الفرقان الحق : واجبنا نحوه وفهمه
* ما واجبنا :
يجب على كل مسلم ومسلمة أن يشهد اليوم للقرآن شهادة حقيقية صادقة على أرض الواقع ، وذلك بالتمسك بكتاب الله جل وعلا ، وبسنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإن الأعداء يرقصون الآن رقصة الموت ، ومن يرقص رقصة الموت ، يستخرج أو يخرج كل ما في جعبته للقضاء على خصمه ، وأنا أقول : إنهم يرقصون الآن رقصة الموت ؛ لأنه بعد سنوات طويلة من سنوات التيه والتغريب ، وجدوا أن الشباب الصاعد قد ولى ظهره لواشنطن ولندن وبانكوك وباريس ومدريد وتل أبيب ، ووجه وجهه من جديد لبيت الله جل جلاله وهو يردد مع السابقين الأولين قولتهم الخالدة :
{ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }
[ البقرة : ٢٨٥ ] .
فلنتمسك بالقرآن قرآءة وتلاوة وسماعاً وتدبراً للقرآن عملاً بأحكام القرآن ، فلنمتثل أوامر القرآن أمراً أمراً ،
متى ستشهد للقرآن إن لم تشهد له اليوم ؟
متى سيحترق قلبك وتحترق جوارحك إن لم تشهد الآن للقرآن شهادة عملية على أرض الواقع ، بامتثال أوامره أمراً أمراً باجتناب نواهيه نهياً نهياً ، بالوقوف عند حدوده حداً حداً ؟
لا تعلق على الحكام ولا على العلماء ولا على الأعداء ، أبداً يا أخي ، ولأبدأ أنا ، ولتبدئي يا أختاه فلنزين ولنجمل بيوتنا بآيات القرآن ، لا لنعلق القرآن على الجدران ، لا لنضع القرآن في علب القطيفة .
بل لنعطر أنفاس البيوت ، وأنفاس الطرقات والشوارع ، والمزارع والمصانع بآيات القرآن الكريم ، ثم عاهد ربك الآن وأنت بين يديه ، وعاهدي ربك الآن ، أيتها المسلمة ، وأنت أيها المسلم ، أنا أخاطبك في أوربا ، في أمريكيا ، أخاطبك في استراليا ، أخاطبك في الصين ، وفي كل مكان .
أيها المسلم ، فلنعاهد ربنا من الآن أن نأتي على أنبغ أولادنا وبناتنا ، وأن نقول : هذا الولد وقف لله تعالى ، ليحفظ كتاب الله جل وعلا ، الآن عاهد ربك على أن تحفظ أولادك القرآن ، على أن تمنح من مالك مالاً لرجل متفرغ ؛ ليحفظ أولادك القرآن ، ولست بصدد مناقشة أخذ الأجر على القرآن فالمسألة فيها قولان : لكن قول الجمهور - وأدين لله بذلك : أن من تفرغ ليحفظ أولادنا القرآن فلنمنحه بسخاء من أموالنا ، يدمى القلب أن نمنح دماء قلوبنا لمدرسي اللغات الأجنبية ، وأنا لا أقلل من شأن تعليمها لأولادنا ، لكن الذي يدمي القلب ، أن نمنح بسخاء بل دماء قلوبنا لمدرسي اللغات الأجنبية ، أما من يدرس لأولادنا علوم القرآن ومن يحفظ أولادنا القرآن ينظر إليه باستهزاء ، وينظر إليه بازدراء ، وينظر إليه باحتقار ، وإن أعطيناه فتاتاً من المال نمن عليه بهذا العطاء ، فلنحفظ أولادنا القرآن .
فليجتهد كل غني صادق أن يخصص من ماله راتباً شهرياً للنبهاء من أولاد المسلمين ممن يحفظون القرآن الكريم ، وأنا أعلم كثيراً من أهل الفضل يعملون ذلك يقول أحدهم ونعرفهم : من يحفظ جزءا من كتاب الله تبارك وتعالى يأخذ على جهده وحفظه خمسين جنيهاً . وهكذا ، خصص من مالك مالاً لهذا الأمر العظيم .
أحرصوا على انتشار الكتاتيب في البيوت ، وفي المساجد ،
يقول فضيلة الشيخ محمد حسان :
لازلت أذكر في هذه القرية الطيبة أننا قد أنهينا حفظ القرآن الكريم في سن الثامنة ، ولم أكن وحدي ، بل كنا مجموعة كبيرة من الأطفال الصغار .
