ومن عادة السلف أن يذكروا بعض صفات اللفظ المُفسّر، أو بعض أنواعه، ولا ينافي ذلك ثبوت بقية أنواعه وأوصافه، بل قد يكونان متلازمين.
ومثال ذلك قول بعضهم في: {الصراط المستقيم} الفاتحة6، أنه: الإسلام، وقال آخرون: إنه القرآن، وقال آخرون: إنه السنة والجماعة، وقال بعضهم: إنه طريق العبودية، وهذه كلها صفات متلازمة للصراط المستقيم، ليست متباينة.
ثالثاً: أنه قد ثبت وصف الله تبارك وتعالى بالنور.
قال تعالى: {وأشرقت الأرض بنور ربها} الزمر69.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي موسى t قال: (قام فينا رسول الله r بخمس كلمات، فقال: (إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور -وفي رواية أبي بكر النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)[22].
وروى أيضاً عن أبي ذر t في حديث المعراج أنه قال: سألت رسول الله r: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه)[23].
وفي دعاء النبي r حين عودته من الطائف بعد دعوته لهم إلى الإسلام: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ..)[24] الحديث.
وقوله: (وصلح عليه أمرالدنيا والآخرة) كقول ابن عباس في تفسير نوره تعالى: (هادي أهل السماوات والأرض).
وقد ذكر أبو الحسن الأشعري وصف الله تبارك وتعالى بالنور، فقال في "مقالات الإسلاميين": (وقال أهل السنة وأصحاب الحديث: ... وأنه نور كما قال تعالى: {الله نور السموات والأرض} النور35)[25] ا.هـ.
فالنور صفة من صفات ربنا تبارك وتعالى، ومنه اشتق اسم (النور) الذي هو أحد الأسماء الحسنى لله تعالى.
سادساً: دعوى تأويل ابن عباس t لنصوص (الوجه):
زعم الأشعريان أن ابن عباس t تأول صفة الوجه لله.
فقالا (234): (قال تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} الرحمن27، قال t: الوجه عبارة عنه) ا.هـ.
فالجواب: أن هذا الذي ذكره القرطبي ليس له أصل عن ابن عباس t.
والثابت عن ابن عباس t إثبات الوجه لله تعالى:
فقد قال t في قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} يونس26: (الزيادة: النظر إلى وجه الله)[26].
وقال t في قوله تعالى: {إلى ربها ناظرة} القيامة23: (نظرت إلى خالقها)[27].
سابعاً: دعوى تأويل ابن عباس t للفظ (الساق):
زعم الأشعريان أن ابن عباس t تأول صفة الساق لله تعالى.
فقالا (234): (قال تعالى: {يوم يكشف عن ساق} القلم42، قال t: عن كرب شديد) اهـ.
والجواب أن يُقال:
أولاً: أن الصحابة متنازعون في هذه الآية، فابن عباس وطائفة يفسرون الآية بالشدة، وأبو سعيد وابن مسعود وطائفة يعدونها من الصفات، وليس هذا تنازعاً في إثبات الصفة، وإنما تنازع في كونها من آيات الصفات؟
ولا ريب أن ظاهر الآية لا يدل على أنها من الصفات، لأن الساق فيها جاءت نكرة في سياق الإثبات، لم يضفها سبحانه لنفسه، فلم يقل (ساقه)، فلما لم يعرّفها بالإضافة، لم تكن دالة على صفة لله، ولذلك لم يعدها ابن عباس من آيات الصفات.
والذين جعلوها من آيات الصفات، إنما عدوها للحديث الذي في الصحيحين، لا لظاهر الآية. ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف.
وعلى هذا فلا يصح أن يقال أن ابن عباس تأول الآية!
ثانياً: أن صفة الساق لله تعالى ثابتة في السنة:
فعن أبي سعيد t قال: سمعت النبي r يقول: (يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى كل من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً)[28].
ثامناً: دعوى تأويل ابن عباس t للفظ (الجنب):
زعم الأشعريان أن ابن عباس t تأول قوله تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} الزمر56، فقال: تركت من طاعة الله وأمر الله وثوابه. وكذلك ورد مثله عن مجاهد والسدي والحسن.
والجواب أن يقال: أن هذا الكلام يدل على جهل كبير، إذ لا يمكن دعوى التأويل هنا حتى يثبت عن السلف أنهم جعلوا (الجنب) صفة لله تعالى، فعندها يمكن دعوى تأويل ابن عباس ومن وافقه.
ولم يقل أحد من السلف قط أن الجنب في الآية صفة لله تعالى.
وهذا من الخطأ الذي يقع فيه الناس، فإن الدلالة في كل موضع بحسب سياقه وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية.
قال الدارمي في رده على المريسي: (وادعى المعارض زوراً على قوم أنهم يقولون في تفسير قول الله: {يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} الزمر56، قال: يعنون بذلك الجنب الذي هو العضو، وليس ذلك على ما يتوهمونه.
فيقال لهذا المعارض: ما أرخص الكذب عندك، وأخفه على لسانك. فإن كنت صادقاً في دعواك فأشر بها إلى أحد من بني آدم قاله، وإلا فَلِمَ تشّنع بالكذب على قوم هم أعلم بهذا التفسير منك، وأبصر بتأويل كتاب الله منك، ومن إمامك؟ إنما تفسيرها عندهم، تحسر الكفار على ما فرطوا في الإيمان والفضائل التي تدعو إلى ذات الله، واختاروا عليها الكفر والسخرية بأولياء الله، فسماهم الساخرين، فهذا تفسير الجنب عندهم. فمن أنبأك أنهم قالوا: جنب من الجنوب؟ فإنه لا يجهل هذا المعنى كثير من عوام المسلمين، فضلاً عن علمائهم، وقد قال أبو بكر الصديق t "الكذب مجانب للإيمان" وقال ابن مسعود: "لا يجوز من الكذب جد ولا هزل" وقال الشعبي "من كان كذابا فهو منافق")[29] ا.هـ.
والآية يقول الله تعالى فيها: {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين . أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين . أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين . بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين} الزمر(56-59).
وهذا إخبار عما تقوله هذه النفس الظالمة لنفسها، ومعلوم أن عامة هذه النفوس لا تعلم أن لله جنباً، ولا تقر بذلك، كما هو الموجود منها في الدنيا، فكيف يكون ظاهر القرآن أن الله أخبر عنهم بذلك.
وقوله تعالى: {يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} إخبار عن تحسرهم على التفريط في جنب الله، والتفريط إما فعل أو ترك فعل، وهذا لا يكون قائماً بذات الله، لا في جنب ولا في غيره، بل يكون منفصلاً عن الله، وهذا معلوم بالحس والمشاهدة، فظاهر االآية لا يدل على أن قول القائل: {يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} أنه جعل فعله أو تركه في جنب يكون من صفات الله وذاته.
وإنما المراد بجنب الله، طاعة الله، وأمر الله، وحق الله، كما يقال (سبيل الله). ومنه ما ورد من قوله r: (من قتل دون ماله مظلوما فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون جاره فهو شهيد، ومن قتل في جنب الله فهو شهيد)[30].
وكما في قول إبي الدرداء t: (إنك لن تتفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في جنب الله، ثم ترجع إلى نفسك فتجدها أمقت من سائر الناس)[31].
وفي قول خالد بن معدان: (لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى الناس في جنب الله أمثال الأباعر، ثم يرجع إلى نفسه فتكون هي أحقر حاقر)[32].
قال ابن منظور في اللسان (مادة جنب): (قال الفراء: الجنب القرب، وقوله عز وجل: {على ما فرطت في جنب الله} أي: في قرب الله وجواره، والجنب معظم الشيء وأكثره، ومنه قولهم: هذا قليل في جنب مودتك. وقال ابن الأعرابي في قوله عز وجل: {في جنب الله} في قرب الله من الجنة. وقال الزجاج: معناه على ما فرطت في الطريق الذي هو طريق الله الذي دعاني إليه، وهو توحيد الله والإقرار بنبوة رسوله، وهو محمد وقولهم: اتق الله في جنب أخيك ولا تقدح في ساقه، معناه: لا تقتله ولا تفتنه)[33] اهـ.
تاسعاً: دعوى تأويل مجاهد والضحاك والشافعي والبخاري للفظ (الوجه):
زعم الأشعريان أن مجاهداً والضحاك والشافعي أولوا صفة الوجه لله تعالى. فقالوا في قوله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} البقرة115، قال مجاهد: قبلة الله، وقال الشافعي: فثم الوجه الذي وجهكم الله إليه.
والجواب: أن هذه الآية مما اختلف السلف في كونها من آيات الصفات؟.
وأكثر السلف على أنها ليست من آيات الصفات، ففسروها بما ذُكر.
لأن الوجه قد يراد به الجهة في لغة العرب، وهذا كثير مشهور، وظاهر الآية يدل على أن المراد بالوجه الجهة لا الصفة. ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف.
