في القرآن الكريم كلمات مشددة، مع جوازها يغير التشديد، بل في قراءات بغير تشديد.. فما دلالة هذا التشديد؟..
1- تمسك بشدة وأخذ بقوة
قوله تعالى: " { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) }
" وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ " أي بالتوراة، أي بالعمل بها، يقال: مسك به وتمسك به أي استمسك به.
وقرأ أبو العالية وعاصم في رواية أبي بكر " يمسكون " بالتخفيف من أمسك يمسك.(أي بدون تشديد السين)
وقرأ أبي بن كعب: "والذين تمسَّكوا بالكتاب"، على الماضي وهو جيد لقوله تعالى: { وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } إذ قَلَّ ما يعطف ماض على مستقبل إلا في المعنى
وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه : «والذين استمسكوا بالكتاب» .
قال القرطبي: والقراءة الأولى أولى، لأن فيها معنى التكرير والتكثير للتمسك بكتاب الله تعالى وبدينه فبذلك يمدحون.
فالتمسك بكتاب الله والدين يحتاج إلى الملازمة والتكرير لفعل ذلك.
قال سيد: إن الصيغة اللفظية : { يُمَسِّكُونَ } . . تصور مدلولاً يكاد يحس ويُرى . . إنها صورة القبض على الكتاب بقوة وجد وصرامة . . الصورة التي يحب الله أن يؤخذ بها كتابه وما فيه . . في غير تعنت ولا تنطع ولا تزمت . . فالجد والقوة والصرامة شيء والتعنت والتنطع والتزمت شيء آخر . . إن الجد والقوة والصرامة لا تنافي اليسر ولكنها تنافي التميع! ولا تنافي سعة الأفق ولكنها تنافي الاستهتار! ولا تنافي مراعاة الواقع ولكنها تنافي أن يكون « الواقع » هو الحكم في شريعة الله! فهو الذي يجب أن يظل محكوماً بشريعة الله!
"الذين يمسكون..." هو تعريض بالذين أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه؛ ثم هم لا يتمسكون بالكتاب الذي درسوه، ولا يعملون به، ولا يحكمونه في تصوراتهم وحركاتهم؛ ولا في سلوكهم وحياتهم. . غير أن الآية تبقى - من وراء ذلك التعريض - مطلقة، تعطي مدلولها كاملاً، لكل جيل ولكل حالة .
والتمسك بالكتاب في جد وقوة وصرامة؛ وإقامة الصلاة - أي شعائر العبادة - هما طرفا المنهج الرباني لصلاح الحياة . . والتمسك بالكتاب في هذه العبارة مقروناً إلى الشعائر يعني مدلولاً معيناً . إذ يعني تحكيم هذا الكتاب في حياة الناس لإصلاح هذه الحياة، مع إقامة شعائر العبادة لإصلاح قلوب الناس . فهما طرفان للمنهج الذي تصلح به الحياة والنفوس، ولا تصلح بسواه . . والإشارة إلى الإصلاح في الآية :
{ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ } . .
يشير إلى هذه الحقيقة . . حقيقة أن الاستمساك الجاد بالكتاب عملاً، وإقامة الشعائر عبادة هما أداة الإصلاح الذي لا يضيع الله أجره على المصلحين .
وما تفسد الحياة كلها إلا بترك طرفي هذا المنهج الرباني . . ترك الاستمساك الجاد بالكتاب وتحكيمه في حياة الناس؛ وترك العبادة التي تصلح القلوب فتطبق الشرائع دون احتيال على النصوص، كالذي كان يصنعه أهل الكتاب؛ وكالذي يصنعه أهل كل كتاب، حين تفتر القلوب عن العبادة فتفتر عن تقوى الله . .
إنه منهج متكامل . يقيم الحكم على أساس الكتاب؛ ويقيم القلب على أساس العبادة . . ومن ثم تتوافى القلوب مع الكتاب؛ فتصلح القلوب، وتصلح الحياة .
إنه منهج الله، لا يعدل عنه ولا يستبدل به منهجاً آخر، إلا الذين كتبت عليهم الشقوة وحق عليهم العذاب!.
قلتُ: التمسّك بالكتاب، وأخذه بقوّة، والعضّ على ما جاء فيه بالنواجذ، لا بمجرد أطراف الأسنان... وإلاّ فالفتنة عاتية، وسيولها عارمة جارفة... نسأل الله تعالى حسن الإسلام وصدق الإلتزام...
ويتبع مع شدة أخرى إن شاء الله تعالى
تعليق