فلنعد للكتاب مكانته ، ولنعد للقرآن جلاله ومهابته ، وأخاطب المسؤولين ، ربما تصل كلمتي إليهم ، وأنا ما اعتدت ذلك اعتدت أن أخاطب من بين يدي ، لكن ربما أسأل الله أن يبلغ كلمتي إليهم أنقلها لهم بأدب جم وبحب فياض وأقول : اجعلوا القرآن الكريم مادة أساسية من مواد الرسوب والنجاح ، واجعلوا له أعلى الدرجات لتدفعوا أولادنا الصغار لحفظ كتاب العزيز الغفار ، وأخاطب المسؤولين في وسائل المواصلات أن يحرصوا على أن يسمعوا الركاب القرآن في الجهات والمصالح الحكومية ، فليدوِّ القرآن في جنبات الأرض ، إنه كلام الحق .
يقول فضيلة الشيخ محمد حسان :
والله لا أنسى حين كنت في كندا ، في تورنتو ، وفي المركز الإسلامي ، جاءني الإخوة القائمون على المركز بعشرة أطفال كنديين يحفظون القرآن كله ، أسأل أحدهم ، أكتب له كلمة ، وأسأله : اقرأ هذه الكلمة بالعربية يعتذر لا يستطيع قراءتها وأقول له : اقرأ من قوله تعالى : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } فيقول : { وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }
[ الإسراء : ٩ ، ١٠ ]
ويقرأ القرآن بسلامة وجمال في كندا ، في روسيا ، في أمريكا .
فلنحرص على نعلم أولادنا القرآن .
ثم فلنتخلق بأخلاق القرآن ،
يا إخوة أعلنها لله ! أقول : إن الحق معنا لكننا لا نحسن أن نشهد لهذا الحق على أرض الواقع شهادة عملية خلقية سلوكية كريمة ، لكنه يحسن أن نبلغ هذا الحق لأهل الأرض بحق ، وأن الباطل مع غيرنا ، لكنه يحسن أن يلبس الباطل ثوب الحق ، ويحسن أن يصل بالباطل إلى حيث ينبغي أن يصل الحق ، وحينئذ ينزوي حقنا ويضعف كأنه مغلوب ، وينتفخ باطلهم وينتفش كأنه غالب ، وهنا نتألم لحقنا الذي ضعف وانزوى وللباطل الذي انتفخ وانتفش ، فنعبر عن ألمنا هذا بصورة من صورتين : إما أن نعبر عن ألمنا بصورة ساكنة مكبوتة سلبية فنزداد هزيمة نفسية وانعزالا عن المجتمع والعالم ، وإما أن نعبر عن ألمنا بصورة متشنجة منفعلة دموية ، فنخسر الحق للمرة الألف وللمليون ؛ لأن أهل الأرض في الأرض سيزدادون حينئذ بغضاً للحق الذي معنا وإصراراً على الباطل الذي معهم ، فلنتخلق بأخلاق القرآن ، فلنمتثل أمره ، فلنجتنب نهيه ، فلنقف عند حده ، فو الله ما تحول الصحابة من رعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم ، إلا يوم أن حولوا هذا القرآن في حياتهم إلى واقع عملي ، وإلى نهج حياة .
شهادة : آثم قلبه من لم يشهد بها اليوم للقرآن ، ثم لماذا لا تعاهد ربك من الآن على أن تحفظ كتاب الله ولو أن تحفظ كل يوم آية واحدة ! لا تخشوا على القرآن فالقرآن قد تكفل بحفظه :
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
[ الحجر : ٩ ] .
فهم القرآن :
أنا لا أريد أن أخرج عن واقع الأمة المرير ، فكلنا يرى الأحداث المؤلمة ، في العالم كله ، مشكلة المشاكل أن القرآن غيب عن الساحة ، وأن السنة أبعدت عن الساحة وصرنا نتعامل مع قضايانا ومع أعدائنا من منطلق عقولنا ، وربما تكون هذه العقول سقيمة ، صار القوم على رأسهم الزعماء الذين لا يعرفون شيئاً عن مراد الله ، ولا عن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يفهمون القرآن والسنة ، صاروا بذلك لا يفهمون حقيقة الواقع الذي يتعاملون معه ، وصاروا بذلك لا يفهمون حقيقة العدو الذي يتعاملون معه ، فلوا عاد القوم إلى كتاب الله ، ولو عادة الأمة إلى كلام الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لوجدوا أن الداء مشخص بدقة ، وفي الوقت ذاته وجدوا الدواء واضحاً غاية الوضوح .
