سلسلة كيف نفهم القرآن؟(1)
تفسير الربع الأول من سورة الأعراف بأسلوب بسيط
الآية 2، والآية 3: ﴿ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾: أي إنّ هذا القرآن هو كتابٌ عظيم أنزله اللهُ عليك أيها الرسول ﴿ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ﴾: يعني فلا يكن في صدرك ضِيقٌ منه بسبب إبلاغه للمشركين، ولا تخشَ بسببه لائماً أو مُعارِضاً، فإنما أنزلناه إليك ﴿ لِتُنْذِرَ بِهِ ﴾: أي لِتخوِّف به الكافرين عواقب شِركهم وضلالهم، ﴿ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾: أي ولِتُذكِّر به المؤمنين، وتقول لهم: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ من الكتاب والسُنَّة، وذلك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ ﴾: أي ولا تتبعوا من غير الله ﴿ أَوْلِيَاءَ ﴾ كالشياطين والأحبار والرُهبان، ورؤساء الشرك والضلال، إنكم أيها الناس ﴿ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾: يعني قليلاً ما تتعظون، وترجعون إلى الحق.
الآية 4: ﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ﴾: يعني وكثيرٍ مِن القرى أردنا إهلاك أهلها بسبب تكذيبهم ومخالفتهم لِرُسُلنا ﴿ فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ﴾: أي فجاءهم عذابنا مَرة وهم نائمون ليلاً، ومَرة وهم نائمون نهارًا (وقت القَيْلُولة) وهو الوقت الذي يستريح فيه الإنسان بعد صلاة الظهر (وذلك على الراجح من أقوال العلماء)،وقد خَصَّ الله هذين الوقتين لأنهما وقتان للسكون والراحة،فمَجيء العذاب فيهما أفظع وأشد.
الآية 5: ﴿ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا ﴾: يعني فما كان قولهم عند مجيء العذاب ﴿ إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾: أي إلا أن اعترفوا بالذنوب والإساءة، واعترفوا أنهم كانوا مستحقين لهذا العذاب الذي نزل بهم، ولكنْ لم تنفعهم التوبة عند مُعايَنة الموت والعذاب، ولذلك ينبغي للعبد المؤمن أن يُجدد التوبة في كل وقت - استعداداً للموت - حتى تأتيه سَكرة الموت وهو تائب، إذِ النجاةُ كلها في لقاء الله تعالى بتوبةٍ نصوح.
الآية 6: ﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ﴾ - وهم الأمم والأقوام - فنقول لهم: (ماذا أجبتم رُسُلنا؟)، ﴿ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾ عن تبليغهم لرسالات ربهم، وعمَّا أجابتهم به أممهم.
الآية 7: ﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ ﴾: يعني فلنُخبرنَّ الخَلق بكل ما عملوا، وذلك ﴿ بِعِلْمٍ ﴾ مِنَّا لأعمالهم في الدنيا (ظاهرها وباطنها)، لا يستطيعون إخفاء شيءٍ منها ﴿ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ﴾ عنهم حينما كانوا في الدنيا، فكل أعمالهم كانت مكشوفة ظاهرة لله تعالى، لم يَخْفَ عليه منها شيء، وهو السميع البصير.
• ورغم أنه سبحانه أعلمُ بما عملوا، ولا يحتاجُ إلى أن يسألهم عمَّا فعلوه، إلاَّ أنّ سؤالَهُ تعالى لهم كانَ مِن باب إقامة الحُجَّة عليهم، ولإظهار عَدالته فيهم، ولتوبيخ مَن يستحق التوبيخ منهم.
الآية 8، والآية 9: ﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ﴾: يعني: وَوَزنُ أعمال الناس يوم القيامة يكون بميزان حقيقي بالعدل، ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾ لكثرة حسناته: ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ الفائزون بالنجاةِ من النار ودخول الجنة، ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴾ لكثرة سيئاته: ﴿ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾: أي فأولئك هم الذين أضاعوا حظَّهم من رضوان الله تعالى وجَنَّتِه، وذلك ﴿ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴾: أي بسبب تجاوزهم الحَدّ، وذلك بِجَحْدِهِم لآيات الله تعالى وعدم الانقيادلها.
الآية 10: ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾: يعني ولقد جعلناكم أيها الناس متمكنين في الأرض، وذلك بأن جعلناها لكم مستقرة مُمَهَّدَة، لا تضطرب حتى لا يَفسد ما عليها، ﴿ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ﴾: أي وجعلنا لكم فيها ما تعيشون به من مَطاعم ومَشارب، ومع ذلك فـ ﴿ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ نِعَمَ اللهِ عليكم، واعلم أن الشكر هو ذِكرُ النعمة باللسان، وذلك بقوْل كلمة: (الحمدُ لله)، وكذلك باستخدام النعمة في طاعة المُنعِم جل وعلا، وعدم استخدامها في معصيته، قال تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي فحَقِّقوا الشُكر بتقواكم للهِ تعالى.
الآية 11: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ﴾: يعني ولقد أنعمنا عليكم بخَلْق أصلكم - وهو أبوكم آدم من العدم -، ثم صوَّرناه على هيئته البشرية الكريمة، المُفضَّلة على كثيرٍ من الخَلق، ﴿ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ ﴾ إكرامًا واحترامًا وإظهارًا لِفَضلِه ﴿ فَسَجَدُوا ﴾ جميعًا ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ ﴾ الذي كان يَعبدُ اللهَ معهم ﴿ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴾ لآدم، حسدًا له على هذا التكريم العظيم.
الآية 12: ﴿ قَالَ ﴾ تعالى مُنكِرًا على إبليس تَرْكَ السجود: ﴿ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾؟ ﴿ قَالَ ﴾ إبليس: ﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ﴾ فقد ﴿ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾، فرأى أن النار أشرف من الطين، وفَضَّلَ ما يراه عقله على الانقياد لأمر ربه.
الآية 13: ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ لإبليس: ﴿ فَاهْبِطْ مِنْهَا ﴾ أي مِن الجنة، ﴿ فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا ﴾: يعني فمَا يَصِحّ لك أن تعيش فيها وأنت من المتكبرين، ﴿ فَاخْرُجْ ﴾ من الجنة ﴿ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾: أي من الذليلين الحقيرين.
الآية 14: ﴿ قَالَ ﴾ إبليس للهِ - جل وعلا - حينما يئس من رحمته: ﴿ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾: أي أمْهِلني إلى يوم البعث، وذلك لأتمكن من إضلال مَن أقدر عليه من بني آدم.
الآية 15: ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ تعالى له: ﴿ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ﴾: يعني إنك مِمَّن كتبتُ عليهم تأخير الأجل إلى النفخة الأولى (التي ينفخها إسرافيل في القرن)، وذلك حين يموت الخلق كلهم.
الآية 16: ﴿ قَالَ ﴾ إبليس لعنه الله: ﴿ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي ﴾: يعني فبسبب إضلالك لي: ﴿ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾: يعني لأجتهدنَّ في إضلال بني آدم عن طريقك القويم، ولأصدَّنَّهم عن الإسلام الذي فطرْتَهم عليه.
الآية 17: ﴿ ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ﴾: يعني ثم لآتينَّهم من جميع الجهات والجوانب، فأصُدّهم عن الحق، وأُُحَسِّن لهم الباطل، وأُرَغِّبهم في الدنيا، وأُشَكِّكهم في الآخرة، ﴿ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ لِنِعَمِك.
الآية 18: ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ تعالى لإبليس: ﴿ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا ﴾: أي اخرج من الجنة مَمقوتًا (يعني مَكْروهًا مَبْغوضاً) ﴿ مَدْحُورًا ﴾: أي مطرودًا، ﴿ لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ ﴾: أي لأملأنَّ جهنم منك وممن تبعك من بني آدم ﴿ أَجْمَعِينَ ﴾.
الآية 19: ﴿ وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ ﴿ فَكُلَا مِنْ ﴾ ثمارها ﴿ حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾ ﴿ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾ (وعَيَّنها لهما)، ﴿ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾: يعني فإن فعلتما ذلك، كنتما من الظالمين المتجاوزين حدودَ اللهِ تعالى.
الآية 20: ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ﴾: يعني فألقى الشيطان لآدم وحواء وسوسته، لإيقاعهما في معصية الله تعالى بالأكل من تلك الشجرة التي نهاهما الله عنها، وذلك ﴿ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا ﴾: أي لتكون عاقبتهما: انكشاف ما سُتِرَ من عوراتهما، ﴿ وَقَالَ ﴾ لهما في محاولة المَكر بهما: ﴿ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ ﴾ أي مِن الملائكة ﴿ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴾ في الحياة.
• وهنا قد يقول قائل: كيف استطاع إبليس أن يوسوس لهما وهما داخل الجنة، عِلماً بأنه مطرود من الجنة؟
والجواب - والله أعلم - أنه (ربما يكون المقصود مِن طَرْدِهِ من الجنة: عدم الاستقرار فيها)، (وربما يكون قد وسوس لهما من خارج الجنة، فوصلتْ وسوسته لهما وهما داخل الجنة)، ولا نستبعد ذلك أبداً، فقد رأينا في عصرنا هذا أنّ الشخص يستطيع التحدث مع شخصٍ آخر وهو على بُعدٍ سحيقٍ منه، وذلك باستخدام العديد من وسائل الاتصال الحديثة، وأيَّاً كانت الوسيلة، المُهِمّ أن هذه الوسوسة قد وصلتْ إليهما بقدر الله تعالى.
الآية 21: ﴿ وَقَاسَمَهُمَا ﴾: أي وأقسم الشيطان لآدم وحواء باللهِ ﴿ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ في مَشورتي عليكما بالأكل من الشجرة، وهو كاذبٌ في ذلك.
الآية 22: ﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ﴾: أي فجرَّأهما بخداعٍ منه، فأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الاقتراب منها، ﴿ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا ﴾: أي انكشفت لهما عوراتهما، وزال ما سَترهما اللهُ به قبل المخالفة، ﴿ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ﴾: أي وأخذا يَلزقان بعض ورق الجنة على عوراتهما، ﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾، وفيهذا دليل على أنّ كَشْف العورة من عظائم الأمور، وأنه كان - ولم يَزَل - مُستنكَراً في الطباع، مُستقبَحًا في العقول.
الآية 23: ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ﴾ بالأكل من الشجرة، ﴿ وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ الذين أضاعوا حظَّهم من نعيم الجنة، (وهذه الكلمات هي التي تَلَقَّاها آدمُ مِن ربه، فدعا بها فتابَ اللهُ عليه).
الآية 24 الآية 25: ﴿ قَالَ ﴾ تعالى مُخاطبًا آدم وحواء وإبليس: ﴿ اهْبِطُوا ﴾ من السماء إلى الأرض، وسيكون ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ يعني: (آدم وحواء) يُعادون الشيطان، والشيطان يُعادِيهِما، ﴿ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ﴾ أي مكانٌ تستقرون فيه، ﴿ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾: يعني وانتفاعٌ بما في الأرض إلى وقت انقضاء آجالكم، ثم ﴿ قَالَ ﴾ تعالى لآدم وحوَّاء وذريتهما: ﴿ فِيهَا تَحْيَوْنَ ﴾: أي في الأرض تقضون أيام حياتكم الدنيا، ﴿ وَفِيهَا تَمُوتُونَ ﴾ ﴿ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾: يعني ومنها يُخْرجكم ربكم، ويَحشركم أحياء يوم البعث.
الآية 26: ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ ﴾: يعني قد جعلنا لكم لباسًا يستر عوراتكم، وهو لباس الضرورة، ﴿ وَرِيشًا ﴾: أي وجعلنا لكم لباسًا للزينة والتجمل، وهو من الكمال والتنعُّم، ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾: يعني ولباسُ تقوى الله تعالى - بفعل الأوامر واجتناب النواهي - هو خيرُ لباسٍ للمؤمن في حِفظ العورات والأجسام والعقول والأخلاق، ﴿ ذَلِكَ ﴾ الذي مَنَّ الله به عليكم هو ﴿ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ ﴾ الدالة على قدرته تعالى وفضله ورحمته بعبادهِ ﴿ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ هذه النعم فيشكروا اللهَ عليها بالإيمان والطاعة، لأنّ هذه النعم تستوجب توحيدَ اللهِ تعالى وطاعته.
