الاعتصام بالكتاب والسنة طريق واحد يوصل إلى الجنة، ومن حاد عنهما أو عن أحدهما خاب وخسر في الدنيا والآخرة، وقد دلت الأدلة والآثار على تلازمهما معاً ووجوب الاعتصام والتمسك بهما، ولا يجوز بأي حال من الأحوال التقديم على قول الله وقول رسوله.
الحث على اتباع الكتاب والسنة
الحمد لله الهادي، والصلاة والسلام على خيرة الحواضر والبوادي، أفصح من تكلم بالنوادي، ما هطلت الغوادي، وما صارت بذكره الأفئدة من كل مسلم إلى شريعته حادي.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته:
ولما جلسنا مجلساً طله الندى جميلاً وبستاناً من الحب دانيا
أثار لنا طيب المكان وحسنه منىً فتمنينا فكنت الأمانيا
وأمانينا معكم هذه الليلة أن يجمعنا الله بكم في دار الكرامة في مقعد صدق عند مليك مقتدر، يوم يتقبل الله منا أحسن ما عملنا، ويتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
وعنوان هذه المحاضرة: الاعتصام بالكتاب والسنة... وهذا موضوع خطير وكبير، أما خطورته فلأنه يتعرض لضربات من أهل البدع والضلال على مر العصور والدهور والأعوام والأيام، وأما كونه كبيراً فلأنه شغل كثيراً من علماء الإسلام حتى خصصوه بالتأليف، وكتبوا فيه مجلدات، وكانت مجالسهم تدار فيها مواضيع مسألة الاعتصام بالكتاب والسنة.
وفي هذا الموضوع ثلاثة عناصر:
العنصر الأول: الحث على اتباع الكتاب والسنة.
العنصر الثاني: حرص السلف الصالح على الاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم.
العنصر الثالث: النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله، والتكلف والتعمق والتنطع، ووجوب الاكتفاء بالكتاب والسنة.
فإلى هذا الحديث الشائق الذي بكم يشوق، وإلى هذا المجلس الرائد الذي بكم يرود؛ نتكلم عن مسائل هذا الموضوع سائلين المولى أن يثبتنا وإياكم، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إن الله يمدح الذين يتمسكون بالكتاب والسنة، وسر أصالة هذه الأمة وعمقها وتوجهها هو الكتاب والسنة.. ولذلك عندما كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم مكتفين بثقافة محدودة مضبوطة معينة؛ كانوا مرشدين مسددين مهديين، فلما كثرت الثقافات على القرون التي بعدهم، ودخلت البدع، وترجمت كثير من المقالات والكتب؛ دخل الزيف والدخن والدخل، ويظن كثير من الناس أن كثرة الثقافات الغريبة الوافدة بركة ونور، ولم يعلموا أنه تدهور وتورط للأمة إذا صدفت عن كتاب الله عز وجل.
بيان اقتران القرآن والسنة معاً
وقد بدأت الأمة مع محمد صلى الله عليه وسلم بالكتاب والسنة، ثم وصلت إلى عهد المأمون يوم ترجمت الكتب؛ فأتت البدعة، قال الله: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ [الأعراف:170] قال أهل العلم: يمسِّكون صيغة مبالغة، ومعناها: يتقيدون بأوامر الكتاب -وللفائدة: يقول أهل العلم: إذا ذكر الكتاب مجرداً فالسنة تدخل معه تبعاً، وإذا ذكرت السنة أصلاً فالكتاب يدخل معها دخولاً أولياً-.
وقد قيل للإمام مالك: ما النجاة؟ قال: السنة، سفينة نوح من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها هلك. وقالوا لـعلي وهو على منبر الكوفة: [[ما النجاة؟ قال: الكتاب]] يعني القرآن.. قال ابن تيمية: لا يعنى بالكتاب إذا عني به أو قصد أو تكلم فيه أن يقتصر عليه، فإنه لو اقتصر عليه كان ضلالاً لمن اقتصر عليه -أعني وترك السنة- أي: تركه للسنة ضلالاً لا تقيده بالقرآن.. ولذلك يأتي من أمثال الخوارج، وصاحب الكتاب الأخضر من يدعون إلى التقيد بالكتاب لا بالسنة.
