إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تفسير سورة الأعراف بأسلوب بسيط

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تفسير سورة الأعراف بأسلوب بسيط

    سلسلة كيف نفهم القرآن؟(1)
    تفسير الربع الأول من سورة الأعراف بأسلوب بسيط

    الآية 2، والآية 3: ﴿ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾: أي إنّ هذا القرآن هو كتابٌ عظيم أنزله اللهُ عليك أيها الرسول ﴿ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ: يعني فلا يكن في صدرك ضِيقٌ منه بسبب إبلاغه للمشركين، ولا تخشَ بسببه لائماً أو مُعارِضاً، فإنما أنزلناه إليك ﴿ لِتُنْذِرَ بِهِ ﴾: أي لِتخوِّف به الكافرين عواقب شِركهم وضلالهم، ﴿ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾: أي ولِتُذكِّر به المؤمنين، وتقول لهم: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ من الكتاب والسُنَّة، وذلك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ ﴾: أي ولا تتبعوا من غير الله ﴿ أَوْلِيَاءَ ﴾ كالشياطين والأحبار والرُهبان، ورؤساء الشرك والضلال، إنكم أيها الناس ﴿ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾: يعني قليلاً ما تتعظون، وترجعون إلى الحق.

    الآية 4: ﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ﴾: يعني وكثيرٍ مِن القرى أردنا إهلاك أهلها بسبب تكذيبهم ومخالفتهم لِرُسُلنا ﴿ فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ﴾: أي فجاءهم عذابنا مَرة وهم نائمون ليلاً، ومَرة وهم نائمون نهارًا (وقت القَيْلُولة) وهو الوقت الذي يستريح فيه الإنسان بعد صلاة الظهر (وذلك على الراجح من أقوال العلماء)،وقد خَصَّ الله هذين الوقتين لأنهما وقتان للسكون والراحة،فمَجيء العذاب فيهما أفظع وأشد.

    الآية 5: ﴿ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا ﴾: يعني فما كان قولهم عند مجيء العذاب ﴿ إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾: أي إلا أن اعترفوا بالذنوب والإساءة، واعترفوا أنهم كانوا مستحقين لهذا العذاب الذي نزل بهم، ولكنْ لم تنفعهم التوبة عند مُعايَنة الموت والعذاب، ولذلك ينبغي للعبد المؤمن أن يُجدد التوبة في كل وقت - استعداداً للموت - حتى تأتيه سَكرة الموت وهو تائب، إذِ النجاةُ كلها في لقاء الله تعالى بتوبةٍ نصوح.

    الآية 6: ﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ﴾ - وهم الأمم والأقوام - فنقول لهم: (ماذا أجبتم رُسُلنا؟)، ﴿ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾ عن تبليغهم لرسالات ربهم، وعمَّا أجابتهم به أممهم.

    الآية 7: ﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ ﴾: يعني فلنُخبرنَّ الخَلق بكل ما عملوا، وذلك ﴿ بِعِلْمٍ ﴾ مِنَّا لأعمالهم في الدنيا (ظاهرها وباطنها)، لا يستطيعون إخفاء شيءٍ منها ﴿ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ﴾ عنهم حينما كانوا في الدنيا، فكل أعمالهم كانت مكشوفة ظاهرة لله تعالى، لم يَخْفَ عليه منها شيء، وهو السميع البصير.

    ورغم أنه سبحانه أعلمُ بما عملوا، ولا يحتاجُ إلى أن يسألهم عمَّا فعلوه، إلاَّ أنّ سؤالَهُ تعالى لهم كانَ مِن باب إقامة الحُجَّة عليهم، ولإظهار عَدالته فيهم، ولتوبيخ مَن يستحق التوبيخ منهم.

    الآية 8، والآية 9: ﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ﴾: يعني: وَوَزنُ أعمال الناس يوم القيامة يكون بميزان حقيقي بالعدل، ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾ لكثرة حسناته: ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ الفائزون بالنجاةِ من النار ودخول الجنة، ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴾ لكثرة سيئاته: ﴿ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾: أي فأولئك هم الذين أضاعوا حظَّهم من رضوان الله تعالى وجَنَّتِه، وذلك ﴿ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴾: أي بسبب تجاوزهم الحَدّ، وذلك بِجَحْدِهِم لآيات الله تعالى وعدم الانقيادلها.

    الآية 10: ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾: يعني ولقد جعلناكم أيها الناس متمكنين في الأرض، وذلك بأن جعلناها لكم مستقرة مُمَهَّدَة، لا تضطرب حتى لا يَفسد ما عليها، ﴿ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ﴾: أي وجعلنا لكم فيها ما تعيشون به من مَطاعم ومَشارب، ومع ذلك فـ ﴿ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ نِعَمَ اللهِ عليكم، واعلم أن الشكر هو ذِكرُ النعمة باللسان، وذلك بقوْل كلمة: (الحمدُ لله)، وكذلك باستخدام النعمة في طاعة المُنعِم جل وعلا، وعدم استخدامها في معصيته، قال تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي فحَقِّقوا الشُكر بتقواكم للهِ تعالى.

    الآية 11: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ﴾: يعني ولقد أنعمنا عليكم بخَلْق أصلكم - وهو أبوكم آدم من العدم -، ثم صوَّرناه على هيئته البشرية الكريمة، المُفضَّلة على كثيرٍ من الخَلق، ﴿ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ ﴾ إكرامًا واحترامًا وإظهارًا لِفَضلِه ﴿ فَسَجَدُوا ﴾ جميعًا ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ ﴾ الذي كان يَعبدُ اللهَ معهم ﴿ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴾ لآدم، حسدًا له على هذا التكريم العظيم.

    الآية 12: ﴿ قَالَ ﴾ تعالى مُنكِرًا على إبليس تَرْكَ السجود: ﴿ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾؟ ﴿ قَالَ ﴾ إبليس: ﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ﴾ فقد ﴿ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾، فرأى أن النار أشرف من الطين، وفَضَّلَ ما يراه عقله على الانقياد لأمر ربه.

    الآية 13: ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ لإبليس: ﴿ فَاهْبِطْ مِنْهَا ﴾ أي مِن الجنة، ﴿ فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا ﴾: يعني فمَا يَصِحّ لك أن تعيش فيها وأنت من المتكبرين، ﴿ فَاخْرُجْ ﴾ من الجنة ﴿ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾: أي من الذليلين الحقيرين.

    الآية 14: ﴿ قَالَ ﴾ إبليس للهِ - جل وعلا - حينما يئس من رحمته: ﴿ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾: أي أمْهِلني إلى يوم البعث، وذلك لأتمكن من إضلال مَن أقدر عليه من بني آدم.

    الآية 15: ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ تعالى له: ﴿ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ﴾: يعني إنك مِمَّن كتبتُ عليهم تأخير الأجل إلى النفخة الأولى (التي ينفخها إسرافيل في القرن)، وذلك حين يموت الخلق كلهم.

    الآية 16: ﴿ قَالَ ﴾ إبليس لعنه الله: ﴿ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي ﴾: يعني فبسبب إضلالك لي: ﴿ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾: يعني لأجتهدنَّ في إضلال بني آدم عن طريقك القويم، ولأصدَّنَّهم عن الإسلام الذي فطرْتَهم عليه.

    الآية 17: ﴿ ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ﴾: يعني ثم لآتينَّهم من جميع الجهات والجوانب، فأصُدّهم عن الحق، وأُُحَسِّن لهم الباطل، وأُرَغِّبهم في الدنيا، وأُشَكِّكهم في الآخرة، ﴿ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ لِنِعَمِك.

    الآية 18: ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ تعالى لإبليس: ﴿ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا ﴾: أي اخرج من الجنة مَمقوتًا (يعني مَكْروهًا مَبْغوضاً) ﴿ مَدْحُورًا ﴾: أي مطرودًا، ﴿ لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ ﴾: أي لأملأنَّ جهنم منك وممن تبعك من بني آدم ﴿ أَجْمَعِينَ ﴾.

    الآية 19: ﴿ وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ ﴿ فَكُلَا مِنْ ﴾ ثمارها ﴿ حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾ ﴿ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾ (وعَيَّنها لهما)، ﴿ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾: يعني فإن فعلتما ذلك، كنتما من الظالمين المتجاوزين حدودَ اللهِ تعالى.

    الآية 20: ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ﴾: يعني فألقى الشيطان لآدم وحواء وسوسته، لإيقاعهما في معصية الله تعالى بالأكل من تلك الشجرة التي نهاهما الله عنها، وذلك ﴿ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا ﴾: أي لتكون عاقبتهما: انكشاف ما سُتِرَ من عوراتهما، ﴿ وَقَالَ ﴾ لهما في محاولة المَكر بهما: ﴿ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ ﴾ أي مِن الملائكة ﴿ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴾ في الحياة.

    وهنا قد يقول قائل: كيف استطاع إبليس أن يوسوس لهما وهما داخل الجنة، عِلماً بأنه مطرود من الجنة؟
    والجواب - والله أعلم - أنه (ربما يكون المقصود مِن طَرْدِهِ من الجنة: عدم الاستقرار فيها)، (وربما يكون قد وسوس لهما من خارج الجنة، فوصلتْ وسوسته لهما وهما داخل الجنة)، ولا نستبعد ذلك أبداً، فقد رأينا في عصرنا هذا أنّ الشخص يستطيع التحدث مع شخصٍ آخر وهو على بُعدٍ سحيقٍ منه، وذلك باستخدام العديد من وسائل الاتصال الحديثة، وأيَّاً كانت الوسيلة، المُهِمّ أن هذه الوسوسة قد وصلتْ إليهما بقدر الله تعالى.

    الآية 21: ﴿ وَقَاسَمَهُمَا ﴾: أي وأقسم الشيطان لآدم وحواء باللهِ ﴿ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ في مَشورتي عليكما بالأكل من الشجرة، وهو كاذبٌ في ذلك.

    الآية 22: ﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ﴾: أي فجرَّأهما بخداعٍ منه، فأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الاقتراب منها، ﴿ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا ﴾: أي انكشفت لهما عوراتهما، وزال ما سَترهما اللهُ به قبل المخالفة، ﴿ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ﴾: أي وأخذا يَلزقان بعض ورق الجنة على عوراتهما، ﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾، وفيهذا دليل على أنّ كَشْف العورة من عظائم الأمور، وأنه كان - ولم يَزَل - مُستنكَراً في الطباع، مُستقبَحًا في العقول.

    الآية 23: ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ﴾ بالأكل من الشجرة، ﴿ وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ الذين أضاعوا حظَّهم من نعيم الجنة، (وهذه الكلمات هي التي تَلَقَّاها آدمُ مِن ربه، فدعا بها فتابَ اللهُ عليه).

    الآية 24 الآية 25: ﴿ قَالَ ﴾ تعالى مُخاطبًا آدم وحواء وإبليس: ﴿ اهْبِطُوا ﴾ من السماء إلى الأرض، وسيكون ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ يعني: (آدم وحواء) يُعادون الشيطان، والشيطان يُعادِيهِما، ﴿ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ﴾ أي مكانٌ تستقرون فيه، ﴿ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾: يعني وانتفاعٌ بما في الأرض إلى وقت انقضاء آجالكم، ثم ﴿ قَالَ ﴾ تعالى لآدم وحوَّاء وذريتهما: ﴿ فِيهَا تَحْيَوْنَ ﴾: أي في الأرض تقضون أيام حياتكم الدنيا، ﴿ وَفِيهَا تَمُوتُونَ ﴾ ﴿ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾: يعني ومنها يُخْرجكم ربكم، ويَحشركم أحياء يوم البعث.

    الآية 26: ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ ﴾: يعني قد جعلنا لكم لباسًا يستر عوراتكم، وهو لباس الضرورة، ﴿ وَرِيشًا ﴾: أي وجعلنا لكم لباسًا للزينة والتجمل، وهو من الكمال والتنعُّم، ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾: يعني ولباسُ تقوى الله تعالى - بفعل الأوامر واجتناب النواهي - هو خيرُ لباسٍ للمؤمن في حِفظ العورات والأجسام والعقول والأخلاق، ﴿ ذَلِكَ ﴾ الذي مَنَّ الله به عليكم هو ﴿ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ ﴾ الدالة على قدرته تعالى وفضله ورحمته بعبادهِ ﴿ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ هذه النعم فيشكروا اللهَ عليها بالإيمان والطاعة، لأنّ هذه النعم تستوجب توحيدَ اللهِ تعالى وطاعته.

    واعلم أنّ قوله تعالى: ﴿ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا ﴾ يُفهَم منه أنّ إنزال اللّباس كان من السماء، وذلك يعود إلى أمور، منها: أن آدم عليه السلام هو أوّل مَن سَتر عورته بورق التين من شجر الجنة، ومنها أنّ آدم نزل من السماء مَكْسُوّاً وورث عنه أولاده ذلك، ومنها أن الماء الذي يَخرج بسببه النبات (الذي يُصنَع منه اللباس كالقطن والكِتَّان) قد نزل من السماء، (وحتى الأنعام ذوات الصوف والوَبَر (كالغنم والإبل) حياتها متوقفة على ماء السماء).

    الآية 27: ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ﴾: أي لا يَخدعنَّكم الشيطان، فيُزَيِّن لكم المعصية، ويدعوكم إليها، ويُرَغِّبكم فيها ﴿ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ﴾: أي كما زيَّنها لأبويكم آدم وحواء، فأخرجهما بسببها من الجنة، ﴿ يَنْزِعُ ﴾: يعني وقد تسَبَّبَ في أن نُزِعَ ﴿ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا ﴾ الذي كان اللهُ تعالى قد سترهما به (ما داما حافظَيْن لأنفسهما مِن فِعل ما نُهِيَا عنه)، وقد فعل الشيطان ذلك ﴿ لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا ﴾: أي لتنكشف لهما عوراتهما.

    واعلمْ أن الله تعالى قد ذكرَ الفِعل: ﴿ يَنْزِعُ بصيغة المضارع، بعد أن كانَ سِياق الآية بصيغة الماضي، وذلك في قوله: ﴿ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ﴾، لِيُوَضِّحَ أنّ الشيطان قد بذل جهده في وسوسته لهما وتزيينه للمعصية، وأنه استمر في المكر والخَديعة حتى أوقعهما في الخطيئة، (فالفِعل المضارع يدل على الاستمرارية)، وفي هذه الآية دليل على حِرص الشيطان على أن يكشف الآدَمِيُّ عورته، لِمَا يَتبع ذلك من الفِسق والفجور.

    ثم قال تعالى (مُنَبِّهاً لهم على خطورة العدو): ﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ﴾: يعني إن الشيطان يُراقبكم على الدَوام، ويراكم هو وذريته وجنوده من الجن، وأنتم لا ترونهم فاحذروهم بالاستعاذة الفورية مِن وسوستهم، ولا تغفُلوا عن المواضع التي يدخلون منها إليكم، ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ ﴾ أي نُصَراء وأحِبَّاء ﴿ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾، فالشياطين يُمَثلون قمة الشر والخُبث، والذين لا يؤمنون قلوبهم مظلمة (لانعدام نور الإيمان فيها)، فهي متهيئة لقبول ما توسوس به الشياطين من أنواع المفاسد والشرور والشِرك والمعاصي، فلذلك كانوا أولياءَ لهم.

    الآية 28: ﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ﴾: يعني وإذا أتى الكفارُ فِعلاً قبيحًا من الأفعال - كالطواف بالبيت عُراة - اعتذروا عن ذلك، فـ ﴿ قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا ﴾: أي ورثنا تلك الأمور عن آبائنا ﴿ وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ﴾ ﴿ قُلْ ﴾ لهم أيها الرسول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ ﴾ عباده ﴿ بِالْفَحْشَاءِ ﴾ ﴿ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَكَذِبًا وافتراءً؟

    الآية 29، والآية 30: ﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ﴾ أي أمر بالعدل (وقمة العدل: توحيدُ اللهِ تعالى، لأنه وحده الذي يستحق العبادة)، وأما الشِرك وفِعل الفواحش، والكذب على الله تعالى بأنه قد أحَلّ كذا (وهو لم يُحِلُّه)، وبأنه قد حَرَّمَ كذا (وهو لم يُحَرِّمْهُ)، فهذا هو قمة الظلم، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾، ولذلك قال ابن عباس: (القسط: لا إله إلاّ الله) أي بأن يُعبَدَ اللهُ وحده، ﴿ وَأَقِيمُوا ﴾: أي وأمركم أن تقيموا ﴿ وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾: والمعنى أنه تعالى أمركم أن تُخلِصوا له العبادة في كل مَوضع من مواضعها، وخاصَّةً في المساجد، (وقد خَصَّ الوجه بالعبادة لأنه إذا خضع وَجْهُ العبد لله: خضعتْ له جميع جوارحِه، فلا يُشركُ بعبادته أحدًا)، ﴿ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾: أي وأمركم أن تدعوه وحده ولا تدعوا معه أحداً، وأن تؤمنوا بالبعث بعد الموت، لأنه سبحانه ﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾: أي إنه كما أوجدكم من العدم،فإنه قادرٌ على إعادة الحياة إليكم مرة أخرى.

    ثم يُخبر تعالى أنه جعل عباده فريقين: ﴿ فَرِيقًا هَدَى ﴾: أي فريقًا وفَّقهم للهداية إلى الصراط المستقيم، ويَسَّرَ لهم أسبابها، وصرف عنهم ما يُشغِلُهم عنها، وذلك بسبب اتّباعِهم لأسباب الهدى، ﴿ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ﴾: يعني وَجَبَتْ عليهم الضلالة عن الطريق المستقيم، ثم وَضَّحَ السبب في استحقاقهم لهذه الضلالة فقال: ﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ فأطاعوهم وأحَبُّوهم من دون الله تعالى، فحِينَ تركوا ولاية الرحمن، وأحَبُّوا ولاية الشيطان، حصل لهم النصيب الوافر من الخُذلان، وَوُكِلوا إلى أنفسهم فخَسروا أشد الخُسران، ﴿ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾: أي وقد أطاعوا الشياطين ظنًا منهم بأنهم قد سلكوا سبيل الهداية، فانقلبت عليهم الحقائق، فظنوا الباطلَ حقاً والحقَّ باطلاً، ولذلك أضَلَّهم اللهُ بِعَدْلِه، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.

    تفسير الربع الثاني من سورة الأعراف بأسلوب بسيط

    الآية 31، والآية 32:﴿ يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ المشروعة - مِن لِبس ثيابٍساترة للعورة، ونظافةٍ وطهارةٍ ونحو ذلك -، وذلك ﴿ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾: يعني عند أداء كل صلاة، فلا تُصَلّوا وأنتم مَكشوفوا العورات، ولا تطوفوا بالبيت عُراة كما فعل المشركون، ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ﴾ من طيبات ما رزقكمالله، ﴿ وَلَا تُسْرِفُوا ﴾: أي ولا تتجاوزوا حدود الاعتدال، ﴿ إِنَّهُ ﴾ تعالى ﴿ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ في الطعام والشراب وغير ذلك.