وجميع من نُقل عنهم تفسير هذه الآية بغير الصفة، كمجاهد وغيره، فإنهم لم يقولوا ذلك إلا في هذا الموضع فقط دون غيره من المواضع التي فيها ذكر الوجه لله تعالى كقوله تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} الرحمن27، ونحوها من الآيات. ولم ينف أحد منهم أن يكون الله متصفاً بالوجه حقيقة.
وقد روى الدارقطني في الرؤية (رقم 243/ص162) عن الضحاك قال: (الزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل)[34].
وقال اللالكائي في شرح أصول أهل السنة (3/454): (سياق ما فسر من الآيات في كتاب الله عزوجل على أن المؤمنين يرون الله عزوجل يوم القيامة بأبصارهم:
قال الله عزوجل للذين أحسنوا الحسنى وزيادة روى عن النبي r فيما صح عنه من تفسيره أنه النظر إلى الله عزوجل.
وروى ذلك من الصحابة: عن أبي بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وأبي موسى الأشعري وابن مسعود وابن عباس.
ومن التابعين: عبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن المسبب والحسن وعكرمة وعامر بن سعد البجلي وأبي اسحاق السبيعي ومجاهد وعبد الرحمن بن سابط وقتادة والضحاك وأبو سنان ... -ثم ساقها بأسانيدها،
ثم أسند عن مجاهد من طريق ابن أبي حاتم أنه قال: ({للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} يونس26، قال: الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى الرب)[35] اهـ.
وعن مجاهد في قول الله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص88، قال: (إلا ما أريد به وجهه)[36].
والآثار في إثبات وجه الله تعالى عن النبي r والصحابة والتابعين متواترة. ولا يخلو كتاب من كتب السنة من باب في إثبات الوجه لله تعالى. وصنف الدارقطني كتاب "الرؤية".
وأما ما ذكراه عن الضحاك وأبي عبيدة والبخاري في قوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص88، فقالا: قال الضحاك وأبو عبيدة: إي إلا هو. وقال البخاري: إلا ما أريد به وجهه.
فهذا ليس من التأويل في شيء، لأن الشيء قد يعبر عنه ببعض صفاته، فقوله {إلا وجهه} المراد به ذاته تعالى المتصفة بالصفات ومنها الوجه، وهذا ظاهر لا خفاء فيه، إذ لا يفنى منه شيء تعالى الله عن ذلك، وإنما عبر الله عن ذلك بذكر صفة من صفاته وهي وجهه تعالى.
فتفسير الضحاك وأبو عبيدة ليس نفياً لصفة الوجه بل إثبات لها، لأن الوجه المذكور في الآية لو لم يكن صفة له سبحانه، لما دل على بقاءه، ولَكان داخلاً في قوله {كل شيء هالك} تعالى الله عن ذلك.
ويؤكد هذا أن البخاري رحمه الله قد عقد باباً في صحيحه في إثبات الوجه لله تعالى مستدلاً بهذه الآية، فقال في كتاب التوحيد:
(باب قول الله تعالى {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص88:
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حماد بن زيد عن عمرو عن جابر بن عبد الله قال لما نزلت هذه الآية {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} الأنعام65، قال النبي r: أعوذ بوجهك، فقال: {أو من تحت أرجلكم} فقال النبي r: أعوذ بوجهك، قال: {أو يلبسكم شيعا} فقال النبي r: هذا أيسر) ا.هـ
فجعل قوله r: (أعوذ بوجهك) تفسيراً لقوله تعالى: {إلا وجهه}، وكلاهما دليل على إثبات صفة الوجه لله تعالى.
وبهذا يتبين بأن ما ذكره البخاري في تفسيرها، لا ينافي إثبات صفة الوجه لله تعالى، بل يثبته، ولذلك استدل بها.
قال ابن كثير في تفسيره: (وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلا وجهه} القصص88، إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم، الذي تموت الخلائق ولا يموت، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله ها هنا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } أي: إلا إياه.
وقد ثبت في الصحيح، من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: "أصدق كلمة قالها شاعر: كلمة لبيد: ألا كلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ".
وقال مجاهد والثوري في قوله: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } أي: إلا ما أريد به وجهه، وحكاه البخاري في صحيحه كالمقرر له. قال ابن جرير: ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر: أسْتَغْفِرُ اللهَ ذنبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبّ العبَاد، إلَيه الوَجْهُ والعَمَلُ ...
وهذا القول لا ينافي القول الأول، فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد بها وجه الله عز وجل من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة. والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية وهالكة وزائلة إلا ذاته تعالى، فإنه الأول الآخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء.)[37] ا.هـ
ويحسن هنا ذكر قاعدة مفيدة ذكرها ابن القيم قائلاً: (وها هنا قاعدة يجب التنبيه عليها، وهي: أنه إذا ثبت عن مالك وأحمد وغيرهما شيء في موارد النزاع، لم يكن فيه أكثر من أنه وقع بينهم نزاع في معنى الآية، أو الحديث، وهو نظير اختلافهم في تفسير آيات وأحاديث، مثل تنازع ابن عباس وعائشة في قوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى} النجم13، فقال ابن عباس: رأى ربه، وقالت عائشة: بل رأى جبرائيل، وكتنازع ابن مسعود وابن عباس في قوله تعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} الدخان10، فقال ابن مسعود: هو ما أصاب قريشاً من الجوع، حتى كان أحدهم يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان، وقال ابن عباس: هو دخان يجيء يوم القيامة، وهذا هو الصحيح، ونظائر ذلك، فالحجة هي التي تفصل بين الناس)[38] اهـ
وقال ابن تيمية: (تأويل السلف إن صدر من الصحابة فهو مقبول، لأنهم سمعوه من الرسول، وإن صدر من غيرهم وتابعهم عليه الأئمة قبلناه، وإن تفرد نبذناه وأعرضنا عنه إعراضنا عن تأويل الخلف)[39] اهـ.
عاشراً: دعوى تأويل الثوري للاستواء:
قال الأشعريان (ص236): (وأول سفيان الثوري الاستواء على العرش: بقصد أمره، والاستواء إلى السماء: بالقصد إليها (مرقاة المفاتيح 2/137)) اهـ.
وهذا الأثر ذكره ملا على القاري في "المرقاة" جزافاً بلا إسناد ولا عزو، ولا يُعرف هذا التأويل عن الثوري. بل المعروف المتواتر عنه قوله في جميع الصفات: (أمرّوها كما جاءت بلا كيف). وقد سبق تخريجه والكلام عليه.
ولا يُعرف عن أحد من السلف قط أنه أوّل الاستواء لله تعالى بغير العلو، سواء ما عُدّي بـ على (استوى على) أو ما عُدّي بـ إلى (استوى إلى).
الحادي عشر: دعوى تأويل الإمام مالك لصفة النزول:
زعم الأشعريان أن الإمام مالكاً قد أول صفة النزول لله تعالى فقالا: (سئل الإمام مالك رحمه الله عن نزول الرب عز وجل، فقال: "ينزل أمره كل سحر، فأما هو عز وجل فإنه دائم لا يزول ولا ينتقل سبحانه لا إله إلا هو) ا.هـ
فالجواب: أن هذا الأثر لا يصح عن الإمام مالك لأمور:
أولها: أنه من رواية حبيب كاتب مالك، وهو كذاب
قال أبو داود: (كان من أكذب الناس)، وقال: (أحاديثه كلها موضوعة)، وقال ابن حبان: (يروي الموضوعات عن الثقات)[40].
وقال ابن عدي: (وعامة حديث حبيب موضوع المتن مقلوب الإسناد، ولا يحتشم حبيب في وضع الحديث على الثقات، وأمره بيّن في الكذابين)[41] اهـ.
وللأثر طريق آخر ذكره ابن عبد البر في التمهيد من طريق محمد بن علي الجبلي عن جامع بن سوادة عن مطرف عن مالك أنه سئل عن حديث التنزل فقال: (يتنزل أمره)[42].
وهذا إسناد مظلم، فإن محمد بن علي الجبُّلي قال عنه الخطيب: (قيل إن كان رافضياً شديد الرفض)[43] اهـ.
وأما جامع بن سوادة فمجهول، وقد روى له الدارقطني في غرائب مالك حديثاً ثم قال: (الحديث باطل، وجامع ضعيف)[44] اهـ.
وقال عنه ابن الجوزي في الموضوعات بعد أن روى له حديث الجمع بين الزوجين: (هذا موضوع وجامع مجهول)[45] اهـ.
الثاني: أن هذا الأثر مخالف للمعروف المستفيض عن الإمام مالك من إمرار الصفات على ظاهرها، وعدم التعرض لها بتأويل ولا غيره.
كما في رواية الوليد بن مسلم عنه حيث قال: (سألت الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، عن هذه الأحاديث التي فيها الرؤية فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف)[46] اهـ.
