الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فقد كاد التصوّف في القرن الأخير يعود إلى جحره، ويُقضَى نِهائيّا على شأنه وأمره. حتّى إنّ الكثيرين منهم أضْحَوا يتبرّءون من كثير من مذاهب القوم، رافعين عن أنفسهم الذمّ واللّوم.
ولكنّهم عادوا من جديد .. على حين فرقة نخرت في صفوف الدّعاة إلى التّوحيد .. وإنّ لله سننا لا تتغيّر ولا تتبدّل، فقال عزّ وجلّ وهو أصدق القائلين:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:46].
عادوا من جديد .. ولا يشكّ في ذلك عاقل رشيد ..
فلهم في كلّ يوم ملتقيات .. وفي كلّ عام مؤتمرات .. وتمكّنوا من كثير من وسائل الإعلام، ويرفعون الشّعارات والأعلام ..
فكان لا بدّ من تذكير المؤمنين، وتحذير المسلمين، من مخاطر الصّوفيّة، وبيان حقائق الطّرقيّة، فليس لدينا إلى الكلمات نتّخذها للحقّ نبراسا وضياء، وإنّ من خير ما أُثِر عن الحكماء، وحُفظ عن العلماء، قولهم:" لَأَنْ تُضيءَ شمعةًخيرٌ مِن أن تلْعنَ الظّلام "..
والجواب عن هذا الزّعم من وجوه:
أ) الوجه الأوّل: لماذا العدول عن ألفاظ الكتاب والسنّة إلى غيرها ؟ أوليست ألفاظ القرآن الكريم والسنّة مثل: التّقوى، والتّزكية، والزّهد، والورع، وغير ذلك بكافيةٍ ومغنية عن غيرها ؟
ب) الوجه الثّاني: إنّ هذا الاشتقاق غير صحيح من حيث اللّغة، فالنسبة إلى الصّفاء: صفويّ، أو صفاوي، أو صفائيّ، وليس صوفيّا.
ج) الوجه الثّالث: إنّ أكابر الصّوفيّة قد اضطربت كلماتهم في تحديد أصل اشتقاق كلمة ( الصّوفيّة )، ولم يتّفقوا على أنّها مشتقّة منالصّفاء.
فهذا أبو بكر الكلاباذي رحمه الله (ت:380 هـ) يقول:" لِمَ سُمّيت الصّوفيّة صوفيّة ؟
قال طائفة: إنّما سمّيت صوفيّة لصفاء أسرارها. وقال بشر بن الحارث: الصّوفيّ من صفا قلبه لله...
وقال قوم: إنّما سُمُّوا صوفيّة؛ لأنّهم في الصفّ الأوّل بين يدي الله عزّ وجلّ ...
وقال قوم: إنّما سُمُّوا صوفيّة؛ لقُرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفّة الّذين كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقال قوم: إنّما سُمُّوا صوفيّة؛ للُبسهم الصّوف " [" التعرّف على مذهب التصوّف " للكلاباذي (ص 21)].
ثمّ قال (ص 26):" وإن جُعِل مأخذه من الصّوف، استقام اللّفظ، وصحّت العبارة من حيث اللّغة ".
وهذا المعنى هو الّذي رجَّحه ابن الجوزيّ وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن خلدون رحمهم الله، وطائفة كبيرة من العلماء.
وأيّدوا قولهم ذاك بأنّ الصُّوف كان شعارَ رهبانِ أهل الكتاب الذين تأثر بهم الأوائل من الصوفية.
[انظر: " تلبيس إبليس " (163)، و" مجموع الفتاوى " (10/369)، و" وتاريخ ابن خلدون " (1/467)].
د) الوجه الرّابع: وأقرب من ذلك كلّه من الأقوال في أصل اشتقاق هذه الكلمة:
ما رجحه أبو الريحان البيروني (ت:440هـ)، ومن المعاصرين المستشرق النمساوي فون هامر (Joseph V. Hammer) وغيرهما أنّها مشتقة من كلمة صوفيا SOPHIAاليونانية، ومعناها ( الحكمة ) كما يقال عن: فيلوسوفيا.
ويؤيّد هذا الرأي أمور:
- أنّ الصّوفيّة ما طفت على سطح المجتمع الإسلاميّ إلاّ في القرن الثاني الهجري ببغداد وما حولها، حين بزرت حركة التّرجمة.
- تشابه الفكرة العامّة للصّوفية وفلسفة اليونان والهند، وغايتها: وحدة الوجود، والحلول، والإشراق، والفيض– عياذا بالله –.