    واعلم أن هذه الآية الكريمة هي أصلٌ من أصول الدواء، إذ حَرَّمَتْ الإسراف في الأكل والشرب، لأن ذلك سبب كافة الأمراض، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ملأ آدَمِيٌّ وعاءً شراً مِن بطنه، بِحَسْب - يعني يكفي - ابن آدم أكَلات يُقِمْنَ صُلبَه، فإن كان لا مَحالة، فثُلُثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثُلثٌ لنَفَسِه) (انظر السلسلة الصحيحة ج: 5/ 336).

    وَلَمَّا حَرَّمَ المشركون الطوافَ بالثياب - وطافوا بالبيت عُراة - بِدَعوَى أنهم لا يطوفون بثيابٍ عَصَوا اللهَ تعالى فيها، أنكَرَ اللهُ ذلك عليهم بقوله: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء الجَهَلة من المشركين: ﴿ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ﴾: يعني مَن الذي حَرَّمَ عليكم الثياب التي جعلها اللهُ زينةً لكم؟ (واعلم أنّ معنى: ﴿ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ﴾: أنه أخرج النبات - الذي يُصنَع منه الثياب - من الأرض، كالقطن والكِتَّان).

    ﴿ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾: يعني ومَن الذي حَرَّمَ عليكم التمتع بالحلالالطيب مِن رزق الله تعالى؟ (والمقصود بذلك: اللحوم التي حَرَّمَها المشركون افتراءً على الله تعالى، وهي المذكورة في سورة الأنعام)، ﴿ قُلْ ﴾ لهم: إن الطيبات - من المَطاعم والمَشارب والملابس - التي أحَلَّهااللهُ تعالى ﴿ هِيَ ﴾ حقٌ ﴿ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ يُشاركهم فيها غيرُهُم، ﴿ خَالِصَةً ﴾ لهم ﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ دونَ أن يُشاركهم فيها أحد، ﴿ كَذَلِكَ ﴾: يعني مِثل ذلك التفصيل السابق: ﴿ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ ما يُبَيِّنُ لهم لِيعملوا به، فبذلك أخبر تعالى عن نعمةٍ عظيمة، وهي تفصيلِهِ للآيات وإظهارها، لينتفع بهاالعلماء الذين يُمَيِّزونَ - بنور العلم - بين الحق والباطل، ولِيُعَلموها للناس.

    وفي الآية دليل على أنه يُشرَع التَجَمُّل بأحسن الثياب، وخاصةً في الأعياد والجُمَع وزيارة الناس ومقابلة الوفود، وليس مِن السُنّة لِبس المُرَقَّعات، وليس معنى: (لباس التقوى) أنها الثياب الخشنة والمُرَقَّعة، وإنما المقصود بذلك: تقوى الله تعالى بامتثال الأمر واجتناب النهي، وفي الحديث الصحيح: (إن الله جميلٌ يحب الجَمال).

    الآية 33: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ ﴾: يعني إنما حَرَّم اللهُ القبائح من الأعمال ﴿ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾: أي ماكان منها ظاهرًا أمام الناس، وما كان خَفيًّا في السر، ﴿ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾: يعني وحَرَّم تعالى المعاصي كلها، ومِن أعظمهاالاعتداء على الناس بغير حق (يعني بغير المعاقبة بالمِثل)، فقد قال تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ﴿ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾، ﴿ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ﴾: يعني وحَرَّمَ تعالىأن تعبدوا معه غيره من الآلهة المزعومة التي لم يُنَزِّل به حُجَّةً تدل على أنها تستحق العبادة، أو أنها تقربكم إلى ربكم كما تزعمون، فهي مصنوعة بأيديكم، لا تَسمع ولا تُبصِر، ولا تنفع ولا تضر، ﴿ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾: يعني وحَرَّمَ تعالى أنتنسبوا إليه ما لم يُشَرِّعْهُ (افتراءً وكذبًا)، كتحريم بعض الحلال من الملابس والمآكِل، (ويدخل في ذلك أيضاً: الفتوى بغير علم).

    الآية 34: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾: يعني ولكل جماعة اجتمعتْ على الكُفر: وقتٌ لحلول العقوبة بهم، ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ﴾: أي فإذا جاء الوقت المحدد لإهلاكهم، فإنهم ﴿ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ عنه ﴿ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾: أي لا يتأخرون عن ذلك الوقتلحظة، ولا يتقدمون عليه.

    الآية 35، والآية 36: ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ﴾: يعني إذا جاءكم رُسُلِي من أقوامكم ﴿ يَقُصُّونَ ﴾: أي يَتْلُون ﴿ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي ﴾ المُنَزَّلة عليهم، ويُبَيِّنون لكمالبراهين على صِدق ما جاؤوكم به فأطيعوهم، ﴿ فَمَنِ اتَّقَى ﴾ سخط الله (بفعل الأوامر وأوَّلها التوحيد، واجتناب النواهي وأوَّلها الشرك) ﴿ وَأَصْلَحَ ﴾ عمله (بالإخلاص واتِّباع السُنَّة) ﴿ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ يوم القيامة من عذاب الله تعالى، ﴿ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على ما فاتهم منحظوظ الدنيا، ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا ﴾: يعني وأمَّا الكفار الذين كذَّبوا بالدلائل الواضحة على توحيد الله تعالى، وتكبَّروا عن اتِّباعها فـ ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ - أي أهْلُها - ﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.

    واعلم أنّ القَصَص: هو إتْبَاع الحديث بعضه بعضاً، وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: ﴿ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي ﴾، أي يَتْلُونها عليكم آية بعد آية، مُوَضِّحين لكم ما دَلَّتْ عليه مِن أحكامٍ وشرائع، ووعدٍ ووعيد.

    الآية 37: ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ: أي فمَن أشدّ ظلمًا ﴿ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا - وذلك بأن يقول مثلاً: (اتَّخَذَ اللهُ ولداً، أو أنه أمر بالفواحش، أو أنه حَرَّمَ كذا وهو لم يُحَرِّم، أو غير ذلك) -، ﴿ أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ المُنَزَّلة؟،﴿ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ ﴾: يعني أولئك يَصِلُ إليهم حظُّهم من الحياة الدنيا (من الخير والشر)، مما قُدِّرَ لهم في اللوح المحفوظ، وهؤلاء، وإن تمتعوا بالدنيا، فلن يَدفع ذلك عنهم شيئاً، لأنهم يَتمتعون قليلاً ثم يُعَذَّبون طويلاً، قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ، ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ﴾: أي حتى إذاجاءهم مَلَكُ الموت وأعوانه لِيَقبضوا أرواحهم: ﴿ قَالُوا ﴾ لهم: ﴿ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾: يعني أين الذين كنتم تعبدونهممن دون الله من الشركاء والأولياء والأوثان لِيُخلِّصوكم مما أنتم فيه؟ ﴿ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا ﴾: أي ذهبوا وغابوا عنا، ﴿ وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾.

    الآية 38: ﴿ قَالَ اللهُ تعالى لهؤلاء المشركين المُفتَرين: ﴿ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ ﴾: أي ادخلوا في جُملة جماعات من الكافرينأمثالكم ﴿ قَدْ خَلَتْ ﴾: أي قد مضت ﴿ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ﴾ فادخلوا جميعاً ﴿ فِي النَّارِ ﴾، ثم يُخبِرُ تعالى أنه ﴿ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا ﴾: أي كلما دخلتْ النارَ جماعةٌمن أهل مِلَّة معينة: لعنتْ نظيرتها التي أضلَّتْها، فلَعَنَ المشركون بعضهم بعضاً، ولَعَنَ اليهود والنصارى بعضهم بعضاً، وهكذا، ﴿ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا ﴾: يعني حتى إذا لحق الأوَّلون من أهل المِلَل الكافرة بالآخرين منهم، فدخلوا جميعاً في النار وتقابلوا فيها: ﴿ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ ﴾: أي قال الآخرون - (وهم الأتباع المرؤوسون فيالدنيا) - فقالوا للأوَّلين (وهم القادة والرؤساء في الضلال): ﴿ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ) ﴾ هم الذين ﴿ أَضَلُّونَا ﴾ عن الحق، ﴿ فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا ﴾ أي مُضاعَفاً ﴿ مِنَ النَّارِ ﴾، فـ ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ تعالى: ﴿ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ﴾: أي لِكُلٍّ منكم ومنهم عذابٌ مُضاعَف من النار،﴿ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ أيها الأتباع ما لِكُلِّ فريقٍ منكم من العذاب والآلام.

    الآية 39: ﴿ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ ﴾: يعني وقال الرؤساء لأتباعهم: نحن وأنتم متساوون في الضلال، ومتساوون في فِعْلِ أسباب العذاب، ﴿ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ﴾: أي فلا أحدٌ منكم أفضلُ مِنَّا حتى تزعموا أنكم لا تستحقون العذاب، فكُلُّنا نستحقه بما فعلنا، فقال اللهُ تعالى لهمجميعًا: ﴿ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾ من الظلم والشر والفساد.

    الآية 40، والآية 41 : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا ﴾: يعني إن الكفار الذين جحدوا بحُجَجِنا الواضحة وبآياتنا الدالة على وحدانِيَّتِنا، ولميعملوا بشرعنا تكَبُّرًا واستعلاءً، أولئك ﴿ لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ﴾: أي لا تُفتَّح أبواب السماء لأعمالهم في حاتهم، ولا لأرواحهمعند مماتهم، ﴿ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ﴾: أي ولا يمكن أن يدخل هؤلاء الكفار الجنة، إلا إذا دخلالجمل في ثقب الإبرة، وهذا مستحيل، ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾: يعني ومِثل ذلك الجزاء: ﴿ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ﴾ الذين كَثُرَ إجرامهم،واشتدَّ طغيانهم، وهؤلاء ﴿ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ ﴾: أي فِراشٌ مِن تحتهم مصنوعٌ من النار ينامون عليه، ﴿ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ﴾: أي ومِن فوقهم أغطيةتغشاهم - أي يَتغطون بها - مصنوعة من النار أيضاً، ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾: يعني وبمِثل هذا العقاب الشديد: ﴿ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ الذين تجاوزواحدودَ اللهِ تعالى فكفروا به وعصَوْه.

    الآية 42، والآية 43: ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ - في حدود طاقاتهم - فإننا ﴿ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ أي إلا ما تطيق من الأعمال، فـ ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ﴾: يعني وقد أذهَبْنا ما في صدور أهل الجنة من حِقدٍ وضغائن، فهم إخوة مُتحابون، لا يَحمل أحدهم غِلاًّ أو كراهيةً لأخيه، ومِن كمال نعيمهم أنهم﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ﴾: أي تجري أنهارُ الماء والعسل واللبن والخمر مِن تحت قصورها العالية، وأشجارها الظليلة، ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ﴾: أي الحمدُ للهالذي وَفَّقنا للعمل الصالح الذي أكْسَبَنا ما نحن فيه من النعيم، ﴿ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾: يعني وما كُنَّالِنُوَفَّق إلى سلوك الطريق المستقيم لولا أَنْ هدانا الله له، ووفَّقنا للثبات عليه، ﴿ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ من الإخبار بوعد أهلطاعته بالنعيم، ووعيد أهل معصيته بالعذاب، ﴿ وَنُودُوا ﴾: يعني ونُوديَ على أهل الجنة - تهنئةً لهم وإكرامًا - ﴿ أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾: يعني إنَّ هذه الجنة قد أورثكمالله إياها برحمته، وقد منحكم هذه الرحمة بسبب ما قدَّمتموه من الإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾، وقال أيضاً: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ .

    واعلم أنه لا تناقض بين هذه الجملة: ﴿ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ، وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يَدخل أحد الجنة بعمله)، فالباء في كلمة: (بعمله) تُسَمَّى باء المُقابَلة، كما يُقال: اشتريتُ هذابهذا؛ أي: ليس العملُ وحده ثمنًا كافيًا لدخول الجنة، بل لا بد مِن رحمةالله تعالى، أما الباء التي في قوله تعالى: ﴿ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾، فتُسَمَّى باء السبب؛ أي: بسبب أعمالِكم.

    واعلم أن العبد إذا أصابه عُجب (يعني إعجاب وغرور) بعمله، فإنه ينبغي أن يقول هذه الجملة:
    ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ، وذلك حتى يَنسب الفضل لله تعالى صاحب النعمة والتوفيق، ولا يَنسب الفضل لنفسه الأمَّارة بالسوء، وذلك حتى لا يَخذله الله تعالى، ويَرُدّ عليه عمله.
    تفسير الربع الثالث من سورة الأعراف بأسلوب بسيط

    الآية 44، والآية 45: ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ - بعد دخولهم فيها - ﴿ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا ﴾ من النعيم الذي أعَدَّهُ لأهل طاعته، ﴿ فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ﴾ من العذاب الذي أعَدَّهُ لأهل معصيته؟ ﴿ قَالُوا نَعَمْ ﴾ ﴿ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ﴾: أي فنادَى مُنادٍ بأعلى صوته بين أهل الجنة وأهل النار: ﴿ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ ﴿ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾: أي الذين كانوا يَصُدُّون الناس - ويَصُدُّون أنفسهم - عن اتباع طريق الله المستقيم، وهو الإسلام، ﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾: أي ويطلبون أن تكون سبيل الله - وهي الإسلام - معْوَجَّة حتى لا يسلكها أحد، وحتى يجعلوا الشريعة تميل مع شهواتهم وميُولهم فتخدم أغراضهم، ﴿ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ ﴾.

    الآية 46: ﴿ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ﴾: يعني: وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار حاجز عظيم يُقال له "الأعراف"، ﴿ وَعَلَى ﴾ هذا ﴿ الْأَعْرَافِ رِجَالٌ ﴾ قد استوت حسناتهم وسيئاتهم، ينتظرون قضاء الله فيهم، ويرجون رحمته تعالى بهم، وهؤلاء الرجال ﴿ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ ﴾: أي يعرفون أهل الجنة وأهل النار بعلاماتهم، كَبَيَاض وجوه أهل الجنة، وسَوادوجوه أهل النار، ﴿ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ﴾: أي ونادى رجال الأعراف على أصحاب الجنة بالتحية ﴿ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ﴾ ﴿ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ﴾: يعني وأهلالأعراف لم يدخلوا الجنة بعد، وهم يرجون دخولها.

    الآية 47: ﴿ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ ﴾: يعني وإذا حُوِّلَتْ أبصار رجال الأعراف جهة أهل النار: ﴿ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾.

    الآية 48، والآية 49: ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ﴾: أي ونادى أهل الأعراف على رجالٍ من قادة الكفار في النار، يعرفونهم بعلاماتٍخاصة تميزهم، فـ ﴿ قَالُوا ﴾ لهم: ﴿ مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾: أي ما نَفَعَكم ما كنتم تجمعون فيالدنيا من الأموال والرجال (للحروب)، وما نَفَعَكم تكبُّركم عن الإيمان وقَبول الحق.

    ثم أشاروا إلى أُناسٍ من أهل الجنة كانوا في الدنيا فقراء ضعفاء يَستهزئ بهم أهل النار، فقالوا لأهل النار: ﴿ أَهَؤُلَاءِ ﴾ الذين أدخلهم اللّه الجنة هم ﴿ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ﴾: أي أقسمتم في الدنيا بأنهم لن يُكرمهم اللهُ تعالى، ولن يَرفع لهم قدْراً لأنهم فقراء ضعفاء؟، فلمَّا قال أصحاب الأعراف ذلك، قيل لهم: ﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ﴾ يا أصحاب الأعراففقد غُفِرَ لكم، و ﴿ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ ﴾ من عذاب الله، ﴿ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾.

    واعلم أنّ بعض المفسرين قد فَسَّروا قوله تعالى: ﴿ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾ بأنَّ أصحاب الأعراف لَمَّا وَبَّخوا أهل النار بقولهم:﴿ مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ، أقسَمَ أهل النار أن أصحاب الأعراف داخلون النار معهم، فقالت الملائكة لأهل النار: (أهؤلاء - وأشاروا إلى أصحاب الأعراف - هم الذين أقسمتم يا أهل النار أن الله لن يدخلهم الجنة، وأنهم سيدخلون النار معكم؟)، ثم قالت الملائكة لأصحاب الأعراف: ﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ.

    الآية 50، والآية 51: ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ - مُستغيثين بهم - ﴿ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا: أي صُبّواعلينا وأعطونا ﴿ مِنَ الْمَاءِ - وذلك لشدة عطشهم (بسبب حَرّ جهنم) -، ﴿ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ﴾ من الطعام، فـ ﴿ قَالُوا ﴾ لهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا ﴾: أي حَرَّم الشراب والطعام ﴿ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ ﴿ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا ﴾: أي الذين أعرَضوا عن الدين الذي أمرهمالله باتباعه، واستهزءوا به، واستبدلوه باللهو واللعب، (واعلم أن اللعب: هو العمل الذي لا يَجلِبُ دِرهماً للمعاش، ولا حسنةً للمَعاد، وأما اللهو: فهو كل ما يُشغِلُ الإنسانَ عمَّا يُكسِبُهُ خيراً أو يَدفع عنه ضرراً)، ﴿ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾: أي وخدعتهم الحياة الدنيا، وشُغِلُوا بزينتها عن العملللآخرة، ﴿ فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ ﴾: يعني فيوم القيامة نتركهم في العذاب المُوجع، وذلك ﴿ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ﴾: أي كما تركواالعمل، ولم يستعدوا للقاء هذا اليوم، ﴿ وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾: يعني وبسبب إنكارهم لأدِلَّة اللهِ وبراهينه الواضحة، معَ عِلمهم بأنهاحق.

    وقد ثبت أنَّ عبد الله ابن عمر شَرِبَ ماءً بارداً، فبَكى، فسُئِل: (ما يُبكيك؟)، فقال: (ذَكَرْتُ آيةً في كتاب الله:﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾،فعرفتُ أنّ أهل النار لا يشتهون إلا الماء البارد، وقد قال الله عز وجل: ﴿ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ.

    واعلم أننا قلنا بأنَّ معنى قوله تعالى: ﴿ فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ ﴾ أي نتركهم في العذاب، لأن الله تعالى قد أخبر عن نفسه فقال: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾، وقال تعالى: ﴿ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴾، وعلى هذا فمِن الأخطاء الشائعة: قوْل بعض الناس - إذا ماتَ لهم مَيِّت - : (ربنا افتكره) أو (افتكاره رحمة)، وذلك على حَدّ قوْلهم.

