إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

سلسلة درة السفر الفريد في شرح كلمة التوحيد .... متجدد بإذن الله

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • سلسلة درة السفر الفريد في شرح كلمة التوحيد .... متجدد بإذن الله

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    في البدء أود اليوم أن أملعكم على كتاب من أروع ما قرأت في العقيدة ‏،‏ مع ربط لواقعنا الحاضر ايوم ‏،‏ لشيخ أنا أعرفه و أحسبه والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أنه من خيرة شيوخنا وله العديد من الدروس والكتب الي نشرها وانتشرت في العالم بل وعند علمائهم ‏،‏ ودخلت يوما الإنترنت ووجدت أن الشيخ علي ونيس قرأ كتابا من كتب شيخنا بل ودل عليه في فتوى على موقعه في الإنترنت حيث سئل الشيخ عن الطاغوت ومعناه والتحاكم إليه...؟ فرد الشيخ وقال :‏ قال صاحب كتاب فض الخصام في طواغي الحكام أن الطاغوت لغة يعني :‏ كذا ‏........‏ واسترسل الشيخ في الإجابة ‏...‏ والشيخ إسمه أبو اليمان الربعي وله عدة مؤلفات استفاد منها طلبة العلم والعلماء فجزاه الله عنا خير الجزاء ‏،،‏ والآن نبدأ بالمتن :


    ـــ (لا إلــه إلاّ اللــه) ـــ
    كمـا دعـا إليهـا الأنبيـاء

    ● شهادةُ التَّوحيدِ في الإسلامِ خَبرٌ يُحمَلُ بِعلمٍ ويُؤدَّى بإعلامٍ، يَتضمَّنُ عهداً بنفيِ الإلهيَّةِ عن جميعِ الخلقِ، وإثباتِها للإلهِ الحقِّ.
    ● وذلكَ أنَّ الإلهَ هو المعبودُ بمعانيَ التعظيمِ، والعبادةُ قُربةٌ بتسليمٍ، في غايةِ الذُّلِ والتَّعظيمِ، يدورُ رَحاها حولَ الحُبِّ، والخوفِ، والرَّجاءِ، كأركانِ البناءِ، والدُّعاءِ، والتَّحكِيمِ.
    ● فجملةُ التَّوحيدِ (لا إله إلاّ اللَّهُ) تعني: لا معبودَ بحقٍّ في الوجودِ سِواهُ، وذلكِ باحتوائِها ركنينِ، همَا: النَّفيُ والإثباتُ، بِهما نزلتْ هذه الآياتُ: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ( إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(.
    فـ (لا إلهَ): بَراءةٌ من الأوثانِ، وكُفرٌ بطاغوتِ العبادةِ، وحُكمِ الشيطانِ.
    و(إلاَّ اللَّهُ): إيمانٌ بإفرادِ اللَّهِ عبادةً بإذعانٍ: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(.
    ● فهيَ كلِمةٌ بتُرجمَانٍ فوقَ العِصْمةِ بنُطقِها من غيرِ كُفرانٍ.
    ● وتَرجَمانُها بثُبوتِ أصْلِ الإيمانِ، والبَراءََةِ مِن شِرْكٍ ونِفََََاقٍ وكُفرَانٍ، وذلِكَ بشَرطِ العِلمِ بِمعناها، واليقينِ بِمحتَواها، والصِّدقِ بِفحواها، والإخلاصِ فِيها، والقَبولِ بِمقتضاها، والإنْقيادِ لها وردِّ ما سِواها، وحُبِها وأهلِها وبُغضِ َمنْ أباها.
    ● فوصفُها: دعوةٌ بالانتفاضِ مِن قيدِ الاعتبادِ للعبادِ، بالفرارِ صُمُوداً وافتقاراً إلى ربِّ العبادِ؛ إذْ لهُ وحدَهُ السُّلطانُ على العالمينَ بالشَّرعِ والتَّكوينِ، فما مِن خيرٍ إلاََّ وهُو جالِبُهُ، وما مِن ضُرٍّ إلاَّ وهُو سالِبُهُ، ولا حُكْمَ إلاَّ لَهُ؛ وذلكَ ما يُوجبُ على العبْدِ التَّحلُّلَ مِن كلِّ التزامٍ يُعبِّدُهُ لأربابٍ متَسلِّطينَ، أُسْوةً بإمامِ المُوحِّدينَ: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ( إِنِّي وَجَّهتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(.
    ● فلْيتمرَّد العبدُ على جميعِ صُورِ الوثنيَّةِ: التَّقليديَّةِ منها والعصريَّةِ، بثورةٍ على الطُّغيانِ، تُزمجرُ بعواصفِ الإيمانِ؛ فلو أنَّ السَّماواتِ السَّبعِ، والأرَضينَ كُنَّ حلْقةً مُبهمةً لَقصَمتهُنَّ لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ.

    أبو اليَمَـان الرَّبْعـي
    التعديل الأخير تم بواسطة أم خطاب; الساعة 09-05-2011, 01:18 AM. سبب آخر: تكبير الخط
    عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال :
    «نهانا رسول الله عن أمرٍ كان لنا نافعًا،
    وطواعية الله ورسوله أنفع لنا»