• واعلم أنّ قوله تعالى: ﴿ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا ﴾ يُفهَم منه أنّ إنزال اللّباس كان من السماء، وذلك يعود إلى أمور، منها: أن آدم عليه السلام هو أوّل مَن سَتر عورته بورق التين من شجر الجنة، ومنها أنّ آدم نزل من السماء مَكْسُوّاً وورث عنه أولاده ذلك، ومنها أن الماء الذي يَخرج بسببه النبات (الذي يُصنَع منه اللباس كالقطن والكِتَّان) قد نزل من السماء، (وحتى الأنعام ذوات الصوف والوَبَر (كالغنم والإبل) حياتها متوقفة على ماء السماء).
الآية 27: ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ﴾: أي لا يَخدعنَّكم الشيطان، فيُزَيِّن لكم المعصية، ويدعوكم إليها، ويُرَغِّبكم فيها ﴿ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ﴾: أي كما زيَّنها لأبويكم آدم وحواء، فأخرجهما بسببها من الجنة، ﴿ يَنْزِعُ ﴾: يعني وقد تسَبَّبَ في أن نُزِعَ ﴿ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا ﴾ الذي كان اللهُ تعالى قد سترهما به (ما داما حافظَيْن لأنفسهما مِن فِعل ما نُهِيَا عنه)، وقد فعل الشيطان ذلك ﴿ لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا ﴾: أي لتنكشف لهما عوراتهما.
• واعلمْ أن الله تعالى قد ذكرَ الفِعل: ﴿ يَنْزِعُ ﴾ بصيغة المضارع، بعد أن كانَ سِياق الآية بصيغة الماضي، وذلك في قوله: ﴿ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ﴾، لِيُوَضِّحَ أنّ الشيطان قد بذل جهده في وسوسته لهما وتزيينه للمعصية، وأنه استمر في المكر والخَديعة حتى أوقعهما في الخطيئة، (فالفِعل المضارع يدل على الاستمرارية)، وفي هذه الآية دليل على حِرص الشيطان على أن يكشف الآدَمِيُّ عورته، لِمَا يَتبع ذلك من الفِسق والفجور.
• ثم قال تعالى (مُنَبِّهاً لهم على خطورة العدو): ﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ﴾: يعني إن الشيطان يُراقبكم على الدَوام، ويراكم هو وذريته وجنوده من الجن، وأنتم لا ترونهم فاحذروهم بالاستعاذة الفورية مِن وسوستهم، ولا تغفُلوا عن المواضع التي يدخلون منها إليكم، ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ ﴾ أي نُصَراء وأحِبَّاء ﴿ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾، فالشياطين يُمَثلون قمة الشر والخُبث، والذين لا يؤمنون قلوبهم مظلمة (لانعدام نور الإيمان فيها)، فهي متهيئة لقبول ما توسوس به الشياطين من أنواع المفاسد والشرور والشِرك والمعاصي، فلذلك كانوا أولياءَ لهم.
الآية 28: ﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ﴾: يعني وإذا أتى الكفارُ فِعلاً قبيحًا من الأفعال - كالطواف بالبيت عُراة - اعتذروا عن ذلك، فـ ﴿ قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا ﴾: أي ورثنا تلك الأمور عن آبائنا ﴿ وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ﴾ ﴿ قُلْ ﴾ لهم أيها الرسول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ ﴾ عباده ﴿ بِالْفَحْشَاءِ ﴾ ﴿ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ كَذِبًا وافتراءً؟
الآية 29، والآية 30: ﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ﴾ أي أمر بالعدل (وقمة العدل: توحيدُ اللهِ تعالى، لأنه وحده الذي يستحق العبادة)، وأما الشِرك وفِعل الفواحش، والكذب على الله تعالى بأنه قد أحَلّ كذا (وهو لم يُحِلُّه)، وبأنه قد حَرَّمَ كذا (وهو لم يُحَرِّمْهُ)، فهذا هو قمة الظلم، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾، ولذلك قال ابن عباس: (القسط: لا إله إلاّ الله) أي بأن يُعبَدَ اللهُ وحده، ﴿ وَأَقِيمُوا ﴾: أي وأمركم أن تقيموا ﴿ وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾: والمعنى أنه تعالى أمركم أن تُخلِصوا له العبادة في كل مَوضع من مواضعها، وخاصَّةً في المساجد، (وقد خَصَّ الوجه بالعبادة لأنه إذا خضع وَجْهُ العبد لله: خضعتْ له جميع جوارحِه، فلا يُشركُ بعبادته أحدًا)، ﴿ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾: أي وأمركم أن تدعوه وحده ولا تدعوا معه أحداً، وأن تؤمنوا بالبعث بعد الموت، لأنه سبحانه ﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾: أي إنه كما أوجدكم من العدم،فإنه قادرٌ على إعادة الحياة إليكم مرة أخرى.
• ثم يُخبر تعالى أنه جعل عباده فريقين: ﴿ فَرِيقًا هَدَى ﴾: أي فريقًا وفَّقهم للهداية إلى الصراط المستقيم، ويَسَّرَ لهم أسبابها، وصرف عنهم ما يُشغِلُهم عنها، وذلك بسبب اتّباعِهم لأسباب الهدى، ﴿ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ﴾: يعني وَجَبَتْ عليهم الضلالة عن الطريق المستقيم، ثم وَضَّحَ السبب في استحقاقهم لهذه الضلالة فقال: ﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ فأطاعوهم وأحَبُّوهم من دون الله تعالى، فحِينَ تركوا ولاية الرحمن، وأحَبُّوا ولاية الشيطان، حصل لهم النصيب الوافر من الخُذلان، وَوُكِلوا إلى أنفسهم فخَسروا أشد الخُسران، ﴿ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾: أي وقد أطاعوا الشياطين ظنًا منهم بأنهم قد سلكوا سبيل الهداية، فانقلبت عليهم الحقائق، فظنوا الباطلَ حقاً والحقَّ باطلاً، ولذلك أضَلَّهم اللهُ بِعَدْلِه، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾.
تفسير الربع الثاني من سورة الأعراف بأسلوب بسيط
الآية 31، والآية 32:﴿ يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ ﴾ المشروعة - مِن لِبس ثيابٍساترة للعورة، ونظافةٍ وطهارةٍ ونحو ذلك -، وذلك ﴿ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾: يعني عند أداء كل صلاة، فلا تُصَلّوا وأنتم مَكشوفوا العورات، ولا تطوفوا بالبيت عُراة كما فعل المشركون، ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ﴾ من طيبات ما رزقكمالله، ﴿ وَلَا تُسْرِفُوا ﴾: أي ولا تتجاوزوا حدود الاعتدال، ﴿ إِنَّهُ ﴾ تعالى ﴿ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ في الطعام والشراب وغير ذلك.
واعلم أن هذه الآية الكريمة هي أصلٌ من أصول الدواء، إذ حَرَّمَتْ الإسراف في الأكل والشرب، لأن ذلك سبب كافة الأمراض، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ملأ آدَمِيٌّ وعاءً شراً مِن بطنه، بِحَسْب - يعني يكفي - ابن آدم أكَلات يُقِمْنَ صُلبَه، فإن كان لا مَحالة، فثُلُثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثُلثٌ لنَفَسِه) (انظر السلسلة الصحيحة ج: 5/ 336).
وَلَمَّا حَرَّمَ المشركون الطوافَ بالثياب - وطافوا بالبيت عُراة - بِدَعوَى أنهم لا يطوفون بثيابٍ عَصَوا اللهَ تعالى فيها، أنكَرَ اللهُ ذلك عليهم بقوله: ﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول لهؤلاء الجَهَلة من المشركين: ﴿ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ﴾: يعني مَن الذي حَرَّمَ عليكم الثياب التي جعلها اللهُ زينةً لكم؟ (واعلم أنّ معنى: ﴿ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ﴾: أنه أخرج النبات - الذي يُصنَع منه الثياب - من الأرض، كالقطن والكِتَّان).
﴿ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾: يعني ومَن الذي حَرَّمَ عليكم التمتع بالحلالالطيب مِن رزق الله تعالى؟ (والمقصود بذلك: اللحوم التي حَرَّمَها المشركون افتراءً على الله تعالى، وهي المذكورة في سورة الأنعام)، ﴿ قُلْ ﴾ لهم: إن الطيبات - من المَطاعم والمَشارب والملابس - التي أحَلَّهااللهُ تعالى ﴿ هِيَ ﴾ حقٌ ﴿ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ يُشاركهم فيها غيرُهُم، ﴿ خَالِصَةً ﴾ لهم ﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ دونَ أن يُشاركهم فيها أحد، ﴿ كَذَلِكَ ﴾: يعني مِثل ذلك التفصيل السابق: ﴿ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ ما يُبَيِّنُ لهم لِيعملوا به، فبذلك أخبر تعالى عن نعمةٍ عظيمة، وهي تفصيلِهِ للآيات وإظهارها، لينتفع بهاالعلماء الذين يُمَيِّزونَ - بنور العلم - بين الحق والباطل، ولِيُعَلموها للناس.
وفي الآية دليل على أنه يُشرَع التَجَمُّل بأحسن الثياب، وخاصةً في الأعياد والجُمَع وزيارة الناس ومقابلة الوفود، وليس مِن السُنّة لِبس المُرَقَّعات، وليس معنى: (لباس التقوى) أنها الثياب الخشنة والمُرَقَّعة، وإنما المقصود بذلك: تقوى الله تعالى بامتثال الأمر واجتناب النهي، وفي الحديث الصحيح: (إن الله جميلٌ يحب الجَمال).
الآية 33: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ ﴾: يعني إنما حَرَّم اللهُ القبائح من الأعمال ﴿ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾: أي ماكان منها ظاهرًا أمام الناس، وما كان خَفيًّا في السر، ﴿ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾: يعني وحَرَّم تعالى المعاصي كلها، ومِن أعظمهاالاعتداء على الناس بغير حق (يعني بغير المعاقبة بالمِثل)، فقد قال تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ﴿ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾، ﴿ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ﴾: يعني وحَرَّمَ تعالىأن تعبدوا معه غيره من الآلهة المزعومة التي لم يُنَزِّل به حُجَّةً تدل على أنها تستحق العبادة، أو أنها تقربكم إلى ربكم كما تزعمون، فهي مصنوعة بأيديكم، لا تَسمع ولا تُبصِر، ولا تنفع ولا تضر، ﴿ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾: يعني وحَرَّمَ تعالى أنتنسبوا إليه ما لم يُشَرِّعْهُ (افتراءً وكذبًا)، كتحريم بعض الحلال من الملابس والمآكِل، (ويدخل في ذلك أيضاً: الفتوى بغير علم).
الآية 34: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾: يعني ولكل جماعة اجتمعتْ على الكُفر: وقتٌ لحلول العقوبة بهم، ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ﴾: أي فإذا جاء الوقت المحدد لإهلاكهم، فإنهم ﴿ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ عنه ﴿ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾: أي لا يتأخرون عن ذلك الوقتلحظة، ولا يتقدمون عليه.
الآية 35، والآية 36: ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ﴾: يعني إذا جاءكم رُسُلِي من أقوامكم ﴿ يَقُصُّونَ ﴾: أي يَتْلُون ﴿ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي ﴾ المُنَزَّلة عليهم، ويُبَيِّنون لكمالبراهين على صِدق ما جاؤوكم به فأطيعوهم، ﴿ فَمَنِ اتَّقَى ﴾ سخط الله (بفعل الأوامر وأوَّلها التوحيد، واجتناب النواهي وأوَّلها الشرك) ﴿ وَأَصْلَحَ ﴾ عمله (بالإخلاص واتِّباع السُنَّة) ﴿ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ يوم القيامة من عذاب الله تعالى، ﴿ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على ما فاتهم منحظوظ الدنيا، ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا ﴾: يعني وأمَّا الكفار الذين كذَّبوا بالدلائل الواضحة على توحيد الله تعالى، وتكبَّروا عن اتِّباعها فـ ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ - أي أهْلُها - ﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
واعلم أنّ القَصَص: هو إتْبَاع الحديث بعضه بعضاً، وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: ﴿ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي ﴾، أي يَتْلُونها عليكم آية بعد آية، مُوَضِّحين لكم ما دَلَّتْ عليه مِن أحكامٍ وشرائع، ووعدٍ ووعيد.