    الآية 52، والآية 53: ﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ ﴾: أي ولقد جئنا الكفار بقرآنٍ أنزلناه عليك أيها الرسول، وهذا القرآن قد ﴿ فَصَّلْنَاهُ ﴾: أي بَيَّنَّا فيه جميع الأشياء التي يحتاج إليها الخلق، وذلك ﴿ عَلَى عِلْمٍمِنَّا بأحوال العباد في كل زمان ومكان، وبما يَصلح لهم وما لا يَصلح، (وليس تفصيلُهُ تفصيلَ غير عالمٍ بالأمور، فيَجهل بعض الأحوال فيَحكم حُكماً غير مناسب، بل هو تفصيلُ مَن أحاطَ عِلمُهُ بكل شيء، وَوَسِعَتْ رحمته كل شيء)، وقد جعلنا هذا القرآن ﴿ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.

    ثم أنكَرَ تعالى على أهل مكة عدم مُسارعتهم إلى الإيمان، بعد أن جاءهم هذا الكتاب المُفَصّل، فقال: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ﴾: يعني هل ينتظر الكفار إلا ما وُعِدوا به في القرآن من العقاب الذي يَؤول إليهأمرهم يوم القيامة، وساعتها سيؤمنون؟! ﴿ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾: يعني يوم يأتي هذا العقاب الذي يَؤول إليهأمرهم: ﴿ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ ﴾: أي يقول الكفار الذين تركوا القرآن، وكفروا به في الحياة الدنيا: ﴿ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾: أي قد تبيَّن لناالآن أنَّ رُسُل ربنا قد جاؤوا بالحق ونصحوا لنا، ﴿ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا ﴾ عند ربنا، ﴿ أَوْ نُرَدُّ ﴾ إلى الدنيا مرة أخرى ﴿ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ ﴿ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾: أي أهلكوا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها، (إذ معنى خُسران النفس: عدم الانتفاع بها في الدنيا، حينَ كان في إمكانهم أن يجعلوها تفعل الخير الذي سيؤدي بهم إلى الجنة)، ﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾: أي ذهب وغاب عنهم ما كانوا يَزعمونه كَذِباًمن شفاعة آلهتهم لهم يوم القيامة.

    الآية 54: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ أيها الناس - الذي يجب أن تعبدوه وحده - هو ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾: أي عَلا وارتفع على العرش (استواءً يليق بجلالهوعظمته)، ودَبَّرَ الممالك، وأجْرَى عليها أحكامه الكونية، فـ ﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ﴾: يعني يُدخِلُ سبحانهُ الليلَ على النهار، فيُلبِسَهُ إيَّاهُ حتى يُذهِبَ نُوره، ويُدخِلالنهار على الليل فيُذهِب ظلامه، ﴿ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ﴾: يعني وكل واحد منهما يَطلب الآخر طلباً حَثيثاً - أي سريعا - (إذِ الحَثّ: هو الإعجال والسرعة)، فيَطلبه سريعاً حتى يُدركه، فكلما جاء الليل: ذهب النهار، وكلما جاء النهار: ذهب الليل، وهكذا أبداً على الدوام، حتى يَطوي اللّهُ هذا العالم، وينتقل العباد إلى دار غير هذه الدار.

    ﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ خلقهنَّ سبحانه، وجعلهنَّ ﴿ مُسَخَّرَاتٍ ﴾: أي مُذلَّلاتٍ له، يُسَخِرهنَّ سبحانه كما يشاءُ ﴿ بِأَمْرِهِ ﴾: أي بتدبيره الدالّ على ما له مِن أوصاف الكمال (إذ إنّ عظمة هذه المخلوقات: دالّةٌ على عظمة خالقها وكمال قدرته)، (وما فيها من الانتظام والإتقان والإحكام: دالٌّ على كمال حِكمته)، (وما فيها من المنافع الضرورية لِخَلقه: دالٌّ على سِعَة رحمته بالخلق، وعلى سِعَة عِلمه بمصالحهم، وأنه الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له)، ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ ﴾: أي له سبحانهُ صفة الخَلق التي صدرتْ عنها جميع المخلوقات، فجميع المخلوقات ملكٌ له سبحانه، ﴿ وَالْأَمْرُ ﴾: أي وله الأمرُ وحده، يَحكم ما يشاء ويَفعل ما يريد، فلا خالقَ إلا هو، ولا آمرَ ولا ناهِيَ غيره (فالخَلق: يتضمن أحكامه الكونية والقدَريَّة، والأمر: يتضمن أحكامه الدينية والشرعية)، ﴿ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أي عَظُمَتْ قدرته، وكَثُرَ خيره وفضله، (فتباركَ سبحانه في نفسه لِعظمة أوصافه وكمالها، وباركَ في غيره بإنزال الخير الكثير).

    الآية 55: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْأيها المؤمنون ﴿ تَضَرُّعًا ﴾: أي تذلُّلاً وخشوعاً ﴿ وَخُفْيَةً ﴾: أي سرًّا، غير رافعين أصواتكم بالدعاء، ولْيَكُن دعاؤكم بحضورِ قلبٍ وإخلاصوبُعْدٍ عن الرياء، فـ ﴿ إِنَّهُ ﴾ تعالى ﴿ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ المتجاوزين حدودَ شَرْعِه، وأعظمالتجاوُز: الشِرك بالله، كدعاء غير الله من الأموات والأوثان، ونحو ذلك.

    الآية 56: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا أي بعد إصلاح اللهِ لهابِبَعث الرُسُل، وبعد عُمْرانها بطاعة الله تعالى، (﴿ وَادْعُوهُ ﴾ سبحانه ﴿ خَوْفًا ﴾ مِن عقابه ﴿ وَطَمَعًا ﴾ في ثوابه، (وفي هذا رَدٌّ على مَن يَزعمون أنهم لا يعبدون اللهَ طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره، فقد أمرَ اللهُ تعالى عباده بدعائه خوفاً وطمعاً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم - وهو خيرُ الخلق - يقولُ في دعائه: (اللهم إني أسألك الجنة وما قرَّبَ إليها مِن قولٍ أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرَّبَ إليها مِن قولٍ أو عمل))، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما سألَ رجلٌ مُسلِمٌ اللهَ الجنة ثلاثاً، إلا قالت الجنة: (اللهم أدْخِله الجنة)، ولا استجارَ رجلٌ مُسلِمٌ اللهَ من النار ثلاثاً، إلا قالت النار: (اللهم أجِرْهُ مِنِّي)) (انظر صحيح الجامع حديث رقم: 5630).

    ﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الذين يُحسنون أعمالهم ونِيَّاتِهِم، وذلك بمراقبتهم للهِ تعالى في كل أحوالهم، ومِن ذلك إحسان الدعاء بإخلاصه وإتقانه، (واعلم أن الإحسانُ - كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مُسلِم - : "أنْ تعبُدَ اللهَ كأنك تراه، فإنْ لم تكن تراهُ، فإنه يَراك"، وذلك بأن يتق العبدُ رَبَّهُ قدرَ ما يستطيع، قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، فكلما كان العبدُ أكثرَ إحساناً، كلما كان أقرب إلى رحمة ربه).

    • ورغم أنه كان من المُتوقَّع أن يَذكر الله تعالى كلمة (قريب) بصيغة المُؤنَّث، فيقول مثلاً: ﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌة مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾، لأنها جاءت مع كلمة (رحمة) المؤنثة، إلا أنها جاءت بصيغة المُذكَّر، وأحسن ما قِيلَ في ذلك أنَّ كَلِمَتَي (قريب وبعيد) إذا جاءا مع النَسَب والقَرابة، فإنه يَجب تذكيرهما مع المُذكَّر وتأنيثهما مع المُؤنَّث، مِثل: (زيد قريب عمر، وعائشة قريبة بكر)، وأما إذا جاءا مع غير النسب والقرابة، فإنه يجوز أن يأتيا بصيغة المُذكَّر كما يجوز أن يأتيا بصيغة المُؤنَّث، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾، فذكَرَ لفظَي (قريب وبعيد) بصيغة المُذكَّر مع أنّ الوصف كان لِمُؤنَّث، وذلك لأنهما جاءا مع غير النسب والقرابة.

    الآية 57: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾: يعني واللهُ تعالى هو الذي يُرسل الرياح الطيبة التي تبشر الخلق بقرب نزول رحمة الله (وهي المطر، الذي تثيره الرياح بإذن الله تعالى)، ﴿ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا ﴾: يعني حتى إذا حَمَلت الريحُ السحابَ المُحَمَّلبالمطر: ﴿ سُقْنَاهُ ﴾: أي سُقنا السحاب ﴿ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ﴾ قد جَفَّتْ أرضُهُ و أشجاره وزَرْعُه،﴿ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، ﴿ كَذَلِكَ ﴾: يعني كما نُحيي هذا البلد الميت بالمطر: ﴿ نُخْرِجُ الْمَوْتَى ﴾ من قبورهمأحياءً بعد موتهم، وقد أراكُمُ اللهُ تعالى هذا الفِعل (وهو إحياء الأرض بالماء) ﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾: أي لعلكم تتعظون، فتستدلوا على قدرة اللهِ تعالى على البَعث، فإنَّ القادر على إحياء مَوَات الأرض: قادرٌ على إحياء مَوَات الأجسام، فبذلك توقنون بلقاء ربكم، وتستعدون له بالاستغفار والعمل الصالح.

    الآية 58: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾: يعني والأرض الطيبة النقية إذا نزل عليها المطر: تُخْرج نباتًا طيبًاعظيم النفع (وذلك بإذن اللهِ ومشيئته)، وكذلك المؤمن صاحب القلب الحي الطيب، إذا سمع ما يَنزل من الآيات: يَزداد إيمانه وتَكثر أعماله الصالحة، ﴿ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ﴾: يعني وأمَّا الأرض الرديئة فإنها لا تُخرج النبات إلا رديئاً قليلاً،لا نفعَ فيه، وكذلك الكافرُ لا ينتفعُ بآيات الله تعالى، ﴿ كَذَلِكَ ﴾: يعني مِثلذلك التنويع البديع في ضَرْب الأمثال: ﴿ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾: أي نُنوِّع الحُجَج والبراهين لأُناسٍيشكرون نِعَمَ الله تعالى ويطيعونه، إذِ الشاكرون هُمُ المنتفعون بهذه الآيات التي فصَّلها اللّهُ في كتابه، لأنهم يَرونها مِن أكبر النعم الواصلة إليهم من ربهم، فيَتلقونها فرحين بها، فيتدبرونها ويتأملونها، فيُبَيِّن اللهُ لهم مِن مَعانيها، فيَزدادون بها يَقيناً، وأما الكافرون الجاحدون فإنهم لا ينتفعون بها، لأنّ قلوبهم خبيثة غافلة مُعرِضة، ليستْ أهلاً لدخول آيات اللهِ فيها.

    <<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<

    (1) وهي سلسلة تفسير للآيات التي يَصعُبُ فهمُهافي القرآن الكريم (وليس كل الآيات)، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرةمن (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبو بكر الجزائري) (بتصرف)
    - واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذاالأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.


    رامي حنفي محمود
    شبكة الالوكة




  • #2
    تفسير الربع الرابع من سورة الأعراف بأسلوب بسيط

    الآية 59: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ليدعوهم إلى التوحيد وترْك الشِرك،﴿ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَوحده، فـ ﴿ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ ﴾ يستحق العبادة ﴿ غَيْرُهُ ﴾، إذِ إلإلهُ الحق هو مَن يَخلقُ ويَرزق ويُدَبِّر، ويُحيي ويُميت، ويَضر ويَنفع، ويَسمع ويُبصِر،فأخلِصوا له العبادة، فإن لم تفعلوا وبقيتم على عبادة أصنامكم، فـ ﴿ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ وهو عذاب يوم القيامة.

    الآية 60: ﴿ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ: أي قال له أشرافُ القوم وسادتهم: ﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ عن طريقالصواب، بسبب عداوتك لآلهتنا، وبسبب إنكارك علينا لعبادتنا إيّاها.

    الآية 61، والآية 62: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ ﴾: أي لستُ ضالاً بأيّ وجهٍ من الوجوه، ﴿ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي ﴾: أي أُبلِّغكم ما أُُرْسِلْتُ به مِن ربي، ببيان توحيده وإبلاغ أوامره ونواهيه، ﴿ وَأَنْصَحُ لَكُمْ ﴾ مُحَذرًا من عذاب الله ومُبشرًابثوابه، ﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ فاتبعوني وأطيعوا أمري فيما أُبلِغُكُم عنهُ سبحانه.

    الآية 63، والآية 64: ﴿ أَوَعَجِبْتُمْ ﴾: يعني وهل أثارَ عَجَبَكُم ﴿ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ ﴾ أي تذكيرٌ لكم ﴿ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ بما فيه الخير لكم، وذلك ﴿ عَلَى ﴾ لسان ﴿ رَجُلٍ مِنْكُمْ ﴾ تعرفون نَسَبَهُ وصِدقه ﴿ لِيُنْذِرَكُمْ ﴾ العذاب المترتب على الكفر والمعاصي، ﴿ وَلِتَتَّقُوا ﴾ سخطَ اللهِ تعالى بالإيمان به وتوحيده، ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾: أي وبذلك تنزل رحمة اللّه عليكم وتنالوا ثوابه العظيم إذا اتقيتموه، - فأيُّ عَجَبٍ لكم في ذلك؟! - (واعلم أنّ كلمة: لَعَلَّ، وكلمة: عَسَى، إذا جاءت من اللهِ تعالى، فإنها تفيد التأكيد ووجوب الوقوع).

    فلم يؤثر فيهم ذلك الوعظ، ﴿ فَكَذَّبُوهُ ﴾ - فوقع عليهم عذابُ الله (وهو الطوفان) -، ﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ﴾: يعني فأنجينا نوحاً ومَن آمَنَ معه في السفينة، ﴿ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا ﴾ الواضحة، ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ﴾: أي عُمْيَ القلوب عن رؤية الحق.

    الآية 65، والآية 66: ﴿ وَإِلَى عَادٍ ﴾: أي ولقد أرسلنا إلى قبيلة عاد: ﴿ أَخَاهُمْ هُودًا ﴾ حينَ عبدوا الأصنام مِن دون الله، فـ ﴿ قَالَ ﴾ لهم: ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ﴾ وحده، فـ ﴿ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ ﴾ يستحق العبادة ﴿ غَيْرُهُ ﴾ ﴿ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ عذابَ الله وسخطه عليكم إن بقيتم على ما أنتم عليه،فـ ﴿ قَالَ الْمَلَأُ ﴾: أي قال الكُبَراء والسادة ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ﴾: ﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ ﴾: أي إنا لَنَعْلم أنك ناقص العقل، بسبب دَعْوَتِكَ إيَّانا إلى ترْكعبادة آلهتنا وعبادة الله وحده، ﴿ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ علىاللهِ فيما تقول.

    الآية 67، والآية 68: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ أي ليس بي نقصٌ في عقلي، ﴿ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي ﴾: أي أُبلِّغكم ما أُُرْسِلْتُ به مِن ربي، ببيان توحيده وإبلاغ أوامره ونواهيه، ﴿ وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾.

    الآية 69، والآية 70: ﴿ أَوَعَجِبْتُمْ ﴾: يعني وهل أثارَ عَجَبَكُم ﴿ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ ﴾ أي تذكيرٌ لكم ﴿ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ بما فيه الخير لكم، وذلك ﴿ عَلَى ﴾ لسان ﴿ رَجُلٍ مِنْكُمْ ﴾ تعرفون نَسَبَهُ وصِدقه ﴿ لِيُنْذِرَكُمْ ﴾ العذاب المترتب على الكفر والمعاصي، ﴿ وَاذْكُرُوا نعمةاللهِ عليكم ﴿ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ أي تَخْلُفون - في الأرض - مَن قبلكم، وذلك ﴿ مِنْ بَعْدِ ﴾ هلاك ﴿ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ ﴿ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ﴾: يعني وَزادَفي أجسامكم قوةً وضخامة، ﴿ فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ ﴾: أي فاذكروا نِعَمَ الله عليكم، واشكروهُ تعالى بعبادتهِ وحده ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾: أي رجاءَ أن تفوزوافي الدنيا والآخرة (وفي هذا دليلٌ على أنّ ذِكرَ النِعَم طريقُ الفلاح، ولذلك كانَ أحد الدُعاة ينصحُ تلاميذه بأن يكتبوا نِعَمَ اللهِ عليهم في ورقة، ثم يَشكروا اللهَ عليها).
    ﴿ قَالُوا ﴾: أي قالت عادٌ لِهود عليه السلام: ﴿ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ ﴾ ﴿ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا ﴾: أي ونترك عبادة الأصنامالتي وَرِثنا عبادتها عن آبائنا؟ ﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ﴾ من العذاب ﴿ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾.

    الآية 71، والآية 72:﴿ قَالَ هود لقومه: ﴿ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ﴾: أي قد حَلَّ بكم غضبٌ من ربكم مُستوْجِبٌ لعذابكم، (واعلم أنّ قوله تعالى: (قد وقع) معناهُ هنا: قد وجب، أي: لابُدّ مِن وقوعه، فإنه قد اكتملتْ أسبابه، وحان وقت الهلاك).

    ثم قال لهم: ﴿ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ ﴾: يعني أتجادلونني في هذهالأصنام التي ﴿ سَمَّيْتُمُوهَا ﴾ آلهةً ﴿ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ ﴾ و ﴿ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ﴾: أي ما نزَّل اللهُ بها مِن حُجَّةٍ تدل على أنها تستحق العبادة، أو أنها تقربكم إلى ربكم كما تزعمون، فهي مصنوعة بأيديكم لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر،﴿ فَانْتَظِرُوا ﴾ نزولَ العذاب عليكم فـ ﴿ إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ﴾ نزوله، فوقع عذابُ اللهِ بإرسال الريح الشديدة عليهم ﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا خاصَّة، لا تكونُ إلا للمؤمنين، ﴿ وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا ﴾: يعني وأهلكنا الكفار من قومه جميعاً، ودمَّرناهم عن آخرهم، (واعلم أنّ دابر القوم: آخِرَهم، لأنه إذا هَلَكَ آخرُ القوم، فقد هَلَكَ أوَّلهم)،﴿ وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴾.

    الآية 73، والآية 74: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ ﴾: أي ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود: ﴿ أَخَاهُمْ صَالِحًا ﴾ لَمَّا عبدوا الأوثان مِن دون الله، فـ ﴿ قَالَ ﴾ لهم: ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ﴾ وحده، فـ ﴿ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ ﴾ يستحقالعبادة ﴿ غَيْرُهُ ﴾ فأخلِصوا له العبادة، ﴿ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً ﴾: أي قد جئتكم بالبرهان على صِدق ماأدعوكم إليه، إذ دعوتُ اللهَ أمامكم، فأخرج لكم من الصخرةِ ناقةً عظيمة كماسألتم، ﴿ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ﴾ من المراعي، ﴿ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - (واعلم أنّ إضافة الناقة إلى اللهِ تعالى في قوله: ﴿ نَاقَةُ اللَّهِ ﴾، إنما هو للتشريف والتخصيص، مثل: بيت الله).