فالقرآن الكريم بين أيدينا ما زال يُقرأ في الليل والنهار ، ولكن فهل من مدكر ؟ القرآن الكريم ما أنزله الله إلا ليعالج واقعنا ، لكن القرآن غيب الآن عن الواقع ، لكن القرآن غيب الآن عن المشكلة برمتها ، فصرنا نتعامل بعيداً عن أرض صلبة ، وسماء مظللة بأنوار الحق والهدى ، فتخبطنا وانحرفنا وابتعدنا وصرنا فريسة لكلاب الأرض هنا وهناك ، وصرنا قصعة مستباحة لأحقر أمم الأرض هنا وهناك ،
لماذا لا ترجع الأمة الآن إلى القرآن لتفهم عن الله مراده ؟
لماذا لا ترجع الأمة الآن إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لتفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مراده ؟
إن الحياة البشرية كلها من خلق الله ، ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من عند الله ، ولن تفتح ولن تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يقوم لها من عند الله على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هذا هو حل قضيتنا ورب الكعبة ، لو عرفت طبيعة من تعادي ، لو عرفت طبيعة من تبايع ، لوعرفت طبيعة من توالي ، لو عرفت طبيعة من تحاور ، لو عرفت طبيعة من تعاهد ، لو عرفت بيعة من تجلس معهم على مائدة المفاوضات ، لاختصرت الطريق ، لكن الأمة وزعماءها لم يفهموا عن الله مراده ، ولم يفهموا عن الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم مراده ، ولقد غيبوا عن الساحة كلام الله وكلام الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن والاه .
فنحن في حاجة إلى فهم القرآن والسنة ، فالقرآن الذي حول العرب من رعاة للغنم إلى سادة للدول والأمم هو الذي يتلو بين أي يدينا الآن لم تحذف منه آية ، لم تحذف منه كلمة ، ولم يبدل فيه حرف ، الذي حدث أننا هجرناه :
وصدق ربي إذ يقول :
{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا }
[ الفرقان : ٣٠ ] .
يقول ابن القيم طيب الله ثراه : الهجر للقرآن أنواع : (١)
أولاً : هجر السماع
ثانياً : هجر التلاوة
ثالثاً : هجر التدبر
رابعاً : هجر العمل بالقرآن
خامساً : هجر التداوي بالقرآن
(١) انظر : (( الفوائد )) لابن القيم (٨٢) .
* وأخيراً : ورد القرآن :
المحافظة على ورد يومياً في كتاب الله جل وعلا : منذ متى وأنت لم تفتح القرآن ، هيا انفض عن القرآن الغبار وأخرجه من حقيبته ، واشرع في تلاوة كتاب الله بفهم وتدبر ، اقرؤوا القرآن ، اقرأ القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه (٢) ...
(٢) رواه مسلم من حديث أبي أمامة في صلاة المسافرين وقصرها (٨٠٤) .
أيها الأفاضل ، يا من تركتم وهجرتم كتاب الله هيا انفضوا عن كتاب الله غبار الغفلة ، واجعلوا لكم ورداً يومياً مع القرآن الكريم ، ما أجمل أن تجلس مع امرأتك مع أولادك بعد الفجر مثلاً أو بعد العصر مثلاً لتقرؤوا سوياً جزأين من كتاب الله أو يزيد اقرأ ربما يقول والد من آبائنا الكرام : وأنا لا أحسن التلاوة فماذا أصنع ؛ احرص أن تجلس في جلسة تقرأ القرآن في المسجد بعد الفجر أو بعد العصر لتسمع القرآن ، أو إن وجت رمقاً من الوقت ، فانكث في بيت الله سبحانه وتعالى واقض الوقت في طاعة ، كاستغفار ، كصلاة على نبينا المختار ، كتسبيح ، وتهليل ، وتحميد ، وتكبير ، فأنت في طاعة وأنت في صلاة (٣)
(٣) رواه البخاري (١٧٦ ، ٤٧٧ ، ٦٤٧ ، ٦٤٨) ومسلم كتاب المساجد ( ٦٤٩ / ٢٧٢ ) ما دمت في بيت الله تنتظر الصلاة ، وملائكة الله تدعوا لك وتصلي عليك : اللهم اغفر له وارحمه ، اللهم صل عليه ، وأنت في صلاة ، ما انتظرت الصلاة ما لم ينتقض وضوؤك ، فإن انتقض وضوؤك فقم وجدد وضوءك وأقبل مرة أخرى على طاعة الله سبحانه وتعالى .
وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
المصدر :
كتاب الخطب المنبرية
لفضيلة الشيخ محمد حسان
نقلاً من موضوع : الفرقان الحق الخطبة الثانية : ما واجبنا ؟
رقم الصفحة : (٢٠-٢٤)
الجزء : السادس
الناشر : مكتبة فياض
حقوق الطبع محفوظة لعام : ١٤٢٦ هـ - ٢٠٠٥ م
وكتاب الحقوق الإسلامية
لفضيلة الشيخ محمد حسان
نقلاً من موضوع : فهم القرآن
رقم الصفحة : (٢٣٦-٢٤٤)
وموضوع تحويل البرنامج إلى منهج عملي
رقم الصفحة : ( ٤٧١-٤٧٢)
الناشر : مكتبة فياض للنشر والتوزيع
حقوق الطبع محفوظة لعام : ١٤٢٧ هـ - ٢٠٠٦ م
تعليق