وكما في الأثر المشهور المستفيض عنه لما سئل عن كيفية الاستواء فقال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول ..)[47].
وكذا ما رواه ابن أبي زمنين في "أصول السنة" حيث قال في "باب الإيمان بالنزول": (ومن قول أهل السنة أن الله ينزل إلى سماء الدنيا، ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حداً، وذكر الحديث من طريق مالك وغيره إلى أن قال: وأخبرني وهب عن ابن وضاح عن الزهري عن ابن عباد قال: ومن أدركت من المشائخ مالك، وسفيان، وفضيل بن عياض، وعيسى بن المبارك، ووكيع، كانوا يقولون: إن النزول حق)[48] اهـ. فهذا هو المعروف المشهور المستفيض عن الإمام مالك.
أما قول الأشعريّيْن عن هذا الأثر مدافعين عن ضعفه وعدم ثبوته (حاشية ص130): (إلا أن أصحاب المذهب أعرف بأقوال إمامهم من غيرهم، لا سيما إذا كان القول مشهوراً عندهم شهرة مستفيضة) اهـ.
ولا أدري هل يعرف الأشعريان معنى الشهرة المستفيضة أم لا؟
فإن القول المستفيض المشهور عن الإمام هو الذي يُروى عنه بطرق متعددة، وينقله كبار أصحابه ومعاصريه، أما ما رواه المتأخرون عنه بسند موضوع، ولا يعرف له أصل صحيح عنه، ولا ذكره أحد من ثقات أصحابه الذين لازموه، ولا سطروه في كتبهم مما نقلوه عن إمامهم، فكيف يكون هذا مشهوراً شهرة مستفيضة!!!
وهذا الأثر لا يثبت عن الإمام مالك، فضلاً عن شهرته عنه، وإنما ينقله من يعتقد تأويل الصفات، وأنها ليست على حقيقتها، فيفرح بمثله معرضاً عما في الكتاب والسنة وما تواتر عن سلف الأمة، ومعرضاً عما هو المعروف عن إمامهم.
وحسبك بهذا الأثر نكارةً أنه لم يُذكر في شيء من كتب السنة التي تنقل معتقد السلف وأقوالهم قط، ولا في شيء من كتب أصحاب الإمام مالك التي تنقل أقواله واختياراته كالمدونة وغيرها، ولم يُسطر في كتاب يحكي عقيدة الإمام مالك، كالرسالة لابن أبي زيد القيرواني. فكيف بمكن بعد هذا أن يكون مشهوراً مستفيضاً عن الإمام مالك!!!
وأظهر منه في البطلان والكذب ما حكياه عن الإمام مالك فقالا (ص129): (ذكر الإمام ناصر الدين بن المنير الإسكندري المالكي في كتابه "المنتقى في شرف المصطفى" لما تكلم عن الجهة وقرر نفيها قال: "ولهذا أشار مالك رحمه الله تعالى في قوله "لا تفضلوني على يونس بن متى" فقال مالك: إنما خص يونس للتنبيه على التنزيه لأنه رفع إلى العرش، ويونس عليه السلام هبط إلى قاموس البحر ونسبتهما مع ذلك من حيث الجهة إلى الحق جل جلاله نسبة واحدة، ولو كان الفضل بالمكان لكان عليه السلام أقرب من يونس بن متى وأفضل، ولَمَا نهى عن ذلك)ا.هـ) اهـ.
وهذا كذب على الإمام مالك بلا ريب، وافتراء عليه وبهتان، فأين وجدتم هذا القول عن مالك؟، وفي أي كتاب مسند أثرتموه؟!!!
وهذا إنما قاله أبو المعالي الجويني، منكراً علو الله تعالى على خلقه، وارتفاعه بذاته على عرشه.
وهذا الحديث المذكور ليس له أصل
قال الزيلعي في تخريج الأحاديث والآثار: (غريب جداً)[49].
والزيلعي كثيراً ما يطلق هذا اللفظ على ما كان موضوعاً. ذكر ذلك الشيخ ثناء الله الزاهدي في "توجيه القاري"[50].
وإنما المعروف ما رواه أبو هريرة t أن النبي r قال: (لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى)[51].
وفي الصحيحين عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما نحوه.
الثاني عشر: دعوى تأويل الإمام أحمد مجيء الله تعالى:
زعم الأشعريان أن الإمام أحمد قد تأول صفة المجيء لله تعالى فقالا: (جاء في البداية والنهاية للإمام الحافظ ابن كثير ما نصه: "روى البيهقي عن الحاكم عن عمرو بن السماك عن حنبل: أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعالى: {وجاء ربك} الفجر22، أنه جاء ثوابه. ثم قال البيهقي: وهذا إسناد لا غبار عليه) اهـ.
ثم قالا: (ونقل ابن الجوزي عن القاضي أبي يعلى عن الإمام أحمد في قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} البقرة210،أنه قال: المراد به قدرته وأمره.)اهـ.
والجواب أن يقال:
أولاً: أن هذه الرواية التي رواها حنبل، إنما قالها الإمام أحمد –على فرض ثبوتها- في مناظرته للجهمية في القرآن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية لما ذكر كلام ابن الجوزي وما نقله عن القاضي أبي يعلى: (قلت: هذا الذي ذكره القاضى وغيره أن حنبلاً نقله عن أحمد فى كتاب المحنة، أنه قال ذلك فى المناظرة لهم يوم المحنة لما احتجوا عليه بقوله "تجيء البقرة وآل عمران" قالوا": والمجيء لا يكون إلا لمخلوق، فعارضهم أحمد بقوله: {وجاء ربك} الفجر22، أو {يأتى ربك} الأنعام158، وقال: المراد بقوله تجيء البقرة وآل عمران ثوابهما، كما فى قوله {وجاء ربك} أمره و قدرته)[52] اهـ.
وهذا يدل على أن الإمام أحمد إنما قاله على سبيل المعارضة وإبطال حجة الخصم من كلامه وما يعتقده، وهذا من باب التنزل، فإن الجهمية كانت تتأول مجيئه سبحانه وإتيانه بمجيء وإتيان أمره، لا أنه يجيء بنفسه، ولم يكن هذا دالاً عندهم على أن من نُسب إليه المجيء والإتيان مخلوقاً، فعارضهم بهذا الأصل، فقال: فكذلك وصف الله سبحانه كلامه وهو القرآن بالمجيء في حديث "تجيء البقرة وآل عمران كأنهما غيايتان" هو مثل وصف نفسه بذلك، فلا يدل على أن كلامه مخلوق، بل يحمل مجيء القرآن على مجيء ثوابه، كما حملتم مجيئه سبحانه وإتيانه على مجيء أمره وقدرته.
فالإمام أحمد ذكر ذلك على وجه المعارضة والإلزام لخصومه بما يعتقدونه في نظير ما احتجوا به عليه، لا أنه يعتقد ذلك، والمعارضة لا تستلزم اعتقاد المعارض صحة ما عارض به.
ثانياً: أن هذا مخالف للمتواتر المشهور عن الإمام أحمد في هذا الباب من وجوب إمرار الصفات على ظاهرها، ومنع التعرض لها بتأويل أو غيره. بل إن حنبلاً نفسه نقل عنه ترك التأويل والمنع منه مطلقاً:
فقال حنبل بن إسحاق: (قلت لأبي عبد الله : ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا؟ قال: نعم. قلت: نزوله بعلمه أم بماذا؟ قال : فقال لي: اسكت عن هذا، وغضب غضباً شديداً، وقال: مالك ولهذا؟ أمض الحديث كما روي بلا كيف)[53]اهـ.
وقال حنبل: (سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى أن الله سبحانه ينزل إلى سماء الدنيا، وأن الله يُرى، وأن الله يضع قدمه، وما أشبه هذه الأحاديث.
فقال أبو عبد الله: نؤمن بها ونصدق بها ولا نرد منها شيئاً، ونعلم أن ما جاء به رسول الله حق إذا كانت أسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله، ولا يوصف بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وقال حنبل في موضع آخر عن أحمد: ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف نفسه، قد أجمل الله الصفة فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء، وصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه. قال: فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير، ولا يبلغ الواصفون صفته، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه، ولا نتعدى ذلك، ولا يبلغ صفته الواصفون، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته بشناعة شنعت، وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضعه كنفه عليه فهذا كله يدل على أن الله سبحانه وتعالى يرى في الآخرة)[54] اهـ.
وقال القاضي أبو يعلى في "إبطال التأويلات": (وقال يوسف بن موسى قيل لأبي عبد الله: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء من غير وصف؟ قال: نعم)[55] اهـ.
وقال إسحاق بن منصور: (قلت لأحمد: "ينزل ربنا وجل كل ليلة حتى يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا" أليس تقول بهذه الأحاديث؟ قال أحمد: صحيح.)[56] اهـ.
وقال أحمد بن الحسين بن حسان: قيل لأبي عبد الله: "إن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة"؟ قال: نعم، قيل له: وفي شعبان كما جاء الأثر؟ قال: نعم.