    رواه مسلم

  • #2
    رد: سلسلة درة السفر الفريد في شرح كلمة التوحيد .... متجدد بإذن الله

    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    جزاكم الله خيرا

    تعليق


    • #3
      رد: سلسلة درة السفر الفريد في شرح كلمة التوحيد .... متجدد بإذن الله

       蜉蜉蜉( مقـدمــة (
      الحمد للَّه (الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ( [التوبة: 33، الصف: 9]، $وأشهد أن لا إله إلاَّ اللَّه وحده لا شريك له، ولا ضد له، ولا ند له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، ولا كفؤ له؛ تعالى عن إفك المبطلين، وخرص الكاذبين، وتقدس عن شرك المشركين، وأباطيل الملحدين. كَذَب العادلون به سواه، وضلوا ضلالاً بعيداً، وخسروا خسراناً مبيناً؛ (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ( عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ( [المؤمنون: 91،92]#.
      $ميَّز عصابة السنة بأنوار اليقين، وآثر رهط الحق بالهداية إلى دعائم الدين، وجنبهم زيغ الزائغين، وضلال الملحدين، ووفقهم للاقتداء بسيد المرسلين، وسددهم للتأسي بصحبه الأكرمين، ويسر لهم اقتفاء آثار السلف الصالحين؛ حتى اعتصموا من مقتضيات العقول بالحبل المتين، ومن سير الأولين وعقائدهم بالمنهج المبين، فجمعوا بالقول بين نتائج العقول وقضايا الشرع المنقول، وتحققوا أنَّ النطق بما تعبدوا به من قول: "لا إله إلاََّ اللَّه محمد رسول اللَّه" ليس له طائل ولا محصول إن لم تتحقق الإحاطة بما تدور عليه هذه الشهادة من الأقطاب والأُصول#.
      $وأشهد أنَّ محمداً عبد اللَّه ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، المبعوث بالدين القويم، والصراط المستقيم. أرسله اللَّه رحمةً للعالمين، وإماماً للمتقين، وحجةً على الخلائق أجمعين؛ فلم يزل ج يجتهد في تبليغ الدين، وهدى رب العالمين، وجهاد الكفار والمنافقين حتى طلعت شمس الإيمان، وأدبر ليل الكفر والبهتان، وعز جند الرحمن، وذل حزب الشيطان، وظهر نور الفرقان؛ فبلغت دعوته القاصي والداني، صلى اللَّه عليه، وعلى آله، وصحبه، والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً مقروناً بالرضوان#.
      وبعد..
      مفهوم الفقه بين السلف والخلف
      فإنَّ الفقه في لغة العرب يعني الفهم ...
      وفي لسان الشرع يطلق على الأحكام نفسها، وعلى فهمها، وسواء المتعلق منها بقضايا الإيمان والعقائد، أو المتعلق بالأحكام الوجدانية الأخلاقية، أو بالأحكام العملية.
      فمن إطلاقه على الأحكام، قول النبي ج: $نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءاً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ؛ فَإِنَّهُ رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ#. وفيه أيضاً الإستعمال الثاني.
      ومن إطلاقه على فهم الأحكام كذلك، قوله تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ( [التوبة: 122]. وقول النبي ج: $مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ#.
      وقال الغزالي: $كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقاً على علم طريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس، ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب#.
      قلت: ولذلك نُقل عن أبى حنيفة قال: $الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها#.
      ثم خصه المتأخرون عنهم ببعض فروع الشريعة وعللها، وهو العلم المشهور اليوم بعلم "الفقه"، والمتفرع بدوره -عند كثير من فقهاء المذاهب- في بابي (العبادات، والمعاملات)، وقد عرَّفوه بأنه: "العلم بالأحكام الشرعية العملية، المكتسب من أدلتها التفصيلية".
      الفقه الأكبر وفروعه
      غير أنَّ طائفة من أهل العلم استعملوا الإسم في مصطلح آخر، أعظم أهمية من سابقه، أطلقوا عليه: "الفقه الأكبر"، وهو العلم المعروف اليوم بعلم: "أُصول الدين"، والذي يتفرع بدوره -كذلك- إلي ثلاثة أفرع، هي: (الإلهيات، والنبوات، والسمعيات).
      كلمة التوحيد رأس الفقه الأكبر، وذكر وصفها
      ولما كان رأس الجميع هو فرع الإلهيات، وهو القسم الذي يبحث في معرفة اللَّه سبحانه بربوبيته، وأُلوهيته، وأسمائه وصفاته، وغيره من القسمين الأخيرين إنما هو خادم ومتمم له، وكان عنوان ذلك كله هو كلمة التوحيد: "لا إله إلاَّ اللَّه"، التي هي رأس أركان الدين، ولا إسلام لمن لم يحقق هذه الكلمة، والتي وصفها ابن القيم بقوله: $لا إله إلاَّ اللَّه وحده لا شريك له، كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل اللَّه تعالى رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، ولأجلها نصبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار؛ فهي منشأ الخلق والأمر، والثواب والعقاب، وهي الحق الذي خلقت له الخليقة، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نصبت القبلة، وعليها أسست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وهي حق اللَّه على جميع العباد، فهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وعنها يُسأل الأولون والآخرون#..
      التوحيد أهم ما ينبغي مدارسته
      أقول: لما كان شأن الكلمة بِهذا الخطر العظيم؛ كان أعظم ما ينبغي أن تفنى فيه الأعمار، وينشغل به الناصحون، هو الإعتكاف على تفقه هذا الأصل الكبير؛ فهو أولى العلوم دخولاً في قول النبي ج: آنف الذكر: $مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ#؛ وذلك لأن التوحيد حياة القلوب، و$من أراد السعادة الأبدية؛ فليلزم عتبة العبودية#.
      سبب تأليف الكتاب
      ولما رأيت عامة الخلق لا يعرفون معبودهم سبحانه، ولا يهتدون إليه سبيلاً، ولا أستثني من ذلك كثيراً من المنتسبين للإسلام، خصوصاً من دخل فيه حديثاً؛ إذ لا يعرفون من التوحيد إلاَّ إسمه، وبعد أن أُفرغ من محتواه، وخفف الإسلام من مسماه بفعل فاعل، وصار عندهم الدين الذي بعث به النبي ج غريباً! -رأيت بعد ذلك من العيب على الأحرار أن يبخلوا على غيرهم بفائدة علموها، أو ثمرة جنوها؛ سيما إن كان ذلك العلم مما يقف بخصوصه العبد على مفترق الطريق، إما شاكراً فيقبل نعمة ربه ويهتدي إلى طريق الجنان، وإما كفوراً جاحداً يتنكب سبل النيران كمسألتنا هذه، والتي -كما سبق- خلق لأجلها المكلفون؛ لقوله تعالي: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ( [الذاريات: 56]، أي ليعرفون ويوحدون كما يقول المفسرون.
      إذن، فلا أقل من "تنوير الأفهام بحقيقة الركن الأول في الإسلام"؛ ولذلك عكفت على كتابة هذا السفر -بحول اللَّه وقوته- في بيان حقيقة هذه الكلمة العظيمة: (كلمة التوحيد)، والتفقه فيها؛ ليكون تذكرة لي -أولاً- ما بقيت في هذه الحياة، وأسأله على ذلك الثبات، وكذلك فضل ظهر على من لا ظهر له -ثانياً- يمتطيه على الصراط؛ علَّ ذلك يكون حادياً للجميع إلى جنات النعيم.
      بعض من كتب في كلمة التوحيد
      ولست أول من كتب عن شهادة "لا إله إلاَّ اللَّه"، فقد سبقني إلى ذلك علماء أجلاء؛ وذلك أن كل من كتب في التوحيد أو توابعه -وما أكثرهم- فقد كتب عن الكلمة؛ إذ هي عنوانه، وقد خص بعضهم رسائل لها باسمها، منهم -على سبيل المثال-: ابن البناء في كتابه: "فضل التهليل وثوابه الجزيل"، والزركشي في كتابه: "معنى لا إله إلاَّ اللَّه"، وابن هشام الأنصاري في كتابه: "إعراب لا إله إلاَّ اللَّه"، وابن رجب الحنبلي في كتابه: "كلمة الإخلاص"، ومحمد بن عبد الوهاب، وأبناؤه، وتلامذتهم من إخوان التوحيد في كثير من بحوثهم ومؤلفاتهم، ومن سلك سبيلهم، كالشوكاني في كتابه: "الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد"، ثم غير واحد من المعاصرين لا يحصون كثرة.
      أصل المتن المقصود بالشرح
      غير أني سلكت في بيانها أُسلوباً مبتكراً، لم أر من سبقني إليه في هذا القالب، وهو عرضها على طريقة المتن، ثم القيام بشرح ما حواه هذا المتن من معنى ولوازم، وذلك أن حقيقة هذا السِّفر الذي بين يديك إنما هو شرح لمتن صغير مضغوط العبارة، كنت قد ألحقت أصله الأول! بمؤلف لي سابق، وقد حوى -حسب علمي- جميع ما يتعلق بالكلمة من معنىً، ويقع فيما لا يزيد عن الصفحة، وقد طبع منه الكثير مفرداً، وتم نشره -بحمد اللَّه- في كثير من ديار المعمورة، وقام بعضهم مشكوراً مأجوراً -إن شاء اللَّه- بترجمته إلى غير العربية، وقد وجد الإشادة والإحسان عند أهل القبول والإذعان.
      ثم وجدت بعد ذلك في نفسي رغبة مُلحَّة تدفعني إلى شرحه وذكر أدلته، وما زالت هذه الرغبة يحثني عليها بعض الفضلاء، وتزيد حرارتُها شدة؛ خصوصاً بعد عزمي على تحقيق ذلك، ومحاولتي الشروع فيه، ثم بالأخص بعد تتابع الأحداث المتسارعة في أيامنا هذه بين يدي ملاحم آخر الزمان، بل وتصل الحرارة أحياناً حد الإزعاج كلما رأيت نفسي قطعت شوطاً في تفريع فقرة من فقراته، وبناء هيكلها الذي سأبني عليه الشرح؛ رغبة في الإسراع بسد لبناتها المتفرقة، وترميم بنيانه، بعد أن رست معالمه الرئيسة، وبدت خطوطه العريضة واضحة المعالم؛ خوفاً على ذهابِها وضياعها؛ إذ لا يعلم المرء ما الذي يختبئ بين طوايا الأيام، رغم أني -والحمد للَّه- مطمئن أشد الاطمئنان على بقاء الإسلام في الأرض شامخاً حتى يحكمها في آخر المعركة، وسواء ذلك بكتابتي لهذا السفر أو بعدمه؛ إذ قد حفظ اللَّه الوحي ما بقيت الدنيا، وكذلك قضى بحفظ وبقاء عصابة من هذه الأمة -امتداداً لعصابة أهل بدر التي قال عنها رسول اللَّه ج: $اللَّهمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإسْلامِ لاَ تُعْبَدْ فِي الأرْضِ#- قاهرة لأعدائها بحجة البيان، وقوة السنان، تقض مضاجع الظلمة من أهل الطغيان؛ فلن يهدأ لهم جفن، ولن ينعموا أو يفرحوا بالقضاء عليها، أو تركيعها، أو تجريدها، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، حتى يُكتب لها النصر عليهم بإذن اللَّه تعالى. وهذه حقيقة يجهلها الأعداء والعملاء، المبتغون العزة عند الكافرين عن طبيعة هذه الطائفة التي بشَّر النبي ج ببقائها وحيويتها، وبعدم القدرة على النيل منها، حتى تحكم الأرض غداً.. وإن كان هؤلاء الفجرة -قاتلهم اللَّه- لربما شعروا بذلك من خلال قراءتهم للتاريخ، ثم لمصادمتهم إياها في واقع الحياة.
      ولو أنَّ مكر الأعداء بِهذه العقيدة، وهذه الطائفة، والذي وصفه اللَّه تعالى بقوله: (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ([إبراهيم: 46]، لو أنه سُلِّط على مذهب آخر، أو طائفة أُخرى؛ لكانت نسياً منسياً، ولكن الإسلام -وبأيدلوجيته التحررية- مازال يشكل حضوراً يطيش بعقول الأعداء، ويحملهم على عض أناملهم غيظاً؛ أن لم ولن يكتب لهم النجاح في محوه والحمد للَّه؛ فلييأس الكفار من بلوغ آمالم، وتحقيق أحلامهم، وهدوء بالهم، ودوام دولتهم كيأس إبليس من رحمة اللَّه، ولتقف -مسلِّمةً- حوافر خيل أُولئك المفتونين عن إدراك سراب تنقطع دونه أعناق المطي؛ لما سبق به القدر: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُوْنَ ([التوبة: 33، الصف: 9]. ومن لم يرض بِهذا، أو لم يرق له هذا الوعد (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ( [الحج: 15].
      جُهد المقل
      أقول: رغم أن ذلك كله كائن لا محالة، إلاَّ أن القلق يساورني، ولهيب المعركة يشتعل في صدري أن لم أرم فيها بسهم، أو أطعن فيها برمح، أو أضرب فيها بسيف..! وما عساني قائل لربي غداً، وقد قال: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ( [التوبة: 41].
      وماذا -أيضاً- يا ترى سيسطر التاريخ عنا غداً بعد قيام دولة الإسلام؟.. هل ستلعننا الأُمة، أو هل سيلومنا المسيح المرتقب وصاحبه المنتظر -إ- أم سيجعل اللَّه لنا لسان صدق في الآخرين؛ فنحظى بدعوات منهم صالحات، يعزنا اللَّه بها في دار المتقين؟..
      إذن، فلا أقل من إعلان البراءة من الجاهلية وأهلها، ثم تحريض الناس على ذلك؛ وقد أمرنا اللَّه بتبليغ ما نعلم، وجهاد الخلق بالحق؛ لتبقى كلمة اللَّه عليا، تحكم الحياة ما بقيت الدنيا.
      الغيرة على العقيدة والمكلفين
      أقول: كل ذلك أحيى الغيرة في نفسي تجاه هذه العقيدة المستهدفة، المحسود أهلها، وكذا تجاه هذه الأمة المكلومة التي تداعت عليها الأُمم، تنهش في جسدها من كل الجهات..
      وأحياها أيضاً -أعني الغيرة- تجاه حدثاء العهد بالإسلام، الذين ما إن يفلتوا من شِباك طواغيتهم، وشبهات أحبارهم، ويصوِّبوا ركابهم نحو الإسلام؛ حتى ينصب لهم المعوِّقون المحسوبون على أُمتنا، والذين يعبدون اللَّه على حرف، العراقيل في درب التحرير، وطريق النجاة..
      وكذلك أحياها تجاه الأوباش من جهلة الكفار، المغرر بهم من قبل أسيادهم..
      فكان الواجب -حينئذ- نثر السهام التي في الجعبة؛ لنري ما يمكن أن نرمي به في مثل هذا المقام؛ عسي أن يصلح لنا غداً حجة عند اللَّه؛ فكان هذا السفر هو ذاك السهم الذي رمينا به في نحور أعداء اللَّه ورسوله ودينه والمؤمنين.
      فنسأل اللَّه تعالى باسمه الأعظم أن يصيبهم في مقتل؛ يفل به جمعهم، ويشتت به شملهم، ويفرق به كلمتهم، ويشل به حركتهم، وأن يتقبله منا بقبول حسن، وأن يجعله سبباً لإحياء الأُمة، وهادياً للخلق، ومناراً على درب السعادة لنا أجمعين، آمين.
      منهج البحث
      وقبل البدء بالدخول في الشرح أُنبه على نقاط مهمة، بمثابة الخطوط العامة التي تبين بعض معالم المنهج المتبع في هذا الشرح إن شاء اللَّه.
      ● أولاً- درجت قدر الإمكان على أن يأتي الكتاب في اختصار معقول، إلاَّ أن طبيعة الكلمة -والتي تمثل منهج حياة من لامها إلى هائها، كما يقول بعض المعاصرين، وقد عشت ذلك حق اليقين- جعلتني بعد ذلك أُسهب أحياناً، ومع ذلك فلست براضٍ كل الرضا؛ فبعض المسائل تحتاج لمزيد بحث وتحرير، وبعضها لمزيد عرض ونقد لشبه المخالفين، وسواء كانوا من المنتسبين إلى الإسلام، أو كانوا من أصحاب الأديان الأُخرى، ولكن الشرح مع ذلك، وبِهذه الصورة المقتضبة؛ يُعد بمثابة الإسعاف حسب المكنة التي تيسرت في هذه الأيام العصيبة، والأجواء المضطربة، الملغومة بالأحداث المتسارعة، وقد عانيت صعوبة في تحصيل بعض المراجع والرسائل في هذه الديار؛ حتى رأيتني قد صرفت النظر عن بعضها، كنت قد كتبت أسماءها بهامش كل فقرة في مسودة البحث لأرجع إليها، وأستقي منها؛ مما اضطرني لاحقاً للاستعانة، ببدائل إلكترونية لم تُحكم بعد، ولا تخلو من أخطاء، ولكني أسأل اللَّه أن يعينني، أو بعض الإخوة المصلحين لاحقاً لاستدراك ما فات، وتقويم ما ينبغي، أو حتى شرحه من جديد، وبأحسن مما هو بين يديك، لمن وجد في نفسه رغبة ومكنة؛ وذلك بعد الاستفادة من ملاحظات القراء؛ ناصحين -كانوا- أو مادحين، أو قادحين، والأمر ينطبق أيضاً في العزو، فربما حدث تصحيف أو قصور في التوثيق، وقد كنت -أصلاً- أشتغل في الشرح مفرَّقاً فَرِقاً؛ وذلك بسبب تجارب ومواقف دفعتني لمسابقة نشره، ليس هذا موضع شرحها؛ فليعذرنا القارئ إلى حين، وليدع لنا بالثبات واليقين!.
      ● ثانياً- ركزت فيه على مجمل الكلام والمعاني، أكثر من شرح الألفاظ والمباني، رغم أن اختيارها أحياناً في المتن دون غيرها كان مشتملاً على بعض الأسرار، وحاولت -قدر الإمكان- تجنب الكلام الإنشائي الممطوط، فمهما وجدت سبيلاً للاختصار والاقتصار دون تكلف أو إبهام سلكته؛ لينحصر ذهن القارئ في لب الموضوع إن شاء اللَّه.
      ● ثالثاً- أبدأ في شرح كل فقرة من فقرات المتن بذكر ما احتوت عليه من مسائل، ثم أبني شرحي على هذه المسائل؛ ليسهل إستيعابها، وليدرك القارئ مدى ما تحمله الكلمة من معان، مع ترابط ما بينها.
      ● رابعاً- جودت المتن السابق بزيادة المعنى، وإحكام المبني، بحيث يكون جامعاً مانعاً، حتى جاء وكأنه آخر غير ذاك، وليكن..! فذلك المتن القديم، وهذا هو في ثوبه الجديد.
      ● خامساً- ومن باب نسبة الفضل إلى أهله، أقول: ليس لي في هذا البحث سوى "التأليف!"، وأعنى هنا جمع الخلاصات من أقوال أهل العلم، ثم التوليف بينها بما فتح اللَّه، وله الفضل أولاً وآخراً، ولربما سبكت السطر والسطرين أحياناً من عبارات بعضهم، بشيء من التعديل مع سياق ما أُنشؤه، دون تنبيه؛ خشية التشويش.
      وأُنبه إلى أنه ليس كل من استشهدت بقوله في موطن، أو نقلت عنه نقلاً ما فلأنَّ قوله حجة! كلا؛ إذ لا حجة عندي سوي في الوحي، وهذا أمر قد فرغت منه قديماً والحمد للَّه، وإنما أنقل عمن نقلت عنه لأن كلامه أو عبارته أراها توافق في -الغالب- ما أُريد صياغته من كلام في الموضع المعين، أو أنه يخدم في تقريب القضية التي أطرحها، ولا فرق -طالما كان المقصود الصياغة- بين سلف ومعاصر، وذلك من باب "الحكمة ضالة المؤمن"، ولربما أكون مخالفاً له في بعضٍ مما ذهب إليه، أو في مسائل أُخرى!.
      ● سادساً- إكتفيت فيه بثلاثة فهارس، هي المهمة:
      - فهرس المراجع والمصادر: ووضعته، لمن أراد المقارنة والمزيد.
      - فهرس إجمالي: ووضعته لمن أراد الوصول سريعاً إلى فقرة أو محاورها.
      - فهرس تحليلي: وقد فصلته ليغني عن فهرس الفوائد، ويسهل على الدارسين تسوير الكتاب في الذهن بعد حفظ متنه.
      ميزة دراسة الكلمة بهذه الصورة المبتكرة
      وبعد، فلما كان لكلمة التوحيد مدلول ثابت، ومفهوم لا يتغير بتغير الزمان وتقدم العصر، ولا بتغير المكان، أو تقلب الأحداث، يحاول العصرانيون والعلمانيون ترويضه؛ فإني أري أن مسابقة أصحاب الشُّبه والعقائد المنحرفة، بشرح الكلمة بهذه الصورة، ونشره وتعليمه للناس بطريقة تسويرية متكاملة، هو أفضل أُسلوب بالنسبة للمربين والدعاة في تحصين المجتمع، وفي توفير الوقت والجهد، والتصدي لأثر آحاد الانحرافات العقدية، خصوصاً المتجددة التي يحدثونها؛ فذلك صخرة تتحطم عندها الشبهات: الحادث منها، والتي لم تحدث بعد! دون كثير تفكير من المتلقي، ودون كثير وقت من الدعاة، يحاول الملحدون -كلما رددنا على زنديق في شبهة أثارها، أو كتاب دوَّنه -شغلونا بها ثانية، وبصورة أخرى ووجه آخر لنفس العملة الزائفة؛ مما يكلفنا وقتاً لتخليص المتعثرين في شباكهم، ما كان لنا أن نهدره لو كان الناس يفهمون كلمة التوحيد من قبل كما يريدها اللَّه تعالى، وقد قال ابن القيم: $كلما عظم نور هذه الكلمة واشتد؛ أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهةً، ولا شهوةً، ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده، الذي لم يشرك باللَّه شيئاً#. واللَّه أعلى وأعلم.
      وأخيراً أختم قبل البدء في الشرح، فأقول: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ( وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ( وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ( يَفْقَهُوا قَوْلِي( [طه: 25-28].
      ( §§ أبو اليمـان الربْعـي §§(