الآية 37: ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ ﴾: أي فمَن أشدّ ظلمًا ﴿ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ - وذلك بأن يقول مثلاً: (اتَّخَذَ اللهُ ولداً، أو أنه أمر بالفواحش، أو أنه حَرَّمَ كذا وهو لم يُحَرِّم، أو غير ذلك) -، ﴿ أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ ﴾ المُنَزَّلة؟،﴿ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ ﴾: يعني أولئك يَصِلُ إليهم حظُّهم من الحياة الدنيا (من الخير والشر)، مما قُدِّرَ لهم في اللوح المحفوظ، وهؤلاء، وإن تمتعوا بالدنيا، فلن يَدفع ذلك عنهم شيئاً، لأنهم يَتمتعون قليلاً ثم يُعَذَّبون طويلاً، قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾، ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ﴾: أي حتى إذاجاءهم مَلَكُ الموت وأعوانه لِيَقبضوا أرواحهم: ﴿ قَالُوا ﴾ لهم: ﴿ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾: يعني أين الذين كنتم تعبدونهممن دون الله من الشركاء والأولياء والأوثان لِيُخلِّصوكم مما أنتم فيه؟ ﴿ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا ﴾: أي ذهبوا وغابوا عنا، ﴿ وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾.
الآية 38: ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ تعالى لهؤلاء المشركين المُفتَرين: ﴿ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ ﴾: أي ادخلوا في جُملة جماعات من الكافرينأمثالكم ﴿ قَدْ خَلَتْ ﴾: أي قد مضت ﴿ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ﴾ فادخلوا جميعاً ﴿ فِي النَّارِ ﴾، ثم يُخبِرُ تعالى أنه ﴿ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا ﴾: أي كلما دخلتْ النارَ جماعةٌمن أهل مِلَّة معينة: لعنتْ نظيرتها التي أضلَّتْها، فلَعَنَ المشركون بعضهم بعضاً، ولَعَنَ اليهود والنصارى بعضهم بعضاً، وهكذا، ﴿ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا ﴾: يعني حتى إذا لحق الأوَّلون من أهل المِلَل الكافرة بالآخرين منهم، فدخلوا جميعاً في النار وتقابلوا فيها: ﴿ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ ﴾: أي قال الآخرون - (وهم الأتباع المرؤوسون فيالدنيا) - فقالوا للأوَّلين (وهم القادة والرؤساء في الضلال): ﴿ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ) ﴾ هم الذين ﴿ أَضَلُّونَا ﴾ عن الحق، ﴿ فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا ﴾ أي مُضاعَفاً ﴿ مِنَ النَّارِ ﴾، فـ ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ تعالى: ﴿ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ﴾: أي لِكُلٍّ منكم ومنهم عذابٌ مُضاعَف من النار،﴿ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ أيها الأتباع ما لِكُلِّ فريقٍ منكم من العذاب والآلام.
الآية 39: ﴿ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ ﴾: يعني وقال الرؤساء لأتباعهم: نحن وأنتم متساوون في الضلال، ومتساوون في فِعْلِ أسباب العذاب، ﴿ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ﴾: أي فلا أحدٌ منكم أفضلُ مِنَّا حتى تزعموا أنكم لا تستحقون العذاب، فكُلُّنا نستحقه بما فعلنا، فقال اللهُ تعالى لهمجميعًا: ﴿ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾ من الظلم والشر والفساد.
الآية 40، والآية 41 : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا ﴾: يعني إن الكفار الذين جحدوا بحُجَجِنا الواضحة وبآياتنا الدالة على وحدانِيَّتِنا، ولميعملوا بشرعنا تكَبُّرًا واستعلاءً، أولئك ﴿ لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ﴾: أي لا تُفتَّح أبواب السماء لأعمالهم في حاتهم، ولا لأرواحهمعند مماتهم، ﴿ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ﴾: أي ولا يمكن أن يدخل هؤلاء الكفار الجنة، إلا إذا دخلالجمل في ثقب الإبرة، وهذا مستحيل، ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾: يعني ومِثل ذلك الجزاء: ﴿ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ﴾ الذين كَثُرَ إجرامهم،واشتدَّ طغيانهم، وهؤلاء ﴿ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ ﴾: أي فِراشٌ مِن تحتهم مصنوعٌ من النار ينامون عليه، ﴿ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ﴾: أي ومِن فوقهم أغطيةتغشاهم - أي يَتغطون بها - مصنوعة من النار أيضاً، ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾: يعني وبمِثل هذا العقاب الشديد: ﴿ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ الذين تجاوزواحدودَ اللهِ تعالى فكفروا به وعصَوْه.
الآية 42، والآية 43: ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ - في حدود طاقاتهم - فإننا ﴿ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ أي إلا ما تطيق من الأعمال، فـ ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ﴾: يعني وقد أذهَبْنا ما في صدور أهل الجنة من حِقدٍ وضغائن، فهم إخوة مُتحابون، لا يَحمل أحدهم غِلاًّ أو كراهيةً لأخيه، ومِن كمال نعيمهم أنهم﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ﴾: أي تجري أنهارُ الماء والعسل واللبن والخمر مِن تحت قصورها العالية، وأشجارها الظليلة، ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ﴾: أي الحمدُ للهالذي وَفَّقنا للعمل الصالح الذي أكْسَبَنا ما نحن فيه من النعيم، ﴿ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾: يعني وما كُنَّالِنُوَفَّق إلى سلوك الطريق المستقيم لولا أَنْ هدانا الله له، ووفَّقنا للثبات عليه، ﴿ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ من الإخبار بوعد أهلطاعته بالنعيم، ووعيد أهل معصيته بالعذاب، ﴿ وَنُودُوا ﴾: يعني ونُوديَ على أهل الجنة - تهنئةً لهم وإكرامًا - ﴿ أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾: يعني إنَّ هذه الجنة قد أورثكمالله إياها برحمته، وقد منحكم هذه الرحمة بسبب ما قدَّمتموه من الإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾، وقال أيضاً: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ .
واعلم أنه لا تناقض بين هذه الجملة: ﴿ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ، وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يَدخل أحد الجنة بعمله)، فالباء في كلمة: (بعمله) تُسَمَّى باء المُقابَلة، كما يُقال: اشتريتُ هذابهذا؛ أي: ليس العملُ وحده ثمنًا كافيًا لدخول الجنة، بل لا بد مِن رحمةالله تعالى، أما الباء التي في قوله تعالى: ﴿ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾، فتُسَمَّى باء السبب؛ أي: بسبب أعمالِكم.
واعلم أن العبد إذا أصابه عُجب (يعني إعجاب وغرور) بعمله، فإنه ينبغي أن يقول هذه الجملة:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾، وذلك حتى يَنسب الفضل لله تعالى صاحب النعمة والتوفيق، ولا يَنسب الفضل لنفسه الأمَّارة بالسوء، وذلك حتى لا يَخذله الله تعالى، ويَرُدّ عليه عمله.
تفسير الربع الأول من سورة الأعراف بأسلوب بسيط
الآية 2، والآية 3: ﴿ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾: أي إنّ هذا القرآن هو كتابٌ عظيم أنزله اللهُ عليك أيها الرسول ﴿ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ﴾: يعني فلا يكن في صدرك ضِيقٌ منه بسبب إبلاغه للمشركين، ولا تخشَ بسببه لائماً أو مُعارِضاً، فإنما أنزلناه إليك ﴿ لِتُنْذِرَ بِهِ ﴾: أي لِتخوِّف به الكافرين عواقب شِركهم وضلالهم، ﴿ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾: أي ولِتُذكِّر به المؤمنين، وتقول لهم: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ من الكتاب والسُنَّة، وذلك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ ﴾: أي ولا تتبعوا من غير الله ﴿ أَوْلِيَاءَ ﴾ كالشياطين والأحبار والرُهبان، ورؤساء الشرك والضلال، إنكم أيها الناس ﴿ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾: يعني قليلاً ما تتعظون، وترجعون إلى الحق.
الآية 4: ﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ﴾: يعني وكثيرٍ مِن القرى أردنا إهلاك أهلها بسبب تكذيبهم ومخالفتهم لِرُسُلنا ﴿ فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ﴾: أي فجاءهم عذابنا مَرة وهم نائمون ليلاً، ومَرة وهم نائمون نهارًا (وقت القَيْلُولة) وهو الوقت الذي يستريح فيه الإنسان بعد صلاة الظهر (وذلك على الراجح من أقوال العلماء)،وقد خَصَّ الله هذين الوقتين لأنهما وقتان للسكون والراحة،فمَجيء العذاب فيهما أفظع وأشد.
الآية 5: ﴿ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا ﴾: يعني فما كان قولهم عند مجيء العذاب ﴿ إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾: أي إلا أن اعترفوا بالذنوب والإساءة، واعترفوا أنهم كانوا مستحقين لهذا العذاب الذي نزل بهم، ولكنْ لم تنفعهم التوبة عند مُعايَنة الموت والعذاب، ولذلك ينبغي للعبد المؤمن أن يُجدد التوبة في كل وقت - استعداداً للموت - حتى تأتيه سَكرة الموت وهو تائب، إذِ النجاةُ كلها في لقاء الله تعالى بتوبةٍ نصوح.
الآية 6: ﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ﴾ - وهم الأمم والأقوام - فنقول لهم: (ماذا أجبتم رُسُلنا؟)، ﴿ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾ عن تبليغهم لرسالات ربهم، وعمَّا أجابتهم به أممهم.
الآية 7: ﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ ﴾: يعني فلنُخبرنَّ الخَلق بكل ما عملوا، وذلك ﴿ بِعِلْمٍ ﴾ مِنَّا لأعمالهم في الدنيا (ظاهرها وباطنها)، لا يستطيعون إخفاء شيءٍ منها ﴿ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ﴾ عنهم حينما كانوا في الدنيا، فكل أعمالهم كانت مكشوفة ظاهرة لله تعالى، لم يَخْفَ عليه منها شيء، وهو السميع البصير.
• ورغم أنه سبحانه أعلمُ بما عملوا، ولا يحتاجُ إلى أن يسألهم عمَّا فعلوه، إلاَّ أنّ سؤالَهُ تعالى لهم كانَ مِن باب إقامة الحُجَّة عليهم، ولإظهار عَدالته فيهم، ولتوبيخ مَن يستحق التوبيخ منهم.
الآية 8، والآية 9: ﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ﴾: يعني: وَوَزنُ أعمال الناس يوم القيامة يكون بميزان حقيقي بالعدل، ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾ لكثرة حسناته: ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ الفائزون بالنجاةِ من النار ودخول الجنة، ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴾ لكثرة سيئاته: ﴿ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾: أي فأولئك هم الذين أضاعوا حظَّهم من رضوان الله تعالى وجَنَّتِه، وذلك ﴿ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴾: أي بسبب تجاوزهم الحَدّ، وذلك بِجَحْدِهِم لآيات الله تعالى وعدم الانقيادلها.
الآية 10: ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾: يعني ولقد جعلناكم أيها الناس متمكنين في الأرض، وذلك بأن جعلناها لكم مستقرة مُمَهَّدَة، لا تضطرب حتى لا يَفسد ما عليها، ﴿ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ﴾: أي وجعلنا لكم فيها ما تعيشون به من مَطاعم ومَشارب، ومع ذلك فـ ﴿ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ نِعَمَ اللهِ عليكم، واعلم أن الشكر هو ذِكرُ النعمة باللسان، وذلك بقوْل كلمة: (الحمدُ لله)، وكذلك باستخدام النعمة في طاعة المُنعِم جل وعلا، وعدم استخدامها في معصيته، قال تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي فحَقِّقوا الشُكر بتقواكم للهِ تعالى.