نقله الأستاذ عبد الله المسلم
لما كانت دعوى الأشعريين في جواز تأويل الصفات، بل وتحتُّمه، عريضة، لم يكن بد من الاستدلال عليها من كلام السلف، فإن كلام المتأخرين إن لم يكن له أثارة من السلف الماضين، فإنه لا يسمن ولا يغني من جوع.
وقد حاول الأشعري أن يجمع ما أمكن من أقوال الصحابة والسلف من التابعين وأتباعهم، ليستدلوا به على أن تأويل الصفات ثابت عن السلف، فوقعا في أخطاء جسيمة، هي كالتالي:
الخطأ الأول: أنهما لم ينقلا عن السلف من الكتب المسندة في الآثار، وإنما نقلا من كتب المتأخرين، بلا إسناد، ولا عزو لمصادرها.
الخطأ الثاني: أنهما لم يتحققا من صحة وثبوت ما نسباه عن السلف، واكتفيا بالدعاوى المجردة.
الخطأ الثالث: أنهما ينقلان ما يوافق هواهما من كلام بعض السلف، من غير أن يجمعا كل كلامه في المسألة ليتبين معنى كلامه ومراده. ومن المعلوم أنه لا بد من جمع كلام الإمام أو الصاحب في الباب حتى يمكن التحقق من رأيه، كما يفعله أتباع الأئمة الفقهاء من جمع كلام أئمتهم كله في كل باب.
الخطأ الرابع: أنهما ربما نقلا كلاماً لبعض السلف في غير موضعه، كأن ينقلا بعض كلامهم في غير آيات الصفات، أو في آية مختلف على كونها من آيات الصفات.
وهذه الأخطاء تفقد الباب قيمته، بل تجعله كلا شيء، وتبين بعد كاتبه عن أصول التحقيق والبحث العلمي.
وأما طريقة أهل العلم في مثل هذه المسائل، فعلى خطوات:
الخطوة الأولى: التحقق من كون الآية المستدل على كلام السلف فيها، أنها مما اتُّفق على كونها من آيات الصفات، وكذا الأحاديث.
الخطوة الثانية: جمع كلام السلف في الآية أو الحديث من الكتب المسندة، حتى يُتحقق من وجود أصل لها.
الخطوة الثالثة: جمع قول كل إمام على حدة.
الخطوة الرابعة: نخل هذه الآثار، وتمييز الصحيح والثابت منها، من الضعيف.
الخطوة الخامسة: محاولة الجمع بين ما صح عن كل إمام إن كان ثمة شيء من التعارض.
الخطوة السادسة: التوصل إلى الصحيح من قول كل إمام، والجمع بينه وبين كلام غيره من الأئمة.
وبهذه الخطوات يمكن الوصول إلى نتيجة علمية صحيحة في كل دعوى، وإلا كان الجدال عبثاً وسفهاً.
وبالنظر إلى ما استدل به الأشعريان من كلام السلف مما زعما أنه يدل على صحة ورود التأويل عن السلف، يتبين أنه لا يخرج عن أحد أمرين:
الأول: عدم ثبوته عمن نقلا عنه، إما لكونه لا أصل له، أو لضعف سنده، أو لمعارضته لما هو أصح وأشهر من كلامه.
الثاني: أنه في غير موضعه، كأن يكون في غير آيات الصفات، أو مختلفاً فيه.
وقد سبق أن عقدنا فصلاً في إجماع السلف وإطباقهم على منع تأويل الصفات، ومعلوم قطعاً أن الذين حكوا إجماع السلف على ترك التأويل ممن نقلنا بعض كلامهم هم من أعلم الناس بالخلاف، ومن أعلمهم بالحديث والآثار، وبعضهم من كبار أئمة السلف كمحمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، وأبي عبيد القاسم بن سلام وغيرهم، ويستحيل في العادة أن يحكي جميعهم الإجماع على ترك التأويل، ويكون ثابتاً عن السلف في نفس الأمر. بل هذا ضرب من المحال. وهذا رد إجمالاً.
أما تفصيلاً فأنا أذكر هنا جميع ما استدلا به من كلام السلف في التأويل المزعوم، ليتبين لنا بطلان ما ادعياه.
ومن الأهمية بمكان أن يلحظ القارئ فيما سيأتي، أن جميع ما استدلا به هو عين استدلالات الجهمية!!
دعاوى التأويل الوارد عن السلف :
أولاً: دعوى تأويل ابن عباس t للكرسي:
استدلا عليه بما رواه الطبري من طريق جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن عن ابن عباس t أنه قال: ({وسع كرسيه} البقرة255، كرسيه: علمه)[1] اهـ.
وهذا لا يصح عن ابن عباس t لأمور:
أولاً: أن مداره على جعفر بن أبي المغيرة، وفيه لين، فقد لخص الحافظ ابن حجر الحكم فيه فقال: (صدوق يهم)[2]. ومثل هذا لا يُقبل تفرده بمثل هذا عند المحدثين، لا سيما عن المكثرين كسعيد بن جبير، ما لم يكن له به اختصاص، فإذا أضيف إلى ذلك مخالفته للثقات المكثرين من أصحاب سعيد بن جبير، فلا شك أنه يتعين الحكم بخطئه وشذوذه، كما هو الحال هنا، وتفصيله على النحو التالي:
ثانياً: فقد خالف جعفر بن أبي المغيرة فيه من هو أوثق منه في سعيد بن جبير.
فقد رواه مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس t أنه قال: (كرسيه موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره)[3] اهـ.
ومسلم البطين من أوثق الناس في سعيد بن جبير، وقد أخرج له البخاري ومسلم عنه.
وقال ابن منده عن جعفر بن أبي المغيرة: (ولم يتابع عليه جعفر، وليس هو بالقوي في سعيد بن جبير)[4] اهـ.
ثالثاً: أن المحدثين والأئمة قد صححوا رواية القدمين، وضعفوا رواية المغيرة في "العلم":
- فقد صححها أبو زرعة، فقال فيما روى عنه ابن منده في التوحيد قال: (وسئل أبو زرعة عن حديث ابن عباس: موضع القدمين، فقال: صحيح)[5] اهـ.
- وروى الدارقطني في الصفات بإسناده: عن العباس بن محمد الدوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: (شهدت زكريا بن عدي يسأل وكيعاً؟ فقال: يا أبا سفيان، هذه الأحاديث يعني: مثل الكرسي موضع القدمين، ونحو هذا؟.
فقال وكيع: أدركنا إسماعيل بن أبي خالد، وسفيان، ومسعراً، يحدثون بهذه الأحاديث ولا يفسرون شيئاً)[6]. اهـ.
- وقال الدارمي في "الرد على المريسي": (فيقال لهذا المريسي: أما ما رويت عن ابن عباس فإنه من رواية جعفر الأحمر، وليس جعفر الأحمر ممن يعتمد على روايته، إذ قد خالفه الرواة الثقات المتقنون. وقد روى مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الكرسي خلاف ما ادعيت على ابن عباس. – ثم أسنده عن مسلم البطين به، ثم قال: فأقر المريسي بهذا الحديث وصححه.)[7] اهـ.
- وروى البيهقي الطريقين في "الأسماء والصفات" وقال: (وقال تبارك وتعالى: {وسع كرسيه السماوات والأرض} البقرة255. وروينا عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: علمه.
وسائر الروايات عن ابن عباس وغيره تدل على أن المراد به الكرسي المشهور المذكور مع العرش)[8]. اهـ.
- وقال الذهبي في العلو: (وقال ابن عباس: كرسيه: علمه. فهذا جاء من طريق جعفر الأحمر، لين، وقال ابن الأنباري: إنما يروى هذا بإسناد مطعون فيه)[9]. اهـ.
- وقال أبو منصور الأزهري في تهذيب اللغة: (والصحيح عن ابن عباس في الكرسي ما رواه الثوري وغيره عن عمار الدهني عن مسلم البطين –وذكره- ثم قال: وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها، والذي يُروى عن ابن عباس في الكرسي أنه العلم فليس مما يثبته أهل المعرفة بالأخبار)[10] اهـ.
رابعاً: أن تفسير الكرسي بموضع القدمين، هو الموافق لما صح عن النبي r، ولأقاويل الصحابة y:
فعن أبي ذر t أن النبي r قال: (ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة)[11].
وقال عبد الله بن مسعود t: (ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، ثم ما بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وغلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، ثم ما بين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وما بين الكرسي وبين الماء خمسمائة عام، والكرسي فوق الماء، والله تعالى فوق العرش، ولا يخفى عليه من أعمالكم شيء)[12].
وعن أبي موسى t قال: (الكرسي: موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل)[13].
والآثار في هذا الباب كثيرة.
وبهذا يتبين عدم صحة هذا الأثر عن ابن عباس t وشذوذه، وخطأ من استدل به.