- ما ورد عن كبار الصّوفية مثل السّهروردي – وقد أُقيم عليه حدّ الردّة – أنّه قال:" وأمّا أنوار السلوك في هذه الأزمنة القريبة فخميرة الفيثاغورثيين، وقعت إلى أخي أخميم (ذي النون المصري)، ومنه نزلت إلى سيارستري وشيعته (أي سهل التستري "اهـ.
- ظهور مصطلحات مترجمة عن اليونانية في ذلك العصر، مثل الفلسفة، والفناء، والموسيقى، والسّفسطة، والهيولي.
- قول القشيري رحمه الله - وهو من كبارهم -:" ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربيّة، ولا قياس، والظّاهر أنّه لقب، ومن قال: اشتقاقه من الصّفا أو من الصفّة فبعيد من جهة القياس اللّغويّ، قال وكذلك من الصّوف؛ لأنّهم لم يختصّوا بلبسه "اهـ
[" تاريخ ابن خلدون " (1/467)]
ج) الوجه الخامس: جعلُ الصّوف شعارا للزّهد والقناعة هو الرّياء بعينه.
فإنّ أزهد الخلق صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يقصِد التعبّد بلبس الصّوف، وإنّما كان يلبسه اتّقاء القرّ كسائر النّاس، وقد ثبت عنه صلّى اللهعليه وسلّم أنّه كان يلبس الكتّان والقطن.
والزّهد المحمود في اللّباس هو أن يلبس أوسط اللّباس وأعدله، فلا يقصد الرّديء ولا النّفيس، وإلاّ وقع في الشّهرتين. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في " الفتح "(10/269):
" قال ابن بطّال: كره مالك لُبسَ الصّوف لمن يجد غيره، لما فيه من الشّهرة بالزّهد، لأنّ إخفاء العمل أولى ".
فترك اللّباس على أنواع:
* من تركه بخلا، فهذا مذموم، غير مأجور.
* ومن تركه متعبّدا محرّما إيّاه على نفسه فهذا ضالّ منحرف.
* ومن تركه يريد أن يتشبّه بالعُبّاد فهو آثم لمراءاته، وهو إحدى الشّهرتين كما سبق ذكره.
* من تركه زُهدا وتواضعا، فهذا مأجور على ذلك.
كما أنّ اللاّبس للثّمين أنواع:
* إن كان بنيّة الفخر والخيلاء فهو آثم لنيّته، وهو الشّهرة الأخرى.
* أو كان مسرفا، فهو مذموم معتدٍ.
* أو كان مظهِرا لنعمة الله عليه دون مجاوزة للحدّ، فذلك مأجور لنيّته.
جاء في مجموع فتاوى ابن تيمية (22/ 133):
" وسئل رحمه الله عن المتنزّه عن الأقمشة الثّمينة مثل الحرير والكتّان المُتغَالَى في تحسينه وما ناسبها: هل في ترك ذلك أجر أم لا ؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب: الحمد لله ربّ العالمين .. وأمّا المباحات: فيثاب على ترك فضولها، وهو ما لا يحتاج إليه لمصلحة دينه، كما أنّ الإسراف في المباحات منهيّ عنه ... وأمّا الكتّان والقطن ونحوهُما، فمن تركه مع الحاجة فهو جاهل ضالّ، ومن أسرف فيه فهو مذموم. ومن تجمّل بلبسه إظهارا لنعمة الله عليه فهو مشكور على ذلك، فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِنَّ اللهَ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ بِنِعْمَةٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعَمِهِ عَلَيْهِ ))، وقال: (( إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ ))، ومن ترك لبس الرّفيع من الثياب تواضعا لله لا بخلا ولا التزاما للترك مطلقا فإنّ الله يثيبه على ذلك ويكسوه من حلل الكرامة.
فهذه المسائل ونحوها تتنوع بتنوع علمهم واعتقادهم، والعبد مأمور أن يقول في كلّ صلاة:{اِهْدِناَ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}، والله سبحانه وتعالى أعلم " اهـ.
فيُنصح ويوعظ المتنعّمون بالزّهد والتّواضع والبذاذة. ويُنصح المتكلّف للزّهد الخارج به عن المعتاد بالوسطيّة، وإلاّ كان الترّفّه حينها أهون من إظهار الزّهد رياء وشهرة.
ولهذا قال عبد الرشيد الولوالجي رحمه الله في " فتاواه ":
" لبس الثياب الجميلة مباح إذا كان لا يتكبر; لأنّ التكبّر حرام, وتفسيره أن يكون معها كما كان قبلها، وللّه درّ القائل:
وكان الحسن رحمه الله يقول: إنّ أقواما جعلوا خشوعهم في لباسهم، وكبرُهم في صدورهم وشهروا أنفسهم بلباس الصّوف، حتّى إن أحدهم بما يلبس من الصوف أعظم كبرا من صاحب الطرف بمطرفه.