الآية 11: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ﴾: يعني ولقد أنعمنا عليكم بخَلْق أصلكم - وهو أبوكم آدم من العدم -، ثم صوَّرناه على هيئته البشرية الكريمة، المُفضَّلة على كثيرٍ من الخَلق، ﴿ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ ﴾ إكرامًا واحترامًا وإظهارًا لِفَضلِه ﴿ فَسَجَدُوا ﴾ جميعًا ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ ﴾ الذي كان يَعبدُ اللهَ معهم ﴿ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴾ لآدم، حسدًا له على هذا التكريم العظيم.
الآية 12: ﴿ قَالَ ﴾ تعالى مُنكِرًا على إبليس تَرْكَ السجود: ﴿ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾؟ ﴿ قَالَ ﴾ إبليس: ﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ﴾ فقد ﴿ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾، فرأى أن النار أشرف من الطين، وفَضَّلَ ما يراه عقله على الانقياد لأمر ربه.
الآية 13: ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ لإبليس: ﴿ فَاهْبِطْ مِنْهَا ﴾ أي مِن الجنة، ﴿ فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا ﴾: يعني فمَا يَصِحّ لك أن تعيش فيها وأنت من المتكبرين، ﴿ فَاخْرُجْ ﴾ من الجنة ﴿ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾: أي من الذليلين الحقيرين.
الآية 14: ﴿ قَالَ ﴾ إبليس للهِ - جل وعلا - حينما يئس من رحمته: ﴿ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾: أي أمْهِلني إلى يوم البعث، وذلك لأتمكن من إضلال مَن أقدر عليه من بني آدم.
الآية 15: ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ تعالى له: ﴿ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ﴾: يعني إنك مِمَّن كتبتُ عليهم تأخير الأجل إلى النفخة الأولى (التي ينفخها إسرافيل في القرن)، وذلك حين يموت الخلق كلهم.
الآية 16: ﴿ قَالَ ﴾ إبليس لعنه الله: ﴿ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي ﴾: يعني فبسبب إضلالك لي: ﴿ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾: يعني لأجتهدنَّ في إضلال بني آدم عن طريقك القويم، ولأصدَّنَّهم عن الإسلام الذي فطرْتَهم عليه.
الآية 17: ﴿ ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ﴾: يعني ثم لآتينَّهم من جميع الجهات والجوانب، فأصُدّهم عن الحق، وأُُحَسِّن لهم الباطل، وأُرَغِّبهم في الدنيا، وأُشَكِّكهم في الآخرة، ﴿ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ لِنِعَمِك.
الآية 18: ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ تعالى لإبليس: ﴿ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا ﴾: أي اخرج من الجنة مَمقوتًا (يعني مَكْروهًا مَبْغوضاً) ﴿ مَدْحُورًا ﴾: أي مطرودًا، ﴿ لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ ﴾: أي لأملأنَّ جهنم منك وممن تبعك من بني آدم ﴿ أَجْمَعِينَ ﴾.
الآية 19: ﴿ وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ ﴿ فَكُلَا مِنْ ﴾ ثمارها ﴿ حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾ ﴿ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾ (وعَيَّنها لهما)، ﴿ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾: يعني فإن فعلتما ذلك، كنتما من الظالمين المتجاوزين حدودَ اللهِ تعالى.
الآية 20: ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ﴾: يعني فألقى الشيطان لآدم وحواء وسوسته، لإيقاعهما في معصية الله تعالى بالأكل من تلك الشجرة التي نهاهما الله عنها، وذلك ﴿ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا ﴾: أي لتكون عاقبتهما: انكشاف ما سُتِرَ من عوراتهما، ﴿ وَقَالَ ﴾ لهما في محاولة المَكر بهما: ﴿ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ ﴾ أي مِن الملائكة ﴿ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴾ في الحياة.
• وهنا قد يقول قائل: كيف استطاع إبليس أن يوسوس لهما وهما داخل الجنة، عِلماً بأنه مطرود من الجنة؟
والجواب - والله أعلم - أنه (ربما يكون المقصود مِن طَرْدِهِ من الجنة: عدم الاستقرار فيها)، (وربما يكون قد وسوس لهما من خارج الجنة، فوصلتْ وسوسته لهما وهما داخل الجنة)، ولا نستبعد ذلك أبداً، فقد رأينا في عصرنا هذا أنّ الشخص يستطيع التحدث مع شخصٍ آخر وهو على بُعدٍ سحيقٍ منه، وذلك باستخدام العديد من وسائل الاتصال الحديثة، وأيَّاً كانت الوسيلة، المُهِمّ أن هذه الوسوسة قد وصلتْ إليهما بقدر الله تعالى.
الآية 21: ﴿ وَقَاسَمَهُمَا ﴾: أي وأقسم الشيطان لآدم وحواء باللهِ ﴿ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ في مَشورتي عليكما بالأكل من الشجرة، وهو كاذبٌ في ذلك.
الآية 22: ﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ﴾: أي فجرَّأهما بخداعٍ منه، فأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الاقتراب منها، ﴿ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا ﴾: أي انكشفت لهما عوراتهما، وزال ما سَترهما اللهُ به قبل المخالفة، ﴿ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ﴾: أي وأخذا يَلزقان بعض ورق الجنة على عوراتهما، ﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾، وفيهذا دليل على أنّ كَشْف العورة من عظائم الأمور، وأنه كان - ولم يَزَل - مُستنكَراً في الطباع، مُستقبَحًا في العقول.
الآية 23: ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ﴾ بالأكل من الشجرة، ﴿ وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ الذين أضاعوا حظَّهم من نعيم الجنة، (وهذه الكلمات هي التي تَلَقَّاها آدمُ مِن ربه، فدعا بها فتابَ اللهُ عليه).
الآية 24 الآية 25: ﴿ قَالَ ﴾ تعالى مُخاطبًا آدم وحواء وإبليس: ﴿ اهْبِطُوا ﴾ من السماء إلى الأرض، وسيكون ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ يعني: (آدم وحواء) يُعادون الشيطان، والشيطان يُعادِيهِما، ﴿ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ﴾ أي مكانٌ تستقرون فيه، ﴿ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾: يعني وانتفاعٌ بما في الأرض إلى وقت انقضاء آجالكم، ثم ﴿ قَالَ ﴾ تعالى لآدم وحوَّاء وذريتهما: ﴿ فِيهَا تَحْيَوْنَ ﴾: أي في الأرض تقضون أيام حياتكم الدنيا، ﴿ وَفِيهَا تَمُوتُونَ ﴾ ﴿ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾: يعني ومنها يُخْرجكم ربكم، ويَحشركم أحياء يوم البعث.
الآية 26: ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ ﴾: يعني قد جعلنا لكم لباسًا يستر عوراتكم، وهو لباس الضرورة، ﴿ وَرِيشًا ﴾: أي وجعلنا لكم لباسًا للزينة والتجمل، وهو من الكمال والتنعُّم، ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾: يعني ولباسُ تقوى الله تعالى - بفعل الأوامر واجتناب النواهي - هو خيرُ لباسٍ للمؤمن في حِفظ العورات والأجسام والعقول والأخلاق، ﴿ ذَلِكَ ﴾ الذي مَنَّ الله به عليكم هو ﴿ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ ﴾ الدالة على قدرته تعالى وفضله ورحمته بعبادهِ ﴿ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ هذه النعم فيشكروا اللهَ عليها بالإيمان والطاعة، لأنّ هذه النعم تستوجب توحيدَ اللهِ تعالى وطاعته.
• واعلم أنّ قوله تعالى: ﴿ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا ﴾ يُفهَم منه أنّ إنزال اللّباس كان من السماء، وذلك يعود إلى أمور، منها: أن آدم عليه السلام هو أوّل مَن سَتر عورته بورق التين من شجر الجنة، ومنها أنّ آدم نزل من السماء مَكْسُوّاً وورث عنه أولاده ذلك، ومنها أن الماء الذي يَخرج بسببه النبات (الذي يُصنَع منه اللباس كالقطن والكِتَّان) قد نزل من السماء، (وحتى الأنعام ذوات الصوف والوَبَر (كالغنم والإبل) حياتها متوقفة على ماء السماء).
الآية 27: ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ﴾: أي لا يَخدعنَّكم الشيطان، فيُزَيِّن لكم المعصية، ويدعوكم إليها، ويُرَغِّبكم فيها ﴿ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ﴾: أي كما زيَّنها لأبويكم آدم وحواء، فأخرجهما بسببها من الجنة، ﴿ يَنْزِعُ ﴾: يعني وقد تسَبَّبَ في أن نُزِعَ ﴿ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا ﴾ الذي كان اللهُ تعالى قد سترهما به (ما داما حافظَيْن لأنفسهما مِن فِعل ما نُهِيَا عنه)، وقد فعل الشيطان ذلك ﴿ لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا ﴾: أي لتنكشف لهما عوراتهما.
• واعلمْ أن الله تعالى قد ذكرَ الفِعل: ﴿ يَنْزِعُ ﴾ بصيغة المضارع، بعد أن كانَ سِياق الآية بصيغة الماضي، وذلك في قوله: ﴿ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ﴾، لِيُوَضِّحَ أنّ الشيطان قد بذل جهده في وسوسته لهما وتزيينه للمعصية، وأنه استمر في المكر والخَديعة حتى أوقعهما في الخطيئة، (فالفِعل المضارع يدل على الاستمرارية)، وفي هذه الآية دليل على حِرص الشيطان على أن يكشف الآدَمِيُّ عورته، لِمَا يَتبع ذلك من الفِسق والفجور.
• ثم قال تعالى (مُنَبِّهاً لهم على خطورة العدو): ﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ﴾: يعني إن الشيطان يُراقبكم على الدَوام، ويراكم هو وذريته وجنوده من الجن، وأنتم لا ترونهم فاحذروهم بالاستعاذة الفورية مِن وسوستهم، ولا تغفُلوا عن المواضع التي يدخلون منها إليكم، ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ ﴾ أي نُصَراء وأحِبَّاء ﴿ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾، فالشياطين يُمَثلون قمة الشر والخُبث، والذين لا يؤمنون قلوبهم مظلمة (لانعدام نور الإيمان فيها)، فهي متهيئة لقبول ما توسوس به الشياطين من أنواع المفاسد والشرور والشِرك والمعاصي، فلذلك كانوا أولياءَ لهم.
الآية 28: ﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ﴾: يعني وإذا أتى الكفارُ فِعلاً قبيحًا من الأفعال - كالطواف بالبيت عُراة - اعتذروا عن ذلك، فـ ﴿ قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا ﴾: أي ورثنا تلك الأمور عن آبائنا ﴿ وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ﴾ ﴿ قُلْ ﴾ لهم أيها الرسول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ ﴾ عباده ﴿ بِالْفَحْشَاءِ ﴾ ﴿ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ كَذِبًا وافتراءً؟
الآية 29، والآية 30: ﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ﴾ أي أمر بالعدل (وقمة العدل: توحيدُ اللهِ تعالى، لأنه وحده الذي يستحق العبادة)، وأما الشِرك وفِعل الفواحش، والكذب على الله تعالى بأنه قد أحَلّ كذا (وهو لم يُحِلُّه)، وبأنه قد حَرَّمَ كذا (وهو لم يُحَرِّمْهُ)، فهذا هو قمة الظلم، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾، ولذلك قال ابن عباس: (القسط: لا إله إلاّ الله) أي بأن يُعبَدَ اللهُ وحده، ﴿ وَأَقِيمُوا ﴾: أي وأمركم أن تقيموا ﴿ وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾: والمعنى أنه تعالى أمركم أن تُخلِصوا له العبادة في كل مَوضع من مواضعها، وخاصَّةً في المساجد، (وقد خَصَّ الوجه بالعبادة لأنه إذا خضع وَجْهُ العبد لله: خضعتْ له جميع جوارحِه، فلا يُشركُ بعبادته أحدًا)، ﴿ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾: أي وأمركم أن تدعوه وحده ولا تدعوا معه أحداً، وأن تؤمنوا بالبعث بعد الموت، لأنه سبحانه ﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾: أي إنه كما أوجدكم من العدم،فإنه قادرٌ على إعادة الحياة إليكم مرة أخرى.