      الثلاثاء 23/ 1/ 1430 هـ 20/ 1/ 2009 م




      (
      المتن الفريد في بيان كلمة التوحيد
      ــ (لا إلــه إلاّ اللــه) ــ
      كما دعا إليها الأنبياء
      (((((((((((((((((((((((((((
      ● شهادةُ التَّوحيدِ في الإسلامِ خَبرٌ يُحمَلُ بِعلمٍ ويُؤدَّى بإعلامٍ، يَتضمَّنُ عهداً بنفيِ الإلهيَّةِ عن جميعِ الخلقِ، وإثباتِها للإلهِ الحقِّ.
      ● وذلكَ أنَّ الإلهَ هو المعبودُ بمعانيَ التعظيمِ، والعبادةُ قُربةٌ بتسليمٍ، في غايةِ الذُّلِ والتَّعظيمِ. يدورُ رَحاها حولَ الحُبِّ، والخوفِ، والرَّجاءِ؛ كأركانِ البناءِ، والدُّعاءِ، والتَّحكِيمِ.
      ● فجملةُ التَّوحيدِ (لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ) تعني: لا معبودَ بحقٍّ في الوجودِ سِواهُ، وذلكِ باحتوائِها ركنينِ، همَا: النَّفيُ والإثباتُ، بِهما نزلتْ هذه الآياتُ: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ( إلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(.
      فـ (لا إلهَ): بَراءةٌ من الأوثانِ، وكُفرٌ بطاغوتِ العبادةِ، وحُكمِ الشيطانِ.
      و(إلاَّ اللَّهُ): إيمانٌ بإفرادِ اللَّهِ عبادةً بإذعانٍ: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ(.
      ● فهيَ كلِمةٌ بتُرجمَانٍ فوقَ العِصْمةِ بنُطقِها من غيرِ كُفرانٍ.
      ● وتَرجَمانُها بثُبوتِ أصْلِ الإيمانِ، والبَراءََةِ مِن شِرْكٍ ونِفََََاقٍ وكُفرَانٍ، وذلِكَ بشَرطِ العِلمِ بِمعناها، واليقينِ بِمحتَواها، والصِّدقِ بِفحواها، والإخلاصِ فِيها، والقَبولِ بِمقتضاها، والانْقيادِ لها وردِّ ما سِواها، وحُبِها وأهلِها وبُغضِ َمنْ أباها.
      ● فوصفُها: دعوةٌ بالانتفاضِ مِن قيدِ الاعتبادِ للعبادِ، بالفرارِ صُمُوداً وافتقاراً إلى ربِّ العبادِ؛ إذْ لهُ وحدَهُ السُّلطانُ على العالمينَ بالشَّرعِ والتَّكوينِ، فما مِن خيرٍ إلاَّ وهُو جالِبُهُ، وما مِن ضُرٍّ إلاَّ وهُو سالِبُهُ، ولا حُكمَ إلاَّ لَهُ؛ وذلكَ الََّذي يُوجبُ على العبْدِ التَّحلُّلَ مِن كلِّ التزامٍ يُعبِّدُهُ لأربابٍ متَسلِّطينَ، أُسْوةً بإمامِ المُوحِّدينَ: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(.
      ● فلْيتمرَّدْ العبدُ على جميعِ صُورِ الوثنيَّةِ، التَّقليديَّةِ منها والعصريَّةِ، بثورةٍ على الطُّغيانِ، تُزمجرُ بعواصفِ الإيمانِ؛ فلو أنَّ السَّماواتِ السَّبعِ والأرَضينَ كُنَّ حلْقةً مُبهمةً لَقصَمتهُنَّ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّه.

      أبو اليمان الربعي

      ( تمهيـد (
      في سبب إهتمامنا بدراسة الكلمة
      يأتي اهتمامنا الزائد بدراسة هذه الكلمة، وبشيء من التفصيل؛ بسبب ما تضمنته من شأن عظيم، ووزن جسيم؛ كان لابد من ذكر لمحة فيه، قبل الدخول في إيضاح معناها، وإحكام مبناها؛ كمحفز يحدو بالقارئ إلى الاهتمام بدراستها، والتفقه فيها، ومن ثم التزامها.. فأقول مختصِراً:
      أوجه عظم شأن كلمة التوحيد
      إن عظم شأن هذه الكلمة يتجلى في ثلاثة أُمور:
      أ- ما دلت عليه..
      ب- أثرها..
      ج- فضائلها.. وإليك بيانها جميعاً:
      أ- عظم دلالتها
      أما عظمها لما دلت عليه: فنكتفي فيه بذكر معنيين عظيمين يوضحان شأن الكلمة، معنىً ومبنىً:
      أولاً: أنها دلت على معنىً قامت به الأرض والسماوات، بل نظام الكون بأسره، كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ( [الأنبياء: 22].
      وقد ذهب كثير من المفسرين وأرباب العقائد إلى أن المقصود من هذه الآية ما يسمي بـ "دليل التمانع"، وتعريفه -كما قال ابن تيمية-: $هو امتناع صدور العالم عن اثنين#، وشرح ذلك -كما يقول أبو العز الحنفي-: $هو أنه لو كان للعالم صانعان، فعند اختلافهما -مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم، وآخر تسكينه، أو يريد أحدهما إحياءه، والآخر إماتته-: فإما أن يحصل مرادهما، أو مراد أحدهما، أوْ لا يحصل مراد واحد منهما. والأول ممتنع؛ لأنه يستلزم الجمع بين الضدين. والثالث ممتنع؛ لأنه يلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون، وهو ممتنع، ويستلزم أيضاً عجز كل منهما، والعاجز لا يكون إلها. وإذا حصل مراد أحدهما دون الآخر؛ كان هذا هو الإله القادر، والآخر عاجزاً، لا يصلح للإلهية#.
      قلت: وفي الحقيقة أن الآية -كما قال أهل العلم- ناطقة بما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية، دالة مستلزمة لتوحيد الإلهية بعد ذلك، فلو كان في السماوات والأرض آلهة بحق -لما لها من الربوبية- لحصل الفساد بسبب عدم انتظامها؛ لانفراد كل رب -حينئذ- بما خلق، ولا فساد فيهما، فلا إله يستحق العبادة إذن غير اللَّه الذي هو الرب وحده، كما في قوله تعالى أيضاً: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ( [المؤمنون: 91].
      قال ابن قيم الجوزية: $فتأمل هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز البين؛ فإن الإله الحق لابد أن يكون خالقاً فاعلاً، يوصل إلى عابده النفع، ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إله؛ لكان له خلق وفعل، وحينئذ..، فلا يرضى بشركة الإله الآخر معه، بل إن قدر على قهره وتفرده بالإلهية دونه فَعل، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه، وذهب به، كما ينفرد ملوك الدنيا عن بعضهم بعضاً بممالكهم..
      إذا لم يقدر المنفرد على قهر الآخر، والعلو عليه؛ فلا بد من أحد أمور ثلاثة:
      إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه.
      وإما أن يعلو بعضهم على بعض.
      وإما أن يكون كلهم تحت قهر إله واحد، وملك واحد، يتصرف فيهم، ولا يتصرفون فيه، ويمتنع من حكمهم عليه، ولا يمتنعون من حكمه عليهم؛ فيكون وحده هو الإله الحق، وهم العبيد المربوبون المقهورون.
      وانتظام أمر العالم العلوي والسفلي، وارتباط بعضه ببعض، وجريانه على نظام محكم لا يختلف ولا يفسد؛ من أدل دليل على أن مدبره واحد، لا إله غيره، كما دل دليل التمانع على أن خالقه واحد لا رب له غيره، فذاك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في العبادة والإلهية؛ فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان، يستحيل أن يكون له إلهان معبودان#.
      وقال شارح الطحاوية: $ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة، بل لا يكون الإله إلاَّ واحداً، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلاَّ اللَّه سبحانه وتعالى، وأن فساد السماوات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة، ومن كون الإله الواحد غير اللَّه، وأنه لا صلاح لهما إلاَّ بأن يكون الإله فيهما هو اللَّه وحده لا غيره، فلو كان للعالم إلهان معبودان؛ لفسد نظامه كله، فإن قيامه إنما هو بالعدل، وبه قامت السماوات والأرض، وأظلم الظلم على الإطلاق الشرك، وأعدل العدل التوحيد#.
      قلت: دليل هذا الأخير هو قول اللَّه تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ( [لقمان: 13]، وقد جاء في تفسيرها: عن ابن مسعود ( قال: $لَمَّا نَزَلَتْ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ( [الأنعام: 82]، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّه، أَيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ، (لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ(: بِشِرْكٍ؛ أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لاِبْنِهِ: (يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ( [لقمان: 13]#.
      قال ابن القيم: $فإن الشرك أظلم الظلم، كما أن أعدل العدل التوحيد؛ فالعدل قرين التوحيد، والظلم قرين الشرك؛ ولهذا يجمع سبحانه بينهما:
      أما الأول: ففي قوله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْط( [آل عمران: 18].
      وأما الثاني: فكقوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ( [لقمان: 13]#.
      وتتعدد مظاهر الظلم بخصوص الشرك، وتتعدد أنواعه؛ حتى يبين كرأي عين صدق ما قال اللَّه تعالى من ثبوت فساد الحياة لو كان ثم آلهة حقيقة مع اللَّه:
      قال ابن عاشور: $وجملة (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ( تعليل للنهي عنه، وتهويل لأمره؛ فإنه ظلم لحقوق الخالق، وظلم المرء لنفسه؛ إذ يضع نفسه في حضيض العبودية لأخس الجمادات، وظلم لأهل الإيمان الحق؛ إذ يبعث على اضطهادهم وأذاهم، وظلم لحقائق الأشياء بقلبها، وإفساد تعلقها#.
      وقال الرازي في تفسيره: $أما أنه ظلم؛ فلأنه: وضع للنفس الشريف المكرم بقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ([الإسراء: 70] في عبادة الخسيس، أو لأنه وضع العبادة في غير موضعها -وهي غير وجه اللَّه وسبيله-.
      وأما أنه عظيم؛ فلأنه وضع في موضع ليس موضعه، ولا يجوز أن يكون موضعه؛ وهذا لأن من يأخذ مال زيد، ويعطي عمراً يكون ظلماً؛ من حيث إنه وضع مال زيد في يد عمرو، ولكن جائز أن يكون ذلك ملك عمرو، أو يصير ملكه ببيع سابق، أو بتمليك لاحق، وأما الإشراك فوضع المعبودية في غير اللَّه تعالى، ولا يجوز أن يكون غيره معبوداً أصلاً#.
      قلت: وعلى ذلك فإن اتخاذ غيره معبوداً مؤذن بفساد الكون، كما قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( [الروم: 41].
      قال الرازي: $وجه تعلق هذه الآية بما قبلها هو أن الشرك سبب الفساد، كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا( [الأنبياء: 22]، وإذا كان الشرك سببه جعل اللَّه إظهارهم الشرك مورثاً لظهور الفساد، ولو فعل بهم ما يقتضيه قولهم: (لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ الأرْضُ( [المؤمنون: 71]، كما قال تعالى: (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبِالُ هَدّاً( [مريم: 90]، وإلى هذا أشار بقوله تعالى: (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذَيْ عَمِلُواْ(#.
      وقال ابن القيم: $وقوله تعالى: (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا( [الأعراف: 56]، قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي، والدعاء إلى غير طاعة اللَّه بعد إصلاح اللَّه إياها ببعث الرسل، وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة اللَّه؛ فإن عبادة غير اللَّه، والدعوة إلى غيره، والشرك به، هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به، ومخالفة أمره، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ( [الروم: 41]، وقال عطية في الآية: "ولا تعصوا في الأرض فيمسك اللَّه المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم"، وقال غير واحد من السلف: إذا قحط المطر فإن الدواب تلعن عصاة بني آدم، وتقول: اللَّهم العنهم. فبسببهم أجدبت الأرض، وقحط المطر.
      وبالجملة؛ فالشرك، والدعوة إلى غير اللَّه، وإقامة معبود غيره، ومطاع متبع غير رسول اللَّه، هو أعظم الفساد في الأرض، ولا صلاح لها، ولا لأهلها إلاَّ أن يكون اللَّه وحده هو المعبود، والدعوة له، لا لغيره، والطاعة والأتباع لرسوله، ليس إلاَّ، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول، فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة؛ فإن اللَّه أصلح الأرض برسوله ودينه، وبالأمر بتوحيده، ونهي عن إفسادها بالشرك به، وبمخالفة رسوله.
      ومن تدبير أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض؛ فسببه: توحيد اللَّه، وعبادته، وطاعة رسوله. وكل شر في العالم، وفتنة، وبلا، وقحط، وتسليط عدو، وغير ذلك؛ فسببه: مخالفة رسوله، والدعوة إلى غير اللَّه ورسوله، ومن تدبر هذا حق التدبر، وتأمل أحوال العالم -منذ قام إلى الآن، وإلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين- وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه، وفي حق غيره عموماً وخصوصاً، ولا قوة إلاَّ باللَّه العلي العظيم#.
      قلت: ولذلك كان جزاء العالم الذي ينشر الفقه في دين اللَّه -وعلى رأس ذلك التوحيد كما سبق- هو كما قال النبي ج: $إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالأرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ#.
      ثانياً- ومن عظيم كلمة التوحيد لما دلت عليه تضمنها اسم اللَّه الأعظم، كما ذهب إليه بعض أهل العلم؛ وذلك لحديث أَنس ( $أنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّه ج جَالِساً، وَرَجُلٌ يُصَلِّي، ثُمَّ دَعَا: اللَّهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدُ، لاَ إلَهَ إلاَّ أَنْتَ، الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ.. فَقَالَ النَّبِيُّ ج: لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى#.
      وعن سعد بن أبي وقاص ( قال: $سمعت رسول اللَّه ج يقول: اسْمُ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى: دَعْوَة يُونُسَ بْنِ مَتَّى. قال: فقلت: يا رسول اللَّه، هي ليونس بن متى خاصة، أم لجماعة المسلمين؟ قال: هِيَ لِيُونُسَ بْنِ مَتَّى خَاصَّةً، وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّة إِذَا دَعَوْا بِهَا؛ أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ( [يونس: 87،88]، فهو شرط اللَّه لمن دعاه بها#.
      وعن أسماء بنت يزيد ك، أن النبي ج قال: $إنََّ اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمُ في سُوَرٍ ثَلاَثٍ: الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَطَهَ#.
      قال القاسم: $فالتمستها، إنه الحي القيوم#.
      قال الألباني بعد ذكره هذا الحديث في صحيحته: $فائدة: قول القاسم أن الاسم الأعظم في آية: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ( [طه: 11] من سورة "طه"، لم أجد في المرفوع ما يؤيده، فالأقرب عندي أنه في قوله في أول السورة: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا( [طه: 14]؛ فإنه الموافق لبعض الأحاديث الصحيحة#.
      ب- عظم أثر الكلمة
      وأما عظم الكلمة لأثرها: فقد شبه الباري سبحانه الكلمة الطيبة بشجرة تتصف بأربع صفات: طيبها، وثبات أصلها في الأرض، وذهاب فروعها وأفنانها في السماء، ثم نفعها الدائم للخلق باستمرار أكلها وثمارها، فذلك مَثَل كلمة الإيمان، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ( تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ( [إبراهيم: 24،25].
      قال ابن عباس (: $الكلمة الطيبة: لا إله إلاَّ اللَّه، والشجرة الطيبة: المؤمن#.
      قالوا: الشجرة هي النخلة، فعن ابن عمر ( قال: $قال رسول اللَّه ج: إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي.. قَالَ عَبْدُ اللَّه: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ#.
      $وقد شبَّه اللَّه سبحانه وتعالى كلمة الإخلاص بالنخلة لأمور منها:
      أ- أن النخلة لابد لها من ثلاثة أشياء: عرقٍ راسخ، وأصلٍ قائم، وفرعٍ عالٍ، كذلك الإيمان لابد له من ثلاثة أشياء: تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح.
      ب- أنَّ النخلة لا تنبت في كل أرض. كذلك كلمة التوحيد لا تستقر في كل قلب، بل في قلب المؤمن فقط.
      ج- أنَّ النخلة عرقها ثابت بالأرض، وفرعها مرتفع. كذلك كلمة التوحيد أصلُها ثابت في قلب المؤمن، فإذا تكلم بها وعمل بمقتضاها عرجت فلا تحجب حتى تنتهي إلى اللَّه عز وجل، قال تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ( [فاطر: 10].
      د- أنَّ النخلة يؤكل ثمرها ليلاً ونهارهاً، صيفاً وشتاءً، إما تمراً، أو بسراً، أو رطباً. كذلك عمل المؤمن يصعد أول النهار، وآخره، وبركة إيمانه لا تنقطع أبداً، بل تصل إليه في كل وقت#.
      عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال :
      «نهانا رسول الله عن أمرٍ كان لنا نافعًا،
      وطواعية الله ورسوله أنفع لنا»