وقال محمود الورّاق رحمه الله:
الخلاصة:
إنّ التصوف عقيدة فلسفية قديمة، نشأت قبل الإسلام في الفلسفة الاستشراقية المنسوبة إلى ( أفلاطون )، والفلسفة الهندية القديمة، وما زالت عقيدة الهند إلى اليوم، وهي: القول بوحدة الوجود.
وهذه العقيدة هي عقيدة كثير من شعراء الفرس قبل الإسلام، وبعد الإسلام كجلال الدّين الرّومي وغيرهم.
ولم يتضرّر الإسلام وحده بهذه الحركة الفلسفيّة، فقد نخرت هذه الحركة دين النّصارى أيضا – الصّحيح منه والمحرّف –؛ لذا نجد كثيرا من الطّقوس يشترك فيها الصّوفيّة وأهل الملل المنحرفة: كالبوذيّين، والهندوس، والنّصارى، وغيرهم، وسيأتي تأييد ذلك في المقالات اللاّحقة إن شاء الله تعالى.
فقد كاد التصوّف في القرن الأخير يعود إلى جحره، ويُقضَى نِهائيّا على شأنه وأمره. حتّى إنّ الكثيرين منهم أضْحَوا يتبرّءون من كثير من مذاهب القوم، رافعين عن أنفسهم الذمّ واللّوم.
ولكنّهم عادوا من جديد .. على حين فرقة نخرت في صفوف الدّعاة إلى التّوحيد .. وإنّ لله سننا لا تتغيّر ولا تتبدّل، فقال عزّ وجلّ وهو أصدق القائلين:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:46].
عادوا من جديد .. ولا يشكّ في ذلك عاقل رشيد ..
فلهم في كلّ يوم ملتقيات .. وفي كلّ عام مؤتمرات .. وتمكّنوا من كثير من وسائل الإعلام، ويرفعون الشّعارات والأعلام ..
فكان لا بدّ من تذكير المؤمنين، وتحذير المسلمين، من مخاطر الصّوفيّة، وبيان حقائق الطّرقيّة، فليس لدينا إلى الكلمات نتّخذها للحقّ نبراسا وضياء، وإنّ من خير ما أُثِر عن الحكماء، وحُفظ عن العلماء، قولهم:" لَأَنْ تُضيءَ شمعةًخيرٌ مِن أن تلْعنَ الظّلام "..
المبحث الأوّل: معنى التصوّف والصّوفيّة.
إنّ القوم يزعمون أنّ التصوّف كلمة مرادفة للتّقوى، والتّزكية، وتربية النّفس على الزّهد ! وحملها على ترك سفاسف الأمور ! فسُمُّوا صوفيّةً؛ للدّلالة على صفاء قلوبهم، ومعاملاتهم لبارئهم سبحانه!والجواب عن هذا الزّعم من وجوه:
أ) الوجه الأوّل: لماذا العدول عن ألفاظ الكتاب والسنّة إلى غيرها ؟ أوليست ألفاظ القرآن الكريم والسنّة مثل: التّقوى، والتّزكية، والزّهد، والورع، وغير ذلك بكافيةٍ ومغنية عن غيرها ؟
ب) الوجه الثّاني: إنّ هذا الاشتقاق غير صحيح من حيث اللّغة، فالنسبة إلى الصّفاء: صفويّ، أو صفاوي، أو صفائيّ، وليس صوفيّا.
ج) الوجه الثّالث: إنّ أكابر الصّوفيّة قد اضطربت كلماتهم في تحديد أصل اشتقاق كلمة ( الصّوفيّة )، ولم يتّفقوا على أنّها مشتقّة منالصّفاء.
فهذا أبو بكر الكلاباذي رحمه الله (ت:380 هـ) يقول:" لِمَ سُمّيت الصّوفيّة صوفيّة ؟
قال طائفة: إنّما سمّيت صوفيّة لصفاء أسرارها. وقال بشر بن الحارث: الصّوفيّ من صفا قلبه لله...
وقال قوم: إنّما سُمُّوا صوفيّة؛ لأنّهم في الصفّ الأوّل بين يدي الله عزّ وجلّ ...
وقال قوم: إنّما سُمُّوا صوفيّة؛ لقُرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفّة الّذين كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقال قوم: إنّما سُمُّوا صوفيّة؛ للُبسهم الصّوف " [" التعرّف على مذهب التصوّف " للكلاباذي (ص 21)].