• ثم يُخبر تعالى أنه جعل عباده فريقين: ﴿ فَرِيقًا هَدَى ﴾: أي فريقًا وفَّقهم للهداية إلى الصراط المستقيم، ويَسَّرَ لهم أسبابها، وصرف عنهم ما يُشغِلُهم عنها، وذلك بسبب اتّباعِهم لأسباب الهدى، ﴿ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ﴾: يعني وَجَبَتْ عليهم الضلالة عن الطريق المستقيم، ثم وَضَّحَ السبب في استحقاقهم لهذه الضلالة فقال: ﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ فأطاعوهم وأحَبُّوهم من دون الله تعالى، فحِينَ تركوا ولاية الرحمن، وأحَبُّوا ولاية الشيطان، حصل لهم النصيب الوافر من الخُذلان، وَوُكِلوا إلى أنفسهم فخَسروا أشد الخُسران، ﴿ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾: أي وقد أطاعوا الشياطين ظنًا منهم بأنهم قد سلكوا سبيل الهداية، فانقلبت عليهم الحقائق، فظنوا الباطلَ حقاً والحقَّ باطلاً، ولذلك أضَلَّهم اللهُ بِعَدْلِه، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾.
تفسير الربع الثاني من سورة الأعراف بأسلوب بسيط
الآية 31، والآية 32:﴿ يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ ﴾ المشروعة - مِن لِبس ثيابٍساترة للعورة، ونظافةٍ وطهارةٍ ونحو ذلك -، وذلك ﴿ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾: يعني عند أداء كل صلاة، فلا تُصَلّوا وأنتم مَكشوفوا العورات، ولا تطوفوا بالبيت عُراة كما فعل المشركون، ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ﴾ من طيبات ما رزقكمالله، ﴿ وَلَا تُسْرِفُوا ﴾: أي ولا تتجاوزوا حدود الاعتدال، ﴿ إِنَّهُ ﴾ تعالى ﴿ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ في الطعام والشراب وغير ذلك.
واعلم أن هذه الآية الكريمة هي أصلٌ من أصول الدواء، إذ حَرَّمَتْ الإسراف في الأكل والشرب، لأن ذلك سبب كافة الأمراض، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ملأ آدَمِيٌّ وعاءً شراً مِن بطنه، بِحَسْب - يعني يكفي - ابن آدم أكَلات يُقِمْنَ صُلبَه، فإن كان لا مَحالة، فثُلُثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثُلثٌ لنَفَسِه) (انظر السلسلة الصحيحة ج: 5/ 336).
وَلَمَّا حَرَّمَ المشركون الطوافَ بالثياب - وطافوا بالبيت عُراة - بِدَعوَى أنهم لا يطوفون بثيابٍ عَصَوا اللهَ تعالى فيها، أنكَرَ اللهُ ذلك عليهم بقوله: ﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول لهؤلاء الجَهَلة من المشركين: ﴿ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ﴾: يعني مَن الذي حَرَّمَ عليكم الثياب التي جعلها اللهُ زينةً لكم؟ (واعلم أنّ معنى: ﴿ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ﴾: أنه أخرج النبات - الذي يُصنَع منه الثياب - من الأرض، كالقطن والكِتَّان).
﴿ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾: يعني ومَن الذي حَرَّمَ عليكم التمتع بالحلالالطيب مِن رزق الله تعالى؟ (والمقصود بذلك: اللحوم التي حَرَّمَها المشركون افتراءً على الله تعالى، وهي المذكورة في سورة الأنعام)، ﴿ قُلْ ﴾ لهم: إن الطيبات - من المَطاعم والمَشارب والملابس - التي أحَلَّهااللهُ تعالى ﴿ هِيَ ﴾ حقٌ ﴿ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ يُشاركهم فيها غيرُهُم، ﴿ خَالِصَةً ﴾ لهم ﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ دونَ أن يُشاركهم فيها أحد، ﴿ كَذَلِكَ ﴾: يعني مِثل ذلك التفصيل السابق: ﴿ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ ما يُبَيِّنُ لهم لِيعملوا به، فبذلك أخبر تعالى عن نعمةٍ عظيمة، وهي تفصيلِهِ للآيات وإظهارها، لينتفع بهاالعلماء الذين يُمَيِّزونَ - بنور العلم - بين الحق والباطل، ولِيُعَلموها للناس.
وفي الآية دليل على أنه يُشرَع التَجَمُّل بأحسن الثياب، وخاصةً في الأعياد والجُمَع وزيارة الناس ومقابلة الوفود، وليس مِن السُنّة لِبس المُرَقَّعات، وليس معنى: (لباس التقوى) أنها الثياب الخشنة والمُرَقَّعة، وإنما المقصود بذلك: تقوى الله تعالى بامتثال الأمر واجتناب النهي، وفي الحديث الصحيح: (إن الله جميلٌ يحب الجَمال).
الآية 33: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ ﴾: يعني إنما حَرَّم اللهُ القبائح من الأعمال ﴿ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾: أي ماكان منها ظاهرًا أمام الناس، وما كان خَفيًّا في السر، ﴿ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾: يعني وحَرَّم تعالى المعاصي كلها، ومِن أعظمهاالاعتداء على الناس بغير حق (يعني بغير المعاقبة بالمِثل)، فقد قال تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ﴿ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾، ﴿ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ﴾: يعني وحَرَّمَ تعالىأن تعبدوا معه غيره من الآلهة المزعومة التي لم يُنَزِّل به حُجَّةً تدل على أنها تستحق العبادة، أو أنها تقربكم إلى ربكم كما تزعمون، فهي مصنوعة بأيديكم، لا تَسمع ولا تُبصِر، ولا تنفع ولا تضر، ﴿ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾: يعني وحَرَّمَ تعالى أنتنسبوا إليه ما لم يُشَرِّعْهُ (افتراءً وكذبًا)، كتحريم بعض الحلال من الملابس والمآكِل، (ويدخل في ذلك أيضاً: الفتوى بغير علم).
الآية 34: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾: يعني ولكل جماعة اجتمعتْ على الكُفر: وقتٌ لحلول العقوبة بهم، ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ﴾: أي فإذا جاء الوقت المحدد لإهلاكهم، فإنهم ﴿ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ عنه ﴿ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾: أي لا يتأخرون عن ذلك الوقتلحظة، ولا يتقدمون عليه.
الآية 35، والآية 36: ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ﴾: يعني إذا جاءكم رُسُلِي من أقوامكم ﴿ يَقُصُّونَ ﴾: أي يَتْلُون ﴿ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي ﴾ المُنَزَّلة عليهم، ويُبَيِّنون لكمالبراهين على صِدق ما جاؤوكم به فأطيعوهم، ﴿ فَمَنِ اتَّقَى ﴾ سخط الله (بفعل الأوامر وأوَّلها التوحيد، واجتناب النواهي وأوَّلها الشرك) ﴿ وَأَصْلَحَ ﴾ عمله (بالإخلاص واتِّباع السُنَّة) ﴿ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ يوم القيامة من عذاب الله تعالى، ﴿ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على ما فاتهم منحظوظ الدنيا، ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا ﴾: يعني وأمَّا الكفار الذين كذَّبوا بالدلائل الواضحة على توحيد الله تعالى، وتكبَّروا عن اتِّباعها فـ ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ - أي أهْلُها - ﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
واعلم أنّ القَصَص: هو إتْبَاع الحديث بعضه بعضاً، وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: ﴿ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي ﴾، أي يَتْلُونها عليكم آية بعد آية، مُوَضِّحين لكم ما دَلَّتْ عليه مِن أحكامٍ وشرائع، ووعدٍ ووعيد.
الآية 37: ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ ﴾: أي فمَن أشدّ ظلمًا ﴿ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ - وذلك بأن يقول مثلاً: (اتَّخَذَ اللهُ ولداً، أو أنه أمر بالفواحش، أو أنه حَرَّمَ كذا وهو لم يُحَرِّم، أو غير ذلك) -، ﴿ أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ ﴾ المُنَزَّلة؟،﴿ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ ﴾: يعني أولئك يَصِلُ إليهم حظُّهم من الحياة الدنيا (من الخير والشر)، مما قُدِّرَ لهم في اللوح المحفوظ، وهؤلاء، وإن تمتعوا بالدنيا، فلن يَدفع ذلك عنهم شيئاً، لأنهم يَتمتعون قليلاً ثم يُعَذَّبون طويلاً، قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾، ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ﴾: أي حتى إذاجاءهم مَلَكُ الموت وأعوانه لِيَقبضوا أرواحهم: ﴿ قَالُوا ﴾ لهم: ﴿ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾: يعني أين الذين كنتم تعبدونهممن دون الله من الشركاء والأولياء والأوثان لِيُخلِّصوكم مما أنتم فيه؟ ﴿ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا ﴾: أي ذهبوا وغابوا عنا، ﴿ وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾.
الآية 38: ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ تعالى لهؤلاء المشركين المُفتَرين: ﴿ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ ﴾: أي ادخلوا في جُملة جماعات من الكافرينأمثالكم ﴿ قَدْ خَلَتْ ﴾: أي قد مضت ﴿ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ﴾ فادخلوا جميعاً ﴿ فِي النَّارِ ﴾، ثم يُخبِرُ تعالى أنه ﴿ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا ﴾: أي كلما دخلتْ النارَ جماعةٌمن أهل مِلَّة معينة: لعنتْ نظيرتها التي أضلَّتْها، فلَعَنَ المشركون بعضهم بعضاً، ولَعَنَ اليهود والنصارى بعضهم بعضاً، وهكذا، ﴿ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا ﴾: يعني حتى إذا لحق الأوَّلون من أهل المِلَل الكافرة بالآخرين منهم، فدخلوا جميعاً في النار وتقابلوا فيها: ﴿ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ ﴾: أي قال الآخرون - (وهم الأتباع المرؤوسون فيالدنيا) - فقالوا للأوَّلين (وهم القادة والرؤساء في الضلال): ﴿ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ) ﴾ هم الذين ﴿ أَضَلُّونَا ﴾ عن الحق، ﴿ فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا ﴾ أي مُضاعَفاً ﴿ مِنَ النَّارِ ﴾، فـ ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ تعالى: ﴿ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ﴾: أي لِكُلٍّ منكم ومنهم عذابٌ مُضاعَف من النار،﴿ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ أيها الأتباع ما لِكُلِّ فريقٍ منكم من العذاب والآلام.
الآية 39: ﴿ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ ﴾: يعني وقال الرؤساء لأتباعهم: نحن وأنتم متساوون في الضلال، ومتساوون في فِعْلِ أسباب العذاب، ﴿ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ﴾: أي فلا أحدٌ منكم أفضلُ مِنَّا حتى تزعموا أنكم لا تستحقون العذاب، فكُلُّنا نستحقه بما فعلنا، فقال اللهُ تعالى لهمجميعًا: ﴿ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾ من الظلم والشر والفساد.
الآية 40، والآية 41 : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا ﴾: يعني إن الكفار الذين جحدوا بحُجَجِنا الواضحة وبآياتنا الدالة على وحدانِيَّتِنا، ولميعملوا بشرعنا تكَبُّرًا واستعلاءً، أولئك ﴿ لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ﴾: أي لا تُفتَّح أبواب السماء لأعمالهم في حاتهم، ولا لأرواحهمعند مماتهم، ﴿ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ﴾: أي ولا يمكن أن يدخل هؤلاء الكفار الجنة، إلا إذا دخلالجمل في ثقب الإبرة، وهذا مستحيل، ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾: يعني ومِثل ذلك الجزاء: ﴿ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ﴾ الذين كَثُرَ إجرامهم،واشتدَّ طغيانهم، وهؤلاء ﴿ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ ﴾: أي فِراشٌ مِن تحتهم مصنوعٌ من النار ينامون عليه، ﴿ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ﴾: أي ومِن فوقهم أغطيةتغشاهم - أي يَتغطون بها - مصنوعة من النار أيضاً، ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾: يعني وبمِثل هذا العقاب الشديد: ﴿ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ الذين تجاوزواحدودَ اللهِ تعالى فكفروا به وعصَوْه.