    ثم أخذ يُذكِّرهم بنعم الله عليهم، فقال: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ ﴾ أي تَخْلُفون - في الأرض - مَن قبلكم، وذلك ﴿ مِنْ بَعْدِ ﴾ هلاك قبيلة ﴿ عَادٍ ﴾ ﴿ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾: يعني وأنزلكم في هذه الأرض الطيبة، ومَكَّن لكم فيها، فأصبحتم ﴿ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا ﴾: أي تبنون في سهولها - (وهي الأراضي السهلة المستوية التي ليست بجبال) - بيوتاًضخمة تسكنونها في الصيف، ﴿ وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ﴾: يعني وتنحتون مِن جبالها بيوتًا أخرى تسكنونها في الشتاء، لأنها أحْصَن وأبقى وأدفأ، ﴿ فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ ﴾: أي فاذكروا نِعَمَ الله عليكم، واشكروهُ تعالى بعبادتهِ وحده، ﴿ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾: يعني ولاتَسْعَوا في الأرض بالإفساد.

    الآية 77 الآية 78: ﴿ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ ﴾: أي فذَبحوا الناقة - استخفافاً منهم بوعيد صالح، ﴿ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ﴾: يعني واستكبروا عن الامتثال لأمر ربهم،﴿ وَقَالُوا على سبيل الاستهزاء واستبعاد العذاب: ﴿ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ﴾ من العذاب ﴿ إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾: يعني إن كنتَ مِن رسل اللهِ كما تقول، ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ﴾: أي فأخذَت الذين كفروا الزلزلةُ الشديدة التي خلعتْ قلوبهم، وذلك مِن شدة الصيحة التي صاحها المَلَك ﴿ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ ﴾ أي في بلدهم ﴿ جَاثِمِينَ ﴾: يعني رُكَبهم ملتصقة بالأرض، هالكينَ لم يُفْلِت منهم أحد.

    - الآية 79: ﴿ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ: أي فانصرف صالح عن قومه - حينَ حَلَّ بهم الهلاك - ثم نظر إليهم وهم هَلكَى، ﴿ وَقَالَ مُتحسراً على حالهم: ﴿ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي ﴾ ﴿ وَنَصَحْتُ لَكُمْ ﴾: أي وبَذَلْت لكم كل جهديفي النُصح، ﴿ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴾ فرددتم قولهم، وأطعتمكل شيطانٍ رجيم.

    ويُلاحَظ أن الله تعالى ذكر جُملة:(رسالات ربي)في جميع القصص الماضية، إلا في قصة صالح عليه السلام، فإنه قال: (رسالة ربي)، ولَعَلّ الحكمة من ذلك - واللهُ أعلم - أن المقصود بكلمة (الرسالات) هي الأوامر والنواهي التي أَمَروا قومهم أن يفعلوها بعد التوحيد، لأنّ كل أمر هو رسالة، إلا في قصة صالح، فإنه قد حذرهم - في هذه السورة - من قتل الناقة فقط، فصارت كأنها رسالة واحدة.
    الآية 80، والآية 81: ﴿ وَلُوطًا ﴾: أي واذكر - أيها الرسول - لوطًا عليه السلام ﴿ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ﴾: يعني أتفعلون هذه الفعلةالمنكرة التي بَلغتْ نهاية القبح والتي ﴿ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾: أي ما فعلها أحدٌ قبلكم من المخلوقين؟ ﴿ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ ﴾ تاركينَما أحَلَّه اللهُ لكم مِن نسائكم، ﴿ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴾ في المعاصي، لِتجاوُزكم لحدود اللهِ تعالى، إذ الإسرافُ لا يَقف صاحبه عند حَدّ.

    الآية 82: ﴿ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ﴾: أي وما كان جواب قوم لوط حين أنكَرَ عليهم فِعلهم القبيح ﴿ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ﴾: أي أخرِجوا لوطًا وأهله ومَن تَبعَهُ من بلادكم، ﴿ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾: يعني إنهم أناسٌ يتنزهون عَمَّا نفعل.

    الآية 83: ﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ﴾: أي فأنجى اللهُ لوطًا وأهله من العذاب، حيثُ أمره بمغادرة ذلك البلد ﴿ إِلَّا امْرَأَتَهُ ﴾ فإنها ﴿ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾: يعني من الباقين في العذاب.

    الآية 84: ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا ﴾: أي وعذَّبنا الكفار من قوم لوط بأن أنزلنا عليهم من السماء مطرًا من الحجارة، وقلبنابلادهم، فجعلنا عالِيَها سافِلَها، ﴿ فَانْظُرْ ﴾ أيها الرسول ﴿ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾: يعني انظر كيف كان آخرُ أمر الذيناجترؤوا على معاصي اللهِ وكَذَّبوا رسله.

    ورغم أنه كان من المتوقع أن يقول تعالى: ﴿ كَيْفَ كَانَت عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾، يعني يذكر كلمة: (كانت) بصيغة المُؤنث، لأنّ كلمة (عاقبة) مؤنثة، إلا أنه قال: ﴿ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾، فجاءت كلمة: (كان) بصيغة المُذكر، فما السبب؟

    والجواب أن كلمة (عاقبة) ليست مؤنثاً حقيقياً، بمعنى أنه يجوز أن تأتي مع فِعلٍ مُذَكَّر، مِثل قوله تعالى: ﴿ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفسِدين ﴾، كما يجوز أن تأتيمع فِعلٍ مُؤنَّث، مثل قوله تعالى: ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ﴾، وكذلك كل ما كان تأنيثه غير حقيقي، فإنه يجوز أن يأتي بصيغة المُذَكَّر، مثل قوله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾.

    تفسير الربع الخامس من سورة الأعراف بأسلوب بسيط

    الآية 85: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ ﴾: يعني ولقد أرسلنا إلى قبيلة "مَدْيَن" ﴿ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ﴾ فـ ﴿ قَالَ ﴾ لهم: ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ﴾ وحده، فـ ﴿ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ ﴾ يستحقالعبادة ﴿ غَيْرُهُ ﴾ فأخلِصوا له العبادة ﴿ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾: أي قد جاءكم برهانٌ من ربكم على صِدْق ما أدعوكم إليه، - (ومِن الجائز أن يكونَ اللهُ تعالى قد أعطى نَبيّهُ شعيباً آية، ولكنه لم يَذكرها في القرآن لِحكمةٍ يَعلمها سبحانه، والراجح أنّها حُجَّة قوية قهَرهم بها ولم يتمكنوا مِن رَدّها) -، فبما أنكم قد أيْقنتم أنّ ما آمُرُكم به وأنهاكم عنه هو مِن عند الله تعالى، إذاً ﴿ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ ﴾: يعني فأدُّواللناس حقوقهم بإيفاء الكَيْل والميزان بالعدل، ﴿ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ﴾: يعني ولا تُنقِصوا الناسَ حقوقهم فتظلموهم، ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ بالظلم والشر والفساد، وذلك ﴿ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ بشرائع الأنبياء السابقين عليهمالسلام، ﴿ ذَلِكُمْ ﴾ الذي دعوتكم إليه هو ﴿ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ في دُنياكم وأُخراكم ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾: يعني إن كنتم مُصَدقِيَّفيما دعوتُكُم إليه، عاملينَ بشرع الله تعالى.

    الآية 86: ﴿ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ ﴾: أي ولا تقعدوا بكل طريقٍ - من الطرق التي يَكثر سلوكها - فتتوَعَّدون الناس بالقتل (إن لم يعطوكم من أموالهم وأمتعتهم)، ﴿ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ ﴾: أي وتتوعدون المارَّة بالعذاب إنْ هُم ذهبوا إلى النبي شعيب وجلسوا إليه، فتصدوهم بذلك عن الإيمان والاستقامة، ﴿ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا:يعني وتطلبون أن تكون سبيل الله معْوَجَّة حتى لا يَسلكها أحد، وحتى تجعلوا الشريعة تميل مع شهواتكم فتخدم أغراضكم، وتنفِّروا الناس من اتِّباعها، ﴿ وَاذْكُرُوا ﴾ نعمة الله عليكم ﴿ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ أي كَثَّرَ عددكم بما أنعم عليكم مِن كثرة النَسل، وإدرار الرزق، والعافية من الأوبئة والأمراض المُقلِّلة لكم، والعافية من تسليط الأعداء عليكم، والعافية من الفُرقة في الأرض، بل أنعم عليكم باجتماعكم، فأصبحتم - بفضله - أقوياءأعِزَّاء، لكم مَكانة بين باقي الشعوب، ﴿ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ في الأرض، وما حَلَّ بهم من الهلاكوالدمار، فاحذروا أن تكونوا مثلهم.

    الآية 87: ﴿ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ ﴾: أي جماعة ﴿ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ﴾ ﴿ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا ﴾ بذلك، وبهذا كنا متخاصمين نحتاجُ إلى مَن يَحكم بيننا، إذاً﴿ فَاصْبِرُوا ﴾: أي فانتظروا أيها المكذبون ﴿ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا ﴾ بالقضاء الفاصل، حين يَحلُّ عليكم عذابهالذي أنذرتُكُم به ﴿ وَهُوَ ﴾ سبحانه ﴿ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ بين عباده، فيُنجي مَن على الحق ويُهلِك مَن على الباطل.

    الآية 88، والآية 89: ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ- وهُم السادة والكُبَراء من قومه - الذين اتبعوا أهواءهم ولذاتهم، فلما أتاهم الحق ورأوه غير موافق لأهوائهم الرديئة، رَدُّوهُ واستكبروا عنه -، فقالوا لشعيب عليه السلام: ﴿ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا ﴾ ﴿ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾: يعني إلاّ إذادخلتم في ديننا، فحينئذٍ لن نُخرجكم، - (ويُحتمَل أن تكون هذه الجملة: ﴿ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ يُراد بها أتْباع شعيب، إذ كانوا قبل إيمانهم على دين قومهم) -، فـ ﴿ قَالَ ﴾ شُعيب - متعجبًا من قولهم -: ﴿ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ﴾: يعني أنتَّبعكم على دينكمومِلَّتكم الباطلة، ولو كنا كارهينَ لها، عالمينَ بِبُطلانها؟، ثم قال لهم: ﴿ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ﴾: أي قد اختلقنا على الله الكذبَ إن عُدْنا إلى مِلَّتكم الباطلةبعد أن أنقذنا اللهُ من الوقوع فيها، ﴿ وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا ﴾: يعني وليس لنا أن نتحول إلى غير دين ربنا ﴿ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا - وقد قال شعيب هذا الاستثناء تأدُبَّاً مع الله تعالى بتفويض الأمر إلى مشيئته، ولأنَّ عودة غيره مِن أُمَّتِهِ إلى الشِرك مُمكِنة، وأمّا عودته هو فمستحيلة -، ﴿ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ فإذا كان سبحانه قد عَلِمَ أننا سَنُرَدُّ على أعقابنا، فسوف يكونُ ما عَلِمَه، (وهذا غاية الأدب مع الله تعالى).

    ثم بعد أن أعلمهم شعيب أن العودة إلى دينهم غير مُمكنة إلاّ في حال مشيئة اللهِ ذلك، وهذا مِمَّا لا يشاءُهُ اللهُ لأنبياءه، قال: ﴿ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ﴾: يعني على اللهِ وحدهاعتمادنا في الثبات على دينه الحق، وفي حمايتنا مِن كَيدكم، ثم سأل ربه قائلاً: ﴿ رَبَّنَاافْتَحْأي احكم ﴿ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ ﴾ ﴿ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ أي خير الحاكمين، وذلك بإحقاق الحق وإبطال الباطل.

    واعلم أن المقصود بـ (الكذب على الله) المذكور في قوله تعالى: ﴿ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ ﴾ هو أن شعيباً أخبرهم أن الله تعالى قد أمرهم بعبادته وحده وترْك عبادة غيره، وأنه تعالى أرسله إليهم لينقذهم من الباطل الذي هم فيه، فإذا ارتدَّ شعيب ودخل في مِلَّة الشرك، كان مَوقفه مَوقف مَن كَذَبَ على الله تعالى بأنْ زعم أنَّ اللهَ قال كذا وكذا، واللهُ عَز وجل لم يقل ذلك.

    الآية 91: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلةُ الشديدة، وقد قال تعالى في سورة هود عن قوم مَدْيَن: ﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ﴾، وقال في سورة الشعراء عن أصحاب الأيْكة: ﴿ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ﴾، ولِلجَمع بين أنواع العذاب السابقة، أنهم لمّا اجتمعوا تحت الظُلَّة (وهي سحابة أظَلَّتهم من شدّة الحر الذي أصابهم في هذا اليوم)، فلمّا استقروا تحتها زُلزلوا مِن تحتهم (وهي الرَجْفة)، ونزلتْ عليهم مِن الظُلَة صاعقة (وهي الصَيْحة) فأحرقتْهم، هذا إن قلنا بأنّ مَدْيَن وأصحاب الأيْكة هما أمَّة واحدة، وإن لم يكونوا أمَّة واحدة، فإن أصحاب الأيْكة قد أصابهم عذاب الظُلَّة، وأصحاب مَدْيَن قد أُصِيبوا بالرَجْفة مِن تحتهم، وبالصيحة مِن فوقهم ﴿ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾: أي فأصبحوا في بلدهم صَرْعَى ميتين،قد التصقتْ رُكَبهم بالأرض.

    الآية 92: ﴿ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا يعني كأنهم لم يُقيموا في ديارهم ولم يتمتعوا فيها زمناً طويلاً، حيثاستؤصِلوا فلم يَبق لهم أثر، ﴿ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ في الدنيا والآخرة.

    الآية 93: ﴿ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ ﴾: أي فانصرف شعيب عن قومه - حين حَلَّ بهم الهلاك - ثم نظر إليهم وهم هَلكَى، ﴿ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي ﴾ أي أبلغتكم ما أمرني ربي بإبلاغه مِن أمْره ونهْيه، ﴿ وَنَصَحْتُ لَكُمْ ﴾ بالدخول في دين الله والإقلاع عَّمّا أنتم عليه، فلمتسمعوا ولم تطيعوا، ﴿ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾: يعني فكيف أحزن على قومٍ جحدوا وحدانية الله وكَذَّبوا رسله؟

    الآية 94، والآية 95: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ يَدعوهم إلى عبادة اللهِ، وينهاهم عمَّا هُم فيه مِنالشِرك، فكذَّبه قومه ﴿ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ ﴾: يعني إلا أصَبْناهم بالفقر، ﴿ وَالضَّرَّاءِ ﴾: أي وأصَبْناهم بالأمراض وأنواع البَلايا، وذلك ﴿ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ﴾: يعني وذلك حتى يتذللوا لنا بالدعاء ويرجعوا إلى الحق، لنصرف عنهم ذلك الابتلاء، فلم يفعلوا.

    ﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ الحالةِ ﴿ السَّيِّئَةِ ﴾ التي أصابتهم: الحالةَ ﴿ الْحَسَنَةَ ﴾ فجعلنا بدل الفقر: الغنى، وبدل الخوف: الأمن، وبدل المرض: الصحة، ﴿ حَتَّى عَفَوْا ﴾: يعني حتى أصبحوا في عافيةٍ فيأبدانهم، وسَعَةٍ في أموالهم، وذلك إمهالاً لهم لعلهم يشكرون، فلم ينفع كل ذلكمعهم، ولم ينتهوا عمَّا هم فيه، ﴿ وَقَالُوا ﴾ هذه هي عادة الزمنفي أهله: يومٌ خير ويومٌ شر، فـ ﴿ قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ﴾ مِن قبل، ﴿ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾: أي فأخذناهم بالعذاب فجأةوهم آمِنون، لا يَخطر لهم الهلاك على بال.

    الآية 97، والآية 98، والآية 99: ﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ﴾: يعني أيَظُنّ أهل القرى أنهم في مَأمَن مِن أن يأتيهمعذابُ اللهِ ﴿ بَيَاتًا ﴾ أي ليلاً ﴿ وَهُمْ نَائِمُونَ ﴾؟ ﴿ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى أي وقت الضحى، ﴿ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾: أي وهم غافلون متشاغلون بأموردُنياهم؟ (وقد خَصَّ اللهُ هذين الوقتين بالذِكر، لأن الإنسان يكونُ فيهما أغْفَل ما يكونُ، فمَجيء العذاب فيهما أفظع وأشد).

    ﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ أي استدراجه تعالى لهم بإنزال النعم عليهم بكثرة، حتى إذا أمِنُوا مَكْرَهُ تعالى بهم، واستمروا في عِصيانهم، أخَذهم فجأة فخسروا الدنيا والآخرة، إذ إنه: ﴿ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾.

    وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن العبد لا ينبغي له أن يكون آمِناً على ما معه من الإيمان والعمل الصالح، بل لا يزالُ خائفاً أن يُبتلَى بفتنةٍ تهلكه في الدنيا والآخرة، وألاَّ يزال داعياً بقوله: (يا مُقلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك)، حتى يكون من الآمنين يوم القيامة، فقد قال تعالى حكايةً عن أصحاب الجنة: (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا ﴿ مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: (يقول اللهُ عز وجل: وَعِزَّتي لا أجمعُ على عبدي خوفَيْن ولا أجمعُ له أمْنَيْن، إذا أمِنَني في الدنيا: أخَفتُهُ يومَ القيامة، وإذا خافني في الدنيا: أمَّنْتُهُ يومَ القيامة)(انظر السلسلة الصحيحة ج: 6/ 355).

    الآية 100: ﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا ﴾: يعني أوَلم يَتبَيَّن ويَتضح للذين سكنوا الأرض من بعد إهلاك أهلها السابقين -فساروا على نَهْجِِهم في الفسوق والعِصيان -، أولم يعلموا ﴿ أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ أي لَعَذبناهم بسبب ذنوبهم كما فعلنا بأسلافهم؟، ﴿ وَنَطْبَعُ ﴾: يعني وأننا لو نشاءُ لَختمنا ﴿ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ فلا يدخلها الحق، وذلك لأنّ اللّه تعالى قد نَبَّهَهُم فلم يَنتبهوا، وذكَّرهم بالآيات والعِبَر فلم يهتدوا، فلذلك يعاقبهم بالطَبْعِ على قلوبهم، فلا يصل إليها خير ﴿ فَهُمْ حينئذٍ ﴿ لَا يَسْمَعُونَ ﴾ ما ينفعهم، وإنما يسمعون ما يكونُ سبباً في إقامة الحُجَّة عليهم.


    الآية 101: ﴿ تِلْكَ الْقُرَى التي تَقَدَّم ذِكْرُها، وهي قرى قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب،﴿ نَقُصُّ عَلَيْكَ أيها الرسول ﴿ مِنْ أَنْبَائِهَا ﴾ ما يَحصُلُ به عِبرة للمعتبرين، وامتناعٌ للظالمين عن ظلمهم، ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ أي بالحُجَج الواضحة على صِدقهم، ﴿ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ﴾: يعني فما كان اللهُ ليهديهم للإيمان بسبب تكذيبهم بهذه الآيات الواضحة عندما جاءتهم أول مرة (جزاءً لهم على رَدِّهم الحق)، كما قال تعالى: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، ﴿ كَذَلِكَ ﴾: يعني وكما ختم اللهُ على قلوب هؤلاء الكافرينالمذكورين: ﴿ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم.