ثمّ قال (ص 26):" وإن جُعِل مأخذه من الصّوف، استقام اللّفظ، وصحّت العبارة من حيث اللّغة ".
وهذا المعنى هو الّذي رجَّحه ابن الجوزيّ وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن خلدون رحمهم الله، وطائفة كبيرة من العلماء.
وأيّدوا قولهم ذاك بأنّ الصُّوف كان شعارَ رهبانِ أهل الكتاب الذين تأثر بهم الأوائل من الصوفية.
[انظر: " تلبيس إبليس " (163)، و" مجموع الفتاوى " (10/369)، و" وتاريخ ابن خلدون " (1/467)].
د) الوجه الرّابع: وأقرب من ذلك كلّه من الأقوال في أصل اشتقاق هذه الكلمة:
ما رجحه أبو الريحان البيروني (ت:440هـ)، ومن المعاصرين المستشرق النمساوي فون هامر (Joseph V. Hammer) وغيرهما أنّها مشتقة من كلمة صوفيا SOPHIAاليونانية، ومعناها ( الحكمة ) كما يقال عن: فيلوسوفيا.
ويؤيّد هذا الرأي أمور:
- أنّ الصّوفيّة ما طفت على سطح المجتمع الإسلاميّ إلاّ في القرن الثاني الهجري ببغداد وما حولها، حين بزرت حركة التّرجمة.
- تشابه الفكرة العامّة للصّوفية وفلسفة اليونان والهند، وغايتها: وحدة الوجود، والحلول، والإشراق، والفيض– عياذا بالله –.
- ما ورد عن كبار الصّوفية مثل السّهروردي – وقد أُقيم عليه حدّ الردّة – أنّه قال:" وأمّا أنوار السلوك في هذه الأزمنة القريبة فخميرة الفيثاغورثيين، وقعت إلى أخي أخميم (ذي النون المصري)، ومنه نزلت إلى سيارستري وشيعته (أي سهل التستري "اهـ.
- ظهور مصطلحات مترجمة عن اليونانية في ذلك العصر، مثل الفلسفة، والفناء، والموسيقى، والسّفسطة، والهيولي.
- قول القشيري رحمه الله - وهو من كبارهم -:" ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربيّة، ولا قياس، والظّاهر أنّه لقب، ومن قال: اشتقاقه من الصّفا أو من الصفّة فبعيد من جهة القياس اللّغويّ، قال وكذلك من الصّوف؛ لأنّهم لم يختصّوا بلبسه "اهـ
[" تاريخ ابن خلدون " (1/467)]
ج) الوجه الخامس: جعلُ الصّوف شعارا للزّهد والقناعة هو الرّياء بعينه.
فإنّ أزهد الخلق صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يقصِد التعبّد بلبس الصّوف، وإنّما كان يلبسه اتّقاء القرّ كسائر النّاس، وقد ثبت عنه صلّى اللهعليه وسلّم أنّه كان يلبس الكتّان والقطن.
والزّهد المحمود في اللّباس هو أن يلبس أوسط اللّباس وأعدله، فلا يقصد الرّديء ولا النّفيس، وإلاّ وقع في الشّهرتين. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في " الفتح "(10/269):
" قال ابن بطّال: كره مالك لُبسَ الصّوف لمن يجد غيره، لما فيه من الشّهرة بالزّهد، لأنّ إخفاء العمل أولى ".
فترك اللّباس على أنواع:
* من تركه بخلا، فهذا مذموم، غير مأجور.
* ومن تركه متعبّدا محرّما إيّاه على نفسه فهذا ضالّ منحرف.
* ومن تركه يريد أن يتشبّه بالعُبّاد فهو آثم لمراءاته، وهو إحدى الشّهرتين كما سبق ذكره.
* من تركه زُهدا وتواضعا، فهذا مأجور على ذلك.
كما أنّ اللاّبس للثّمين أنواع:
* إن كان بنيّة الفخر والخيلاء فهو آثم لنيّته، وهو الشّهرة الأخرى.
* أو كان مسرفا، فهو مذموم معتدٍ.
* أو كان مظهِرا لنعمة الله عليه دون مجاوزة للحدّ، فذلك مأجور لنيّته.