ثانياً: دعوى تأويل ابن عباس t لمجيء الرب عز وحل:
زعم الأشعريان أن ابن عباس t تأول مجيء الرب عز وجل، معتمدين على ما ذكره النسفي في تفسيره عند قوله تعالى: {وجاء ربك والملك} الفجر 22، ما نصه: (وعن ابن عباس: أمره وقضاؤه) اهـ. ومثله ما نقلاه عن الحسن.
وليس لهذا أصل ولا إسناد، لا عن ابن عباس ولا عن الحسن البصري، ولا ذكره أحد من المصنفين من أهل الرواية.
ثالثاً: دعوى تأويل ابن عباس t للفظ (الأعين)
زعم الأشعريان أن ابن عباس t تأول العين لله تعالى، فقالا: (قال تعالى: {واصنع الفلك بأعيننا} الطور 48، قال ابن عباس t: بمرأى منا...).
والجواب أن يقال:
أولاً: أن هذا الأثر ليس بثابت عن ابن عباس t، فإن البغوي ذكره بغير إسناد، والثابت عن ابن عباس t أنه قال في قوله: {واصنع الفلك بأعيننا} هود37: بعين الله[14].
وقال عطاء: عن ابن عباس t في قوله عز وجل {تجري بأعيننا} القمر14، قال: أشار بيده إلى عينيه[15].
وهذا صريح منه في إثبات العينين لله تعالى.
وهذا هو المعروف عن السلف، فقد صح مثله عن أبي عمران الجوني، وقتادة، ومطرف، وخالد بن معدان، وأبو نهيك، وغيرهم.
ثانياً: أن هذا الأثر - على فرض ثبوته - ليس من التأويل في شيء، وإنما هو من التفسير باللازم، إذ أنه من المعلوم أن الله تبارك وتعالى يبصر ويرى ما يصنعه نوح عليه السلام، وما يكيده به قومه، فقال له مسلياً: إنك تحت نظرنا، وبمرأى منا، فلا تخف، وليس هذا من تأويل العينين في شيء، ولا من صرف اللفظ عن ظاهره.
إنما يصح التأويل الذي يزعمانه إذا لم يُثبت لله تعالى عين.
ومعلوم لكل عاقل أن نوحاً عليه السلام لم يكن في نفس عين الله تعالى، فذات الله ليست محلاً للمخلوقات، تعالى الله عن ذلك، وإنما المراد الحفظ والكلاءة.
بل ثبوت اللازم ثبوت الملزوم. كما لو قال قائل في قوله تعالى: {إنني معكما أسمع وأرى} طه46، أي: أنتما في حفظي ورعايتي، لكان صحيحاً، وليس هذا تأويلٌ للرؤية أو السماع، بل هو إثبات لهما لثبوت لازمهما.
قال الدارمي في رده على المريسي: (وأما تفسيرك عن ابن عباس في قوله: {فإنك بأعيننا} الطور 48، أنه قال: بحفظنا وكلاءتنا، فإن صح عن ابن عباس في قوله: {فإنك بأعيننا} الطور 48، أنه قال: بحفظنا وكلاءتنا، فإن صح قولك عن ابن عباس فمعناه الذي ادعيناه، لا ما ادعيت أنت، يقول: بحفظنا وكلاءتنا بأعيننا، لأنه لا يجوز في كلام العرب أن يوصف أحد بكلاية إلا وذالك الكالي من ذوي الأعين، فإن جهلت فسم شيئاً من غير ذوي الأعين يوصف بالكلاية. وإنما أصل الكلاية من أجل النظر، وقد يكون الرجل كالياً من غير النظر، ولكنه لا يخلو أن يكون من ذوي الأعين، وكذلك معنى قولك: عين الله، فافهم)[16] اهـ.
وقد نقل أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين، والإبانة، إجماع أهل السنة على إثبات العينين لله تعالى، كما سيأتي بيانه في الفصل الثاني من الباب الخامس.
رابعاً: دعوى تأويل ابن عباس t للفظ (الأيد):
زعم الأشعريان أن ابن عباس t تأول اليد لله تعالى، فقالا: (قال تعالى: {والسماء بنيناها بأيد} الذاريات47، قال t: بقوة وقدرة. (القرطبي)) اهـ.
والجواب: أن لفظ "الأيد" هنا ليس جمع اليد، بل أصله "أيد".
قال ابن منظور في اللسان باب "أيد": (أيد: الأَيْدُو الآدُ جميعاً: القوة، قال العجاج: من أَن تبدّلت بآدِي آدا يعنـي قوّة الشباب. وفـي خطبة علـي كرم الله وجهه: وأَمسكها من أَن تـمور بأَيدِه أَي بقوّته، وقوله عز وجل: {واذكر عبدنا داود ذا الأَيْد} ص17، أَي: ذا القوة.... وقد أَيَّدَه علـى الأَمر. أَبو زيد: آد يَئِيد أَيْداً إِذا اشتد وقوي. والتأْيـيد: مصدر أَيَّدته أَي قوّيته، قال الله تعالـى: {إِذ أَيدتك بروح القدس} المائدة110، وقرىء: {إِذ آيَدْتُك} أَي قوّيتك)[17] اهـ.
وقال صاحب مختار الصحاح في باب "يدي": (وقال الله تعالى: {والسماء بنيناها بأَيْدٍ} الذاريات47، قلت: قوله تعالى {بِأَيْد} أي: بقوة، وهو مصدر آد يئيد إذا قوي، وليس جمعاً ليد ليذكر هنا، بل موضعه باب الدال، وقد نص الأزهري على هذه الآية في الأيد بمعنى المصدر، ولا أعرف أحداً من أئمة اللغة أو التفسير ذهب إلى ما ذهب إليه الجوهري من أنها جمع يد)[18] اهـ.
وقد أجاب عن استدلالهما هذا إمامهم أبو الحسن الأشعري حيث قال في "الإبانة" في رده على الجهمية والمعتزلة الذين تأولوا صفة اليد لله تعالى: (مسألة: وقد اعتل معتل بقول الله تعالى: {والسماء بنيناها بأيد} الذاريات47، قالوا: الأيد القوة، فوجب أن يكون معنى قوله تعالى: {بيدي} ص75، بقدرتي، قيل لهم: هذا التأويل فاسد من وجوه:
أحدها: أن "الأيد" ليس بجمع لليد؛ لأن جمع "يد" أيدي، وجمع "اليد" التي هي نعمة أيادي، وإنما قال تعالى: {لما خلقت بيدي} ص75، فبطل بذلك أن يكون معنى قوله: {بيدي} ص75، معنى قوله: {بنيناها بأيد})[19] اهـ.
وقال ابن خزيمة في التوحيد: (وزعم بعض الجهمية: أن معنى قوله: «خلق الله آدم بيديه» أي بقوته، فزعم أن اليد هي القوة، وهذا من التبديل أيضا، وهو جهل بلغة العرب، والقوة إنما تسمى الأيد بلغة العرب، لا اليد، فمن لا يفرق بين اليد والأيد فهو إلى التعليم والتسليم إلى الكتاتيب أحوج منه إلى الترؤس والمناظرة. )[20] ا.هـ.
خامساً: دعوى تأويل ابن عباس t لقوله تعالى {الله نور السموات والأرض}:
زعم الأشعريان أن ابن عباس t تأول وصف الله تعالى بالنور.
فقالا (ص 234): (جاء في تفسير الطبري ما نصه: عن ابن عباس قوله {الله نور السموات والأرض} النور35، يقول: الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض) اهـ.
والجواب: أن يقال:
أولاً: أن هذا الأثر مداره على علي بن أبي طلحة.
فقد رواه ابن أبي حاتم (8/2593) وابن جرير (18/135) وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات (ص102) واللالكائي (2/201) في شرح أصول أهل السنة كلهم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس t به.
وهذا إسناد منقطع، لأن علي ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس.
قال دحيم: لم يسمع التفسير من ابن عباس، وقال ابن حبان: روى عن ابن عباس ولم يره.
وقد اختلف أيضاً في حاله، فقواه بعضهم كأبي داود والنسائي وابن حبان، وضعفه آخرون، فقال يعقوب بن سفيان: ضعيف الحديث، منكر ليس محمود المذهب[21]. ولخص ابن حجر القول فيه فقال في التقريب: صدوق قد يخطئ، وقال الذهبي في الكاشف: قال أحمد: له أشياء منكرات.
ثانياً: إن صح هذا الأثر فإنه ليس من التأويل الذي يزعمانه، لأن تفسيره بالهادي لا يمنع من كون الله تبارك وتعالى نوراً، فإن من معاني كونه تبارك وتعالى نوراً هدايته لخلقه، فهما إذاً متلازمان. وابن عباس وغيره لم ينفوا ما سوى ذلك.
ولذلك قال تعالى بعده: {مثل نوره} أي في قلب العبد المؤمن.
ومن عادة السلف أن يذكروا بعض صفات اللفظ المُفسّر، أو بعض أنواعه، ولا ينافي ذلك ثبوت بقية أنواعه وأوصافه، بل قد يكونان متلازمين.