قال ابن تيمية: الخوارج يأخذون بظواهر القرآن ولا يأخذون بالسنة التي ليست في القرآن.. ودخل رجل من أجدادهم وأسيادهم وعملائهم مع عمران بن حصين -والحديث في السنن فقال: [[يا عمران! من أين هذه الأحاديث التي تتحدثون بها، ونحن لا نجدها في القرآن؟ قال عمران: أتجد في القرآن أن صلاة الظهر أربعاً؟ قال: لا. قال: أتجد أنصبة الزكاة في القرآن؟ قال: لا. قال: أتجد أحكام الصيام في القرآن؟ قال: لا. قال: ما أسمعنا الرسول صلى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما تركه صلى الله عليه وسلم تركناه، وما كان ربك نسياً]] وهذه المقولة لـابن عباس ولـعمران بألفاظ مختلفة.
الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة المصطفاة
يقول تعالى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12] قال أهل العلم: أي بحزم وجد وصرامة، وهي جدية الالتزام في أخذ التلقي من الكتاب والسنة؛ لنكون أمة جادة في أخذ تعاليمها من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.. والله يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21] فهو كتابٌ يتكلم، ونبي يترجم، ولو كان الكتاب يكفي لنزل ووزع نسخاً على الناس، ولو كان الرسول يكفي بلا كتاب لتكلم بما في ذهنه، ولكن: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم:4-6] فإمامنا وقدوتنا محمد رسول الله.
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا *** كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
فهو صلى الله عليه وسلم معصوم، حتى يقول الإمام مالك لتلاميذه وهم يعرضون عليه الأقوال: كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر عليه الصلاة والسلام.. وقال الإمام أحمد لما سئل: يا أبا عبد الله! أيهما أفضل: التبتل أو الزواج؟ والله عز وجل يقول: وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:39]؟ أي: يحيى. فيمدح الله يحيى، ويقول: سيداً، أي: الذي اكتملت فيه المروءة والسؤدد، وحصوراً أي: لا يأتي النساء. قال ابن عباس: لم يكن مع يحيى إلا مثل هذا -يعني: آلة الجماع- ورفع شقصاً من الأرض. فهذه الآية تدل على أن التبتل أفضل، قال الإمام أحمد: لا. يقول الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً [الرعد:38] فقال السائل: إن إبراهيم بن أدهم يقول: ترك الزواج أفضل، فقال الإمام أحمد: أوه! وقعنا في بنيات الطريق، عليك بالمشرب الأول.. أي بمحمد عليه الصلاة والسلام، فإذا ما أتى الدرهم على سكته مختوماً بخاتم محمد صلى الله عليه وسلم وإلا فهو درهم زائف لا يباع به ولا يشترى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، فالله جعل القدوة به.
أنواع الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم
قال بعض العلماء من أهل السلوك: الاقتداء به صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أضرب:
أولاً: اقتداء به في المعتقد.. وقد ضل فيه أهل الأهواء في العقيدة؛ كـالخوارج والرافضة والأشاعرة والمعتزلة.
ثانياً: الاقتداء به في السلوك.. وقد ضل فيه قوم؛ كضلال أهل الرهبنة من غلاة الصوفية وأمثالهم.
ثالثاً: الاقتداء به في الأحكام.. وقد ضل فيه قوم من أهل السياسات الذين خالفوا فيها سياسته الشرعية.
وربما ندخل على ذلك: الاقتداء بالأقوال، وقد ضل فيها بعض المتفقهة الذين جانبوا النصوص عن غير عمدٍ، وإنما تأول يؤجرون عليه أجراً واحداً، لكن لا يسوغ أن نقلدهم في خطئهم، كما بين ذلك شيخ الإسلام في رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام: قال الله عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] ومعنى الآية: إن الأمر إذا أتى من الله عز وجل، ومن رسوله عليه الصلاة والسلام ظاهراً لا يقبل التأويل، أو لا يحتمل أوجهاً غير وجه واحد؛ فإنه لا يسع المسلم أن يميل عن الوجه الذي يقصده الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم.
الاتباع والتسليم دليل التصديق والمحبة
دعي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام ليفصل خصومة بين أنصاري والزبير، فذهب صلى الله عليه وسلم، ووقف على الماء فقال الأنصاري: {يا رسول الله! إن الزبير يحبس الماء عن مزرعتي، فأمر الزبير أن يترك الماء يمر على مزرعتي. فقال: يا زبير! اترك الماء حتى تروى مزرعتك، ثم أطلقه للأنصاري.. فغضب الأنصاري -وأتته نعرة الجاهلية، وتكلم مع سيد البشرية- وقال: أإن كان ابن عمتك؟!} لا إله إلا الله! أعدل وأبر أهل الأرض، وأخشى أهل الأرض يميل مع ابن العمة وابن الخالة! وهو الذي يعلنها صريحة أمام العالم من على منبره في المدينة: {والذي نفسي بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها} قال الزهري: وحاشاها أن تسرق. لكنه العدل.