الآية 42، والآية 43: ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ - في حدود طاقاتهم - فإننا ﴿ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ أي إلا ما تطيق من الأعمال، فـ ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ﴾: يعني وقد أذهَبْنا ما في صدور أهل الجنة من حِقدٍ وضغائن، فهم إخوة مُتحابون، لا يَحمل أحدهم غِلاًّ أو كراهيةً لأخيه، ومِن كمال نعيمهم أنهم﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ﴾: أي تجري أنهارُ الماء والعسل واللبن والخمر مِن تحت قصورها العالية، وأشجارها الظليلة، ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ﴾: أي الحمدُ للهالذي وَفَّقنا للعمل الصالح الذي أكْسَبَنا ما نحن فيه من النعيم، ﴿ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾: يعني وما كُنَّالِنُوَفَّق إلى سلوك الطريق المستقيم لولا أَنْ هدانا الله له، ووفَّقنا للثبات عليه، ﴿ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ من الإخبار بوعد أهلطاعته بالنعيم، ووعيد أهل معصيته بالعذاب، ﴿ وَنُودُوا ﴾: يعني ونُوديَ على أهل الجنة - تهنئةً لهم وإكرامًا - ﴿ أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾: يعني إنَّ هذه الجنة قد أورثكمالله إياها برحمته، وقد منحكم هذه الرحمة بسبب ما قدَّمتموه من الإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾، وقال أيضاً: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ .
واعلم أنه لا تناقض بين هذه الجملة: ﴿ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ، وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يَدخل أحد الجنة بعمله)، فالباء في كلمة: (بعمله) تُسَمَّى باء المُقابَلة، كما يُقال: اشتريتُ هذابهذا؛ أي: ليس العملُ وحده ثمنًا كافيًا لدخول الجنة، بل لا بد مِن رحمةالله تعالى، أما الباء التي في قوله تعالى: ﴿ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾، فتُسَمَّى باء السبب؛ أي: بسبب أعمالِكم.
واعلم أن العبد إذا أصابه عُجب (يعني إعجاب وغرور) بعمله، فإنه ينبغي أن يقول هذه الجملة:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾، وذلك حتى يَنسب الفضل لله تعالى صاحب النعمة والتوفيق، ولا يَنسب الفضل لنفسه الأمَّارة بالسوء، وذلك حتى لا يَخذله الله تعالى، ويَرُدّ عليه عمله.
تفسير الربع الثالث من سورة الأعراف بأسلوب بسيط
الآية 44، والآية 45: ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ ﴾ - بعد دخولهم فيها - ﴿ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا ﴾ من النعيم الذي أعَدَّهُ لأهل طاعته، ﴿ فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ﴾ من العذاب الذي أعَدَّهُ لأهل معصيته؟ ﴿ قَالُوا نَعَمْ ﴾ ﴿ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ﴾: أي فنادَى مُنادٍ بأعلى صوته بين أهل الجنة وأهل النار: ﴿ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ ﴿ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾: أي الذين كانوا يَصُدُّون الناس - ويَصُدُّون أنفسهم - عن اتباع طريق الله المستقيم، وهو الإسلام، ﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾: أي ويطلبون أن تكون سبيل الله - وهي الإسلام - معْوَجَّة حتى لا يسلكها أحد، وحتى يجعلوا الشريعة تميل مع شهواتهم وميُولهم فتخدم أغراضهم، ﴿ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ ﴾.
الآية 46: ﴿ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ﴾: يعني: وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار حاجز عظيم يُقال له "الأعراف"، ﴿ وَعَلَى ﴾ هذا ﴿ الْأَعْرَافِ رِجَالٌ ﴾ قد استوت حسناتهم وسيئاتهم، ينتظرون قضاء الله فيهم، ويرجون رحمته تعالى بهم، وهؤلاء الرجال ﴿ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ ﴾: أي يعرفون أهل الجنة وأهل النار بعلاماتهم، كَبَيَاض وجوه أهل الجنة، وسَوادوجوه أهل النار، ﴿ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ﴾: أي ونادى رجال الأعراف على أصحاب الجنة بالتحية ﴿ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ﴾ ﴿ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ﴾: يعني وأهلالأعراف لم يدخلوا الجنة بعد، وهم يرجون دخولها.
الآية 47: ﴿ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ ﴾: يعني وإذا حُوِّلَتْ أبصار رجال الأعراف جهة أهل النار: ﴿ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾.
الآية 48، والآية 49: ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ﴾: أي ونادى أهل الأعراف على رجالٍ من قادة الكفار في النار، يعرفونهم بعلاماتٍخاصة تميزهم، فـ ﴿ قَالُوا ﴾ لهم: ﴿ مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾: أي ما نَفَعَكم ما كنتم تجمعون فيالدنيا من الأموال والرجال (للحروب)، وما نَفَعَكم تكبُّركم عن الإيمان وقَبول الحق.
• ثم أشاروا إلى أُناسٍ من أهل الجنة كانوا في الدنيا فقراء ضعفاء يَستهزئ بهم أهل النار، فقالوا لأهل النار: ﴿ أَهَؤُلَاءِ ﴾ الذين أدخلهم اللّه الجنة هم ﴿ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ﴾: أي أقسمتم في الدنيا بأنهم لن يُكرمهم اللهُ تعالى، ولن يَرفع لهم قدْراً لأنهم فقراء ضعفاء؟، فلمَّا قال أصحاب الأعراف ذلك، قيل لهم: ﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ﴾ يا أصحاب الأعراففقد غُفِرَ لكم، و ﴿ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ ﴾ من عذاب الله، ﴿ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾.
• واعلم أنّ بعض المفسرين قد فَسَّروا قوله تعالى: ﴿ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾ بأنَّ أصحاب الأعراف لَمَّا وَبَّخوا أهل النار بقولهم:﴿ مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾، أقسَمَ أهل النار أن أصحاب الأعراف داخلون النار معهم، فقالت الملائكة لأهل النار: (أهؤلاء - وأشاروا إلى أصحاب الأعراف - هم الذين أقسمتم يا أهل النار أن الله لن يدخلهم الجنة، وأنهم سيدخلون النار معكم؟)، ثم قالت الملائكة لأصحاب الأعراف: ﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾.
الآية 50، والآية 51: ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ﴾ - مُستغيثين بهم - ﴿ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا ﴾: أي صُبّواعلينا وأعطونا ﴿ مِنَ الْمَاءِ ﴾ - وذلك لشدة عطشهم (بسبب حَرّ جهنم) -، ﴿ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ﴾ من الطعام، فـ ﴿ قَالُوا ﴾ لهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا ﴾: أي حَرَّم الشراب والطعام ﴿ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ ﴿ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا ﴾: أي الذين أعرَضوا عن الدين الذي أمرهمالله باتباعه، واستهزءوا به، واستبدلوه باللهو واللعب، (واعلم أن اللعب: هو العمل الذي لا يَجلِبُ دِرهماً للمعاش، ولا حسنةً للمَعاد، وأما اللهو: فهو كل ما يُشغِلُ الإنسانَ عمَّا يُكسِبُهُ خيراً أو يَدفع عنه ضرراً)، ﴿ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾: أي وخدعتهم الحياة الدنيا، وشُغِلُوا بزينتها عن العملللآخرة، ﴿ فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ ﴾: يعني فيوم القيامة نتركهم في العذاب المُوجع، وذلك ﴿ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ﴾: أي كما تركواالعمل، ولم يستعدوا للقاء هذا اليوم، ﴿ وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾: يعني وبسبب إنكارهم لأدِلَّة اللهِ وبراهينه الواضحة، معَ عِلمهم بأنهاحق.
• وقد ثبت أنَّ عبد الله ابن عمر شَرِبَ ماءً بارداً، فبَكى، فسُئِل: (ما يُبكيك؟)، فقال: (ذَكَرْتُ آيةً في كتاب الله:﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾،فعرفتُ أنّ أهل النار لا يشتهون إلا الماء البارد، وقد قال الله عز وجل: ﴿ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ﴾.
• واعلم أننا قلنا بأنَّ معنى قوله تعالى: ﴿ فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ ﴾ أي نتركهم في العذاب، لأن الله تعالى قد أخبر عن نفسه فقال: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾، وقال تعالى: ﴿ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴾، وعلى هذا فمِن الأخطاء الشائعة: قوْل بعض الناس - إذا ماتَ لهم مَيِّت - : (ربنا افتكره) أو (افتكاره رحمة)، وذلك على حَدّ قوْلهم.
الآية 52، والآية 53: ﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ ﴾: أي ولقد جئنا الكفار بقرآنٍ أنزلناه عليك أيها الرسول، وهذا القرآن قد ﴿ فَصَّلْنَاهُ ﴾: أي بَيَّنَّا فيه جميع الأشياء التي يحتاج إليها الخلق، وذلك ﴿ عَلَى عِلْمٍ ﴾ مِنَّا بأحوال العباد في كل زمان ومكان، وبما يَصلح لهم وما لا يَصلح، (وليس تفصيلُهُ تفصيلَ غير عالمٍ بالأمور، فيَجهل بعض الأحوال فيَحكم حُكماً غير مناسب، بل هو تفصيلُ مَن أحاطَ عِلمُهُ بكل شيء، وَوَسِعَتْ رحمته كل شيء)، وقد جعلنا هذا القرآن ﴿ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.
• ثم أنكَرَ تعالى على أهل مكة عدم مُسارعتهم إلى الإيمان، بعد أن جاءهم هذا الكتاب المُفَصّل، فقال: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ﴾: يعني هل ينتظر الكفار إلا ما وُعِدوا به في القرآن من العقاب الذي يَؤول إليهأمرهم يوم القيامة، وساعتها سيؤمنون؟! ﴿ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾: يعني يوم يأتي هذا العقاب الذي يَؤول إليهأمرهم: ﴿ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ ﴾: أي يقول الكفار الذين تركوا القرآن، وكفروا به في الحياة الدنيا: ﴿ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾: أي قد تبيَّن لناالآن أنَّ رُسُل ربنا قد جاؤوا بالحق ونصحوا لنا، ﴿ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا ﴾ عند ربنا، ﴿ أَوْ نُرَدُّ ﴾ إلى الدنيا مرة أخرى ﴿ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ ﴿ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾: أي أهلكوا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها، (إذ معنى خُسران النفس: عدم الانتفاع بها في الدنيا، حينَ كان في إمكانهم أن يجعلوها تفعل الخير الذي سيؤدي بهم إلى الجنة)، ﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾: أي ذهب وغاب عنهم ما كانوا يَزعمونه كَذِباًمن شفاعة آلهتهم لهم يوم القيامة.
الآية 54: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ ﴾ أيها الناس - الذي يجب أن تعبدوه وحده - هو ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾: أي عَلا وارتفع على العرش (استواءً يليق بجلالهوعظمته)، ودَبَّرَ الممالك، وأجْرَى عليها أحكامه الكونية، فـ ﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ﴾: يعني يُدخِلُ سبحانهُ الليلَ على النهار، فيُلبِسَهُ إيَّاهُ حتى يُذهِبَ نُوره، ويُدخِلالنهار على الليل فيُذهِب ظلامه، ﴿ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ﴾: يعني وكل واحد منهما يَطلب الآخر طلباً حَثيثاً - أي سريعا - (إذِ الحَثّ: هو الإعجال والسرعة)، فيَطلبه سريعاً حتى يُدركه، فكلما جاء الليل: ذهب النهار، وكلما جاء النهار: ذهب الليل، وهكذا أبداً على الدوام، حتى يَطوي اللّهُ هذا العالم، وينتقل العباد إلى دار غير هذه الدار.
﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ ﴾ خلقهنَّ سبحانه، وجعلهنَّ ﴿ مُسَخَّرَاتٍ ﴾: أي مُذلَّلاتٍ له، يُسَخِرهنَّ سبحانه كما يشاءُ ﴿ بِأَمْرِهِ ﴾: أي بتدبيره الدالّ على ما له مِن أوصاف الكمال (إذ إنّ عظمة هذه المخلوقات: دالّةٌ على عظمة خالقها وكمال قدرته)، (وما فيها من الانتظام والإتقان والإحكام: دالٌّ على كمال حِكمته)، (وما فيها من المنافع الضرورية لِخَلقه: دالٌّ على سِعَة رحمته بالخلق، وعلى سِعَة عِلمه بمصالحهم، وأنه الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له)، ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ ﴾: أي له سبحانهُ صفة الخَلق التي صدرتْ عنها جميع المخلوقات، فجميع المخلوقات ملكٌ له سبحانه، ﴿ وَالْأَمْرُ ﴾: أي وله الأمرُ وحده، يَحكم ما يشاء ويَفعل ما يريد، فلا خالقَ إلا هو، ولا آمرَ ولا ناهِيَ غيره (فالخَلق: يتضمن أحكامه الكونية والقدَريَّة، والأمر: يتضمن أحكامه الدينية والشرعية)، ﴿ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ أي عَظُمَتْ قدرته، وكَثُرَ خيره وفضله، (فتباركَ سبحانه في نفسه لِعظمة أوصافه وكمالها، وباركَ في غيره بإنزال الخير الكثير).