جاء في مجموع فتاوى ابن تيمية (22/ 133):
" وسئل رحمه الله عن المتنزّه عن الأقمشة الثّمينة مثل الحرير والكتّان المُتغَالَى في تحسينه وما ناسبها: هل في ترك ذلك أجر أم لا ؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب: الحمد لله ربّ العالمين .. وأمّا المباحات: فيثاب على ترك فضولها، وهو ما لا يحتاج إليه لمصلحة دينه، كما أنّ الإسراف في المباحات منهيّ عنه ... وأمّا الكتّان والقطن ونحوهُما، فمن تركه مع الحاجة فهو جاهل ضالّ، ومن أسرف فيه فهو مذموم. ومن تجمّل بلبسه إظهارا لنعمة الله عليه فهو مشكور على ذلك، فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِنَّ اللهَ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ بِنِعْمَةٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعَمِهِ عَلَيْهِ ))، وقال: (( إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ ))، ومن ترك لبس الرّفيع من الثياب تواضعا لله لا بخلا ولا التزاما للترك مطلقا فإنّ الله يثيبه على ذلك ويكسوه من حلل الكرامة.
فهذه المسائل ونحوها تتنوع بتنوع علمهم واعتقادهم، والعبد مأمور أن يقول في كلّ صلاة:{اِهْدِناَ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}، والله سبحانه وتعالى أعلم " اهـ.
فيُنصح ويوعظ المتنعّمون بالزّهد والتّواضع والبذاذة. ويُنصح المتكلّف للزّهد الخارج به عن المعتاد بالوسطيّة، وإلاّ كان الترّفّه حينها أهون من إظهار الزّهد رياء وشهرة.
ولهذا قال عبد الرشيد الولوالجي رحمه الله في " فتاواه ":
" لبس الثياب الجميلة مباح إذا كان لا يتكبر; لأنّ التكبّر حرام, وتفسيره أن يكون معها كما كان قبلها، وللّه درّ القائل:
أَجِدْ الثِّيَابَ إذَا اكْتَسَيْت؛ فَإِنَّـهَا *** زَيْنُ الرِّجَالِ بِهَا تُهَابُ وَتُكْرَمُ
وَدَعِ التَّوَاضُعَ فِي اللِّـبَاسِ تَحَرِّيًا *** فَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُكِـنُّ وَتَكْتُـمُ
فَدَنِيُّ ثَوْبِك لَا يَزِيدُك زُلْفَــةً *** عِنْدَ الْإِلَهِ وَأَنْتَ عَبْدٌ مُجْــرِمُ
وَبَهَاءُ ثَوْبِك لَا يَضُـرُّك بَعْدَمَا *** تَخْـشَى الْإِلَـهَ وَتَتَّقِي مَا يَحْرُمُ
وكان بكر بن عبد الله المزنيّ رحمه الله يقول لمن يتظاهر بالزّهد رياء وسمعةً: البسوا ثياب الملوك، وأميتوا قلوبكم بالخشية.وكان الحسن رحمه الله يقول: إنّ أقواما جعلوا خشوعهم في لباسهم، وكبرُهم في صدورهم وشهروا أنفسهم بلباس الصّوف، حتّى إن أحدهم بما يلبس من الصوف أعظم كبرا من صاحب الطرف بمطرفه.
وقال محمود الورّاق رحمه الله:
تصوّف فازدهى بالصّوف جهلا *** وبعض النّاس يلبسه مـجانـه
تصنّـع كي يقـال له أميـن *** ومـا معنى التصنّع للأمـانـه
ولم يرد الإلـه به، ولـكـن *** أراد به الطّريـق إلـى الخيانه
فأعدل الأمور أوسطها، وقد قال رجل لإبراهيم النّخعي رحمه الله: ما ألبس من الثّياب ؟ قال: ما لا يشهّرك عند العلماء، ولا يحقّرك عندالسّفهاء.الخلاصة:
إنّ التصوف عقيدة فلسفية قديمة، نشأت قبل الإسلام في الفلسفة الاستشراقية المنسوبة إلى ( أفلاطون )، والفلسفة الهندية القديمة، وما زالت عقيدة الهند إلى اليوم، وهي: القول بوحدة الوجود.
وهذه العقيدة هي عقيدة كثير من شعراء الفرس قبل الإسلام، وبعد الإسلام كجلال الدّين الرّومي وغيرهم.
ولم يتضرّر الإسلام وحده بهذه الحركة الفلسفيّة، فقد نخرت هذه الحركة دين النّصارى أيضا – الصّحيح منه والمحرّف –؛ لذا نجد كثيرا من الطّقوس يشترك فيها الصّوفيّة وأهل الملل المنحرفة: كالبوذيّين، والهندوس، والنّصارى، وغيرهم، وسيأتي تأييد ذلك في المقالات اللاّحقة إن شاء الله تعالى.
والله الموفّق لا ربّ سواه.
تعليق