      رواه مسلم

      تعليق


      • #4
        رد: سلسلة درة السفر الفريد في شرح كلمة التوحيد .... متجدد بإذن الله

        وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
        جزاكم الله خيرا


        تعليق


        • #5
          رد: سلسلة درة السفر الفريد في شرح كلمة التوحيد .... متجدد بإذن الله

          ( تفسير البسملة (
(م) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
(ش) إستحبَّ أهل العلم البداء بالبسملة إقتداء بالكتاب العزيز، حيث أنزلت في أوائل السور. ولما كتب الرسول ج كتاباً إلى هرقل، كتب في أوله: $بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم#.
وفي الخبر: $كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ#، لكنه ضعيف الإسناد مرفوعاً.
قال النووي في فوائد الحديث الأول: $فيه استحباب تصدير الكتب ببسم اللَّه الرحمن الرحيم#.
فالبدء بها تبركاً باسمه الكريم، ولما تحمله من معنى الاستعانة باللَّه؛ فإن الباء فيها للاستعانة.
واختلفوا في متعلقها، وأحسن ما يقال في ذلك: أنها متعلقة بفعل محذوف متأخر مناسب للمقام:
فقدره بعضهم فعلاً، كما في قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق( [العلق: 1]، فيكون المعنى: (أبدأ مستعيناً، ومتبركاً باسم اللَّه)، -على التقديم-.
وقدره بعضهم إسماً، كما في قوله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا( [هود: 41]، فيكون المعنى: (باسم اللَّه ابتدائي، أو مبتدئي)، -على التأخير-.
والاسم: هو اللفظ الدال على المسمى، واشتقاقه من السمو، أو السمة، وهو هنا ذات اللَّه العلية سبحانه، وقد ذكر لها في البسملة ثلاثة أسماء: (اللَّه، الرحمن، الرحيم).
أما لفظ الجلالة "اللَّه": فقد قال الغزالي: $هو الاسم الدال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها، حتى لا يشذ منها شيء، وسائر الأسماء لا يدل آحادها إلاَّ على آحاد المعاني من علم، وقدرة، أو فعل، أو غيره. وهو أخص أسمائه تعالى؛ إذ لا يطلقه أحد على غيره، لا حقيقة، ولا مجازاً، وسائر الأسماء قد يُسمى بها غيره..# أهـ.
أما "الرحمن": فذو الرحمة العظيمة؛ لأن "فعلان" تدل على السعة والامتلاء، كما يقال: غضبان، إذا امتلأ غضباً، ولا يلزم منها الدوام.
أما "الرحيم": فهو اسم يدل على الفعل؛ لأن "فعيل" هنا بمعنى فاعل، كقولك: عليم، بمعنى عالم، وتستخدم في الصفات الدائمة، ككربم.
فاللَّه ذو رحمة عظيمة دائمة.
وذهب ابن القيم إلى $أنَّ الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم؛ فكان الأول للوصف والثاني للفعل، فالأول دال أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته#.
فالرحمن ذو الرحمة الواسعة، والرحيم ذو الرحمة الواصلة.
هذا -باختصار- ما كان بخصوص معنى "البسملة" التي بدأنا بها، وبما ذكرناه حولها يتبين أهمية الاستعانة بقيوم السماوات والأرض، صاحب الأُلوهية والرحمة الواسعة بخلقه في كتابة هذا السفر؛ إذ لا حول ولا صول إلاَّ به عز وجل.
فاللَّهَ نستعين، مستأذنين إيَّاه في كتابة ما سيمُنُّ به علينا إن شاء اللَّه، ونسأله تمامه على الوجه الذي يرضيه، وأن يجعله مباركاً باسمه، خالصاً لوجهه الكريم.
 ( شرح العنوان (
(م) دُرَّةُ المَتْنِ الفَرِيْدِ فِيْ بَيَانِ كَلِمَةِ التَّوْحِيْدِ -"لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ"- كَمَا دَعَا إليْهَا الأنبيَاءُ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
 (ش):
جملة ما اشتمل عليه العنوان
اشتمل العنوان على ثلاثة محاور:
الأول: مفردات العنوان.
الثاني: في عَلَمية الكلمة ونصها.
الثالث: منهج الأنبياء في تبليغ الكلمة.. وإليك شرحها على الترتيب المذكور.
المحور الأُول
مفردات العنوان
أما المحور الأول: ففي معاجم اللغة:
المتن: القوي الصلب.
والفريد: المتفرد، أو كبار اللؤلؤ، وقيل الجوهرة النفيسة.
فهذا المتن -ومن باب التفاؤل- جاء قوياً في مبناه، محكماً في معناه -بحول اللَّه وقوته- في بيان كلمة التوحيد على وجه الإجمال.
كما أن الشرح -وقد أسميناه: "السِّفر الفريد في شرح كلمة التوحيد"- انتظم كتيبة من الكلم المتفرد، حول شرح كلمة التوحيد على وجه التفصيل.
ما انفرد به المتن والشرح عن غيره وميزة ذلك
إنفرد المتن -أولاً- في طريقة عرضه لإيضاح حدود الكلمة -حسب علمي- في نص جامع لكل ما حوته، مما يتعلق بها كأصل من حيث معناها، وأركانها، وشروطها، ونواقضها، ثم فضائلها وأثرها. مع كونه صالحاً للحفظ؛ مما يعين في تصور حقيقة ما دلت عليه الكلمة؛ وذلك لأن حفظ المتون -والمنثور منها خاصة- يؤثر في الفكر؛ سيما إذا كان الحافظ له صغير السن، أو في بداية الطلب، ولولم يفهمه وقتئذ!. وقد ذكروا في ترجمة السلطان صلاح الدين الأيوبي أن القطب النيسابوري -أحد أئمة الأشاعرة- كان قد جمع له عقيدة، فحفِظها ثم حفَّظها من عقل من بنيه، فلما كبروا، وتملكوا الأقاليم عملوا على نشرها؛ فكان ذلك أحد أسباب تمكين المذهب الأشعري وسط المسلمين!..
وآمل أنا بهذه الطريقة في عرض الكلمة أن تكون سبباً ينعم اللَّه به على الأُمة بفهم لبنة الإسلام الأولى، وهي كلمة التوحيد "لا إله إلاَّ اللَّه"؛ عسى أن يخرج فيها جيل بحكامه وربانييه، يقود سفينة النجاة لأهل الأرض في بحر هذا الطغيان الذي عم طوفانه البر والبحر، فملأ الدنيا ظلماً وجوراً، وليس ذلك على اللَّه بعزيز.
وانفرد السفر بين الأسفار في طريقة شرحه للكلمة، تبعاً لتفرد المتن، وانتظم في سلكه ما ذكرناه من قضايا الكلمة ومفرداتها، كما أنه عكس إعجاز الكلمة بسبب سعة ما تحمله من مدلول، وسيرى القارئ أننا لم نخرج قط لا في كبير، ولا في صغير -إن شاء اللَّه- عن ذلك.
المحور الثاني
في عَلَمية الكلمة ونصها
أما المحور الثاني -وهو قولنا: "كلمة التوحيد" (لا إله إلاَّ اللَّه)- فقد اشتمل على علمية الكلمة -أعنى عنوانها- وعلى نص الكلمة نفسها، أي المقصود بكلمة التوحيد، وهو "لا إله إلاَّ اللَّه".
أما علمية الكلمة: فمقصودى به تعريفها بمعنى العلمية، وتعنى الكلمة التي صارت شعاراً وعنواناً على التزام التوحيد، وإفراد اللَّه بالعبادة، وليست في الحقيقة كلمةً مجردةً عن الحركة كما سيأتي.
ولها ألقاب أُخر غير "كلمة التوحيد"، كما جاء في الحديث $أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلاَمِ، وَعَلَى كَلِمَةِ الإِخْلاَصِ، وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى مِلَّةِ أَبَيْنَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ#.
وعن عمر بن الخطاب ( في تفسيره لقول النبي ج: $إِنِّى لأَعْلَمُ كَلِمَةً لا يَقُولُهَا عَبْدٌ حَقّاًً مِنْ قَلْبِهِ إلاَّ حُرِّمَ عَلَى النَّارِ#، قال عمر: $هي كلمة الإخلاص، وكلمة التقوى: شهادة أن لا إله إلاَّ اللَّه#.
 وسماها العلماء: كلمة الإسلام، والكلمة الطيبة، وعنوان التوحيد، ورأس الملة، ومفتاح الجنة، وشهادة الحق.. وغيرها من الأسماء المنثورة في كتب العقيدة قديماً وحديثاً.
وكل هذه الأسماء مأخوذة من جملة النصوص الدالة على مثل هذه النعوت، تصريحاً أو ضمناً، كما مر بعضها في ذكر فضائلها..
هذا وسيأتي الحديث حول التوحيد وأقسامه لاحقاً.
أما نصها المفسر لحقيقة المقصود بـ(كلمة التوحيد)، فهي جملة "لا إله إلاَّ اللَّه"، وهي أصل العبارة التي لأجلها خصصنا هذا السفر بتمامه، فدونكه، فانظره.
المحور الثالث
منهج الأنبياء في تبليغ الكلمة
وقولنا في المحور الأخير: "كما دعا إليها الأنبياء"، فقد تضمن سر تخصيص هذه العبارة، والمقصود بكاف التشبيه فيها.
سر تخصيص العبارة
إن سر تخصيص هذه العبارة، وذكر كاف التشبيه فيها، إنما كان لسببين:
الأول: إختلاف الناس في مفهوم التوحيد وفي تفسير كلمته
فقد تعددت المفاهيم فيهما، واختلفت المذاهب والأقوال في تفسيرهما، إختلاف تضاد وتنافر، لا اختلاف تنوع وتضافر؛ فكان لزاماً بيان ذلك وشرحه؛ لمعرفة ما نزل مما لم ينزل:
أ- أما اختلاف الناس في التوحيد عامة، فقد ضرب كل فريق من المختلفين فيه بسهم، حتى صار هذا المصطلح ذا معاني عدة، ومذاهب شتى، بلغ ببعضهم أن فسره بما يخالف العقول، وتنفر منه الفطر السليمة، وذلك كنحو تفسير الاتحادية، وأصحاب وحدة الوجود، حيث فسره هؤلاء بعدم التفرقة بين الخالق والمخلوق، وزعموا أن هذا هو المقصود بالتوحيد!.
وفسره آخرون بما سموه وحدة الأديان الثلاثة الكبيرة على ما هي عليه اليوم، وتذويب عقيدة الولاء والبراء!. وسيأتي بيان ضلال ذلك كله إن شاء اللَّه.
ب- أما اختلافهم في كلمته، وفي مفهوم الإلهية خاصة، فقد كان ذلك على مذاهب شتى، ونحل عدة، تتفرع وتنقسم بانقسام الناس، ما بين اختلافهم جميعاً مع بعضهم البعض، وما بين اختلاف المنتسبين منهم للإسلام خاصه مع بعضم بعضاً.
فمن حيث اختلاف الناس -بالجملة- في مسألة أُلوهية المولى سبحانه، وموقفهم منها، قال فيه أبو مصعب البدري: $إذا نظرت في الناس تجدهم يكادون ينحصرون في هذه الأقسام:
- قسم لا يؤمن بها من حيث المبدأ والأصل، كالملاحدة.
- وقسم يؤمن بالأُلوهية، لكنه لم يهتد إلى اللَّه تعالى، وهم كمن يعبد البقر، [ولا يعرف ربه].
- وقسم يؤمن بالأُلوهية، ويؤمن باللَّه، لكنه يشرك معه إلهاً آخر.
- وقسم يؤمن بالأُلوهية، ويؤمن باللَّه، لا يشرك معه إلهاً آخر#.
وأما اختلاف المنتسبين للإسلام خاصة حول "لا إله إلاَّ اللَّه"، فقد قال محمد بن عبد الوهاب: $الناس فيها ثلاث فرق:
- فرقة نطقوا بها وحققوها، وعلموا أن لها معنىً وعملوا به، ولها نواقض فاجتنبوها.
- وفرقة نطقوا بها في الظاهر، فزينوا ظواهرهم بالقول، واستبطنوا الكفر والشرك.
- وفرقة نطقوا بها، ولم يعملوا بمعناها، وعملوا بنواقضها..
فالفرقة الأولى هي الناجية، وهم المؤمنون حقاً، والثانية هم المنافقون، والثالثة هم المشركون#.
قلت: قد تنوعت مذاهب الطائفة الثالثة التي نطقت بالكلمة ولم يعملوا بمعناها، أو عملوا بنواقضها، بتفاوت فيما بينهم:
- منهم من ضل لخطأ في تصوره لحقيقة الذات العلية (اللَّه جل شأنه)..
- ومنهم من ضل لخطأ في تفسير كلمة "إله"..
وعلى ذلك تفرعت مذاهبهم وأهواؤهم، بين غال، وآخر قريب من الحقيقة، وثالث وسط بينهما.
وكذلك تفرعت هذه المذاهب نفسها داخل كل مرتبة عند أصحابها، منهم من يبين كفره جلياً، ومنهم من يلتبس كفره على بعض دون آخر، ومنهم من يعيش ويموت مستوراً، وعند اللَّه الموعد، وعلينا إقامة الحجة، وبيان السبيل، والحكم على من عرفناه، فنقول:
أما من أخطأ في تفسير مسمى الذات العلية (اللَّه): فهم أصحاب وحدة الوجود، وأهل الحلول والاتحاد، وهؤلاء -كما قلنا من قبل- لا فرق عندهم إبتداءً بين من عبد الخالق، أو عبد المخلوق. والتوحيد هو عدم التفرقة، وإلاَّ كان الشخص مشركاً في نظرهم!، بل قالوا $إن عباد الأصنام ما أخطؤوا إلاَّ من حيث اقتصارهم على عبادة بعض المظاهر، والعارف يعبد كل شيء#!!.