    الآية 102: ﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ﴾: يعني وما وَجَدْنا لأكثر الأمم الماضية مِن أمانةٍ ولا وفاء بالعهد الذي أخذه عليهم أنبيائهم بأن يعبدوا اللهَ وحده ويطيعوه، ﴿ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴾: يعني وما وجدنا أكثرهمإلا خارجين عن طاعة الله وامتثال أوامره.

    الآية 103: ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى ﴾: يعني ثم أرسلنا موسى من بعد هؤلاء الرسل، ﴿ بِآَيَاتِنَا ﴾: أي بمعجزاتنا الواضحة ﴿ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا ﴾ أي فجحدوا بها ظُلمًا وعِنادًا، ﴿ فَانْظُرْ ﴾ أيها الرسول ﴿ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾: أي كيف فعلنا بهم وأغرقناهم عن آخرهم، وتلك نهايةالمفسدين.

    الآية 104، والآية 105: ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أي مِن خالق الخلق أجمعين،ومُدبِّر أحوالهم، وإني ﴿ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ ﴾: أي جديرٌ بي ألاَّ أقول ﴿ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ و ﴿ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾: أي قد جئتكم ببرهانوحُجَّة قاطعة مِن ربكم تدل على أني رسول الله إليكم ﴿ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾: يعني فأطلِق سَراح بنيإسرائيل مِن أَسْرك، لأذهب بهم إلى أرض الشام - التي هي دار آبائهم - ليعبدوا اللهَ فيها.

    الآية 107، والآية 108: ﴿ فَأَلْقَى موسى ﴿ عَصَاهُ ﴾ ﴿ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ: أي فتحولت حيَّة عظيمة ظاهرة أمام الناس، ﴿ وَنَزَعَ يَدَهُ ﴾: أي وجذب يده من جيبه ﴿ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ﴾: يعني فإذا هي بيضاء كاللبن مِن غير بَرَص،فإذا ردَّها إلى جيبه عادت إلى لونها الأول (أي سمراء كَسائر بدنه).

    الآية 109، والآية 110: ﴿ قَالَ الْمَلَأُ وهم الأشراف والسادة ﴿ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ ﴾: ﴿ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾: يعني إنّ هذا لَساحرٌ (يَخدع أعْيُن الناس حتىيُخَيَّلُ إليهم أن العصا ثعبان)، وهو واسعُ العلم بالسِحرِماهرٌ به، و﴿ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ﴾ جميعًا، فقال لهم فرعون: ﴿ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾: يعني فَبِماذا تُشيرون عليَّ أيها الملأفي أمر موسى؟ (وقد قال فرعون لفظ: (تأمروني) للملأ - مع أنه زعيمهم ورئيسهم - بسبب انهزامه معنوياً بعدما رأى وضوح آية موسى).

    الآية 111، والآية 112: ﴿ قَالُوا ﴾: أي قال مَن حَضَرَ مناظرة موسى مِن سادة قوم فرعون: ﴿ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ ﴾: يعني أوقِفه عندك هو وأخاه،ولا تَعْجَل عليهما قبل اتخاذ ما يَلزم من الاحتياطات، ﴿ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ: أي وابعث في مدائن مصر وأقاليمها جنوداً لـ ﴿ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾: أي ليجمعوا لك كل ساحر واسع العلم بالسحر، لِيُناظروا موسى.

    الآية 115، والآية 116: ﴿ قَالُوا ﴾: أي قال سحرة فرعون لموسى - على سبيل التكَبُّر وعدم المُبالاة -: ﴿ يَا مُوسَى ﴾ اختر ما شئت: ﴿ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ﴾ عصاك أولاً ﴿ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ﴾ أولاً، فـ ﴿ قَالَ ﴾ لهم موسى: ﴿ أَلْقُوا ﴾ أنتم، ﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا ﴾ الحبال والعِصِيَّ: ﴿ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ﴾ فخُيِّل إلى الأبصار أنَّ ما فعلوه حقيقة، ولم يكن إلا مجرد خيال،﴿ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ﴾: يعني وخوَّفوا الناسَ تخويفاً شديدًا، ﴿ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾: أي وجاءُوا بسحرٍ قوي كثير.


    الربع السادس من سورة الأعراف

    الآية 117:﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى في ذلك الموقف العظيم - الذيفرَّقَ اللهُ فيه بين الحق والباطل - ﴿ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ﴾ فألقاها ﴿ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴾: يعني فإذا هي تبتلع الحبال والعِصِيّ التي ألقاها السَحَرة مِن أجل أن يُوهِموا الناس أنها حق وهي باطل.

    الآية 118، والآية 119: ﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ ﴾: أي فظهر الحق واتضح لمن حضر هذه المُناظَرة، وعُلِمَ حينها أنَّ موسى رسولٌ من اللهيدعو إلى الحق، ﴿ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾: يعني وبَطُلَ الكذب الذي كان يعمله السَحَرة، ﴿ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ ﴾: أي فغُلِبَ فرعون وقومه في أرض المُناظَرة، ﴿ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ﴾: يعني ورجعوا إلى ديارهم أذِلاَّء مغلوبين.

    الآية 120، والآية 121، والآية 122: ﴿ وَأُلْقِيَ ﴾: يعني وَخَرَّ ﴿ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ﴾ للهِ جَلَّ وعَلا، لِمَا رأوْهُ مِن عظيمِقدرته سبحانه، و﴿ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ﴿ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴾ - (واعلم أنهم قالوا هذه الجُملة حالَ سجودهم، إعلاماً منهم أنهم ما سجدوا لفرعون كما كانَ يفعل المصريون وَقْتَها، وإنّما سجدوا للهِ رب العالمين الذي لا يستحق العبادة غيره).

    الآية 123، والآية 124: ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ للسحرة: ﴿ آَمَنْتُمْ بِهِ ﴾ أي صَدَّقتم موسى فيما دَعَا إليه ﴿ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ ﴾ بالإيمان به؟ ﴿ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ ﴾: يعني إنَّ هذا الذي قمتم بهِ مِن ادَّعاء الغَلَبة لموسى بعدما أظهرتم الحماس في بداية المُناظرة، ما هو إلا حِيلةٌ وتدبيرٌ خَفِيّ تَمَّ بينكم وبين موسى في المدينة - قبل الخروج إلى ساحة المُناظرة -، وذلك ﴿ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ﴾: أي لِتُخرجوا المصريين من مصر بإبطال مُلكِهم، وتسكنوها أنتم وبنو إسرائيل لتستولوا على خيراتها (وقد قال هذا تمويهًا على الناس، لِئَلاَّ يَتَّبعوا السَحَرة في الإيمان بموسى).

    ويُحتَمَل أن يكون المراد بإخراج أهلها: هو إخراج بعض الناس المقيمين فيها - وهم بنو إسرائيل - لأنّ موسى كانَ يُطالِب فرعونَ أن يُطلِق سراحهم ليَخرجوا معه إلى بيت المقدس، وبالتالي سوف يخرج معهم مَن آمن بموسى مِن أهل مصر، ليعبدوا اللهَ معه، والله أعلم.

    ثم توَعَّدَ فرعونُ السَحَرة قائلاً: ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ أيها السَحَرة ماسَيَحِلُّ بكم من العذاب والهَوان، ﴿ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ﴾: أي بِقَطْع اليد اليُمنَى والرجلاليُسرى، أو اليد اليُسرى والرجل اليُمنى، ﴿ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ على جذوع النخلتعذيباً لكم وتخويفاً للناس.

    الآية 125، والآية 126: ﴿ قَالُوا ﴾: أي قال السَحَرة لفرعون: ﴿ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ﴾: أي قد تيَقَّنَّا بأننا إلى اللهِ راجعون، وأنّ عذابه أشدّ منعذابك، فلنصبرنَّ اليوم على عذابك لِننجو من عذاب اللهِ يوم القيامة، ﴿ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا ﴾: يعني ولستَ تكرهنا وتُنكِرعلينا إلا بسبب إيماننا ﴿ بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا ﴾ على يد موسى، والتي لا تقدر أنت على مِثلها ولا أحدٌ آخر سِوَى الله رب العالمين، ثم قالوا - مُتضرعين إلى ربهم لِيُصَبِّرهم - حتى يتحملوا عذاب فرعون: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ﴾: أي أنزِل على قلوبنا صبرًا وثباتاً عظيمًا، حتى نتحمل ما توَعَّدَنا به فرعون من العذاب، ولا نَرتدّ بعد إيماننا، ﴿ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾: يعني وتوفَّنامُنقادينَ لأمرك، مُتَّبعينَ لرسولك موسى.

    الآية 127: ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ لفرعون: ﴿ أَتَذَرُ ﴾: يعني أتترك ﴿ مُوسَى وَقَوْمَهُ ﴾ من بنيإسرائيل ﴿ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ ﴾: أي لِيُفسدوا الناسَ في أرض "مصر" بتغيير دينهم بعبادة الله وحده، وترْك عبادتك وعبادة آلهتك؟، (وقد قيل إنّ آلهة فرعون هي أصنام صِغار وضعها لِيَعبدها الناس، لِتقرّبهم إليه، وقال لهم: (أنا ربكم ورب هذه الآلهة)).
    ﴿ قَالَ فرعون: ﴿ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ ﴾ الذكور ﴿ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ﴾: يعني ونستبقي نساءهم وبناتهم أحياء للخدمة والإهانة، ﴿ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾: يعني وإنَّا عالونَ عليهم بقهر المُلْك والسلطان.

    الآية 128، والآية 129: ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِعلى فرعون وقومه، ﴿ وَاصْبِرُوا ﴾ على ما أصابكم من المَكَاره في أنفسكم وأبنائكم، فـ ﴿ إِنَّ الْأَرْضَ ﴾ كلها ﴿ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾: يعني والعاقبة المحمودة لِمَن اتقى اللهَ تعالى، ففعل أوامرهواجتنب نواهيه، ﴿ قَالُوا ﴾: أي قال بنو إسرائيل لموسى: ﴿ أُوذِينَا ﴾: أي ابتُلِينا بالإيذاء - في أنفسنا وأبنائناونسائنا - على يد فرعون وقومه، وذلك ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ﴾، فـ ﴿ قَالَ ﴾ لهم موسى: ﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ﴾ ﴿ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ بعدهلاكهم، ﴿ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ هل تشكرون أو تكفرون؟

    الآية 130، والآية 131: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ ﴾: أي ولقد ابتَلَينا فرعون وقومه بالقحط والجفاف ﴿ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾ وذلك ﴿ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ أي رجاء أن يتذكروا،فيَكُفّوا عن ضَلالاتهم، ويَرجعوا إلى ربهم بالتوبة والتضرُّع، فلم يفعلوا، ﴿ فَإِذَا حَوَّلَ اللهُ تعالى حالهم، و﴿ جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ ﴾: يعني وجاءهم الرزق الكثير والعافية من الأمراض: ﴿ قَالُوا لَنَا هَذِهِ ﴾ أي نحن مُستحقون لهذه النعم، فلا يشكرونَ اللّهَ عليها، ﴿ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ﴾: يعني وإنيُصِبْهم قحطٌ ومرض: يتشاءموا، ويقولوا: هذا بسبب موسى ومَن معه، ﴿ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ﴾: يعني ألاَ إنَّ مايُصيبهم من القحط والجفاف إنما هو بقضاء الله وقدره، وبسبب ذنوبهم وكُفرهم، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ ذلك، لانغماسهم في الجهل والضلال.

    الآية 133: ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وهو سَيْلٌ جارف أغرق الزروع والثمار، ﴿ وَالْجَرَادَ ﴾: أي وأرسلنا عليهم الجَراد فأكَلَ زروعهموأبوابهم وسقوفهم وثيابهم، ﴿ وَالْقُمَّلَ ﴾ - وقد قيل: إنّ القمل هو صِغار الجَراد، والظاهر أنه القمل المعروف الذي يُصِيبُ شَعر الرأس -،﴿ وَالضَّفَادِعَ ﴾ فملأتْ آنِيتهم وأطْعِمَتهم ومَضاجعهم،﴿ وَالدَّمَ ﴾: أي وأرسلنا عليهم الدم فصارت أنهارهم وآبارهم دمًا، ولم يجدوا ماءً صالحًا للشرب، فكانوا لا يشربون إلا دَماً، ولا يطبخون إلا بِدَم.

    وقد كانت هذه الآيات الخمس ﴿ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ ﴾: يعني آيات واضحات - لا يقدر عليها إلا الله -، تدل على أنهم كانوا كاذبينَ ظالمين، وعلى أنّ ما جاء به موسى هو الحق، ﴿ فَاسْتَكْبَرُوا ﴾ عن الإيمان والطاعة، ﴿ وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴾ مُفسدين لا خيرَ فيهم ولا عهدَ لهم.

    الآية 134: ﴿ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ ﴾: يعني: ولمَّا نزل العذابُ على فرعون وقومه - ويُحتمَل أن يكون هذا العذاب هو الطاعون، ويُحتمَل أن يُراد به ما تقدم من الآيات: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، فإنها عذاب -، فكانوا كلما أصابتهم آية من هذه الآيات: ذهبوا إلى موسى، فـ ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ﴾ أي بما عَلَّمَك من وسائل إجابة الدعاء، وادْعُهُ بما أوحى به إليك مِن رَفْع العذاب بالتوبة، وقالوا له: ﴿ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ﴾: يعني لئن رفعتَ عنا العذاب الذي نحنفيه، لَنُصدِّقنَّ بما جئتَ به، ﴿ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾: أي ولَنُطلقنَّ معك بني إسرائيل،فلا نمنعهم مِن أن يذهبوا حيث شاؤوا، (وهم في ذلك كَذَبَة، لا قصدَ لهم إلا زوال ما حَلَّ بهم من العذاب، وظنوا أن العذاب إذا رُفِعَ عنهم، فلن يُصيبهم غيره).

    الآية 135، والآية 136: ﴿ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ ﴾: أي فلما رَفعنا عنهم العذاب الذى نزل بهم، وظلَّ مرفوعاً عنهم ﴿ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ ﴾: أي إلى وقتٍ مُحدد سيَبلغونه لِيَهلكوا فيه بسبب إصرارهم على نقض عهودهم - ولن يُمهَلوا مرة أخرى إذا جاء ذلك الأجل، ولن ينفعهم إمهالهم السابق -، وبالفعل، فعندما طالبهم موسى بالوفاء بما عاهدوه عليه - مِن الإيمان به وإطلاق سراح بني إسرائيل -: ﴿ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ﴾: أي إذا هم يَنقضون عهودهم، ويُقيمون على كُفرهموضلالهم ﴿ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾ حين جاء الأجل المحدد لإهلاكهم، ﴿ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا ﴾: أي فأغرقناهم في البحر بسبب تكذيبهم بالمعجزات التي ظهرتْ على يد موسى، ﴿ وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾: أي وكانوا عنهذه المعجزات غافلين، وتلك الغفلة هي سبب التكذيب.

    واعلم أن هذه الآيات السابقة تُظهِر ضعف الإنسان عند نزول البلاء به، حيثُ يَفزَع إلى اللهِ تعالى فيَدعوه ويتضرع إليه، وعِندَ رَفْع البلاء يَنسى ما نَزَلَ به، ويعودُ إلى ما كان عليه من المعاصي، إلا مَن آمن وعمل صالحاً، فإنه يَصبر عند البلاء، ويَشكر عند النَعماء.

    الآية 137: ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ ﴾: أي وأورثنا بني إسرائيل الذين كانوا يُستَذَلُّون للخدمة: ﴿ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ﴾ - (وقد اختلف العلماء في معنى مشارق الأرض ومغاربها، فبعضهم قال إنها أرض الشام، إذ لها مشارق ومغارب، وبعضهم قالَ إنها أرض مصر، لأنها هي التي كانت تحت تصرف فرعون في ذلك الوقت، وبعضهم قال: (هي مصر والشام معاً)، واللهُ أعلم).

    وهذه الأرض التي أورثناها لهم هي ﴿ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ بإخراج الزروع والثمار والأنهار، ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾: أي وصَدَقَ وَعْدُ اللهِ لبني إسرائيل بإهلاك عدوهم والتمكين في الأرض، وهذا الوعد هو المذكور في قوله تعالى: ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾، وهو نفس الوعد الذي أخبرهم به موسى حين قال لهم: ﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾، (وقد سَمَّى اللهُ هذا الوعد بـ ﴿ الحُسنى ﴾ لأنه وَعْدٌ بما يُحبون).

    وقد كان هذا التمكين لبني إسرائيل ﴿ بِمَا صَبَرُوا ﴾: أي بسببصبرهم على أذى فرعون وقومه، ﴿ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ﴾ من السلاح والحدائق والمزارع، وغير ذلك، ﴿ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ﴾: أي وكذلك دَمّرنا ما كانوا يبنون من الأبنية والقصور العالية، وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم قوماً آخرينَ غيرهم.

    الآية 138: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ أي وقطعنا بهم البحر فاجتازوه إلى شاطئه سالِمين، ﴿ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ ﴾: أي فمَرُّوا على قومٍ يُقِيمون ﴿ عَلَى ﴾ عبادة ﴿ أَصْنَامٍ لَهُمْ ﴾، فـ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ ﴾: أي اجعل لنا صنمًا نعبده كمالهؤلاء القوم أصنام يعبدونها، ﴿ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ عَظمةَاللهِ تعالى، ولا تعلمون أن العبادة لا تكونُ إلا للهِ الواحد القهار، وأما غيره من الآلهة الباطلة، فإنهم لا يَملكون لأنفسهم - ولا لِمَن يَعبدهم - نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً (والنشور هو البعث بعد الموت).

    الآية 139: ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ المُقيمين على هذه الأصنام ﴿ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ ﴾: أي هالِكٌ ما هم فيه من الشِرك وخاسر، ﴿ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ من عبادتهم لتلك الأصنام، التي لا تدفع عنهم عذابَ اللهِإذا نزل بهم.

    الآية 140:﴿ قَالَ موسى لقومه: ﴿ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا ﴾: يعني أغيرَ اللهِ أطلبُ لكم معبودًا تعبدونه، وهو سبحانه الذيخلقكم، ﴿ وَهُوَ ﴾ الذي ﴿ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾: أي فضَّلكُم على عالَمِي زمانكم بكثرة الأنبياء فيكم، وبإهلاك عدوكم، وبماخَصَّكم به من المعجزات؟!

