(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )التغابن:1
هذه الآية يحفظها الكثيرون ، أو الأكثرون ، ويرددونها ، ويعلم أصلها كل المسلمين ،
ويعتقدونه ، فقولنا هنا تذكير ، ومحاولة للتدبر ، وجهد المقل للتذكر ، وليس فيه
إحصاء أو حصر للفائدة ، ولكنه صيد من مكنون البحار ، يستفيد الصياد ، ولا ينقص
البحر . وصدق علي رضي الله عنه إذ يقول عن القرآن : ولا تنقضي عجائبه .
أيها الأحبة : مما ورد في كتاب الله تعالى في غير ما آية منه على اختلاف الألفاظ
فيه قوله تعالى :{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . وكم في هذا التعبير ، وهذا
التأصيل من فوائد لو تأملناها ، وفهمناها ، وعملنا بما تقتضيه وتدل عليه .
فمن مقاصدها ومدلولاتها التوحيد بكل أنواعه ، وأقسامه ، فالملك الحق للسماوات
والأرض وما فيهن هو المستحق للعبادة وحدة ، كما انفرد بالملك وحده . فمن ذا غيره
يملك السماوات والأرض ؟ ومن ذا غيره له ما بينهما ؟ قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم
تعلمون ؟ سيقولون لله ! قل أفلا تذكرون ؟ قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم
؟ سيقولون لله ! قل أفلا تتقون ؟ قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه
إن كنتم تعلمون ! سيقولون لله ! قل فأنى تسحرون ؟
فتأمل معناها ، ينكشف لك الحجاب عن مبناها ، وتدلك على أن المالك للسماوات والأرض
وما فيهن هو الحقيق بأن ترفع إليه الحاجات ، وهو القادر على أن ينفعك أو يضرك ،
والقادر على أن يخفضك أو يرفعك . فاستحق توحيد العبادة كل الاستحقاق . فلا تسأل
غيره ، ولا تطلب غيره ، ولا تخف من غيره ، ولا ترج غيره ، ولا تخش غيره .
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ .الأنعام17: 18
يقول عليه الصلاة والسلام لابن عباس رضي الله
عنهما :واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ ،
وإن اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ.صححه الألباني
إن ثبات الملكية للسماوات والأرض وما فيهما وما بينهما لله تعالى كاشف ، معلن بأن
كل ما سواه فهو له ، ملكه ، عبده ، مفتقر إليه في كل لحظاته ، وسكناته ، في كل نفس
يخرج من جوفه أو يدخل إليه .
والعبودية لله تعالى تخرجك أيها الفقير من عبودية غيره ، وتعطيك الحرية الحقيقية من
رق الهوى ، والنفس وشياطين الإنس والجن .
ومن مدلولات قوله تعالى :{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} توحيد الأسماء والصفات ،
فالملك لهذا الكون بكل تفاصيله وأجرامه وبروجه ، المتصرف فيه على هذا الوجه من
الدقة والإحكام لا بد أن يكون قادرا ، عالما ، حكيما ، قويا عزيزا ، إلى آخر صفات
الكمال المتصف بها جل جلاله .
إذ إن الكون وما فيه دليل وحدانيته وتفرده بالأسماء الحسنى والصفات العلى ، قال
إبراهيم إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، فبهت الذي كفر والله لا
يهدي القوم الظالمين .
إخوة الدين والعقيدة : من مدلولات قوله تعالى : {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}،
تحقيق الخوف والرجاء ، فالخوف من الملك لكل شيء القادر على كل شيء ، ورجاؤه ثمرة
للمعرفة واليقين بأنه مالك السماوات والأرض وما فيهن ، وهذا الضعيف المتفكر في ذلك
جزء لا يكاد يعلم به أحد من أهل الأرض ، ملك للملك الحق المبين
والملك لكل ذلك يطمع فيه أهل الفقر والضعف أمثالنا ، ويخافه أهل الغفلة والذنوب
أمثالنا ، فيتحقق بالإيمان بذلك الملك خوفه ورجاؤه .
فلا يمكن للمحقق لهذا المعنى في قلبه أن يعصي الله طرفة عين ، فهو بعيد كل البعد عن
محارم مالكه ، ينظر في مصلحته ، وما يقتضيه وجوده من توحيده وعبادته ، وما يطمع فيه
من ثوابه ورضاه وجنته .