ومثال ذلك قول بعضهم في: {الصراط المستقيم} الفاتحة6، أنه: الإسلام، وقال آخرون: إنه القرآن، وقال آخرون: إنه السنة والجماعة، وقال بعضهم: إنه طريق العبودية، وهذه كلها صفات متلازمة للصراط المستقيم، ليست متباينة.
ثالثاً: أنه قد ثبت وصف الله تبارك وتعالى بالنور.
قال تعالى: {وأشرقت الأرض بنور ربها} الزمر69.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي موسى t قال: (قام فينا رسول الله r بخمس كلمات، فقال: (إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور -وفي رواية أبي بكر النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)[22].
وروى أيضاً عن أبي ذر t في حديث المعراج أنه قال: سألت رسول الله r: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه)[23].
وفي دعاء النبي r حين عودته من الطائف بعد دعوته لهم إلى الإسلام: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ..)[24] الحديث.
وقوله: (وصلح عليه أمرالدنيا والآخرة) كقول ابن عباس في تفسير نوره تعالى: (هادي أهل السماوات والأرض).
وقد ذكر أبو الحسن الأشعري وصف الله تبارك وتعالى بالنور، فقال في "مقالات الإسلاميين": (وقال أهل السنة وأصحاب الحديث: ... وأنه نور كما قال تعالى: {الله نور السموات والأرض} النور35)[25] ا.هـ.
فالنور صفة من صفات ربنا تبارك وتعالى، ومنه اشتق اسم (النور) الذي هو أحد الأسماء الحسنى لله تعالى.
سادساً: دعوى تأويل ابن عباس t لنصوص (الوجه):
زعم الأشعريان أن ابن عباس t تأول صفة الوجه لله.
فقالا (234): (قال تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} الرحمن27، قال t: الوجه عبارة عنه) ا.هـ.
فالجواب: أن هذا الذي ذكره القرطبي ليس له أصل عن ابن عباس t.
والثابت عن ابن عباس t إثبات الوجه لله تعالى:
فقد قال t في قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} يونس26: (الزيادة: النظر إلى وجه الله)[26].
وقال t في قوله تعالى: {إلى ربها ناظرة} القيامة23: (نظرت إلى خالقها)[27].
سابعاً: دعوى تأويل ابن عباس t للفظ (الساق):
زعم الأشعريان أن ابن عباس t تأول صفة الساق لله تعالى.
فقالا (234): (قال تعالى: {يوم يكشف عن ساق} القلم42، قال t: عن كرب شديد) اهـ.
والجواب أن يُقال:
أولاً: أن الصحابة متنازعون في هذه الآية، فابن عباس وطائفة يفسرون الآية بالشدة، وأبو سعيد وابن مسعود وطائفة يعدونها من الصفات، وليس هذا تنازعاً في إثبات الصفة، وإنما تنازع في كونها من آيات الصفات؟
ولا ريب أن ظاهر الآية لا يدل على أنها من الصفات، لأن الساق فيها جاءت نكرة في سياق الإثبات، لم يضفها سبحانه لنفسه، فلم يقل (ساقه)، فلما لم يعرّفها بالإضافة، لم تكن دالة على صفة لله، ولذلك لم يعدها ابن عباس من آيات الصفات.
والذين جعلوها من آيات الصفات، إنما عدوها للحديث الذي في الصحيحين، لا لظاهر الآية. ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف.
وعلى هذا فلا يصح أن يقال أن ابن عباس تأول الآية!
ثانياً: أن صفة الساق لله تعالى ثابتة في السنة:
فعن أبي سعيد t قال: سمعت النبي r يقول: (يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى كل من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً)[28].
ثامناً: دعوى تأويل ابن عباس t للفظ (الجنب):
زعم الأشعريان أن ابن عباس t تأول قوله تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} الزمر56، فقال: تركت من طاعة الله وأمر الله وثوابه. وكذلك ورد مثله عن مجاهد والسدي والحسن.
والجواب أن يقال: أن هذا الكلام يدل على جهل كبير، إذ لا يمكن دعوى التأويل هنا حتى يثبت عن السلف أنهم جعلوا (الجنب) صفة لله تعالى، فعندها يمكن دعوى تأويل ابن عباس ومن وافقه.
ولم يقل أحد من السلف قط أن الجنب في الآية صفة لله تعالى.
وهذا من الخطأ الذي يقع فيه الناس، فإن الدلالة في كل موضع بحسب سياقه وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية.
قال الدارمي في رده على المريسي: (وادعى المعارض زوراً على قوم أنهم يقولون في تفسير قول الله: {يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} الزمر56، قال: يعنون بذلك الجنب الذي هو العضو، وليس ذلك على ما يتوهمونه.
فيقال لهذا المعارض: ما أرخص الكذب عندك، وأخفه على لسانك. فإن كنت صادقاً في دعواك فأشر بها إلى أحد من بني آدم قاله، وإلا فَلِمَ تشّنع بالكذب على قوم هم أعلم بهذا التفسير منك، وأبصر بتأويل كتاب الله منك، ومن إمامك؟ إنما تفسيرها عندهم، تحسر الكفار على ما فرطوا في الإيمان والفضائل التي تدعو إلى ذات الله، واختاروا عليها الكفر والسخرية بأولياء الله، فسماهم الساخرين، فهذا تفسير الجنب عندهم. فمن أنبأك أنهم قالوا: جنب من الجنوب؟ فإنه لا يجهل هذا المعنى كثير من عوام المسلمين، فضلاً عن علمائهم، وقد قال أبو بكر الصديق t "الكذب مجانب للإيمان" وقال ابن مسعود: "لا يجوز من الكذب جد ولا هزل" وقال الشعبي "من كان كذابا فهو منافق")[29] ا.هـ.
والآية يقول الله تعالى فيها: {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين . أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين . أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين . بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين} الزمر(56-59).
وهذا إخبار عما تقوله هذه النفس الظالمة لنفسها، ومعلوم أن عامة هذه النفوس لا تعلم أن لله جنباً، ولا تقر بذلك، كما هو الموجود منها في الدنيا، فكيف يكون ظاهر القرآن أن الله أخبر عنهم بذلك.
وقوله تعالى: {يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} إخبار عن تحسرهم على التفريط في جنب الله، والتفريط إما فعل أو ترك فعل، وهذا لا يكون قائماً بذات الله، لا في جنب ولا في غيره، بل يكون منفصلاً عن الله، وهذا معلوم بالحس والمشاهدة، فظاهر االآية لا يدل على أن قول القائل: {يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} أنه جعل فعله أو تركه في جنب يكون من صفات الله وذاته.
وإنما المراد بجنب الله، طاعة الله، وأمر الله، وحق الله، كما يقال (سبيل الله). ومنه ما ورد من قوله r: (من قتل دون ماله مظلوما فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون جاره فهو شهيد، ومن قتل في جنب الله فهو شهيد)[30].
وكما في قول إبي الدرداء t: (إنك لن تتفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في جنب الله، ثم ترجع إلى نفسك فتجدها أمقت من سائر الناس)[31].
وفي قول خالد بن معدان: (لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى الناس في جنب الله أمثال الأباعر، ثم يرجع إلى نفسه فتكون هي أحقر حاقر)[32].
قال ابن منظور في اللسان (مادة جنب): (قال الفراء: الجنب القرب، وقوله عز وجل: {على ما فرطت في جنب الله} أي: في قرب الله وجواره، والجنب معظم الشيء وأكثره، ومنه قولهم: هذا قليل في جنب مودتك. وقال ابن الأعرابي في قوله عز وجل: {في جنب الله} في قرب الله من الجنة. وقال الزجاج: معناه على ما فرطت في الطريق الذي هو طريق الله الذي دعاني إليه، وهو توحيد الله والإقرار بنبوة رسوله، وهو محمد وقولهم: اتق الله في جنب أخيك ولا تقدح في ساقه، معناه: لا تقتله ولا تفتنه)[33] اهـ.
تاسعاً: دعوى تأويل مجاهد والضحاك والشافعي والبخاري للفظ (الوجه):
زعم الأشعريان أن مجاهداً والضحاك والشافعي أولوا صفة الوجه لله تعالى. فقالوا في قوله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} البقرة115، قال مجاهد: قبلة الله، وقال الشافعي: فثم الوجه الذي وجهكم الله إليه.
والجواب: أن هذه الآية مما اختلف السلف في كونها من آيات الصفات؟.
وأكثر السلف على أنها ليست من آيات الصفات، ففسروها بما ذُكر.
لأن الوجه قد يراد به الجهة في لغة العرب، وهذا كثير مشهور، وظاهر الآية يدل على أن المراد بالوجه الجهة لا الصفة. ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف.