الآية 55: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ ﴾ أيها المؤمنون ﴿ تَضَرُّعًا ﴾: أي تذلُّلاً وخشوعاً ﴿ وَخُفْيَةً ﴾: أي سرًّا، غير رافعين أصواتكم بالدعاء، ولْيَكُن دعاؤكم بحضورِ قلبٍ وإخلاصوبُعْدٍ عن الرياء، فـ ﴿ إِنَّهُ ﴾ تعالى ﴿ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ المتجاوزين حدودَ شَرْعِه، وأعظمالتجاوُز: الشِرك بالله، كدعاء غير الله من الأموات والأوثان، ونحو ذلك.
الآية 56: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ أي بعد إصلاح اللهِ لهابِبَعث الرُسُل، وبعد عُمْرانها بطاعة الله تعالى، (﴿ وَادْعُوهُ ﴾ سبحانه ﴿ خَوْفًا ﴾ مِن عقابه ﴿ وَطَمَعًا ﴾ في ثوابه، (وفي هذا رَدٌّ على مَن يَزعمون أنهم لا يعبدون اللهَ طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره، فقد أمرَ اللهُ تعالى عباده بدعائه خوفاً وطمعاً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم - وهو خيرُ الخلق - يقولُ في دعائه: (اللهم إني أسألك الجنة وما قرَّبَ إليها مِن قولٍ أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرَّبَ إليها مِن قولٍ أو عمل))، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما سألَ رجلٌ مُسلِمٌ اللهَ الجنة ثلاثاً، إلا قالت الجنة: (اللهم أدْخِله الجنة)، ولا استجارَ رجلٌ مُسلِمٌ اللهَ من النار ثلاثاً، إلا قالت النار: (اللهم أجِرْهُ مِنِّي)) (انظر صحيح الجامع حديث رقم: 5630).
﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ الذين يُحسنون أعمالهم ونِيَّاتِهِم، وذلك بمراقبتهم للهِ تعالى في كل أحوالهم، ومِن ذلك إحسان الدعاء بإخلاصه وإتقانه، (واعلم أن الإحسانُ - كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مُسلِم - : "أنْ تعبُدَ اللهَ كأنك تراه، فإنْ لم تكن تراهُ، فإنه يَراك"، وذلك بأن يتق العبدُ رَبَّهُ قدرَ ما يستطيع، قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، فكلما كان العبدُ أكثرَ إحساناً، كلما كان أقرب إلى رحمة ربه).
• ورغم أنه كان من المُتوقَّع أن يَذكر الله تعالى كلمة (قريب) بصيغة المُؤنَّث، فيقول مثلاً: ﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌة مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾، لأنها جاءت مع كلمة (رحمة) المؤنثة، إلا أنها جاءت بصيغة المُذكَّر، وأحسن ما قِيلَ في ذلك أنَّ كَلِمَتَي (قريب وبعيد) إذا جاءا مع النَسَب والقَرابة، فإنه يَجب تذكيرهما مع المُذكَّر وتأنيثهما مع المُؤنَّث، مِثل: (زيد قريب عمر، وعائشة قريبة بكر)، وأما إذا جاءا مع غير النسب والقرابة، فإنه يجوز أن يأتيا بصيغة المُذكَّر كما يجوز أن يأتيا بصيغة المُؤنَّث، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾، فذكَرَ لفظَي (قريب وبعيد) بصيغة المُذكَّر مع أنّ الوصف كان لِمُؤنَّث، وذلك لأنهما جاءا مع غير النسب والقرابة.
الآية 57: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾: يعني واللهُ تعالى هو الذي يُرسل الرياح الطيبة التي تبشر الخلق بقرب نزول رحمة الله (وهي المطر، الذي تثيره الرياح بإذن الله تعالى)، ﴿ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا ﴾: يعني حتى إذا حَمَلت الريحُ السحابَ المُحَمَّلبالمطر: ﴿ سُقْنَاهُ ﴾: أي سُقنا السحاب ﴿ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ﴾ قد جَفَّتْ أرضُهُ و أشجاره وزَرْعُه،﴿ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾، ﴿ كَذَلِكَ ﴾: يعني كما نُحيي هذا البلد الميت بالمطر: ﴿ نُخْرِجُ الْمَوْتَى ﴾ من قبورهمأحياءً بعد موتهم، وقد أراكُمُ اللهُ تعالى هذا الفِعل (وهو إحياء الأرض بالماء) ﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾: أي لعلكم تتعظون، فتستدلوا على قدرة اللهِ تعالى على البَعث، فإنَّ القادر على إحياء مَوَات الأرض: قادرٌ على إحياء مَوَات الأجسام، فبذلك توقنون بلقاء ربكم، وتستعدون له بالاستغفار والعمل الصالح.
الآية 58: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾: يعني والأرض الطيبة النقية إذا نزل عليها المطر: تُخْرج نباتًا طيبًاعظيم النفع (وذلك بإذن اللهِ ومشيئته)، وكذلك المؤمن صاحب القلب الحي الطيب، إذا سمع ما يَنزل من الآيات: يَزداد إيمانه وتَكثر أعماله الصالحة، ﴿ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ﴾: يعني وأمَّا الأرض الرديئة فإنها لا تُخرج النبات إلا رديئاً قليلاً،لا نفعَ فيه، وكذلك الكافرُ لا ينتفعُ بآيات الله تعالى، ﴿ كَذَلِكَ ﴾: يعني مِثلذلك التنويع البديع في ضَرْب الأمثال: ﴿ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾: أي نُنوِّع الحُجَج والبراهين لأُناسٍيشكرون نِعَمَ الله تعالى ويطيعونه، إذِ الشاكرون هُمُ المنتفعون بهذه الآيات التي فصَّلها اللّهُ في كتابه، لأنهم يَرونها مِن أكبر النعم الواصلة إليهم من ربهم، فيَتلقونها فرحين بها، فيتدبرونها ويتأملونها، فيُبَيِّن اللهُ لهم مِن مَعانيها، فيَزدادون بها يَقيناً، وأما الكافرون الجاحدون فإنهم لا ينتفعون بها، لأنّ قلوبهم خبيثة غافلة مُعرِضة، ليستْ أهلاً لدخول آيات اللهِ فيها.
<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<
(1) وهي سلسلة تفسير للآيات التي يَصعُبُ فهمُهافي القرآن الكريم (وليس كل الآيات)، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرةمن (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبو بكر الجزائري) (بتصرف)
- واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذاالأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.
رامي حنفي محمود
شبكة الالوكة
الآية 44، والآية 45: ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ ﴾ - بعد دخولهم فيها - ﴿ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا ﴾ من النعيم الذي أعَدَّهُ لأهل طاعته، ﴿ فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ﴾ من العذاب الذي أعَدَّهُ لأهل معصيته؟ ﴿ قَالُوا نَعَمْ ﴾ ﴿ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ﴾: أي فنادَى مُنادٍ بأعلى صوته بين أهل الجنة وأهل النار: ﴿ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ ﴿ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾: أي الذين كانوا يَصُدُّون الناس - ويَصُدُّون أنفسهم - عن اتباع طريق الله المستقيم، وهو الإسلام، ﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾: أي ويطلبون أن تكون سبيل الله - وهي الإسلام - معْوَجَّة حتى لا يسلكها أحد، وحتى يجعلوا الشريعة تميل مع شهواتهم وميُولهم فتخدم أغراضهم، ﴿ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ ﴾.
الآية 46: ﴿ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ﴾: يعني: وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار حاجز عظيم يُقال له "الأعراف"، ﴿ وَعَلَى ﴾ هذا ﴿ الْأَعْرَافِ رِجَالٌ ﴾ قد استوت حسناتهم وسيئاتهم، ينتظرون قضاء الله فيهم، ويرجون رحمته تعالى بهم، وهؤلاء الرجال ﴿ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ ﴾: أي يعرفون أهل الجنة وأهل النار بعلاماتهم، كَبَيَاض وجوه أهل الجنة، وسَوادوجوه أهل النار، ﴿ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ﴾: أي ونادى رجال الأعراف على أصحاب الجنة بالتحية ﴿ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ﴾ ﴿ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ﴾: يعني وأهلالأعراف لم يدخلوا الجنة بعد، وهم يرجون دخولها.
الآية 47: ﴿ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ ﴾: يعني وإذا حُوِّلَتْ أبصار رجال الأعراف جهة أهل النار: ﴿ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾.
الآية 48، والآية 49: ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ﴾: أي ونادى أهل الأعراف على رجالٍ من قادة الكفار في النار، يعرفونهم بعلاماتٍخاصة تميزهم، فـ ﴿ قَالُوا ﴾ لهم: ﴿ مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾: أي ما نَفَعَكم ما كنتم تجمعون فيالدنيا من الأموال والرجال (للحروب)، وما نَفَعَكم تكبُّركم عن الإيمان وقَبول الحق.
• ثم أشاروا إلى أُناسٍ من أهل الجنة كانوا في الدنيا فقراء ضعفاء يَستهزئ بهم أهل النار، فقالوا لأهل النار: ﴿ أَهَؤُلَاءِ ﴾ الذين أدخلهم اللّه الجنة هم ﴿ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ﴾: أي أقسمتم في الدنيا بأنهم لن يُكرمهم اللهُ تعالى، ولن يَرفع لهم قدْراً لأنهم فقراء ضعفاء؟، فلمَّا قال أصحاب الأعراف ذلك، قيل لهم: ﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ﴾ يا أصحاب الأعراففقد غُفِرَ لكم، و ﴿ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ ﴾ من عذاب الله، ﴿ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾.
• واعلم أنّ بعض المفسرين قد فَسَّروا قوله تعالى: ﴿ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾ بأنَّ أصحاب الأعراف لَمَّا وَبَّخوا أهل النار بقولهم:﴿ مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾، أقسَمَ أهل النار أن أصحاب الأعراف داخلون النار معهم، فقالت الملائكة لأهل النار: (أهؤلاء - وأشاروا إلى أصحاب الأعراف - هم الذين أقسمتم يا أهل النار أن الله لن يدخلهم الجنة، وأنهم سيدخلون النار معكم؟)، ثم قالت الملائكة لأصحاب الأعراف: ﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾.
الآية 50، والآية 51: ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ﴾ - مُستغيثين بهم - ﴿ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا ﴾: أي صُبّواعلينا وأعطونا ﴿ مِنَ الْمَاءِ ﴾ - وذلك لشدة عطشهم (بسبب حَرّ جهنم) -، ﴿ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ﴾ من الطعام، فـ ﴿ قَالُوا ﴾ لهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا ﴾: أي حَرَّم الشراب والطعام ﴿ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ ﴿ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا ﴾: أي الذين أعرَضوا عن الدين الذي أمرهمالله باتباعه، واستهزءوا به، واستبدلوه باللهو واللعب، (واعلم أن اللعب: هو العمل الذي لا يَجلِبُ دِرهماً للمعاش، ولا حسنةً للمَعاد، وأما اللهو: فهو كل ما يُشغِلُ الإنسانَ عمَّا يُكسِبُهُ خيراً أو يَدفع عنه ضرراً)، ﴿ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾: أي وخدعتهم الحياة الدنيا، وشُغِلُوا بزينتها عن العملللآخرة، ﴿ فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ ﴾: يعني فيوم القيامة نتركهم في العذاب المُوجع، وذلك ﴿ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ﴾: أي كما تركواالعمل، ولم يستعدوا للقاء هذا اليوم، ﴿ وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾: يعني وبسبب إنكارهم لأدِلَّة اللهِ وبراهينه الواضحة، معَ عِلمهم بأنهاحق.