قال ابن حجر -متحدثاً عن مذهب الصوفية، وكيف أنه جر بعضهم إلى مثل هذا القول-: $..فإن أكابرهم لما تكلموا في مسألة المحو والفناء، وكان مرادهم بذلك المبالغة في الرضا والتسليم، وتفويض الأمر، بالغ بعضهم حتى ضاهى المرجئة في نسبة الفعل إلى العبد، وجر ذلك بعضهم إلى معذرة العصاة، ثم غلا بعضهم فعذر الكفار، ثم غلا بعضهم فزعم أن المراد بالتوحيد إعتقاد وحدة الوجود#.
وعن هؤلاء المغالين قال ابن تيمية: $كان منتهى قولهم إنكار رب العالمين، وإنكار عبادته حتى ظهروا بدعوى التحقيق والتوحيد، فصاروا يقولون: العالم هو اللَّه، وما ثم رب وعبد، وخالق ومخلوق؛ بل هو عندهم فُرقان! فصاروا يعيبون على الأنبياء، ويمدحون فرعون، ويجوزون عبادة جميع المخلوقات.
وقد ضل في هذا جماعة، ولهم معرفة بالكلام والفلسفة والتصوف المناسب لذلك، كابن سبعين، والصدر القونوي تلميذ ابن عربي، والتلمسانى، وهو من حذاقهم، وكان يظهر المذهب بالفعل..، وحدثني الثقة أنه قرأ عليه "فصوص الحكم" لابن عربي، قال: فقلت: هذا الكلام يخالف القرآن، فقال: القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا!#أهـ.
وضلال هذا المذهب لا يغالط فيه إلاَّ مكابر مجنون، وقد رده العلماء في مصنفاتهم بأدلة المنقول والمعقول.
وأما من أخطأ في تفسير كلمة "إله" ممن انحرف في فهم كلمة التوحيد من المنتسبين إلى الإسلام، فمذهبهم أكثر إنتشاراً على الإطلاق، ويمثل جمهورهم طائفتان:
الأُولى- طائفة من عوام المنتسبين للإسلام، وهؤلاء منهم من يفسر كلمة "إله" ببعض معاني الربوبية، وذلك كمن يظن أن "الإلهية" تعني القدرة على الاختراع، والخلق، والرزق. وأبعد من ذلك ظن من يظن أن "الإله" بمعنى الموجود!.
وكلا القولين يقول به جمع من الناس، فكم سمعنا منهم من يفسر كلمة التوحيد -إذا سئل عنها- بأن لا خالق إلاَّ اللَّه، أو يقول إن معناها: اللَّه موجود، ونحو ذلك من معاني الربوبية، ومثل هؤلاء قال فيهم محمد بن عبد الوهاب: $العجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه حهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق، ولا يرزق، ولا يحيي، ولا يميت، ولايدبر الأمر إلاََّ اللَّه. فلاخير في رجل جهال الكفار أعلم منه بـ "لا إله إلاَّ اللَّه"#.
يشير بذلك إلى قوله تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ( وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ( [الصافات: 35،36]، فقد كان المشركون قديماً يعرفون ما تدل عليه الكلمة، وما يريده الأنبياء منهم -كما سيأتي- وذلك بخلاف حال هؤلاء الذين لايعرفون حقيقة الكلمة، ولا يفهمون لغة القرآن!.
الثانية- طائقة من أهل العلمانية، وهؤلاء قوم من طراز فريد في الضلال، وعلى مذاهب شتى، أشهرهم طائفة تؤمن بأُلوهية اللَّه، ولكن في السماء دون الأرض! فيذهبون إلى أن الناس في حل من الخضوع لهيمنة اللَّه تعالى؛ وذلك:
إما لأنه ليس له -سبحانه- شريعة في الحياة عامة، اللَّهم إلاَّ فيما أسموه بالأحوال الشخصية، دون التي يتعدى أثرها على السياسة، والتربية، والإقتصاد..
أو أن للَّه شريعة في ذلك كله، وفي غيرها، ولكن: 
إما أنه سبحانه ترك الناس في حلٍّ من أمرهم نحو التزامها، ولا تثريب عليهم إن قبلوا عبادة اللَّه بالتسليم لشرعه، أو عدم ذلك!.
وإما أنها ملزمة فعلاً، ولكن وقت نزولها، صالحة حينئذ، غير صالحة بعد ذلك، والعباد في حلٍّ تجاه ربهم من حيث الخروج عن قيوده سبحانه؛ وذلك لسمو عقول الناس، وكثرة معارفهم اليوم!.
وهذا كله إن استقام لهم معنى الأُلوهية في اللغة، ولم يخلطوا بينه وبين معنى الربوبية، فيجتمع فيهم -حينئذ- مع ضلالهم المذكور ضلال الطائفة السابقة.
ومعظم هؤلاء -وخصوصاً "المتدينين"، أعني النتسبين منهم للإسلام، أو اليهودية والنصرانية- إنما يعرفون الخضوع الكوني القدري، والذي يشترك فيه جميع الخلق؛ إذ ليس لمخلوق حيلة في الخروج عن هذه العبدية للَّه سبحانه، كما قال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لاَ تَنْفُذُونَ إلاَّ بِسُلْطَانٍ( [الرحمن: 33]، فهذا النوع هو المطلوب عندهم، وهو المقصود بقوله سبحانه في القرآن: (إِنِ الْحُكْمُ إلاَّ للَّهِ( [يوسف: 40،67 والأنعام: 57]، ثم لا بأس بالخروج بعد ذلك عن الأوامر الشرعية، أو الحكم والقضاء بما شاءت الأهواء من نظم وقوانين، ما دام الشخص مؤمناً بأن الكون في سلطان اللَّه وقبضته. وهذه علمنة ممزوجة بفهم خاطئ لتوحيد الشرع، وتوحيد القدر -كما سنبين بحول اللَّه- وكذا لمفهوم الاستسلام!.. ظلمات بعضها فوق بعض.
وقد رأيت نحو هذا الفهم عند قريب لي، يتزعم حزباً سياسياً، ومناصب شعبية كبيرة في بلادنا، وبالأمس كان صاحب منصب تنفيذي كبير في الدولة!. والمثير للعجب أن تجده مع ذلك فخوراً بأن آباءه من شيوخ الطريق، وكبار الأولياء الذين يستشفع بهم..! واللَّه المستعان، وصدق من قال: شر البلية ما يضحك.
وثم عجائب أخرى من الأفهام البالية المتوارثة عبر الأجيال، تنبيك عن مدى بعد الناس عن طريق الأنبياء، ومدى جهلهم بفهم كلمة التوحيد، قد نشير إلى بعضها لاحقاً.
تعدد السبل في تبليغ الكلمة خلاف منهج الأنبياء
السبب الثاني في سر كاف التشبيه في قولنا: "كما دعا إليها الأنبياء"، هو تعدد السبل عند المنتسبين للدعوة في تبليغها، تبعاً للإختلاف السابق في فهمها، وليس المقصود تفصيل الحديث حول منهج الأنبياء في الدعوة إلى اللَّه، وإنما التأصيل لمعرفة كونهم -عليهم الصلاة والسلام- دعوا إلى حقيقة الكلمة كما يريدها اللَّه، من غير تحريف لمعناها، ولا اختزال في محتواها.
المقصود بالأنبياء
قال القاضي عياض: $النبوة في لغة من هَمَزَ مأخودة من "النبأ"، وهو الخبر. وقد لا يهمز على هذا التأويل تسهيلاً، والمعنى: أن اللَّه تعالى أطلعه على غيبه، وأسلمه أنه نبيه، فيكون نبي منبأ، فعيل بمعنى مفعول، أو يكون مخبراً عما بعثه اللَّه تعالى به، ومنبئاً بما أطلعه اللَّه عليه، فعيل بمعنى فاعل.
ويكون عند من لم يهمزه من "النبوة"، وهو ما ارتفع من الأرض، معناه: أن له رتبة شريفة، ومكانه نبيهة عند مولاه، منيفة. فالوصفان في حقه مؤتلفان#.
ومقصودى هنا: الموحى إليهم من البشر، رسلاً كانوا، أو أنبياء، والذين كلفهم اللَّه بأداء أمانة التوحيد للناس، كما قال سبحانه: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ( [النساء: 165].
فهؤلاء الرسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام- دعوا أول ما دعوا إلى هذه الكلمة: (لا إله إلاَّ اللَّه)، إذ كانت المحور الرئيس في دعوتهم الخلق، كما قال عز من قائل: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ( [الأنبياء: 26].
وقال تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ( [الزخرف: 45].
وهذا على سبيل الإجمال..
أما على سبيل التفصيل: فقال تعالى عن نوح ؛: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إلاَّ اللَّهَ.. ([هود: 25،26].
وقال تعالى أيضاً: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ( [المؤمنون: 23].
وقال عن هود ؛: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إلاَّ مُفْتَرُونَ( [هود: 50].
وقال عن صالح ؛: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ( [الأعراف: 73].
وقال عن شعيب ؛: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ( [الأعراف: 85].
وقال حاكياً عن المسيح ؛: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ( [المائدة: 117].
وقال محمد ج: $بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ#.
فكلمة التوحيد كانت أول ما دعا إليه الأنبياء، وقد تقدم في التمهيد بيان كيف أنهم عملوا على إصلاح مجتمعاتهم من خلالها، وقد حكى اللَّه تعالى كيف أنهم -عليهم الصلاة والسلام- بلَّغوا الكلمة لأقوامهم كما أُمروا حق البلاغ بعدما فهموها كامل الفهم، فما حرفوا فيها شيئاً، ولا كتموا من معانيها بعضاً، ولا داهنوا في الصدع بها أحداً، ولا هادنوا أو هابوا في سبيلها أميراً أو مأموراً، ولا استثنوا في التحذير من شرك رأوه بعضاً.. حكى اللَّه معاركهم مع جميع صنوف المنازعين اللَّه في خصائصه، فكسروا أصناماً، وجاهدوا حكاماً، وناظروا أرباباً، وناطحوا أسياداً، وعابوا أفكاراً، وتبرؤوا من أهالين ومجتمعات، وفعلوا ما فعلوا من أمور لتحقيق الكلمة، وتعبيد الناس لربهم.. وسنذكر في فقرات متأخرة طرفاً من ذلك إن شاء اللَّه.
حال الخلوف في منهج تبليغ الكلمة
ثم خلف من بعد هؤلاء العظام من الرجال خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، كما قال النبي ج: $مَا مِنْ نَبِىٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ في أُمَّةٍ قَبْلِى إلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ، وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ. ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ، يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ؛ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ#.
وقد تنوعت أهواء هؤلاء الخلوف تجاه المنهج الذي سلكه الأنبياء حول الكلمة: -فهماً، أو تبليغاً- على مذاهب: 
- منهم من أضاع الكلمة برمتها، وانسلخ عن المنهج جملةً..
- ومذهبٌ تاه أصحابه عن منهج الأنبياء في الدعوة إليها؛ لفهم أعرج في تصور الكلمة.
- وقوم أضاعوا من معالمها الرئيسة ما نسوا بسببه حظاً عظيماً من أوَّلياتها، ومقتضياتها.
مثلان في التقصير عن منهج الكلمة
وإليك ذكر مثالين معاصرين من صور التقصير عن المنهج عند بعض الجماعات، تصرح كلٌ منهن أن الأصل الأول في دعوتها هو "لا إله إلاَّ اللَّه"، يمثلان المذهب الثاني والثالث؛ إذ المذهب الأول قد فارق أصحابه الدين جملةً وتفصيلاً، وتمثله غيرما فرقة من فرق الزندقة والانحلال، وبعدهم عن منهج الكلمة واضح للعقلاء من العيان، وكتابنا هذا كله شاهد على ذلك.
المثال الأول: جماعة التبليغ وفهمهم للكلمة
لما التبس عند هؤلاء أمر الشرع بالقدر، ولم يكد فهمهم لكلمة التوحيد يتعدى نفي الأسباب؛ كان محور دعوتهم هو الخروج بالدعوة لبلوغ ما أسموه "اليقين"، وحقيقته عندهم: ترويض النفس حتى تصير كالريشة في مهب الريح أمام تحديات الحياة؛ إيماناً بالقدر، وحتى لا يكون العبد منازعاً للَّه في أمره!. وبهذه الطريقة وحدها يتم إخراج المعتقد الفاسد: (رؤية الفاعلية مع اللَّه)، وإدخال اليقين الصادق: (الفاعل اللَّه)!..
هذا غاية فهم القوم لحقيقة: (لا إله إلاَّ اللَّه). وسر فهمهم هذا هو العقيدة الأشعرية القائلة بنفي القوة المودعة التي تسمى بقضية "العادة"، وهي تعني أنه لا شيء يؤثر في شيئ، ولا علة تؤثر في معلولها، ولا حقيقة لطبائع الأشياء. وحكموا على أنها فارغة من القوى، ومن ثم التأثير في غيرها، أو التأثير بقدرة اللَّه سبحانه، باعتبارها وسائط. وهذا معناه أيضاً إنكار لعلاقة الأسباب بمسبباتها!.
وقد قال ناظمهم:
والفعل في التأثير ليس إلاَّ
 ومن يقل بالقوة المودعة ومن يقل بالطبع أو بالعلة