وجميع من نُقل عنهم تفسير هذه الآية بغير الصفة، كمجاهد وغيره، فإنهم لم يقولوا ذلك إلا في هذا الموضع فقط دون غيره من المواضع التي فيها ذكر الوجه لله تعالى كقوله تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} الرحمن27، ونحوها من الآيات. ولم ينف أحد منهم أن يكون الله متصفاً بالوجه حقيقة.
وقد روى الدارقطني في الرؤية (رقم 243/ص162) عن الضحاك قال: (الزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل)[34].
وقال اللالكائي في شرح أصول أهل السنة (3/454): (سياق ما فسر من الآيات في كتاب الله عزوجل على أن المؤمنين يرون الله عزوجل يوم القيامة بأبصارهم:
قال الله عزوجل للذين أحسنوا الحسنى وزيادة روى عن النبي r فيما صح عنه من تفسيره أنه النظر إلى الله عزوجل.
وروى ذلك من الصحابة: عن أبي بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وأبي موسى الأشعري وابن مسعود وابن عباس.
ومن التابعين: عبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن المسبب والحسن وعكرمة وعامر بن سعد البجلي وأبي اسحاق السبيعي ومجاهد وعبد الرحمن بن سابط وقتادة والضحاك وأبو سنان ... -ثم ساقها بأسانيدها،
ثم أسند عن مجاهد من طريق ابن أبي حاتم أنه قال: ({للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} يونس26، قال: الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى الرب)[35] اهـ.
وعن مجاهد في قول الله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص88، قال: (إلا ما أريد به وجهه)[36].
والآثار في إثبات وجه الله تعالى عن النبي r والصحابة والتابعين متواترة. ولا يخلو كتاب من كتب السنة من باب في إثبات الوجه لله تعالى. وصنف الدارقطني كتاب "الرؤية".
وأما ما ذكراه عن الضحاك وأبي عبيدة والبخاري في قوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص88، فقالا: قال الضحاك وأبو عبيدة: إي إلا هو. وقال البخاري: إلا ما أريد به وجهه.
فهذا ليس من التأويل في شيء، لأن الشيء قد يعبر عنه ببعض صفاته، فقوله {إلا وجهه} المراد به ذاته تعالى المتصفة بالصفات ومنها الوجه، وهذا ظاهر لا خفاء فيه، إذ لا يفنى منه شيء تعالى الله عن ذلك، وإنما عبر الله عن ذلك بذكر صفة من صفاته وهي وجهه تعالى.
فتفسير الضحاك وأبو عبيدة ليس نفياً لصفة الوجه بل إثبات لها، لأن الوجه المذكور في الآية لو لم يكن صفة له سبحانه، لما دل على بقاءه، ولَكان داخلاً في قوله {كل شيء هالك} تعالى الله عن ذلك.
ويؤكد هذا أن البخاري رحمه الله قد عقد باباً في صحيحه في إثبات الوجه لله تعالى مستدلاً بهذه الآية، فقال في كتاب التوحيد:
(باب قول الله تعالى {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص88:
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حماد بن زيد عن عمرو عن جابر بن عبد الله قال لما نزلت هذه الآية {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} الأنعام65، قال النبي r: أعوذ بوجهك، فقال: {أو من تحت أرجلكم} فقال النبي r: أعوذ بوجهك، قال: {أو يلبسكم شيعا} فقال النبي r: هذا أيسر) ا.هـ
فجعل قوله r: (أعوذ بوجهك) تفسيراً لقوله تعالى: {إلا وجهه}، وكلاهما دليل على إثبات صفة الوجه لله تعالى.
وبهذا يتبين بأن ما ذكره البخاري في تفسيرها، لا ينافي إثبات صفة الوجه لله تعالى، بل يثبته، ولذلك استدل بها.
قال ابن كثير في تفسيره: (وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلا وجهه} القصص88، إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم، الذي تموت الخلائق ولا يموت، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله ها هنا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } أي: إلا إياه.
وقد ثبت في الصحيح، من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: "أصدق كلمة قالها شاعر: كلمة لبيد: ألا كلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ".
وقال مجاهد والثوري في قوله: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } أي: إلا ما أريد به وجهه، وحكاه البخاري في صحيحه كالمقرر له. قال ابن جرير: ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر: أسْتَغْفِرُ اللهَ ذنبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبّ العبَاد، إلَيه الوَجْهُ والعَمَلُ ...
وهذا القول لا ينافي القول الأول، فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد بها وجه الله عز وجل من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة. والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية وهالكة وزائلة إلا ذاته تعالى، فإنه الأول الآخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء.)[37] ا.هـ
ويحسن هنا ذكر قاعدة مفيدة ذكرها ابن القيم قائلاً: (وها هنا قاعدة يجب التنبيه عليها، وهي: أنه إذا ثبت عن مالك وأحمد وغيرهما شيء في موارد النزاع، لم يكن فيه أكثر من أنه وقع بينهم نزاع في معنى الآية، أو الحديث، وهو نظير اختلافهم في تفسير آيات وأحاديث، مثل تنازع ابن عباس وعائشة في قوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى} النجم13، فقال ابن عباس: رأى ربه، وقالت عائشة: بل رأى جبرائيل، وكتنازع ابن مسعود وابن عباس في قوله تعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} الدخان10، فقال ابن مسعود: هو ما أصاب قريشاً من الجوع، حتى كان أحدهم يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان، وقال ابن عباس: هو دخان يجيء يوم القيامة، وهذا هو الصحيح، ونظائر ذلك، فالحجة هي التي تفصل بين الناس)[38] اهـ
وقال ابن تيمية: (تأويل السلف إن صدر من الصحابة فهو مقبول، لأنهم سمعوه من الرسول، وإن صدر من غيرهم وتابعهم عليه الأئمة قبلناه، وإن تفرد نبذناه وأعرضنا عنه إعراضنا عن تأويل الخلف)[39] اهـ.
عاشراً: دعوى تأويل الثوري للاستواء:
قال الأشعريان (ص236): (وأول سفيان الثوري الاستواء على العرش: بقصد أمره، والاستواء إلى السماء: بالقصد إليها (مرقاة المفاتيح 2/137)) اهـ.
وهذا الأثر ذكره ملا على القاري في "المرقاة" جزافاً بلا إسناد ولا عزو، ولا يُعرف هذا التأويل عن الثوري. بل المعروف المتواتر عنه قوله في جميع الصفات: (أمرّوها كما جاءت بلا كيف). وقد سبق تخريجه والكلام عليه.
ولا يُعرف عن أحد من السلف قط أنه أوّل الاستواء لله تعالى بغير العلو، سواء ما عُدّي بـ على (استوى على) أو ما عُدّي بـ إلى (استوى إلى).
الحادي عشر: دعوى تأويل الإمام مالك لصفة النزول:
زعم الأشعريان أن الإمام مالكاً قد أول صفة النزول لله تعالى فقالا: (سئل الإمام مالك رحمه الله عن نزول الرب عز وجل، فقال: "ينزل أمره كل سحر، فأما هو عز وجل فإنه دائم لا يزول ولا ينتقل سبحانه لا إله إلا هو) ا.هـ
فالجواب: أن هذا الأثر لا يصح عن الإمام مالك لأمور:
أولها: أنه من رواية حبيب كاتب مالك، وهو كذاب
قال أبو داود: (كان من أكذب الناس)، وقال: (أحاديثه كلها موضوعة)، وقال ابن حبان: (يروي الموضوعات عن الثقات)[40].
وقال ابن عدي: (وعامة حديث حبيب موضوع المتن مقلوب الإسناد، ولا يحتشم حبيب في وضع الحديث على الثقات، وأمره بيّن في الكذابين)[41] اهـ.
وللأثر طريق آخر ذكره ابن عبد البر في التمهيد من طريق محمد بن علي الجبلي عن جامع بن سوادة عن مطرف عن مالك أنه سئل عن حديث التنزل فقال: (يتنزل أمره)[42].
وهذا إسناد مظلم، فإن محمد بن علي الجبُّلي قال عنه الخطيب: (قيل إن كان رافضياً شديد الرفض)[43] اهـ.
وأما جامع بن سوادة فمجهول، وقد روى له الدارقطني في غرائب مالك حديثاً ثم قال: (الحديث باطل، وجامع ضعيف)[44] اهـ.
وقال عنه ابن الجوزي في الموضوعات بعد أن روى له حديث الجمع بين الزوجين: (هذا موضوع وجامع مجهول)[45] اهـ.
الثاني: أن هذا الأثر مخالف للمعروف المستفيض عن الإمام مالك من إمرار الصفات على ظاهرها، وعدم التعرض لها بتأويل ولا غيره.
كما في رواية الوليد بن مسلم عنه حيث قال: (سألت الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، عن هذه الأحاديث التي فيها الرؤية فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف)[46] اهـ.
وكما في الأثر المشهور المستفيض عنه لما سئل عن كيفية الاستواء فقال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول ..)[47].