• وقد ثبت أنَّ عبد الله ابن عمر شَرِبَ ماءً بارداً، فبَكى، فسُئِل: (ما يُبكيك؟)، فقال: (ذَكَرْتُ آيةً في كتاب الله:﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾،فعرفتُ أنّ أهل النار لا يشتهون إلا الماء البارد، وقد قال الله عز وجل: ﴿ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ﴾.
• واعلم أننا قلنا بأنَّ معنى قوله تعالى: ﴿ فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ ﴾ أي نتركهم في العذاب، لأن الله تعالى قد أخبر عن نفسه فقال: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾، وقال تعالى: ﴿ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴾، وعلى هذا فمِن الأخطاء الشائعة: قوْل بعض الناس - إذا ماتَ لهم مَيِّت - : (ربنا افتكره) أو (افتكاره رحمة)، وذلك على حَدّ قوْلهم.
الآية 52، والآية 53: ﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ ﴾: أي ولقد جئنا الكفار بقرآنٍ أنزلناه عليك أيها الرسول، وهذا القرآن قد ﴿ فَصَّلْنَاهُ ﴾: أي بَيَّنَّا فيه جميع الأشياء التي يحتاج إليها الخلق، وذلك ﴿ عَلَى عِلْمٍ ﴾ مِنَّا بأحوال العباد في كل زمان ومكان، وبما يَصلح لهم وما لا يَصلح، (وليس تفصيلُهُ تفصيلَ غير عالمٍ بالأمور، فيَجهل بعض الأحوال فيَحكم حُكماً غير مناسب، بل هو تفصيلُ مَن أحاطَ عِلمُهُ بكل شيء، وَوَسِعَتْ رحمته كل شيء)، وقد جعلنا هذا القرآن ﴿ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.
• ثم أنكَرَ تعالى على أهل مكة عدم مُسارعتهم إلى الإيمان، بعد أن جاءهم هذا الكتاب المُفَصّل، فقال: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ﴾: يعني هل ينتظر الكفار إلا ما وُعِدوا به في القرآن من العقاب الذي يَؤول إليهأمرهم يوم القيامة، وساعتها سيؤمنون؟! ﴿ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾: يعني يوم يأتي هذا العقاب الذي يَؤول إليهأمرهم: ﴿ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ ﴾: أي يقول الكفار الذين تركوا القرآن، وكفروا به في الحياة الدنيا: ﴿ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾: أي قد تبيَّن لناالآن أنَّ رُسُل ربنا قد جاؤوا بالحق ونصحوا لنا، ﴿ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا ﴾ عند ربنا، ﴿ أَوْ نُرَدُّ ﴾ إلى الدنيا مرة أخرى ﴿ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ ﴿ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾: أي أهلكوا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها، (إذ معنى خُسران النفس: عدم الانتفاع بها في الدنيا، حينَ كان في إمكانهم أن يجعلوها تفعل الخير الذي سيؤدي بهم إلى الجنة)، ﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾: أي ذهب وغاب عنهم ما كانوا يَزعمونه كَذِباًمن شفاعة آلهتهم لهم يوم القيامة.
الآية 54: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ ﴾ أيها الناس - الذي يجب أن تعبدوه وحده - هو ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾: أي عَلا وارتفع على العرش (استواءً يليق بجلالهوعظمته)، ودَبَّرَ الممالك، وأجْرَى عليها أحكامه الكونية، فـ ﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ﴾: يعني يُدخِلُ سبحانهُ الليلَ على النهار، فيُلبِسَهُ إيَّاهُ حتى يُذهِبَ نُوره، ويُدخِلالنهار على الليل فيُذهِب ظلامه، ﴿ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ﴾: يعني وكل واحد منهما يَطلب الآخر طلباً حَثيثاً - أي سريعا - (إذِ الحَثّ: هو الإعجال والسرعة)، فيَطلبه سريعاً حتى يُدركه، فكلما جاء الليل: ذهب النهار، وكلما جاء النهار: ذهب الليل، وهكذا أبداً على الدوام، حتى يَطوي اللّهُ هذا العالم، وينتقل العباد إلى دار غير هذه الدار.
﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ ﴾ خلقهنَّ سبحانه، وجعلهنَّ ﴿ مُسَخَّرَاتٍ ﴾: أي مُذلَّلاتٍ له، يُسَخِرهنَّ سبحانه كما يشاءُ ﴿ بِأَمْرِهِ ﴾: أي بتدبيره الدالّ على ما له مِن أوصاف الكمال (إذ إنّ عظمة هذه المخلوقات: دالّةٌ على عظمة خالقها وكمال قدرته)، (وما فيها من الانتظام والإتقان والإحكام: دالٌّ على كمال حِكمته)، (وما فيها من المنافع الضرورية لِخَلقه: دالٌّ على سِعَة رحمته بالخلق، وعلى سِعَة عِلمه بمصالحهم، وأنه الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له)، ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ ﴾: أي له سبحانهُ صفة الخَلق التي صدرتْ عنها جميع المخلوقات، فجميع المخلوقات ملكٌ له سبحانه، ﴿ وَالْأَمْرُ ﴾: أي وله الأمرُ وحده، يَحكم ما يشاء ويَفعل ما يريد، فلا خالقَ إلا هو، ولا آمرَ ولا ناهِيَ غيره (فالخَلق: يتضمن أحكامه الكونية والقدَريَّة، والأمر: يتضمن أحكامه الدينية والشرعية)، ﴿ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ أي عَظُمَتْ قدرته، وكَثُرَ خيره وفضله، (فتباركَ سبحانه في نفسه لِعظمة أوصافه وكمالها، وباركَ في غيره بإنزال الخير الكثير).
الآية 55: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ ﴾ أيها المؤمنون ﴿ تَضَرُّعًا ﴾: أي تذلُّلاً وخشوعاً ﴿ وَخُفْيَةً ﴾: أي سرًّا، غير رافعين أصواتكم بالدعاء، ولْيَكُن دعاؤكم بحضورِ قلبٍ وإخلاصوبُعْدٍ عن الرياء، فـ ﴿ إِنَّهُ ﴾ تعالى ﴿ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ المتجاوزين حدودَ شَرْعِه، وأعظمالتجاوُز: الشِرك بالله، كدعاء غير الله من الأموات والأوثان، ونحو ذلك.
الآية 56: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ أي بعد إصلاح اللهِ لهابِبَعث الرُسُل، وبعد عُمْرانها بطاعة الله تعالى، (﴿ وَادْعُوهُ ﴾ سبحانه ﴿ خَوْفًا ﴾ مِن عقابه ﴿ وَطَمَعًا ﴾ في ثوابه، (وفي هذا رَدٌّ على مَن يَزعمون أنهم لا يعبدون اللهَ طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره، فقد أمرَ اللهُ تعالى عباده بدعائه خوفاً وطمعاً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم - وهو خيرُ الخلق - يقولُ في دعائه: (اللهم إني أسألك الجنة وما قرَّبَ إليها مِن قولٍ أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرَّبَ إليها مِن قولٍ أو عمل))، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما سألَ رجلٌ مُسلِمٌ اللهَ الجنة ثلاثاً، إلا قالت الجنة: (اللهم أدْخِله الجنة)، ولا استجارَ رجلٌ مُسلِمٌ اللهَ من النار ثلاثاً، إلا قالت النار: (اللهم أجِرْهُ مِنِّي)) (انظر صحيح الجامع حديث رقم: 5630).
﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ الذين يُحسنون أعمالهم ونِيَّاتِهِم، وذلك بمراقبتهم للهِ تعالى في كل أحوالهم، ومِن ذلك إحسان الدعاء بإخلاصه وإتقانه، (واعلم أن الإحسانُ - كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مُسلِم - : "أنْ تعبُدَ اللهَ كأنك تراه، فإنْ لم تكن تراهُ، فإنه يَراك"، وذلك بأن يتق العبدُ رَبَّهُ قدرَ ما يستطيع، قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، فكلما كان العبدُ أكثرَ إحساناً، كلما كان أقرب إلى رحمة ربه).
• ورغم أنه كان من المُتوقَّع أن يَذكر الله تعالى كلمة (قريب) بصيغة المُؤنَّث، فيقول مثلاً: ﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌة مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾، لأنها جاءت مع كلمة (رحمة) المؤنثة، إلا أنها جاءت بصيغة المُذكَّر، وأحسن ما قِيلَ في ذلك أنَّ كَلِمَتَي (قريب وبعيد) إذا جاءا مع النَسَب والقَرابة، فإنه يَجب تذكيرهما مع المُذكَّر وتأنيثهما مع المُؤنَّث، مِثل: (زيد قريب عمر، وعائشة قريبة بكر)، وأما إذا جاءا مع غير النسب والقرابة، فإنه يجوز أن يأتيا بصيغة المُذكَّر كما يجوز أن يأتيا بصيغة المُؤنَّث، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾، فذكَرَ لفظَي (قريب وبعيد) بصيغة المُذكَّر مع أنّ الوصف كان لِمُؤنَّث، وذلك لأنهما جاءا مع غير النسب والقرابة.
الآية 57: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾: يعني واللهُ تعالى هو الذي يُرسل الرياح الطيبة التي تبشر الخلق بقرب نزول رحمة الله (وهي المطر، الذي تثيره الرياح بإذن الله تعالى)، ﴿ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا ﴾: يعني حتى إذا حَمَلت الريحُ السحابَ المُحَمَّلبالمطر: ﴿ سُقْنَاهُ ﴾: أي سُقنا السحاب ﴿ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ﴾ قد جَفَّتْ أرضُهُ و أشجاره وزَرْعُه،﴿ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾، ﴿ كَذَلِكَ ﴾: يعني كما نُحيي هذا البلد الميت بالمطر: ﴿ نُخْرِجُ الْمَوْتَى ﴾ من قبورهمأحياءً بعد موتهم، وقد أراكُمُ اللهُ تعالى هذا الفِعل (وهو إحياء الأرض بالماء) ﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾: أي لعلكم تتعظون، فتستدلوا على قدرة اللهِ تعالى على البَعث، فإنَّ القادر على إحياء مَوَات الأرض: قادرٌ على إحياء مَوَات الأجسام، فبذلك توقنون بلقاء ربكم، وتستعدون له بالاستغفار والعمل الصالح.
الآية 58: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾: يعني والأرض الطيبة النقية إذا نزل عليها المطر: تُخْرج نباتًا طيبًاعظيم النفع (وذلك بإذن اللهِ ومشيئته)، وكذلك المؤمن صاحب القلب الحي الطيب، إذا سمع ما يَنزل من الآيات: يَزداد إيمانه وتَكثر أعماله الصالحة، ﴿ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ﴾: يعني وأمَّا الأرض الرديئة فإنها لا تُخرج النبات إلا رديئاً قليلاً،لا نفعَ فيه، وكذلك الكافرُ لا ينتفعُ بآيات الله تعالى، ﴿ كَذَلِكَ ﴾: يعني مِثلذلك التنويع البديع في ضَرْب الأمثال: ﴿ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾: أي نُنوِّع الحُجَج والبراهين لأُناسٍيشكرون نِعَمَ الله تعالى ويطيعونه، إذِ الشاكرون هُمُ المنتفعون بهذه الآيات التي فصَّلها اللّهُ في كتابه، لأنهم يَرونها مِن أكبر النعم الواصلة إليهم من ربهم، فيَتلقونها فرحين بها، فيتدبرونها ويتأملونها، فيُبَيِّن اللهُ لهم مِن مَعانيها، فيَزدادون بها يَقيناً، وأما الكافرون الجاحدون فإنهم لا ينتفعون بها، لأنّ قلوبهم خبيثة غافلة مُعرِضة، ليستْ أهلاً لدخول آيات اللهِ فيها.
<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<
(1) وهي سلسلة تفسير للآيات التي يَصعُبُ فهمُهافي القرآن الكريم (وليس كل الآيات)، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرةمن (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبو بكر الجزائري) (بتصرف)
- واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذاالأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.
رامي حنفي محمود
شبكة الالوكة
تعليق