    الآية 141: ﴿ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ ﴾: يعني واذكروا - يا بني إسرائيل - نِعَمنا عليكم حينَ أنقذناكم ﴿ مِنْ ﴾ بطش وأسْر وذل ﴿ آَلِ فِرْعَوْنَ ﴾ لكم، إذ كانوا ﴿ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ﴾: أي يُذيقونكم أشد العذاب، فـ ﴿ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ ﴾ ﴿ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ﴾: أي ويتركون بناتكم أحياءً للخِدمة والإهانة، ﴿ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾: يعني: وفي ذلك اختبارٌ لكم من ربكم، وفي إنجائكم منه نعمة عظيمة، تستوجبُ شُكرَ اللهِ تعالى في كل عصوركم وأجيالكم.








    رامي حنفي محمود
    شبكة الالوكة

    تعليق


    • #3

      تفسير الربع السابع من سورة الأعراف بأسلوب بسيط

      الآية 142: ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ﴾ لِمُناجاتنا بجبل الطور ولإنزال التوراة عليه، ﴿ وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ﴾: يعني ثم زِدناهُ بعد ذلك عشرَ ليالٍ فوق هذه الثلاثين، ﴿ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾: أي فبذلك اكتمل الوقت الذي حَدَّدَهُ اللهُ لموسى لِتكليمِه أربعين ليلة، ﴿ وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ ﴾ - حينَ أراد الذهاب لِمُناجاة ربه-: ﴿ اخْلُفْنِي ﴾: يعني كُن خليفتي ﴿ فِي قَوْمِي ﴾ حتىأرجع، ﴿ وَأَصْلِحْ ﴾: يعني وأْمُرْهم بعبادة الله تعالى، وبالأعمال الصالحة، ﴿ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾:أي ولا تَسلك طريق الذين يُفسدون فيالأرض بالشرك والمعاصي.

      الآية 143: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا ﴾ أي في الموعد الذي واعدناهُ فيه والوقت الذي حدَّدناهُ له، ﴿ وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾ بلا واسطة بينهما، طَمَعَ في رؤية اللهِ تعالى شوقاً إليه وحُبَّاً، فـ ﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِي ﴾ أي اجعلني ﴿ أَنْظُرْ إِلَيْكَ ﴾، فـ ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ له: ﴿ لَنْ تَرَانِي ﴾: أي لن تقدر على رؤيتي في الدنيا، لأنّ خِلقتك لن تَحتَمِل ذلك، ﴿ وَلَكِنِ ﴾ إذا أردتَ أن تتيَقن مِن أنك لن تقدر على ذلك في الدنيا: فـ ﴿ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ﴾ ﴿ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ ﴾ بعد أن أتجلَّى وأظهر له ﴿ فَسَوْفَ تَرَانِي ﴾ ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ﴾ لم يتحمل الجبل رؤية ذاتِ اللهِ تعالى، فـ﴿ جَعَلَهُ ﴾ اللهُ ﴿ دَكًّا ﴾ أي مستويًا بالأرض، (فاندِكاكُ الجبل - رغم قوة بِنْيَتِهِ وعظيمِ جسمِه - كانَ لِعجزِهِ عن رؤية ربه تبارك وتعالى، فكيف بموسى عليه السلام لو رآه؟!)، ﴿ وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ﴾: أي وسقط موسى مَغشيًّا عليه عند رؤية الجبل، ﴿ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ ﴾ لربهِ تبارك وتعالى: ﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ أي تنزيهاً لك يارب وتقديساً فأنتَ عظيم، وإني ﴿ تُبْتُ إِلَيْكَ ﴾ فلن أسألك مِثل هذا السؤال بعد اليوم، ﴿ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ بكَ مِن قومي.

      الآية 144: ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ تعالى: ﴿ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ ﴾:أي اخترتك وفضّلتك ﴿ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي ﴾ أي بتبليغ رسالاتي التي لا أخُصُّ بها إلا أفضل الخَلق، ﴿ وَبِكَلَامِي ﴾: أي وفضّلتك عَلَى النَّاسِ بكلامي لك مِن غير واسطة، ﴿ فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ ﴾: أي فخُذ ما أعطيتك مِن النعم، وخذ ما أعطيتك مِن الأمر والنهي بانشراحِ صدر، وتَلَقَّهُ بالقبول والانقياد واعمل به، ﴿ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ للهِ تعالى على نِعَمِه، وعلى ما خَصَّكَ به وفضّلك.

      واعلم أنّ قوله تعالى: ﴿ فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾، فيهِ دعوةٌ إلى القناعة، فهي خير ما يُؤتَى المرءُ في حياته)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أفلحَ مَن أسلم، ورُزِقَ كفافاً- (أي أُعْطِيَ الرزق الذي يَكفيه عن سؤال الناس) -، وقنَّعَهُ اللهُ بما آتاه) (انظر حديث رقم: 4368 في صحيح الجامع).

      الآية 145 الآية 146: ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾: أي وكَتبنا لموسى في ألواح التوراة مِن كل ما يحتاج إليه في دينه مِن أحكام، فكَتبنا فيها ﴿ مَوْعِظَةً ﴾ تُرَغِّب النفوس في فِعل الخير، وتخوِّفهم مِن فِعل الشر، ﴿ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ مِن تكاليف الحلال والحرام، والأمر والنهي، والقصصوالعقائد، وقال اللهُ تعالى له: ﴿ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ﴾: أي خذ يا موسى التوراة بِجدّواجتهاد، واعمل بما فيها، ﴿ وَأْمُرْ قَوْمَكَ ﴾ أيضاً بأن ﴿ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ﴾: أي بأن يعملوا بما شَرَِع اللهُ فيها من الأوامر الواجبة والمُستحَبة، وألاَّ يتساهلوا بأخْذ الرُخَص التي فيها، وإنما يأخذوا بالعَزائم التي فيها، وذلك تربيةً لهم وتعويداً على تحمل العَظائم، لِمَا لازَمَهم من الضعف والكسل زمناً طويلاً، (ونَضربُ مثالاً حتى نفهم معنى الرخصة والعزيمة:أنّ صيام رمضان عزيمة مُؤكَّدة في الشرع، وأمَّا الإفطار فيه فهو رُخصة للمسافر والمريض).

      ﴿ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴾ - اختلف المفسرون في تفسير هذه الجملة، فقال بعضهم: (إنّ هذه الجملة تتضمن النَهي لبني إسرائيل عن ترْك ما جاء في التوراة من الشرائع والأحكام، لأنهم إذا تركوا ذلك، كانوا من الفاسقين، وللفاسقين نار جهنم، وسَيُريهم اللهُ إيّاها يوم يَلقونه)، وعلى هذا يكون المعنى: (سأُرِيكُم في الآخرة دار الفاسقين، وهي ناري التي أعدَدتُها للخارجين عن طاعتي).

      وقال بعضهم إنّ المعنى: (سأُرِيكُم دار الفاسقين بعدما أهلكتُهُم، وأبقيتُ ديارَهم عِبرةً يَعتبر بها المؤمنون المتواضعون)، وأما غير المتواضعين فقال عنهم: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ ﴾: يعني سأصرف عن فَهْم الحُجج الدالَّة على توحيدي: قلوبَ ﴿ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾: أي المتكبرين عن طاعتي والانقياد لشريعتي، والمتكبرين على الناس بغير الحق، فلا يَتَّبعون نبيًا ولايَنصتون إليه لِتكَبُّرهم، ﴿ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا ﴾، ﴿ وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ ﴾: يعني وإن يَرَ هؤلاء المتكبرون طريق الحق القائم على الإيمان والتقوى: ﴿ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ﴾،﴿ وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ ﴾ - وهو طريق الضلال القائم على الشرك والمعاصي - ﴿ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ﴾: يعني يتخذوه طريقًا ودينًا، ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا ﴾: أي وذلك الانحراف عن الحق، كان بسبب تكذيبهم ﴿ بِآَيَاتِنَا ﴾ الواضحة، ﴿ وَكَانُوا ﴾: أي وبسبب أنهم كانوا ﴿ عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ لا يلتفتونَ إليها، ولا يتفكَّرون فيما تدل عليه وتهدي إليه، فصرفهم الله عن فَهْمها.

      الآية 147: ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ بسببفَقْدِها لِشرط القَبول, وهو الإيمان بالله والتصديق بجزائه, ﴿ هَلْ يُجْزَوْنَ ﴾ في الآخرة ﴿ إِلَّا ﴾ جزاءَ ﴿ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ من الكفر والمعاصي, وهو الخلود في النار؟ (والجواب: نعم، وهذا ما يُسمَّى بالاستفهام التقريري).

      الآية 148: ﴿ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ ﴾ - أي مِن بعد ما فارقهم لِيُناجي ربه -، فصنعوا ﴿ مِنْ حُلِيِّهِمْ ﴾: أي مِن ذهبِ نسائهم ﴿ عِجْلًا جَسَدًا ﴾ بلا روح، ولكنْ ﴿ لَهُ خُوَارٌ ﴾: أي له صوت مثل صوت البقر، فاتخذوه معبودًا مِن دون الله تعالى.

      ثم قال تعالى - مُبَيِّنًا أنه ليس فيه من الصفاتِ ما يجعله إلهاً -: ﴿ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ ﴾ فإنّ عدم الكلام نقصٌ عظيم، إذ هُم أكْملُ حالاً من هذا الجماد الذي لا يتكلم، ﴿ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ﴾: يعني ولا يُرشدهم إلى خير؟ فالرَبّ المعبود بحق لابد أن يكون متكلّماً، حتى يُشرِّع لعباده ما فيه مصالحهم الدينية والدنيوية، فيَهديهم بذلك سُبُلَ كمالِهم وسعادتهم، ومع ذلك فقد ﴿ اتَّخَذُوهُ ﴾ إلهاً ﴿ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ﴾لأنهم وضعوا العبادة لمن لا يستحقها.

      الآية 149: ﴿ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ﴾ والمعنى: ولمَّا نَدِموا على عبادة العِجل - (لأنه يُقال للنادم: (سَقَطَ الندم في يده)، وهذا تشبيه بمَن عَضَّ يده من الندم، فظهرتْ آثار العضّ في يده) -، فلمَّا ندموا هذا الندم الشديد، ﴿ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا ﴾ عن طريق الرشاد، استغفَروا ربهم، وأقرُّوا بعبوديته وحده، وتضرَّعوا إليه سبحانه فـ ﴿ قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا ﴾ بقَبول توبتنا، وعِصمتنا من الوقوع في الذنوب، ﴿ وَيَغْفِرْ لَنَا ﴾ هذا الذنب العظيم،﴿ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ الذين ذهبتْ أعمالهم هباءً (لأنهم يعلمون أنَّ اللهَ تعالى - إن لم يَقبل توبتهم - فسَوف يُحبط أعمالهم بسبب شِركهم).

      الآية 150: ﴿ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ ﴾ أي ممتلئاً غضباً وغيظاً عليهم، ﴿ أَسِفًا ﴾ أي حزينًا لأن الله أخبره أنقومه قد فُتِنوا، وأن السامِرِيَّ قد أضلَّهم، (وهذا الغضب والحُزن كانَ لِتمام غيرتِهِ عليه الصلاة السلام أن يَعبد قومُهُ غيرَ ربه)، فـ ﴿ قَالَ ﴾ لهم: ﴿ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ﴾: أي بئسَ الحالة التي خلفتموني بها، مِن بعد ذهابي عنكم، فإنها حالة تؤدي بكم إلى الهلاك والشقاء الأبدي، ﴿ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ﴾: يعني أستعجلتم أمْرَ ربكم، حيثُ وَعَدكم بإنزال الكتاب، فلم تتِمّوا ميعاده الذي حَدَّدَهُ لكم، وقلتم: (ماتَ موسى)، وبدَّلتم دينه فعبدتم العجل؟!، ﴿ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ ﴾: أي وألقى ألواح التوراة غضباً على قومه الذين عبدوا العجل، ﴿ وَأَخَذَ ﴾: يعني وأمسَكَ ﴿ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ﴾ ظناً منه أنه خالَفَ أمْرَهُ حينَ قال له: ﴿ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾، فـ ﴿ قَالَ ﴾ هارون مستعطفًاً أخاه: يا ﴿ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ﴾: أي وقارَبوا أن يقتلوني حينَ قلتُ لهم: ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ﴾، ﴿ فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ ﴾: أي فلا تجعل الأعداء يَفرحون بما تفعل بي، ﴿ وَلَا تَجْعَلْنِي ﴾ في غضبك ﴿ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ الذين خالفوا أمْرَك وعبدواالعجل، ولا تعاملني معاملتهم لأنني لم أقصِّر في نَهْيِهِم عمَّا فعلوا.

      واعلم أنّ هارون عليه السلام قالَ لفظ: ﴿ ابْنَ أُمَّ ﴾ - مع أنه شقيق موسى لأمِّهِ وأبيه -، ترقيقاً لقلب أخيه، لأنّ ذِكر الأم وحدها يكونُ أكثر عطفاً وحناناً مِمَّا إذا ذُكِرَ الأب والأم معاً، أو الأب فقط.

      الآية 151: ﴿ قَالَ ﴾ موسى - لَمَّا تبيّنَ له عُذر أخيه، وعَلِمَ أنه لم يُفَرِّط فيما كان عليه من أمْرالله -: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي ﴾ ما صنعتُ بأخي قبل أن أتبيّن براءته، واغفر لي إلقاء ألواح التوراة على الأرض، ﴿ وَلِأَخِي ﴾: أي واغفر لأخي إن كانَ قد وقع منه تقصير في الإنكار على عَبَدَة العجل، ﴿ وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ ﴾ الواسعة، ﴿ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾: يعني فإنك أرحم بنا مِن آبائنا وأمّهاتنا، ومِن كل راحم.

      الآية 152، والآية 153: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ ﴾ إلهًا ﴿ سَيَنَالُهُمْ ﴾ أي سيُصيبهم ﴿ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ (وقد نالهم غضبُ اللّه في الدنيا، حيثُ أمرهم أن يقتلوا أنفسهم، وأخبَرَهم أنه لن يَرضى عنهم إلا بذلك، فقتل بعضهم بعضاً، وانتهت المعركة عن كثيرٍ من القتلَى)، ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾: يعني وبمِثل هذا الجزاء: ﴿ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ﴾ أي الكاذبين على اللهِ تعالى (بزَعْمِهم أنّ له شريك).

      ﴿ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ﴾: يعني وأما الذين وقعوا في الكفر والمعاصي ﴿ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا ﴾: يعني ثم رجعوا مِن بعد فِعلها إلى الإيمانوالعمل الصالح، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا ﴾ أي مِن بعد هذه التوبة النَصوح: ﴿ لَغَفُورٌ ﴾ لذنوبهم،﴿ رَحِيمٌ ﴾ بهم - وبكل التائبين - حيث مَكَّنَهم من التوبة، وجعلها نجاةً لهم من عذابه.

      الآية 154: ﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ ﴾: يعني ولمَّا هدأ موسى، وزالَ غضبه: ﴿ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ ﴾ بعد أن ألقاها على الأرض، ﴿ وَفِي نُسْخَتِهَا ﴾: يعني وفي ما كَتبه اللهُ فيها ونَسَخه بيده: ﴿ هُدًى ﴾ أي إرشادٌ للحق، ﴿ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾ أي وفيها رحمة للذين يخافون اللهَ ويَخشون عقابه، فلا يعصونه.

      الآية 155، والآية 156، والآية 157: ﴿ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ﴾ أي اختارَ مِن قومه ﴿ سَبْعِينَ رَجُلًا ﴾ مِن خِيارِهِم، وخرج بهم إلى طُور "سيناء"، ﴿ لِمِيقَاتِنَا ﴾: أي في الوقت الذي حدَّده اللهُ لهم (ليعتذروا له عمَّا فعَلَهُ عَبَدة العجل)، فلما أتوا طُور "سيناء"، قالوا لموسى: (لن نؤمن لك حتى نرى اللهَ بأعيننا، فإنك قد كلَّمتَهُ فاجعلنا نراه)، ﴿ فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ﴾: أي فلما أخذتْهم الصاعقة، التي ارتجفتْ لها قلوبهم والأرض مِن تحتهم - بسبب جُرأتهم على ربهم - ماتوا جميعاً، فقام موسى يتضرع إلى الله، فـ ﴿ قَالَ رَبِّ ﴾ ماذا أقولُ لبني إسرائيل إذا أتيتُهم، وقد أهْلكتَ خِيارهم؟ إنك سبحانك ﴿ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ ﴾ جميعًا ﴿ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ ﴾: أي مِن قبل مجيئهم إليك وأنا معهم، فإنَّ ذلك أخَفّ عليَّ، ﴿ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ﴾ أي بسبب فِعل ضعاف العقول (وهم مَن عبدوا العجل، وكذلك مَن طلبوا رؤيتك)؟ إنك سبحانك لا تفعلُ بنا ذلك.

      فبذلك اعتذر موسى لربه بأنّ المُتجرّئين على اللّه ليس لهم عقول كاملة تَرْدَعُهُم عمَّا قالوا وفعلوا، وبأنهم قد حصل لهم فتنةٌ في دينهم، فقال: ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ﴾: يعني ما هذه الفِعلة التي فعلها قومي إلا اختبارٌ وفتنة منك ﴿ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ ﴾ ﴿ أَنْتَ وَلِيُّنَا ﴾ أي مُتولي أمْرنا وناصِرُنا، فليسَ لنا سواك ﴿ فَاغْفِرْ لَنَا ﴾ ذنوبنا ﴿ وَارْحَمْنَا ﴾ برفع العذاب عنا ﴿ وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ﴾: يعني وأنت خيرُ مَن صَفَحَ عن جُرْمٍ، وسَتَرَ عن ذنب، (فأجابَ اللّهُ دعائه، فأحياهم مِن بعد موتهم، وغفر لهم ذنوبهم).

      ثم قال موسى في ختام دعائه: ﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً مِن عِلمٍ نافع، ورزقٍ واسع، وعملٍ صالح، ﴿ وَفِي الْآَخِرَةِ ﴾- يعني وفي الآخرةِ حسنة، وهي الجنة - ﴿ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ﴾: يعني إنا رجعناتائبين إليك، (وبهذا اللفظ: ﴿ هُدنا ﴾ سُمُّوا يَهوداً، أي التائبين مِن عبادة العجل)، ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ تعالى لموسى: إن الرَّجفة التي أنزلتُها بقومك هي﴿ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ﴾ مِن خلقي، وهم الذين يَخرجون عن طاعتي، كماأصبتُ هؤلاء الذين أصَبْتُهم من قومك، ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ أي وَسِعَتْ خَلقي كلَّهم، ولكنْ: ﴿ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ ﴿ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ﴾ لِمُستحقيها ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ وهم ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ﴾ أي الذي لا يقرأ ولا يكتب، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا ﴾: أي الذي يجدون صِفَتهمكتوبة ﴿ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ﴾ ﴿ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾: أي يأمرهم بالتوحيد والطاعات وكل ماعُرِفَ حُسْنُهُ بين الناس، ﴿ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾: أي وينهاهم عن الشرك والمعاصي وكل ما عُرِفَ قُبْحُهُ بين الناس، ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ ﴾ التي حُرِّمَتْ عليهم بسبب ظُلمهم، ﴿ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ﴾ كالخَمر ولحمالخنزير والرِبا وسائر المُحَرَّمات في الإسلام، ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾: أي ويُذهِبعنهم ما كُلِّفوه من الأمور الشاقة، كقَطْع مَوْضع النجاسة من الثوب، وإحراقالغنائم، والقصاص حتمًا من القاتل (سواء كان القتلُ عمدًا أم خطأً)، ﴿ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ ﴾: يعني فالذين صدَّقوابالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وأقرُّوا بنبوَّته، ﴿ وَعَزَّرُوهُ ﴾: أي ووَقَّروه وعظَّموه، ﴿ وَنَصَرُوهُ ﴾ على أعدائه المشركين والمنافقين ﴿ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ﴾: أي واتَّبعوا القرآن المُنَزَّل عليه، وعَمِلوا بسُنَّتِه ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ الفائزون بدخول الجنة والنجاة من النار.