وليته يوم قال الكلام كان صحيحاً؛ غير أنه ظلم وحاد.
فغضب عليه الصلاة والسلام فقال: {يا زبير! اسقِ حتى يعود الماء إلى الجدر، ثم اترك الماء يمر} قال أهل العلم: أول كلامه صلى الله عليه وسلم كان صلحاً يصالح بينهما، والثاني كان حكماً أنزله الله على لسانه والحديث عند البخاري فنزل قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] فمن حكمك في لا إله إلا الله؛ فعليه أن يحكمك في كل مسألة أتيت بها؛ لأنك عدل لا تظلم.. عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
وقال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31] قال ابن كثير، وابن جرير: نزلت هذه الآية في قوم ادعوا محبة الله فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال الله عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]
يا مدَّعٍ حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تدويناً وتهوينا
خذها جميعاً تجد فوزاً تفوز به أو فاطرحها وخذ رجس الشياطينا
إما شريعة مقدسة، واتباع خالد، وإلا فانتهاء وارتداد ونكوص عن الطريق المستقيم، ولذلك لم يقبل الله دعواهم ولم يرض قولهم، ولم يعجبه حبهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة:18].
وصية الرسول صلى الله عليه وسلم في الحث على التمسك بالكتاب والسنة
قال الإمام مالك: بلغني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي} وهذا الحديث من بلاغات مالك بسند منقطع، وكل موطأ الإمام مالك موصول -كما قال ابن عبد البر - إلا ثلاثة أحاديث، منها هذا الحديث، فقد انقطع على ابن عبد البر، وهو جهبذ حاذق علامة، لكن أعيته الحيل أن يصله، فما وجد حبلاً يشدها إليها، فقال: ما وجدت ما أصل به هذه الآثار، منها هذا، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: {إني لأنسى لأسن} وفي لفظ: {إني لأنسى أو أنسى لأشرع} وهذه ضبطها ابن الأثير، (أُنسى) أي: أنه ينسيه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ليشرع.. والمقصود أن هذا الحديث ضعيف، لكن له شاهد عند الحاكم بسند صحيح، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يا أيها الناس! تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً؛ كتاب الله وسنتي} وعند الترمذي بسند ضعيف أيضاً عن جابر: {إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي} قال الخطابي: عترته صلى الله عليه وسلم يؤخذ منهم العلم، وقيل يقدرون ويوقرون، فهو من أسباب النجاة التي ينجو بها العبد: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23].
أما التمسك بالكتاب فمفهوم، لكن قوله: (عترتي أهل بيتي) معناه: أن تأخذوا العلم من علمائهم، وإلا فلو ضلوا فإنهم لا ينجيهم عند الله قربهم من الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الله: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124].
إذا فخرت بأقوام لهم شرف نعم صدقت ولكن بئسما ولدوا
فعلم بذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بكتاب الله عز وجل وبسنته صلى الله عليه وسلم.
قال العرباض بن سارية -وهذه ساعة الوداع، ولحظة من آخر لحظات الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يريد أن يترك الدنيا بعد حياة السهاد والجهاد والجلاد والسهر، فأراد أن يودع أصحابه بكلمة من فيض القلب، ومن شجا الروح، قال: {جلسنا عند الرسول صلى الله عليه وسلم فوعظنا موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب}.
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفَّت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
أرانا الله وجهه.. وأجلسنا الله معه.. وبلغنا شفاعته.. وثبتنا على سنته.. ثم قال: {فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي} قال ابن تيمية: أمر صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده أمراً عاماً، ثم خصص كما عند الترمذي من حديث حذيفة فقال: {اقتدوا باللَّذَين من بعدي: أبي بكر وعمر} فلماذا عمم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بالخلفاء الراشدين، وفي حديث حذيفة قال: {اقتدوا باللَّذّين من بعدي: أبي بكر وعمر} وذلك لأنهما الشيخان، وعلامتا الدنيا، وهما القائدان العظيمان.
قال ابن تيمية رحمه الله في كتاب الجهاد: لأن أبا بكر وعمر لم يتأولا في الدماء، ولا في الأموال، وأما علي فتأول في الدماء، وعثمان تأول في الأموال، فكان أبو بكر وعمر أقرب إلى هديه صلى الله عليه وسلم وإلى سنته، وكلهم مأجور ومشكور، لكن الأمر المقيد هو بـأبي بكر وعمر، والأمر المطلق بالخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم وأرضاهم.
{فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ} وهي ما يقارب الثنايا من الأنياب، وهي أكثر عضاً على ما تمسك به: {عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة} وقد روى هذا الحديث أبو داود والترمذي بسند صحيح.
وقال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} وفي لفظ: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} فالرسول صلى الله عليه وسلم يحرص دائماً على أن يربط بين الكتاب والسنة، فهو كما في حديث المقداد بن معد يكرب: {يوشك أن يأتي رجل شبعان ريان متكئ على أريكته، يقول: هذا كتاب الله، ما أحل فأحلوه، وما حرم فحرموه، وإني قد أوتيت الكتاب ومثله معه} قال الخطابي: معنى (أوتيت مثل الكتاب) أي: بما هدي به صلى الله عليه وسلم في الباطن ظهر به في ظاهر القرآن.
وهذه الكلمة لم تتضح لي، ولكن يقول الشافعي: السنة مثل القرآن أو مثليه، على رواية: {أوتيت القرآن ومثله معه}.
والمعنى الظاهر: أوتيت القرآن ومثل القرآن من السنة.. فإذا عُلم هذا فعلى المسلم أن يعلم أنه لا ينجو إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة، ويوم يترك الكتاب والسنة، أو يتخاذل في الالتزام بهما؛ ينهار قوامه، ويتردى سلوكه، وليس معنا من وصية نوصي بها إخواننا إلا الالتزام بالكتاب والسنة، ولكن على فهم الصحابة؛ لأن الخوارج يقولون هم ألزم الناس بالكتاب والسنة، والمعتزلة وضُلال الأمة والرافضة، بل الباطنية يرون أنهم من ألزم الناس بالمنهج الحق وأنهم أهل الطريقة المرضية، ولكن:
والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء
أقسام الناس في تلقي الكتاب والسنة
قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي موسى عند البخاري ومسلم: {مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثل الغيث} ولم يقل صلى الله عليه وسلم: مثل المطر؛ لأن المطر إذا أطلق غالباً أطلق على العذاب، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [النمل:58] ولماذا قال: (مثل ما بعثني) ولم يقل: أرسلني؛ لأنه إذا ذكر المعتقد في الغالب ذكر البعث، وإذا ذكرت العبادات التفصيلية ذكر الإرسال. وقال: (مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم) فذكر العلم والهدى، مع أن العلم يشمل الهدى والهدى يشمل العلم؛ لأن الهدى هنا هو العمل، والعلم هو القول: واليهود أهل قول بلا عمل، والنصارى أهل عمل بلا اقتداء؛ ولذلك غضب الله على من تعلم ولم يعمل، وأضل الله من عمل بلا علم، قال الله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7].
فالرسول صلى الله عليه وسلم جمع بين الطريقتين فقال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً} قال القرطبي: إنما شبه صلى الله عليه وسلم -وهذا في فتح الباري - إنما شبه صلى الله عليه وسلم الوحي بالغيث بجامع وجه الشبه وهو الصفاء، والأمر الثاني أن الأرض تحتاج إلى الغيث، فحاجة القلوب إلى الوحي كحاجة الأرض إلى الغيث بل أحوج.. ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الحديد:16-17].
ثم عُلم من هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قسم الناس ثلاثة أصناف:
قال: {فكان منها أرض طيبة نقية، قبلت الماء؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أرض حبست الماء؛ فنفع الله بها الناس؛ فسقوا وزرعوا، وكان منها أرض إنما هي أجادب، لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من نفعه الله بما بعثني به، فعلم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به} وقد سبق شرح هذا الحديث، وشاهدنا منه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الناس ثلاثة أقسام: قسم استفاد وأفاد، وقسم استفاد ولم يؤثر، وقسم لا استفاد ولم يؤثر، وإنما هو كالخشب المسندة لا تعي ولا تعقل.
فقل للعيون الرمد للشمس أعين تراها بحق في مغيب ومطلعِ
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها بأبصارها لا تستفيق ولا تعي
أما ابن مسعود رضي الله عنه -كما في صحيح البخاري - يفتتح كلامه بقوله: إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. فالهدي عمل، والحديث قولٌ، فجمعت طريقته صلى الله عليه وسلم فصارت قولاً مهدياً مسدداً، وعملاً مرضياً متقرباً به إلى الله تبارك وتعالى.
حرص السلف على الاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم
تعليق