وكذا ما رواه ابن أبي زمنين في "أصول السنة" حيث قال في "باب الإيمان بالنزول": (ومن قول أهل السنة أن الله ينزل إلى سماء الدنيا، ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حداً، وذكر الحديث من طريق مالك وغيره إلى أن قال: وأخبرني وهب عن ابن وضاح عن الزهري عن ابن عباد قال: ومن أدركت من المشائخ مالك، وسفيان، وفضيل بن عياض، وعيسى بن المبارك، ووكيع، كانوا يقولون: إن النزول حق)[48] اهـ. فهذا هو المعروف المشهور المستفيض عن الإمام مالك.
أما قول الأشعريّيْن عن هذا الأثر مدافعين عن ضعفه وعدم ثبوته (حاشية ص130): (إلا أن أصحاب المذهب أعرف بأقوال إمامهم من غيرهم، لا سيما إذا كان القول مشهوراً عندهم شهرة مستفيضة) اهـ.
ولا أدري هل يعرف الأشعريان معنى الشهرة المستفيضة أم لا؟
فإن القول المستفيض المشهور عن الإمام هو الذي يُروى عنه بطرق متعددة، وينقله كبار أصحابه ومعاصريه، أما ما رواه المتأخرون عنه بسند موضوع، ولا يعرف له أصل صحيح عنه، ولا ذكره أحد من ثقات أصحابه الذين لازموه، ولا سطروه في كتبهم مما نقلوه عن إمامهم، فكيف يكون هذا مشهوراً شهرة مستفيضة!!!
وهذا الأثر لا يثبت عن الإمام مالك، فضلاً عن شهرته عنه، وإنما ينقله من يعتقد تأويل الصفات، وأنها ليست على حقيقتها، فيفرح بمثله معرضاً عما في الكتاب والسنة وما تواتر عن سلف الأمة، ومعرضاً عما هو المعروف عن إمامهم.
وحسبك بهذا الأثر نكارةً أنه لم يُذكر في شيء من كتب السنة التي تنقل معتقد السلف وأقوالهم قط، ولا في شيء من كتب أصحاب الإمام مالك التي تنقل أقواله واختياراته كالمدونة وغيرها، ولم يُسطر في كتاب يحكي عقيدة الإمام مالك، كالرسالة لابن أبي زيد القيرواني. فكيف بمكن بعد هذا أن يكون مشهوراً مستفيضاً عن الإمام مالك!!!
وأظهر منه في البطلان والكذب ما حكياه عن الإمام مالك فقالا (ص129): (ذكر الإمام ناصر الدين بن المنير الإسكندري المالكي في كتابه "المنتقى في شرف المصطفى" لما تكلم عن الجهة وقرر نفيها قال: "ولهذا أشار مالك رحمه الله تعالى في قوله "لا تفضلوني على يونس بن متى" فقال مالك: إنما خص يونس للتنبيه على التنزيه لأنه رفع إلى العرش، ويونس عليه السلام هبط إلى قاموس البحر ونسبتهما مع ذلك من حيث الجهة إلى الحق جل جلاله نسبة واحدة، ولو كان الفضل بالمكان لكان عليه السلام أقرب من يونس بن متى وأفضل، ولَمَا نهى عن ذلك)ا.هـ) اهـ.
وهذا كذب على الإمام مالك بلا ريب، وافتراء عليه وبهتان، فأين وجدتم هذا القول عن مالك؟، وفي أي كتاب مسند أثرتموه؟!!!
وهذا إنما قاله أبو المعالي الجويني، منكراً علو الله تعالى على خلقه، وارتفاعه بذاته على عرشه.
وهذا الحديث المذكور ليس له أصل
قال الزيلعي في تخريج الأحاديث والآثار: (غريب جداً)[49].
والزيلعي كثيراً ما يطلق هذا اللفظ على ما كان موضوعاً. ذكر ذلك الشيخ ثناء الله الزاهدي في "توجيه القاري"[50].
وإنما المعروف ما رواه أبو هريرة t أن النبي r قال: (لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى)[51].
وفي الصحيحين عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما نحوه.
الثاني عشر: دعوى تأويل الإمام أحمد مجيء الله تعالى:
زعم الأشعريان أن الإمام أحمد قد تأول صفة المجيء لله تعالى فقالا: (جاء في البداية والنهاية للإمام الحافظ ابن كثير ما نصه: "روى البيهقي عن الحاكم عن عمرو بن السماك عن حنبل: أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعالى: {وجاء ربك} الفجر22، أنه جاء ثوابه. ثم قال البيهقي: وهذا إسناد لا غبار عليه) اهـ.
ثم قالا: (ونقل ابن الجوزي عن القاضي أبي يعلى عن الإمام أحمد في قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} البقرة210،أنه قال: المراد به قدرته وأمره.)اهـ.
والجواب أن يقال:
أولاً: أن هذه الرواية التي رواها حنبل، إنما قالها الإمام أحمد –على فرض ثبوتها- في مناظرته للجهمية في القرآن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية لما ذكر كلام ابن الجوزي وما نقله عن القاضي أبي يعلى: (قلت: هذا الذي ذكره القاضى وغيره أن حنبلاً نقله عن أحمد فى كتاب المحنة، أنه قال ذلك فى المناظرة لهم يوم المحنة لما احتجوا عليه بقوله "تجيء البقرة وآل عمران" قالوا": والمجيء لا يكون إلا لمخلوق، فعارضهم أحمد بقوله: {وجاء ربك} الفجر22، أو {يأتى ربك} الأنعام158، وقال: المراد بقوله تجيء البقرة وآل عمران ثوابهما، كما فى قوله {وجاء ربك} أمره و قدرته)[52] اهـ.
وهذا يدل على أن الإمام أحمد إنما قاله على سبيل المعارضة وإبطال حجة الخصم من كلامه وما يعتقده، وهذا من باب التنزل، فإن الجهمية كانت تتأول مجيئه سبحانه وإتيانه بمجيء وإتيان أمره، لا أنه يجيء بنفسه، ولم يكن هذا دالاً عندهم على أن من نُسب إليه المجيء والإتيان مخلوقاً، فعارضهم بهذا الأصل، فقال: فكذلك وصف الله سبحانه كلامه وهو القرآن بالمجيء في حديث "تجيء البقرة وآل عمران كأنهما غيايتان" هو مثل وصف نفسه بذلك، فلا يدل على أن كلامه مخلوق، بل يحمل مجيء القرآن على مجيء ثوابه، كما حملتم مجيئه سبحانه وإتيانه على مجيء أمره وقدرته.
فالإمام أحمد ذكر ذلك على وجه المعارضة والإلزام لخصومه بما يعتقدونه في نظير ما احتجوا به عليه، لا أنه يعتقد ذلك، والمعارضة لا تستلزم اعتقاد المعارض صحة ما عارض به.
ثانياً: أن هذا مخالف للمتواتر المشهور عن الإمام أحمد في هذا الباب من وجوب إمرار الصفات على ظاهرها، ومنع التعرض لها بتأويل أو غيره. بل إن حنبلاً نفسه نقل عنه ترك التأويل والمنع منه مطلقاً:
فقال حنبل بن إسحاق: (قلت لأبي عبد الله : ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا؟ قال: نعم. قلت: نزوله بعلمه أم بماذا؟ قال : فقال لي: اسكت عن هذا، وغضب غضباً شديداً، وقال: مالك ولهذا؟ أمض الحديث كما روي بلا كيف)[53]اهـ.
وقال حنبل: (سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى أن الله سبحانه ينزل إلى سماء الدنيا، وأن الله يُرى، وأن الله يضع قدمه، وما أشبه هذه الأحاديث.
فقال أبو عبد الله: نؤمن بها ونصدق بها ولا نرد منها شيئاً، ونعلم أن ما جاء به رسول الله حق إذا كانت أسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله، ولا يوصف بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وقال حنبل في موضع آخر عن أحمد: ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف نفسه، قد أجمل الله الصفة فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء، وصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه. قال: فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير، ولا يبلغ الواصفون صفته، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه، ولا نتعدى ذلك، ولا يبلغ صفته الواصفون، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته بشناعة شنعت، وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضعه كنفه عليه فهذا كله يدل على أن الله سبحانه وتعالى يرى في الآخرة)[54] اهـ.
وقال القاضي أبو يعلى في "إبطال التأويلات": (وقال يوسف بن موسى قيل لأبي عبد الله: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء من غير وصف؟ قال: نعم)[55] اهـ.
وقال إسحاق بن منصور: (قلت لأحمد: "ينزل ربنا وجل كل ليلة حتى يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا" أليس تقول بهذه الأحاديث؟ قال أحمد: صحيح.)[56] اهـ.
وقال أحمد بن الحسين بن حسان: قيل لأبي عبد الله: "إن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة"؟ قال: نعم، قيل له: وفي شعبان كما جاء الأثر؟ قال: نعم.
نقله الأستاذ عبد الله المسلم
تعليق