      تفسير الربع الثامن من سورة الأعراف بأسلوب بسيط

      الآية 158: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ لا إلى بعضِكم دونَبعض، واعلموا أنّ اللهَ تعالى الذي أرسلني هو ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ وما فيهما، ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾: أي لا تكونُ العبادةُ إلا له سبحانه وتعالى، إذ هو وحده الذي ﴿ يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾.

      ثم قال تعالى - مُخاطِباً جميع الناس -: ﴿ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ﴾ رَبّاً وإلهاً، ﴿ وَكَلِمَاتِهِ ﴾: يعني ويؤمن بكلمات اللهِ التي أنزلها عليه، وبكلماته التي أنزلها على النبيين مِن قبلِه،﴿ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾: يعني واتَّبعوا هذا الرسول والتزِموا العمل بسُنَّتِه، لِتُوَفَّقوا إلى الطريق المستقيم، الذي هو طريق سعادتكم في الدنيا والآخرة (وفي هذا دليل على أنَّ الهُدَى في اتَّباع سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم).

      الآية 159، والآية 160: ﴿ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ ﴾: يعني: ومِن بني إسرائيل - على عهد موسى - جماعةٌ ﴿ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ﴾: أي يَستقيمون على الحق، ويَهدون الناسَ إليه،﴿ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ في الحُكم في قضاياهم، فيَحكمون بالحق والعدل على أنفسهم وعلى غيرهم.

      ﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ﴾: أي وفَرَّقنا بني إسرائيل اثنتي عشرة قبيلة بنفس عدد الأسباط (وهم أبناءيعقوب عليه السلام)، ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ ﴾ أي حين طلب منه قومهالسُقيا - عندما حلَّ بهم العطش الشديد - فأوحينا إليه ﴿ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ﴾ فضَرَبَهُ ﴿ فَانْبَجَسَتْ ﴾: أي فانفجرت ﴿ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ﴾ من الماء بعدد قبائل بني إسرائيل الاثني عشر، ﴿ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ﴾: أي قد عَلِمَتْ كُلُّ قبيلةٍ مَوضع شُربها ﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ ﴾ وهو السحاب، ﴿ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ ﴾ وهو شيءٌ يُشبِهُ الصَّمغ، طعمه كالعسل، ﴿ وَالسَّلْوَى ﴾ وهو طائرٌ يُشبِهُ السُّمَّانى.

      وقلنا لهم: ﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾، فكَرِهوا ذلك ومَلُّوا منه، وقالوا: (لن نصبر على طعامٍ واحد)، وطلبوا استبدال الأدنَى بالأفضل، ﴿ وَمَا ظَلَمُونَا ﴾ حينَ لم يَشكروا نِعَمَنا عليهم، ﴿ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ إذ فَوَّتوا عليها كل خير، وعرَّضوها لكل بلاءٍ وشَرّ.

      الآية 161، والآية 162: ﴿ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ﴾: يعني واذكر أيها الرسول عِصيان بني إسرائيل حينَ قلنا لهم ﴿ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ ﴾ وهي مدينة بيت المَقدس، ﴿ وَكُلُوا مِنْهَا ﴾ أي مِن ثمارها وحبوبها ﴿ حَيْثُ شِئْتُمْ ﴾ ﴿ وَقُولُوا حِطَّةٌ ﴾: أي نسألك يارب أن تَحُطَّ عنا ذنوبنا، ﴿ وَادْخُلُوا الْبَابَ ﴾ أي باب القرية ﴿ سُجَّدًا ﴾: يعني وكونوا في دخولكم خاضعينَ للهِ، ذليلينَ له،فإنْ تفعلوا ذلك: ﴿ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ ﴾ فلانؤاخذكم عليها، ﴿ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ مِن خَيْرَيِ الدنيا والآخرة، ﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾، واستهزءوا بديناللهِ تعالى ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا ﴾ أي عذابًا ﴿ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ﴾ أي بسبب ظُلمهم وعِصيانهم.

      الآية 163: ﴿ وَاسْأَلْهُمْ ﴾: أي واسأل أيها الرسول هؤلاء اليهود ﴿ عَنِ ﴾ خبر أهل ﴿ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ﴾ أي التي كانت قريبة من البحر - وكان أهلها من اليهود - ﴿ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ ﴾: أي حينَ كانوا يَعتدون في يوم السبت على حُرُمات اللهِ تعالى، فقد أمَرَهم سبحانهُ أن يُعظموا يوم السبت ولا يَصيدوا فيه الأسماك، ثم امتحنهم سبحانهُ وتعالى، فقال: ﴿ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ ﴾: يعني فكانت حِيتانُهُم تأتيهم يوم السبت: ﴿ شُرَّعًا ﴾: أي ظاهرة على وجه البحر، ﴿ وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ ﴾: يعني وإذا ذهب يوم السبت، تذهب الحِيتان في البحر، ولا يرون منها شيئًا، فكانوا يقومون بِحَبْسِها يوم السبت - في الشِباك والبِرَك التي حفروها -، ثم يصطادونها يوم الأحد كَحِيلةٍ للوصول إلىالمُحرَّم، ﴿ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾: أي وكذلك نَختبرهم ونَفتنهم، ونُشَدِّد عليهم فيما نُشَرِّعُ لهم (عقوبةً لهم) لِخروجهم عن طاعتنا.

      الآية 164: ﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ ﴾: يعني واذكر أيها الرسول حين قالت جماعةٌ منهم لجماعةٍ أخرى كانت تَعِظ المعتدين فييوم السبت: ﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ﴾ فيالدنيا بِسبب مَعصيتهم له ﴿ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ﴾ في الآخرة؟ (قَالُوا): أي قال الذين كانوايَنهَوْن عن معصية الله: ﴿ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ ﴾: يعني نحن نَعِظهم وننهاهم ليكون ذلك عُذراً لنا أمام اللهِ تعالى، بأننا قد أدَّينا فرْضَ اللهِعلينا في النَهي عن ذلك المنكر، ﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾: يعني ورجاءَ أن يتقوا اللهَ، فيخافوهوينتهوا عن معصيته.

      الآية 165: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾: أي فلما تركتْ الطائفة العاصية ما ذُكِّرَتْ به وأهمَلَتْهُ، واستمرتْ علىاعتدائها: ﴿ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ ﴾: يعني أنجينا الذين يَنهون الناس عن معصيتنا، ﴿ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ - وهم الذين اعتدَوْا في يوم السبت - ﴿ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ﴾ أي شديد البأس، وذلك ﴿ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾: أي بسبب خروجهم عن طاعة اللهِ تعالى، (وأما الطائفة التي لم تكن تنهى عن المنكر فقد اختلف المفسرون: (هل نَجَتْ من العذاب أو لا؟) فقد كان ابن عباس يرى أنها لم تَنْجُ، وكان عِكرمة يرى أنها نجتْ مع الطائفة الواعظة، لأنّها تركتْ النَهي بسبب يأسِها من استجابة الظالمين، واللهُ أعلم).

      الآية 166: ﴿ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ ﴾: يعني فلما تمَرَّدتْ الطائفة العاصية، ولم تتعظ من ذلك العذاب الذي أصابها، واستمروا على اعتدائهم في يوم السبت: ﴿ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾: أي إنّ الله تعالى مَسَخَهم قِرَدةً ذليلين.

      الآية 167: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ﴾: يعني واذكر أيها الرسول للناس إعلام ربك وإعلانه بأنه سوف يُسَلِّط على اليهود مَن يُذيقهمأسوأ العذاب والإذلال إلى يوم القيامة، عقوبةً منه سبحانهُ على خُبث نواياهم وسُوء أفعالهم، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ ﴾ لِمَن استحق عقابه بسبب كُفره ومعصيته، ﴿ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ ﴾ لِمَن تاب مِن اليهود وغيرهم ﴿ رَحِيمٌ ﴾ بهم، حيثُ قَبِلَ توبتهم.

      الآية 168: ﴿ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا ﴾: يعني وفرَّقنا بني إسرائيل في الأرض جماعات، فـ ﴿ مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ ﴾: أي منهم القائمون بحقوق اللهِ وحقوقعباده، ﴿ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ﴾: أي ومنهم المُقصِّرون الظالمون لأنفسهم، ﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ﴾: يعني واختبرنا هؤلاء الظالمين المُقصرين بالرخاء في العيشوالسَّعَة في الرزق، واختبرناهم أيضًا بالمصائب وبالشدة في العيش ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ إلى طاعة ربهم وينتهونَ عن معصيته.

      الآية 169: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾: أي فجاء مِن بعد هؤلاء اليهود - الذين وَصَفهم اللهُ في الآية السابقة -: ﴿ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ ﴾: أي خَلَفُ سُوء، وَرِثوا التوراةَ عن أسلافهم، فقرأوها ولكنهم لم يَلتزموا بما فيها، فكانوا يُفَضِّلونَ الدنيا على الآخرة، و ﴿ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى ﴾: أي ويأخذون ما يَعْرِضُ لهم مِن دَنِيء المكاسب،كالرشوة وغيرها، ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ - مع هذا العِصيان والإصرار -: ﴿ سَيُغْفَرُ لَنَا ﴾: أي إنّ اللهَ سَيَغفرلنا ذنوبنا - وهمُ يَكذبون على اللهِ تعالى بهذه الأمنيات الباطلة -، فقد قال تعالى: ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾، طبعاً إلا لو تابَ العبدُ وقَبِلَ اللهُ توبته.

      ﴿ وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ﴾: يعني وإن يأتِ هؤلاء اليهودَ متاعٌ زائلٌ منأنواع الحرام، يأخذوه ويَستحِلُّوه، فقال تعالى مُوَبِّخاً لهم: ﴿ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ ﴾ وهي العهود التي أخذها اللهُ عليهم في التوراة بـ ﴿ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ - فقد زعموا بأنّ اللهَ سَيَغفر لهم، رغم إصرارهم واستحلالهم للذنب وعدم توبتهم منه - ﴿ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ﴾: أي وقد عَلِموا ما في الكتاب، ثم تركوا العمل به،وخالَفوا عَهْدَ اللهِ إليهم؟ ﴿ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ اللهَ،فيَمتثلون أوامره، ويَجتنبون نَواهيه، ﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ أيها اليهود - يا مَن تُؤثِرون الحياة الدنيا على الآخرة - أنّ ما عند اللهِ خيرٌ وأبقى؟

      الآية 170: ﴿ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ ﴾: أي والذين يَتمسَّكون بالكتاب ويعملون بما فيه من العقائد والأحكام والمواعظ ﴿ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ﴾: أي ويحافظون على الصلاة في أوقاتها، ويُؤَدُّونَ أركانها باطمئنان، فأولئك بَشَّرَهُم اللهُ تعالى بقوله: ﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ بل نُثِيبهم على أعمالهم الصالحة أعظم الجزاء في جنات النعيم.

      الآية 171: ﴿ وَإِذْ نَتَقْنَا ﴾: يعني واذكر أيها الرسول حين رَفعْنا ﴿ الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ ﴾ أي فوق بني إسرائيل ﴿ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ﴾: يعني كأنه سحابة تُظِلُّهم،﴿ وَظَنُّوا ﴾: يعني وأيْقَنوا (أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ) أي ساقطٌ عليهم إن لم يَقبلوا أحكام التوراة، وقلنا لهم: ﴿ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ﴾: أي اعملوا بما أعطيناكم باجتهادٍ، ﴿ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ ﴾: أي ولا تنسوا التوراة قولاً وعملاً ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾: يعني لِكَي تتقوا ربكم فتنجوامن عقابه.



      الربع التاسع من سورة الأعراف

      الآية 172، والآية 173: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾: يعني واذكر - أيها النبي - حين استخرَجَ ربك أولاد آدم مِن ظهور آبائهم، ﴿ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ﴾: يعني وقرَّرَهمتعالى بتوحيده - بما خَلَقَهُ في فِطْراتهم، مِن أنه ربهم وخالقهم -، فقال لهم: ﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾؟، فأنطقهم سبحانه بقدرته التي لا يُعجزها شيء، فـ ﴿ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ﴾: أي فأقرُّوا له بذلك، فقال اللهُ لهم:﴿ أَنْ تَقُولُوا ﴾: يعني قد أقرَرْتُكُم بذلك لِئَلاَّ تقولوا ﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا ﴾ الإقرار ﴿ غَافِلِينَ ﴾، وتُنكِروا ذلك العهد الذي أخذتُهُ عليكم بالتوحيد، ﴿ أَوْ تَقُولُوا ﴾): يعني ولِئَلاَّ تقولوا أيضاً: ﴿ إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾: يعني إنما أشرك آباؤنا مِن قبلنا ونقضوا هذا العهد، فاقتدينا بهم مِنبعدهم، ﴿ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴾: يعني أفتعذبنا بما فعل الذين أبطلوا أعمالهم وأحبطوها (لاتِّخاذهم شركاءَ معك فيالعبادة)؟

      • فبهذا وَضَّح لهم سبحانه أنّ تقليدهم للآباء بغير عِلمٍ أو دليل ليسَ عُذراً مقبولاً عند اللهِ يوم القيامة (بعد أن كانَ في أصل فِطرَتهم: العِلم بوحدانية اللهِ تعالى)، لأنّ الشِرك بعد العِلم، صارَ إمّا عن عَمْدٍ وإمّا عن تقصير.

      الآية 174: ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾: يعني وكهذا التفصيل الوارد في هذه السورة: ﴿ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ ﴾ ونُبَيِّنها، تذكيراً للناس وتعليماً لهم ﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ إلى التوحيد الخالص الذي فَطَرهم اللهُ عليه.

      فإنّ اللّهَ تعالى قد فَطَرَ عباده على دين الإسلام الواضح الذي لا عِوَجَ فيه، ولكنّ الفِطرة قد تتغير وتتبدل بما يأتي عليها من العقائد الفاسدة، قال صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين - : (ما مِن مَوْلودٍ إلا يُولَدُ على الفِطرة، فأبَوَاهُ يُهَوِّدانِه - (أي يَجعلانه يهودياً) - أو يُنَصِّرانِه - (أي يَجعلانه نَصرانياً) - أو يُمَجِّسانِه) - (أي يَجعلانه مَجُوسِيّاً).

      الآية 175، والآية 176: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا ﴾: يعني واقصُص - أيها الرسول - على قومك خبرَ رَجُلٍ أعطيناه حُجَجَنا وأدِلَّتَنا، وفهَّمناهُ أحكام الدين﴿ فَانْسَلَخَ مِنْهَا ﴾: يعني فتعَلَّمَها، ثم تركها وراءَ ظهره، ولم يعمل بها ﴿ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ﴾: أي فأدرَكَهُ الشيطان واستحوذَ عليه، ﴿ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾: يعني فصارَ منالضالين الهالكين، بسبب مُخالفته لأمْر ربه وطاعته للشيطان.

      ثم قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شِئْنَا ﴾ أن نرفع قدْرَهُ - في الدنيا والآخرة - بما آتيناه من الآيات: ﴿ لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ﴾ ﴿ وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ﴾: يعني ولكنه رَكَنَ إلى الدنيا، ﴿ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾: أي وآثَرَ لَذَّاته وشهواته على الآخرة، ﴿ فَمَثَلُهُ ﴾: أي فصارت صِفَتُهُ المُلائِمة له ﴿ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾: يعني سواءٌ عليه أطَرَدتَهُ أو تركتَهُ: تجدْهُ يتنفس بشدة - مُخرجاً لسانه - من التعب والإعياء، فتَعَبُهُ لا ينقطع أبداً، فكذلك الذي انسلخ من آيات الله، يظل دائماً يَلهَث وراء شهواته، ويظل على حِرصِهِ وطَمَعِهِ وغفلته، سواءٌ عليه أأنذرتَهُ أو أهْمَلتَه، ﴿ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا ﴾ إذ بعد أن ساقَ اللّهُ آياته إليهم، كَذَّبوا بها ورَدُّوها، وفضَّلوا أهوائهم على الانقياد لها، ﴿ فَاقْصُصِ ﴾ أيها الرسول على قومك ﴿ الْقَصَصَ ﴾: أي أخبار الأممالماضية ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ فيما جئتَهم بهفيؤمنوا بك، (وفي الآية تحذيرٌ لمن يترك تلاوة القرآن، وتدَبُّرِه، والعمل به).

      الآية 179: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ﴾: يعني ولقد خلقنا للنار - التي يُعَذِّبُ اللهُ فيها مَن يَستحق العذاب في الآخرة - ﴿ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ﴾ وذلك لِعِلْمِهِ تعالى بأنهم يَرفضون هدايته، ويتكبرون عن عبادته، ويُحاربون أنبياءه، وهؤلاء ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾: أي لا يَعقلون بها، فلا يَصل إلى قلوبهم فِقهٌ ولا عِلم، إلا ما يكونُ سبباً في إقامة الحُجَّة عليهم، ﴿ وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا ﴾: أي لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدِلَّتِهِ في الكون، ﴿ وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ آيات القرآن سَماعَ تدَبُّر وقَبول،﴿ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ في عدم الانتفاع بقلوبهم وأبصارهم وأسماعهم، ﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ منها، لأن البهائم تعلم ما يَنفعها وما يَضرها وتتبع راعيها، وهم بخلاف ذلك،﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ عن آيات الله تعالى، فلا يلتفتون إليها، ولا يتفكرون فيها، فلذلك صَرَفهم اللهُ عن فَهْمها.

      الآية 180: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ الدالَّة على كمال عظمتِهِ وجلالِه، لا يُشاركه فيها أحدٌ مِن خَلقِه،﴿ فَادْعُوهُ بِهَا ﴾: أي فاطلبوا منه بأسمائه ما تريدون، (والأفضل أن يكون الاسم - الذي يدعو به العبد - مناسباً للطلب، كأن يقول: (يا غفار اغفر لي، ويا رزاق ارزقني)، وهكذا)، ﴿ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ﴾: أي واتركوا الذين يُغَيِّرون في أسمائه، كأن يُسَمُّوا بها مَن لا يَستحقها (كَتَسمية المشركين بهالآلهتهم)، أو أن يَجعلوا لها معنى لم يُرِدْهُ اللهُ ورسوله لِيُفسروها بما يتناسب مع مَذهبهم الباطل، أولئك ﴿ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾: يعني سوف يُجزَونَ في الآخرة جزاءَهذا الإلحاد فيأسماء الله تعالى.