للواحد القهار جل وعلا
فذاك بدعي فلا تلتفت فذاك كفر عند أهل الملة

مضحكات مبكيات في لوازم فهمهم للكلمة
وقد سمعنا ورأينا وقرأنا مواقف مضحكات مبكيات من صور هذا "اليقين!"، حصل بعضها في ديارنا هذه، وبعضها في غيرها، تنبئ عن شرخ عميق في منهج الكلمة عندهم، عقيدة كان أو سلوكاً ودعوة، وشاهداً علي تغيير في وجه العقل! على حد وصف ابن تيمية كما سيأتي، وإليك نماذج في ذلك:
- جيء لأحدهم بكوب من الشاي، وكان طعم السكر فيه خفيفاً، فقيل له -بعدما ذاقه-: ألاَ نزيده لك سكراً؟ فأجاب: $كلا، المطعِّمُ اللَّهُ#!، يعني الذي يزيد في حلاوة الأشياء هو اللَّه..
- وآخر ذهبت إحدى عينيه فسأله شخص: $ما الذي قدَّ عينك؟# فأجاب $إنه اللَّه#! وأمسك عن ذكر السبب المسؤول عنه.
قلت: فهكذا يكون التعبير: غلو في نفي الأسباب، وإلاَّ كان الشخص غير مؤمن بفاعلية اللَّه إن ذكر السبب!.
- ومثال ثالث، ذكر قصته التويجري نقلاً عن بعض العلماء، حيث قال: $القصة الثانية عشرة: ذكرها أحد العلماء في المدينة النبوية، في مؤلف له، ذكر فيه كثيراً من المنكرات التي يفعلها التبليغيون، وحذر منها، وذكر فيها شهادة أحد الثقات الأثبات على مجموعة من دعاة جماعة التبليغ، أنهم دخلوا في معسكر لتدريب المجاهدين في باكستان، فاستقبلهم القائد ظاناً أنهم جاءووا ليشاركوهم الجهاد، ولكنه فوجئ بقولهم: إنما جئنا ليخرج معنا المجاهدون، وليتعلموا الإيمان!، وترددوا أياماً، فأصدر أوامره بمنعهم من دخول المعسكر#.
قلت: جيوش الفريقين حينذاك ملتحمة، والكفار رأي العين، يهلكون الحرث والنسل، ويفسدون المعتقدات، ولسان حال هؤلاء: أخرجوا معنا، وسيكفيكموهم اللَّه، وكأنهم لم يتعلموا من فقه الأسباب شيئاً، ولم يسمعوا بقول اللَّه تعالى: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ( [محمد: 4]، اللَّهم إلاَّ إن كانوا لا يعتدون بإسلام من يجاهد من المسلمين بالسنان مالم يخرج ليتعلم "لا إله إلاَّ اللَّه"!، وهذا في الحقيقة لازم مذهبهم، إن لم يكن حقيقة مذهبهم.
وهذه القصص إنما هي طرف يسير من مجموع قصص متواترة، لو جمعت لجاءت في مجلد كبير، تنبئ عن اعوجاج شديد في فهم الكلمة عند القوم بتخبط وحماقات باردة، مع كونهم جعلوها أول أصولهم الستة!.
الرد على من نفى القوة المودعة
وقد قال ابن تيمية في رد مذهب أمثال هؤلاء في "نفي العلة المودعة": $ومن قال أن قدرة العبد وغيرها من الأسباب التى خلق اللَّه تعالى بها المخلوقات ليست أسباباً، أو أن وجودها كعدمها، وليس هناك إلاَّ مجرد إقتران عادي، كإقتران الدليل بالمدلول، فقد جحد ما في خلق اللَّه وشرعه من الأسباب والحكم والعلل، ولم يجعل في العين قوة تمتاز بها عن الخد تبصر بها، ولا في القلب قوة يمتاز بها عن الرِّجل يعقل بها، ولا في النار قوة تمتاز بها عن التراب تحرق بها. وهؤلاء ينكرون ما في الأجسام المطبوعة من الطبائع والغرائز!.
قال بعض الفضلاء: تكلم قوم من الناس في إبطال الأسباب والقوى والطبائع؛ فأضحكوا العقلاء على عقولهم.
ثم أن هؤلاء يقولون لا ينبغى للإنسان أن يقول أنه شبع بالخبز، وروى بالماء! بل يقول: شبعت عنده، ورويت عنده؛ فإن اللَّه يخلق الشبع والري ونحو ذلك من الحوادث عند هذه المقترنات بها عادة لا بها، وهذا خلاف الكتاب والسنة؛ فإن اللَّه تعالى يقول: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ( [الأعراف: 57] الآية.
وقال تعالى: (وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ( [البقرة: 164].
وقال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ( [التوبة: 14].
وقال: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا( [التوبة: 52].
وقال: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ( [ق: 9].
وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ( [الأنعام: 99].
وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا( [فاطر: 27].
وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ( يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ( [النحل: 10،11].
وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً( إلى قوله: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً( [البقرة: 26].
وقال: (قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ( يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ( [المائدة: 16].
ومثل هذا في القرآن كثير، وكذلك في الحديث عن النبى ج، كقوله: "لا يموتن أحد منكم إلاََّ آذنتموني به حتى أصلي عليه؛ فإن اللَّه جعل بصلاتى عليه بركه ورحمة".
وقال ج: "إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة، وإن اللَّه جاعل بصلاتي عليهم نوراً". ومثل هذا كثير.
ونظير هؤلاء الذين أبطلوا الأسباب المقدرة في خلق اللَّه: مَن أبطل الأسباب المشروعة في أمر اللَّه، كالذين يظنون أن ما يحصل بالدعاء، والأعمال الصالحة، وغير ذلك من الخيرات، إن كان مقدراً حصل بدون ذلك، وإن لم يكن مقدراً لم يحصل بذلك. وهؤلاء كالذين قالوا للنبى: أفلا ندع العمل، ونتكل على الكتاب؟ فقال: لاَ، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.
وفى السنن أنه قيل: يارسول اللَّه أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقى وتقاة نتقيها هل ترد من قدر اللَّه شيئاً فقال: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ. ولهذا قال من قال من العلماء: الإلتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً تغيير في وجه العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع#.
وفي مثل هذا الغلو في الاستسلام للقدر، قال من قال من أهل التصوف: $الفرق بين معصية الولي والفاسق: أن الولي يطلعه اللَّه على المعصية كشفاً وإلهاماً من قبل صدورها، والفاسق على العكس. وكل من لم يطلعه اللَّه تعالى على معصية من قبل مباشرته لها كشفاً وإلهاماً فهو فاسق#.
قال ابن تيمية معلقاً على مثل هذا الهراء: $الحقائق الكونية..، من اكتفى بها، ولم يتبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين، والكافرين برب العالمين. ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض، أو في مقام، أو حال نقص من إيمانه وولايته للَّه بحسب ما نقص من الحقائق الدينية.
وهذا مقام عظيم، فيه غلط الغالطون، وكثر فيه الاشتباه على السالكين، حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المدعين التحقيق والتوحيد والعرفان مالا يحصيهم إلاَّ اللَّه، الذى يعلم السر والإعلان. وإلى هذا أشار الشيخ عبد القادر / فيما ذكر عنه، فبين أن كثيراً من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، إلاَّ أنا، فإنى إنفتحت لى فيه روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق. والرجل من يكون منازعاً للقدر، لا من يكون موافقاً للقدر.
والذى ذكره الشيخ / هو الذى أمر اللَّه به ورسوله، لكن كثيراً من الرجال غلطوا، فإنهم قد يشهدون ما يقدر على أحدهم من المعاصى والذنوب، أو ما يقدر على الناس من ذلك، بل من الكفر، ويشهدون أن هذا جار بمشيئة اللَّه وقضائه وقدرة، داخل في حكم ربوبيته، ومقتضى مشيئته، فيظنون الاستسلام لذلك، وموافقته، والرضا به، ونحو ذلك ديناً وطريقاً وعبادةً؛ فيضاهون المشركين الذين قالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آَبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ( [الأنعام: 148]، وقالوا: (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ( [يس: 47]، وقالوا: (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ( [الزخرف: 20].
ولو هدوا لعلموا أن القدر أُمرنا أن نرضى به، ونصبر على موجبه في المصائب التى تصيبنا: كالفقر، والمرض، والخوف، قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ( [التغابن: 11]، قال بعض السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند اللَّه، فيرضى ويسلم. وقال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ( [الحديد: 22،23].
وفى الصحيحين عن النبى أنه قال: احتج آدم وموسى، فقال أنت آدم الذى خلقك اللَّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شئ؛ فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم: أنت موسى الذى اصطفاك اللَّه برسالته وبكلامه، فهل وجدت ذلك مكتوباً علىَّ قبل أن أُخلق؟ قال: نعم قال: فحج آدم موسى#.
إلزام التبليغيين بعدم حتمية الخروج لفهم الكلمة
وقد كنت حاورت بعض مقدَّمي هؤلاء التبليغيين في الحكمة من دعوة الناس للخروج، وحججته بقولي له: هل خرج النبي ج بآلاف الصحابة ( ابتداءً مختاراً من ديارهم ليعلمهم "لا إله إلاَّ اللَّه" خارج مكة أو المدينة، ثم يعود بهم ثم يخرج بآخرين.. وهكذا؟. ثم إن من تدعونه للخروج: إن كان على الإيمان من قبل، فكيف إذن لا يفهم الكلمة أحد إلاَّ بعد الخروج؟ وإن قلتم بل ليس مؤمناً، فكيف تدعون كافراً للخروج؟ فكان جوابه الاضطراب، ثم السكوت!.
بيان تنوع شعب الإيمان، ووجوب تقديم عبادة الوقت
ولعل منهم نبيهاً يقول: إن المقصود هو زيادة الإيمان، وليس أصله، فأقول -حينئذ- هذا دليل عدم فهمهم لكلمة "لا إله إلاَّ اللَّه"؛ وذلك لأن الكلمة تعني أصل الإيمان المنجي -كما سيأتي- ومن أتى بأصل الإيمان فقد أتى بـ "لا إله إلاَّ اللَّه"..
ثم إن زيادة الإيمان تحصل بغير ما شعبة من الشعب، كما قال تعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ( [البقرة: 148]. وقديماً لما أراد عبد اللَّه العُمري أن يحمل مالكاً على الخلوة والإنفراد والعمل بغير شعبة التعلم والتعليم، أجابه مالك جواب فقيه -كما يقول الذهبي- جاء فيه: $إن اللَّه قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرُبَّ رجل فُتح له في الصلاة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصوم ولم يُفتح له في الصلاة، وآخر فُتح له في الصدقة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الجهاد.. فنشر العلم من أفضل الأعمال، وقد رضيت بما فُتح لي منه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير#.
قلت: وهذا جواب في الجملة سديد، ولكني أزيد فأقول: يجب أن تُقدم عبادة الوقت إذا حضر أوانها، وليس حينئذ عبادة أخرى، أو شعبة غيرها تفضلها كما حققه الراسخون في العلم. وهذا بعض ما يجهله هؤلاء الزاهدون في التعبد بتعلم الشريعة، بغية الوصول إليهما بالخروج!.
ومن باب تقديم عبادة الوقت على غيرها مسألة دفع العدو الصائل حين غزوه ديار المسلمين، يقول ابن تيمية: $وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجب إجماعاً؛ فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا، لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط، بل يدفع بحسب الإمكان. وقد نص على ذلك العلماء#.
ثم ليس بالضرورة أن يكون من بين محصلات الإيمان خروجهم الذي يشبه إلى حد كبير خروج المعتزلة وأهل الكلام قديماً، والذي ورثه من بعدهم الأشاعرة، وهي المسألة التي يناقشها العلماء تحت عنوان: "أول واجب على المكلف".
فليس لهم إذن أن يختزلوا الإيمان -أصله، أو واجبه، أو كماله- في الخروج، أو يزعموا ألاّ إيمان إلاَّ بالخروج، وهذا إن كان لخروجهم -بالصفة المذكورة- مستند من الشرع أصلاً.
خير ما يمكن أن ينشغل به التبليغيون