عباد الله : من ثمرات قوله تعالى : {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} : معنى لو
تأملته لحمدت أثره ، وكسى ذهنك حبره ، فمتى علمت أن لله ما في السماوات وما في
الأرض لم يدخل الحسد قلبك ، فالملك لله وحده ، يعطي ويمنع ، فمن أعطاه الله شيئا
فمن ملكه ، ومن منعه الله شيئا فمن ملكه ، ولست على ما في يد الله قادرا ، وهذا من
أنجع الأدوية للحسد إذا إن الحسد مبني على الاعتراض على حكمة الله تعالى في المنع
والعطاء .
وعلى العكس من ذلك ، فالآية حاثة على الكرم والسخاء ، وقد كان صلى الله عليه وسلم
يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ، وما ذلك العطاء منه صلى الله عليه وسلم إلا لأنه يوقن
بأن لله ما في السماوات وما في الأرض ، وأن خزائنه ملأى لا تغيضها النفقة فأعط
عبدالله ، وأنفق ، وجد على الناس فمليكك يملك السماوات والأرض وما فيهما ، وما
بينهما ولا تخش من ذي العرش إقلالا .
وإن كنت تؤمن بأن لله ما في السماوات وما في الأرض ، فاعبده وتوكل عليه ، وارض بما
قسم لك ، واصبر على ما قضى عليك ، وثق أن الحكيم المدبر لهذا الكون لم يخلقه عبثا ،
ولن يتركه سدى ، فإليه المرجع والمعاد ، ويوما ما ستمضي إليه ، وستقف بين يديه ،
وسيسألك عن الأمانة في عبادته ، وفيما ولاك عليه ، فجهز الجواب ، وليكن نصب عينيك
أنه شديد العقاب ، سريع الحساب ، ولا يغب عن قلبك أنه يفتح رحمته لكل من طرق بابه ،
وخشيه ، وخاف عقابه ، وانطرح بين يديه راجيا ثوابه ، فأكثر من قرع الباب ، وابذل
لنجاتك ما استطعت من الأسباب .
فالمالك للسماوات والأرض المتصرف فيهما كيف يشاء حكيم عليم ، والحكمة تقتضي الجزاء
، فمن أخطأ عوقب ، ومن أحسن فقد تعرض للثناء ، ولما كان الناس في دنياهم يتظالمون ،
ويعرض بعضهم عن ربه ، وبه يكفرون ، ثم يموتون فكان من مقتضى الحكمة أن يجعل لهم
موعدا فيه يختصمون ، وتعرض أعمالهم ويتحاكمون ، فدلت الآية ضمنا ، على يوم البعث ،
وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون .
فمن ملك الكون كله ، ودبره وصرفه ، ودل الكون على وحدانيته ، لا بد لأن يجمع الناس
ليوم يتناصفون فيه ، فيأخذ الحق ممن بغى لمن بغي عليه ، ويعلم الذين كفروا أنهم
كانوا كاذبين .
أيها المسلمون : من ثمرات قوله تعالى : {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ، الإيمان
بالرسل ، وتصديقهم ، والعمل بما جاؤوا به من شرائع ، فالمالك لا بد أن يتعرف على
عبيده ، وأن يعرفهم كيف يعبدونه ، وكيف يوحدونه ، وماذا يريد منهم ، وماذا يكره
منهم ، فيعملون بمقتضى إرادته ، عملا وتركا وليس ذلك إلا عن طريق الرسل ، فدلت
الآية على حاجة الناس ضرورة إليهم ، وإلى من ينوب عنهم من العلماء الربانيين ،
والأئمة المصلحين .
ومن مدلولاتها أيضا ما جاء في آخر سورة البقرة مفتتحا بها ، ومنوها من لدن الحبيب
صلى الله عليه وسلم بفضلها ، ومنزلتها ، فقال عليه الصلاة والسلام : مَنْ قرأَ الآيتيْنِ من آخِرِ سُورةِ البقرَةِ في ليلةٍ كَفَتَاهُ، متفق عليه .
وهي كنز من تحت العرش أوتيه صلى
الله عليه وسلم ، أخرجه أحمد من حديث أبي ذر رضي الله عنه .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الأحياء والأموات
الشيخ / عادل الكلباني
تعليق