      واعلم أنّ الإلحاد في اللغة: هو المَيْل عن وَسط الشيء، وكانَ مِن إلحاد العرب في أسماء اللهِ تعالى أن اشتقوا اسم (العُزَّى مِن العزيز، واللات مِن الله، ومَناة من المَنَّان)، ومِن الإلحاد فيها أيضاً ما يَفعله بعض الناس مِن وَضْع أسماء لله تعالى لا توجد في الكتاب ولا في السُنَّة.

      الآية 181: ﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ ﴾: يعني ومِن الناس جماعةٌ فاضلة ﴿ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ﴾: أي يَهتدون بالحق ويَدعونَ إليه، ﴿ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ في الحُكم في قضاياهم، فيَحكمون بالحق والعدل على أنفسهم وعلى غيرهم، وهؤلاء هم أئِمَّة الهُدى، مِمَّن أنعمَ اللهُ عليهم بالإيمان والعمل الصالح.

      الآية 182: ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ أي سنفتح لهم أبواب الرزقالكثير في الدنيا - استدراجًا لهم-، حتى يَغتَرُّوا بما هم فيه ويعتقدوا أنهمعلى الهدى، ثم نُعاقبهم - على غفلةٍ منهم - مِن حيثُ لا يعلمون.

      • واعلم أنّ الاستدراج: هو الأخْذ بالتدريج، واستدراجُ اللهِ تعالى لأهل الضلال - الذين يُصِرُّون على المعاصي ولا يتوبون منها -: أنهم كلّما جَدَّدُوا لله معصيةً، جَدَّدَ اللهُ لهم نعمة، حتى يأخذهم بذنوبهم وهم لا يشعرون.

      الآية 183: ﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ ﴾: يعني وأُمْهِلُ هؤلاء المُكَذِّبين حتى يَظنوا أنهم لا يُعاقَبون، فيَزدادوا كُفرًاوطغيانًاً، وبذلك يَتضاعف لهم العذاب، وهذا هو مَكْري بهم، وكَيْدي لهم ﴿ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾: أي قويٌّ شديد، لا يُدْفَعُبقوةٍ ولا بحِيلة.

      الآية 184: ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ﴾: يعني أولم يَتفكر هؤلاء المُكذِّبون، ويَعلموا أنه ﴿ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) ﴾: يعني ليسبمحمد صلى الله عليه وسلم جنون، ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ ﴾: يعني ما هو إلا نذيرٌ لهم مِن عقاب اللهِ تعالى - إن لم يؤمنوا ويتوبوا مِن شِركهم -،﴿ مُبِينٌ ﴾: أي مُبَيِّناً لهم الحق من الباطل، والهدى من الضلال.

      الآية 185: ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ﴾: يعني أولم ينظر هؤلاء المُكذِّبون في مُلك اللهِ العظيم وسلطانه القاهر فيالسماوات والأرض، وإلى ما خلقه اللهُ تعالى فيهما، إذ لو نظروا إلى ما في ذلك مِن مَظاهر القدرة والعِلم والحكمة، لَعَلِموا أنّ المستحق للعبادة هو خالق هذا المَلَكُوت، ﴿ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ﴾: يعني أو لم ينظروا أيضاً في آجالهم التي عَسَتْ أن تكون قد اقتربتْ، فيُعَجِّلوا بالتوبة، حتى لا يَهلكوا علىكُفرهم ومَعاصيهم، فيَصيروا إلى عذاب الله وعقابه الأليم؟، ﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾: يعني فبأيّ تخويف وتحذير بعد تحذيرالقرآن سَيُصدقونه ويعملون به؟

      الآية 186: ﴿ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ﴾: يعني مَن يُضْلِلْهُ اللهُ عن طريق الرشاد: ﴿ فَلَا هَادِيَ لَهُ ﴾ ﴿ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾: أي ويَتركهم في كُفرهم يتحيرونويترددون، لا يعرفون مَخرجاً ولا سبيلاً للنجاة.

      الآية 187: (﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ﴾: أي يسألك كفار مكة عن الساعةِ التي فيها تقوم القِيامة: متى تأتي؟ ﴿ قُلْ ﴾ لهم: (﴿ إِنَّمَا عِلْمُهَا ﴾ أي عِلْمُ قيامها ﴿ عِنْدَ رَبِّي ﴾ وحده، فـ (﴿ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا ): أي لا يُظهرها في وقتها المحدد ﴿ إِلَّا هُوَ ﴾ سبحانه وتعالى، ﴿ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾: أي ثَقُلَ عِلمها، وخَفِيَ على أهل السماوات والأرض، ﴿ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ﴾: يعني لا تجيء الساعة إلا فجأة، بدون توقع أو انتظار، ﴿ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ﴾: أي يسألكهؤلاء القوم عن الساعة كأنك مُبالِغ في طلب معرفتها من الله تعالى حتى عرفتَها، ولم يعلموا أنك - لكمال عِلمك بحكمة ربك - غير مهتم بالسؤال عنها، ولا حريص على ذلك، ﴿ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ ﴾ ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ ذلك، ألاَ فلْيَنشغلوا بالاستعداد لها.

      الآية 188: ﴿ قُلْ ﴾ لهم أيها الرسول: ﴿ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ﴾: أي لا أقدرُ على جَلْبِ خيرٍ لنفسي ولا دَفْعِ شرٍ يَحِلُّ بها ﴿ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أن يُعْلِمَنِيه ويُقدِرَني عليهِ مِن أسباب تحصيل النفع، ومِن أسباب اتِّقاء الضرر، ﴿ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ﴾ أي لَفَعَلتُ الأسباب التي أعلم أنها تُكثِر ليالمصالح والمنافع، ﴿ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ﴾: يعني ولو كنتُ أعلم الغيبَ لاتَّقيتُ ما يكونُ مِن الشر قبل أن يَقع لي، ﴿ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾: يعني ما أنا إلا رسولٌ مناللهِ أرسلني إليكم، أخوِّفُ مِن عقابه، وأبَشِّرُ بثوابهِ قومًا يُصَدِّقونَ بأني رسولُالله، ويَعملون بشرعه.

      تفسير الربع الأخير من سورة الأعراف بأسلوب بسيط

      • الآية 189، والآية 190: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ أيها الناس ﴿ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ وهي نفس آدم عليه السلام، ﴿ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ وهي حَوَّاء عليها السلام، إذ خَلقها مِن ضلع آدم ﴿ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ ويأنَس بها {والمراد عموم الزوجين مِنذرية آدم}، ﴿ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا ﴾: أي فلما جامَعها زوجها: ﴿ حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ﴾: أي حملتْ ماءً خفيفًا، فقامت به وقعدتْ وأتمَّتْ الحَمْل، ﴿ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ ﴾: أي فلما ثَقُلَ حَمْلُها، وقَاربتْ علىالولادة: ﴿ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا ﴾: أي دَعا الزوجان ربهما: ﴿ لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا ﴾: يعني لئن أعطيتنا بشرًا سويًا صالحًا: ﴿ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ على ما وهبتَ لنا من الولد الصالح، ﴿ فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا ﴾: أي فلما رزق اللهُ الزوجين ولدًا صالحًا: ﴿ جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا ﴾: أي جعلا للهِ شركاءَ في ذلك الولد (الذي انفرداللهُ بخَلقه)، فأمَراهُ أن يَعبد غيرَ الله، ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ ﴾ وتنزَّه ﴿ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.

      الآية 191، والآية 192: ﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا ﴾: يعني أيُشرِكُ - هؤلاء المشركون - مخلوقاتٍ مع اللهِ في عبادته، وهي لا تقدر على خَلْق شيء ﴿ وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾: يعني بلوهي أصلاً مخلوقة؟، ﴿ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا ﴾: يعني ولا تستطيع هذه المخلوقات أن تنصر عابِدِيها، ﴿ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ﴾: أي ولا تستطيع أن تدفع المكروه عَمَّن يَعبدها ولا عن نفسها،فكيف تُتَّخَذ مع اللهِ آلهة؟!

      الآية 193: ﴿ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ ﴾: يعني وإن تدعوا - أيها المؤمنون - هؤلاء المشركين (الذين ذكَرَهُم اللهُ في قوله:﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا ﴾ في الآية قبل السابقة)- فإن تدعوهم ﴿ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ لِعِنادهم واتِّباعهم لأهوائهم، ولِذا فـ﴿ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ﴾ لن يَستجيبوا لكم، لأنهم متكبرون، لا ينقادون إلى الحق.

      الآية 194، والآية 195: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾: يعني إن الذين تعبدون مِن غير اللهِ هم مملوكون لربهم كما أنكممملوكون لربكم، فإن كنتم تزعمون أنهم يَستحقونَ مِن العبادةِ شيئًا: ﴿ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾، ثم قال تعالى مُبطِلاً أي استحقاقٍ لهم للعبادة: ﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ﴾ لِيقضوا حوائجكم؟ ﴿ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا ﴾: أي يَدفعون بها عنكم المكروه، وينصرونكم على مَن يُريدُ بكم شرًا؟ ﴿ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا ﴾ فيُخبرونكم بما أبْصَروهُ مِمَّا يَغيب عنكم فلا ترونه؟ ﴿ أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ فيُخبرونكم بما لم تسمعوه؟! فإذا كانت آلهتكم التي تعبدونها خالية من هذه الأشياء التي بها يتم جَلْب النفع أو دَفْع الضرر، فما وَجْهُ عبادتكم إيَّاها؟!

      ﴿ قُلِ أيها الرسول لهؤلاء المشركين - مُتحدياً لهم - : ﴿ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ﴾: أي ادعوا آلهتكم التي جعلتموها شركاءَ للهِ في العبادة ﴿ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ ﴾: يعني ثم اجتمعوا على إيقاع الأذى بي، ولا تؤخروني، بل عَجِّلوا بذلك، فإني لا أُبَالِي بآلهتكم لاعتمادي على حِفظ اللهِ وحده.

      الآية 196، والآية 197: ﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ ﴾: يعني إنّ الذي يتولى حِفظي ونَصري هو اللهُ ﴿ الَّذِي نَزَّلَ ﴾ عليَّ ﴿ الْكِتَابَ ﴾ بالحق،﴿ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَمِن عباده، وينصرهم على أعدائهم ولا يَخذلهم، ﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ ﴾ أيها المشركون ﴿ مِنْ دُونِهِ ﴾ من الآلهة المزعومة ﴿ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ﴾ من عذاب اللهِ إن نزل بكم، ﴿ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ﴾: أي ولا يقدرون على نصر أنفسهم من العذاب.

      الآية 198: ﴿ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى ﴾: يعني وإن تدعوا أيها المشركون آلهتكم إلى أن يَهدوكم إلى ما تُحَصّلون به مقاصدَكم، كالنصر على الأعداء وغير ذلك: ﴿ لَا يَسْمَعُوا ﴾ دعاءكم،﴿ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ: يعني وترى أيها الرسول هذه الأصنام يقابلونك كالناظرإليك، لأنهم صَوَّروها على صور الآدميين وغيرهم، فإذا رأيتَها قلتَ: هذه حيَّة، ﴿ وَهُمْ ﴾ في حقيقة الأمر ﴿ لَا يُبْصِرُونَلأنها جمادات لا حياةَ فيها، فكيف يَتخذها المشركون آلهةً مع اللّه؟!

      وقد قِيلَ إن المُراد بهذه الآية: المشركون وليس الأصنام، وعلى هذا يكون المعنى: (وإن تدعوا أيها المؤمنون هؤلاء المشركين إلى الهدى، لا يَسمعوا دعاءكم سَماع التدبر والقبول، وتَحسبهم أيها الرسول ينظرون إليك نظر تأمل واعتبار لِيَتَبَيَّنَ لهم صِدقك، ولكنهم - في الواقع - لا يُبصِرون حقيقتك من الكمال والجمال والصدق).

      الآية 199: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ ﴾: أي اقْبَلْ الحَسَن من أخلاق الناس وأعمالهم، (فتتذكَّر جَميلهم لتتحمل أذاهم)، فإنّ الناس يحبون مَن يتغاضى عن أخطائهم، ويتحمل طِباعهم.

      فلا تتكبرْ على الجاهل لِجَهله، ولا على الفقير لِفَقره، بل تَعامَلْ مع الجميع باللطف، وخاطِبْهم بما تفهمه عقولهم، وقابِلْهم بابتسامةٍ تنشرحُ لها صدورهم، وعامِلْهم بما تحب أن يُعاملوك به، ﴿ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ﴾: أي وأْمُر بكل ما عُرِفَ حُسنُهُ بين الناس، ﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ فلا تؤاخذهم بسوء أقوالهم وأعمالهم، بل عَلِّمْهُم واحْلُم على جَهْلهم.

      واعلم أنّ قوله تعالى: ﴿ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ﴾ فيهِ دليلٌ على أنه يُؤخَذ بما تَعارَفَ عليه الناس (كلٌ حسب بِيئته)، كَوَضْع الكُحل للرجال وغير ذلك، بشرط ألا يُخالف ذلك العُرف شرعَ اللهِ تعالى، فعَلى سبيل المثال: (وجدتُ شاباً يضع (سلسلة) من الفضة حَوْلَ رقبته، فقلتُ له: (هذا حرام)، فقال لي: (الفضة ليست حراماً للرجال)، فقلتُ له: {ليست حُرمتها في أنها من الفضة، ولكن حُرمتها في أنّ العُرف المُتَّبَع بين الناس - في بلدك - يقولُ بأنّ هذا الفِعل تَشَبُّه بالنساء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري - : (لَعَنَ الله المتشبهين من الرجال بالنساء)).

      الآية 200: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ ﴾: يعني وإذا أصابك مِن الشيطان غضب، أو أحسستَ منه بوسوسة: ﴿ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ﴾: أي فالجأ إلى اللهِ تعالى، مُعتَصِماً به بصِدق، مُتذللاً إليه أن يُحَصِّنَكَ مِن شره، قائلاً - بلسانك وبقلبك -: ﴿ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴾، ﴿ إِنَّهُ ﴾ سبحانه ﴿ سَمِيعٌ ﴾ لِمَا تقول، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بضَعفك، قادرٌ على دَفْع وسوسته وأذاه.

      الآية 201، والآية 202:﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا ربهم، فخافوا عقابه (بأداء فرائضه واجتناب نواهيه)، هؤلاء﴿ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ ﴾: أي إذا أصابتهم وسوسةٌ من الشيطان، فَوَقَعوا في ذنبٍ، أو تركوا واجباً: ﴿ تَذَكَّرُوا ﴾ ما أوْجَبَهُ اللهُ عليهم مِن الإسراع بالتوبة إليه، وكثرة استغفاره، وصِدق الاستعاذة به، وتذكَّروا مِن أي بابٍ دخل عليهم الشيطان ﴿ فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ أي يرون قُبْح المعصية وسُوء عاقبة فاعلها، فبذلك قد أبْصَروا الطريق مرة أخرى، واستدركوا ما وقع منهم بالتوبة النصوح والحسنات الكثيرة، فرَدُّوا شيطانهم ذليلاً، قد أفسدوا عليه كل ما أدركه منهم، وأغلقوا عليه كل باب.

      ﴿ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ﴾: يعني وشياطين الجن يُوقِعون إخوانهم - وهم شياطين الإنس - فيالذنوب، واحداً بعد الآخر، ﴿ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ﴾: أي ثم - بعد هذه الذنوب - يَبذل شياطين الجن كل جهدهم في مَدّ هؤلاء الفُجَّار في الإضلال، حتى يُضِلُّوا الناس ويُزَيِّنوا لهم الباطل.

      الآية 203: ﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ ﴾: يعني وإذا لم تَجِئ هؤلاء المشركين ﴿ بِآَيَةٍ ﴾ من الآيات التي اقترحوها عليك وطلبوها منك: ﴿ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا ﴾ يعني أفلا تُنشِئُها مِن نفسك ما دامَ ربك لم يُعطِها لك؟، ﴿ قُلْ لهم: إنّ هذا ليسَ لي، فإنما أنا بشر، و﴿ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ أي ما يأتيني به جبريلُ ﴿ مِنْ رَبِّي ﴾ فاللّهُ تعالى هو الذي يُنَزِّل الآيات ويُرسلها حَسب ما تقتضيه حِكمته البالغة،و ﴿ هَذَا ﴾ القرآنالذي أتلوه عليكم هو ﴿ بَصَائِرُ ﴾: أي حُجَجٌ وبراهين ﴿ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ تدل على صِدق ما جئتُكم به، فهو أقوى حُجَّةً من الآية التي تطالبون بها، ﴿ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.

      ويُحتَمَل أن تكون الآية التي طلبوها من النبي صلى الله عليه وسلم هي آية قرآنية، وذلك حين سألوهُ شيئًا،فأبْطَأَ عليه جبريل عليه السلام، فقالوا له: (أفلا تَختلِقها وتقولها مِن عند نفسك حتى تَرُدَّ بها على مَن سألك؟)

      الآية 204: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ أي فتعَمَّدوا السَماعَ واطلبوه ﴿ وَأَنْصِتُوا بترْك الكلام، أي اسكتوا حتى تسمعوا سَماعاً ينفعكم ﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾.

      الآية 205: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ﴾: يعني واذكر ربك سِرَّاً (أي باللسان وبقلبٍ حاضر)، و﴿ تَضَرُّعًا: يعني وبتذللٍ وخشوع للهِ تعالى، ﴿ وَخِيفَةً ﴾: أي على خوفٍ منه سبحانه ألاَّ يَقبل عملك، ﴿ وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ﴾ - وذلك بأن يُسمِعَ نفسه، أو مَن بجانبِهِ فقط -، واذكُرْهُ تعالى ﴿ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ﴾: يعني في أول النهار وآخره، ﴿ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ عن ذِكر الله، الذين يَلهُون عنه في سائر أوقاتهم، بل اجعل لسانك رَطباً مِن ذِكْرِه، حتى تموتَ وأنتَ تذكرُ ربك.

      الآية 206: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ من الملائكة ﴿ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ﴾ بل ينقادونلأوامره، ﴿ وَيُسَبِّحُونَهُ ﴾ بالليل والنهار، ويُنَزِّهونه عَمّا لا يَليقُ به، ﴿ وَلَهُ ﴾ وحده ﴿ يَسْجُدُونَ ﴾.
      رامي حنفي محمود
      شبكة الالوكة




      تعليق


      • #4
        جزاكم الله خيرَا
        وينقل لقسم التفسير فهو الأنسب له

        "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
        وتولني فيمن توليت"

        "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

        تعليق

        يعمل...
        X