وخير ما يمكن أن نتجاوز فيه لهؤلاء هو أن يطرقوا آذان الكفار الأصليين في البلاد النائية كلمة: "إسلام"، وينبئونهم برسول إسمه محمد ج، فذلك خير للكفار من بقائهم على الجهل بهذه الرسالة، ولكن لا نقبل من هؤلاء تفسيرهم الخاطئ لمفهوم التوحيد، ومفهوم اليقين بالفناء المبتدع في ربوبية اللَّه، فليس ذلك من منهج الأنبياء في الكلمة، لاعلماً ولا دعوة، بل مثل هذا هو الذي جر أفاضل من الناس إلى القول بوحدة الوجود كما ذكرنا.
المثال الثاني: محتكرو السلفية
وهؤلاء جماعات قصر فهمها عن بعض مقتضيات كلمة التوحيد؛ فالتبس عليها معالم طريق الأنبياء ومنهجهم في الدعوة؛ فصاروا يتخبطون فيه بجهل محزن مخزي، فلربما حاربوه وهم لا يشعرون!، وأقصد بذلك بعض المنتسبين للسلفية حكراً، بتشبث مريب، وحرص عجيب..
تمييعهم لقضايا رئيسة في التوحيد تحت ستار منهج الأنبياء
أحد هؤلاء، وكبير من كبارهم ألّف كتاباً بعنوان: "منهج الأنبياء في الدعوة إلى اللَّه فيه الحكمة والعقل"، ويقصد بالحكمة والعقل: القضية التي نذر نفسه لتمييعها، والمصطلح عليها تحت مسمى "الحاكمية"، ثم تفريغ معنى الولاء والبراء بخصوصها، وتحجيم المنهج العقدي بمحاولة حصره في شأن الأصنام وما جرى مجراها من القباب والأضرحة ونحو ذلك من شرك بدائي متخلف، وصرف الناس كلياً عن مراجعة حكامهم في شركهم في التشريع، وقضايا الولاء والبراء؛ حتى سخر منهم بعض "العصرانيين"، فقال واصفاً دعوتهم: $هؤلاء حشروا الشرك في "قبة"!#.
وإليك بعضاً مما قاله المؤلف المذكور، يدل على ما ذكرنا من قصور في تصورهم وبعدهم عن منهج الأنبياء الذي فيه الحكمة والعقل!:
قال: $إن المفاسد المتعلقة بعقائد الناس من الشرك والخرافات، وأنواع الضلال أخطر آلاف المرات من المفاسد المترتبة على فساد الحكم وغيره، فإن لم نقل هذا ونعتقده سفّهنا من حيث لا نشعر جميع الأنبياء#.
وقال: $لماذا نرى دعوات الأنبياء تركّز على الأصنام وما جرى مجراها، فيما نرى الدعوات الآن تركّز على الحكام، وتتلهى بقضايا الحكم الفرعيَّة عن قضايا العقيدة الجذريَّة الأساسيَّة#..
 وقال: $هذا هو الشرك الذي قال اللَّه فيه (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ( [لقمان: 13]، وهذا مصير أهله يوم القيامة من الوثنيين وأهل الكتاب، "تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ..إلخ"، وفيه ردٌّ على المهونين من هذا الشرك العظيم مع جهلهم بالتوحيد، حيث يقولون فيه: "الشرك البدائي والشرك الساذج"؛ تهويناً لشأنه، ولشأن دعوة الأنبياء ووراثهم، ويصفون صراعهم السياسي مع الحكام، وما يتبعه من عادات وتقاليد بأنه الشرك الحضاري؛ تضخيماً له ولدعوتهم، يوهمون النَّاس أنهم يواجهون مشكلات أكبر من المشكلات التي واجهها الأنبياء ووراثهم من المصلحين الذين ساروا على نهجهم في محاربة الشرك الأكبر، وما يتبعه من الضلال، فلماذا لم يذكر رسول اللَّه مصير أهل الشرك الحضاري، وأوثانهم؟ (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً( [مريم: 64]، فهل الشرك الحضاري يحتاج إلى نبوة جديدة تنبؤنا عن مصير أهله وأوثانهم من الموضات، والتقاليد، والعادات، وأمثال ذلك؟. إننا لا نستهين بهذه الذنوب، ولكنا نحارب الغلو الطاغي الذي فاق بكثير غلو الخوارج في السابق في نظرتهم إلى المعاصي#أهـ.
هذه نماذج من هرطقات الرجل وظلاماته، بني عليها "السلفية الجديدة!"، وقد وجد منهجه هذا مساندة كبيرة من أهل السلطان؛ ففتن به الناس أيما افتتان.
ولو علم هذا الرجل حقيقة الكلمة كما نزلت، وعرف الطاغوت كما ينبغي؛ لأدرك المنهج على حقيقته، ولشعر بثقل التبعة وعظم المسؤولية، ولعرف ما يمكن أن يلحق صاحب المنهج في هذا الطريق الذي لا يصبر فيه إلاَّ أعاظم الرجال.
مفهوم الحاكمية في المنهج القويم
إن الحاكمية التي ندعو إليها يا هذا هي: قبول كون الشرع هو الحَكَم في كل شأن، وليس كما يفهم هؤلاء -على اضطراب فيهم- أن معناها تنفيذ، أو تطبيق آحاد الأوامر في الخارج، حتى يقال إننا على مذهب الخوارج إن حكمنا بكفر مخالفي الحاكمية بالمعني الذي نقصده.
أوْ ليس كما يفهمونه عنا أيضاً، ويحاولون إلزامنا به من مجرد العمل السياسي شهوةً في الحكم.
أو القول بمطابقة قولنا لقول الرافضة الأنجاس في مسألة "الإمامة"، حيث يعدون الخلافة والسياسة رأس العقيدة، لا إفراد اللَّه بالتشريع.
وقد يستدلون على هذه المفاهيم الثلاثة بنقولات عن بعض الخلفيين السياسيين، المحسوبين على أهل "الحاكمية"!، ثم يعممون الأمر -كما هي طريقتهم- ويقحمون بعد ذلك المعنى المحدد الذي نقصده نحن بهذا المصطلح، وذلك من باب الصيد في الماء العكر، واللعب بالألفاظ المشابهة؛ لصرف الناس عن شرك الحكام في جانب التشريع، تحت ستار أن منهج الأنبياء يزهد في التملك، والدعوة السياسية.
إن "الحاكمية" بالمعنى الذي نقصده لهو فرع أصيل في شهادة التوحيد للَّه، وفي الخضوع له، والتسليم لأمره الشرعي، ولا فرق -حينئذ- بين من تمرد على اللَّه بارتكاب هذه الجريمة، وبين من ارتكب جريمة دعاء غير اللَّه، أو عبد قبراً، وقد كان من منهج الأنبياء في الدعوة إلى اللَّه تجريد التوحيد من شوائب هذا النوع من الشرك في أوضح صوره، حيث واجهوا فيه حكام عصرهم، وغيرهم من المترببين من الناس بالتحليل والتحريم، أو باحتياش الناس بعيداً عن ربهم، والاستفراد بهم اعتباداً واستعباداً، أمراً ونهياً، أو بادعائهم الربوبية صراحة..، كل ذلك مما نحن فيه، والقرآن مليء بذكر هذا الأصل وتقديمه، بل هو مرادف لمعنى "الإسلام" بمعنى "الاستسلام" كما سيأتي في فقرة لاحقة، فننازع فيه الملوك والحكام إلي آخر رمق بإذن اللَّه؛ لأنهم أبين وأعظم من زاحم اللَّه من خلقه بهذا النوع من الشرك في العالم، وأخطر من حاد عن توحيد الأنبياء بخصوصه. كيف، وقد حملوا عليه الأُمة غصباً، وربوا أبناءها عليه جبراً؛ حتى كانوا لذلك أعظم الدعاة على أبواب جهنم!، ومن هنا كانت غيرتنا على جناب التوحيد، وثأرنا لما استلب من حق سيدنا، وولي نعمتنا سبحانه، وليس طلباً للتملك، ولا طمعاً في الرياسة، بل حماية لهذا الجناب، وإقامة لعدل مستلب لو كنتم تعقلون.
وإني لأعجب من حديثهم هذا وكأنهم سيواجهون الحكام -إذا ثبت في مذهبهم "استحلال!" الحكام لفعالهم الكافرة أصلاً!- كمواجهتهم عباد القبور!. وأعجب من ذلك أنهم يدَّعون سكوت الأنبياء عن جرائم الحكام في تعبيدهم الناس تحت طاعة ما يشرعونه لهم، وكأن كفر حكام ذلك الزمان كان أيضاً دون كفر!!.
غاية فهم القوم لمنهج الأنبياء في التوحيد
إن غاية من كان على مثل منهج هذا الرجل في شأن التوحيد، هو مهاجمة شرك القبور -كما سبق- ومحاربة الأموات من الطواغيت!. فإن سمع من هنا أوهناك مناوشةً ملساء من دراويش القوم ظن نفسه حينئذ من القابضين على الجمر، الماضين في طريق الأنبياء المحفوف بالمكاره، والذي كان يُطلب فيه أصحابه بالأمس من قبل الطواغيت أحياءً وأمواتاً.
والخلاصة أن هذا المثال "السلفي!"، وذاك "البلاغي" الذي قبله، مثلان من الأمثلة الخاطئة في مفهوم الكلمة؛ بسبب عدم التصور الحقيقي التام لمفهوم الإلهية، يعج بهما المجتمع الدعوي في هذا العصر، واللَّه المستعان.
غفلة هؤلاء عن أوليات تقلب موازين مناهجهم
ولو أن اللَّه منَّ على هؤلاء الأقربين، أوعلى أولئك بالخصوص لمنهج الأنبياء في الكلمة، علماً وعملاً؛ لبان لهم أنَّ أوَّليات عظاماً، وواجبات جساماً في معالم هذا الطريق تقلب عليهم مناهج دعواتهم، وموازين نظاراتهم، وتجعلهم يسيرون بغير هذا المنهج الذي يسيرون عليه الآن، هم عنها غافلون!.
الواقع بين مثالية التعامل معه ومنهج هؤلاء
منها -على سبيل المثال- وأعظمها: ما يتعلق بمسألة وجوب التمييز بين أصحاب الإسلام، وأهل الكفر، وما يترتب عليها من أحكام في الإعتقاد والمعاملات، وكيفية التعاطي -مثلاً- مع عصر وواقع مليء بالطواغيت المختلفة، والجاهليات المتنوعة، سلباً وايجاباً..
خذ مثلاً قضية الأحكام الوضعية، والشريعة المغيب سلطانها، تلك البلية التي عمت بسببها الفوضى، وعظمت لها المحنة، فامتلأت الأرض منها ظلماً وجوراً.
أقول: لاشك أن لوجود هذه القضية في مجتمعاتنا آثاراً عظيمة، من عرفها ووقف على حقيقتها، ووازنها بميزان الشرع؛ غيّر ذلك من نظرته لمنهج الحياة، وتعاطيه مع الواقع، وأكثر الناس عن ذلك غافلون.
وقد ذكر أهل العلم من تلكم الآثار جملة، إليك منها طرفاً؛ يعلم من خلاله مدى تقصير هؤلاء المميعين لقضية هي من أخطر القضايا في الإسلام وقعاً، وكيف سيكون منهج الحياة معها، وكيف يتزيف المنهج بعدم التعامل معها كما ينبغي؟:
فمن تلكم الآثار: آثار مترتبة على الحاكم، وأخرى على الديار، وثالثة على من سكن فيها من المسلمين وأهل الكتاب.
- فمن آثارها المترتبة على الحاكم: بطلان ولايته، وما يترتب عليها من أحكام ومعاهدات..
- ومن آثارها على الديار: أنها تصير بتحكيم غير شريعة الإسلام -عند عامة العلماء- ديار كفر، ولو كان معظم ساكنيها من المسلمين، فالدار للحكم والسلطان الذي يعلوها، والعكس صحيح بالنسبة لدار الإسلام..
- ومن آثارها على عموم المسلمين في تلك الديار: أنه تحرم عليهم طاعة الحاكم ومعاونته على الحكم بتلكم القوانين، وفي مؤسسات الجيش والشرطة، وسلك القضاء، بل يجب على المسلمين في مثل هذه الديار منازعة حاكمها بالمستطاع، لا الدفاع عن حكومته، أو العمل على تثبيت دولته؛ إذ هو -حينئذ- مغتصب محتل، ولو كان من أهل البلد، ومن بني جلدتها، إلى أن يقيم في الناس كتاب اللَّه الذي به تقوم دولة الإسلام، وحتى يعظِّم شعيرة الصلاة التي تقضى أقامتها على الفواحش والمنكرات في البلاد، بل وإلى أن يحترز كذلك من الامتناع -ولو من إقامة شعيرة واحدة من واجبات الإسلام- بشوكة، فيُصنَّف، أو يؤخذ -حينئذ- بحكم الطائفة الممتنعة، ولو ادعى الإسلام. ومن لم يقدر على منازعته وزعزعة أمنه، وتقويض سلطانه فليهاجر إلى دار إيمان أو أمان، وإلاَّ فلينكر بالمستطاع دون الرضا أو الخضوع والمتابعة.
- ومن آثار تحكيم القوانين، بخصوص أحكام التعامل مع أهل الكتاب: أنه لا ذمة لهم ماضية، ولا عهد من حاكم الديار؛ وذلك بسبب بطلان معاهداته كما مر..
هذه بعض الصور والآثار لمثال في قضية واحدة، لا يخفاك أثرها بعد ذلك من منهج الدعوة، وفقه التعامل؛ إذ تتغير بوجودها نظرة المسلم للحياة، وتقلب على الحريص من ورثة الأنبياء ميزان الثوابت والأوليات.
وكل ما ذكرناه هنا فله أدلته، وحجته التي تقطع عذر المعتذرين، وهي مبنية على مقدمة كبرى، وهي إثبات كفر القوانين الوضعية كفراً مخرجاً من الملة ابتداءً، وكفر القوانين الوضعية بوصفها الحالي في الواقع المعاصر؛ لاعتبارات ذكرنا بعضها في هذا الكتاب وغيره. وكلا الأمرين ثابت لا محالة.
وبإدراك ذلك تعرف حجم الانحراف عن منهج "لا إله إلاَّ اللَّه" في عالم اليوم الذي يتحكم فيه الناس بمعزل عن هدي ربهم سبحانه، ولك أن تتخيل -عزيزي القارئ- كيف يكون المنهج الأمثل مع واقع كهذا الذى ذكرنا، مقارنة بما عليه حال من سبق ذكرهم من المحتكرين لوصف السلفية، وغيرهم، دعك من جماعة الأحباب والتبليغ.
الواقع يدفع على إيضاح الكلمة كما دعا إليها الأنبياء
ولما كانت صورة الدعوة التي تعج بها الساحة اليوم فيها قدر كبير من التزييف، وعدم مطابقتها لما نشده الإسلام، ومن أجل تحرير العباد لربهم عز سلطانه، ولتمهيد الطريق للسالكين، وتعبيد المجتمعات الشاردة لخالقها عز وجل، ولتقويم منهج الحياة، كما ينبغي؛ كان لابد من شرح كلمة التوحيد على منهج الأنبياء والمرسلين، علماً وعملاً؛ ليهلِك من هلك عن بينة، ويحيى من حيى عن بينة، (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ( [الأنعام: 90]. ولا حول ولا قوة إلاَّ باللَّه رب العالمين، وهو المستعان، وعليه التكلان.

          عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال :
          «نهانا رسول الله عن أمرٍ كان لنا نافعًا،
          وطواعية الله ورسوله أنفع لنا»

          رواه مسلم

          تعليق


          • #6
            رد: سلسلة درة السفر الفريد في شرح كلمة التوحيد .... متجدد بإذن الله

            السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
            أعتذر على عدم تكملة الكتاب والذي سأقوم برفعه إن شاء الله في موقع 4shared
            وسوف أبلغكم بهذا لاحقاً
            عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال :
            «نهانا رسول الله عن أمرٍ كان لنا نافعًا،
            وطواعية الله ورسوله أنفع لنا»

            رواه مسلم

            تعليق


            • #7
              رد: سلسلة درة السفر الفريد في شرح كلمة التوحيد .... متجدد بإذن الله

              جزاكم الله خيرا ..
              نعم فالتوحيد أشرف العلوم ولابد للمرء تعلمه ليعبد الله على بصيرة
              لو اكملتم يرجى تكون المشاركة قصيرة عن ذلك
              بارك الله فيكم

              رحمك الله أبي الحبيب, لا تنسوه من الدعاء , الله المستعان

              تعليق


              • #8
                رد: سلسلة درة السفر الفريد في شرح كلمة التوحيد .... متجدد بإذن الله

                جزاكــــم الله خيـــــــــــــــــــــراً
                عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال :
                «نهانا رسول الله عن أمرٍ كان لنا نافعًا،
                وطواعية الله ورسوله أنفع لنا»

                رواه مسلم

                تعليق


                • #9
                  رد: سلسلة درة السفر الفريد في شرح كلمة التوحيد .... متجدد بإذن الله

                  جزاكم الله خير وبارك فيكم
                  ارجو وضع رابط الكتاب نفع الله بكم
                  قال رسول الله صل الله عليه وسلم من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة


                  تعليق


                  • #10
                    رد: سلسلة درة السفر الفريد في شرح كلمة التوحيد .... متجدد بإذن الله

                    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته,

                    ما أحلاه من شرح ليتك تضع رابط للرسالة كاملة جزاكم الله خيرا.

                    و هل من نبذة عن الشيخ حفظه الله ؟ و هل له رسائل أخر ؟

                    في انتظار جوابكم الكريم

                    أخوك و محبك

                    تعليق

                    يعمل...
                    X