الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله
وعلى آله وصحبه أجمعين
فإن من أشد شهوات الدنيا فتنةً شهوة المنصب
تلك الفتنة التي قد تدفع من أُشربها قلبه أن يبيع دينه
ويشتري فانيةً بباقية
ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير
شأنه شأن الذين حالت السيادة والرئاسة بينهم
وبين بوطقة الإيمان
فكانوا مُقدَّمي وقود النار الذين قالوا:
(رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا .
رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)
(الأحزاب:67-68).
وكم تعظم المصيبة إن كان هذا المنصب متعلِّقًا بالدين!
ما أشد البلاء لو تمكَّنت شهوة المنصب من قلب رجلٍ
تعلَّقت به قلوب الناس يأخذون عنه دينهم!
ويا لها من طامة أن تنزلق قدما مَن جعله الناس بينهم
وبين ربهم -عز وجل-
يبلغهم دينه، ويوقِّع لهم عن رب العالمين!
والمخدوع من أحسن الظن بنفسه وأمن الفتنة
والخاسر من أمن مكر الله
(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف:99)
نسأل الله الثبات والاخلاص للجميع
والعالم يعلمُ مواطن قدميه وخبايا نفسه
فلا يأمن أن يضع قدمًا في الجنة والأخرى لم تستقر بعدُ..
تجده لا يأمن على نفسه الفتنة
ولا يمل من أن يسأل ربَّه
مقلبَ القلوب أن يثبت قلبه على دينه
مستنًّا بإمام العلماء -صلى الله عليه وسلم-
الذي كان يدعو ربه ويقول:
(يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)
(رواه الترمذي، وصححه الألباني)
وعباد الله الصالحين يقولون :
(رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا
مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ .
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ
إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)
(آل عمران:8-9).
ولا شك أن هذا الخوف من الفتنة والتبرؤ من الحول والقوة
إلى حول وقوة من لا حول ولا قوة إلا به
له أثره في الثبات على الحق
والجهر به وإن سخط الناس
وإن زال المنصب، وإن وُضع المنشار في مفرق الرأس
كما فُعل مع الراهب وجليس الملك في قصة أصحاب الأخدود
حين قيل لكل منهما:
"ارجع عن دينك"
فأبى كل منهما، فشقهما المنشار حتى وقع شقاهما
فسلام الله على تلك النفوس الطاهرة
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
(كان الرجل قبلكم يؤخذ، فيحفر له في الأرض
فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه
فيشق باثنتين، ما يصده ذلك عن دينه
ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب
ما يصده ذلك عن دينه)
(رواه البخاري).
وأمة الإسلام ولادة
رحمها لا ينضب
ولا يزال الخير في هذه الأمة إلى قيام الساعة
ونموذج العالم الذي يخشى على نفسه الفتنة
يتجدد بين زمان وزمان، لا تعدمه الأمة.
ومن هؤلاء الأعلام في عصرنا الحاضر هذا الرجل
الذي ضرب أروع الأمثلة في الصدع بالحق
والاستهانة بمتاع المنصب الزائل
وضرب كذلك أروع الأمثلة في الخوف على نفسه من الفتنة..
إنه شيخ الأزهر
محمد الخضر حسين -رحمه الله-
الذي جدَّد -وهو المُسنُّ الهرم-
للأزهر بعض شبابه، وبثَّ فيه روحًا من كرامة النفس
وكرامة العلم، وكرامة العلماء
فكان مثالاً يتمنى المرء أن يرى مثله على كرسيه
يصدع بالحق، ويرفع اللواء
ولا يخشى في الله لومة لائم.
وقد كان له موقف سجَّله التاريخ
قلَّ أن تجد مثله في أمة من الأمم
فإنه لما تولى مشيخة الأزهر كتب استقالة غير مؤرَّخة
من صورتين
احتفظ بإحداهما في مكتبه
وأعطى الأخرى للشيخ بسيوني مدير مكتبه
وقال له:
"إذا رأيتني ضعيفًا في موقف من المواقف
فابعث بالصورة التي معك إلى المسئولين نيابةً عني
وهذه مسئوليتك أمام الله".
جولة مع حياة الشيخ محمد الخضر حسين
-رحمه الله-:
ولد الشيخ محمد الخضر حسين بمدينة نفطة التونسية في
(26 رجب 1293هـ= 16 أغسطس 1876م)،
فحفظ القرآن الكريم
وتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة
ثم انتقل مع أسرته إلى تونس العاصمة سنة
(1305هـ= 1887م)
وهو في الثانية عشرة من عمره، والتحق بجامع الزيتونة
وأكبَّ على التحصيل والتلقِّي
وكانت الدراسة فيه صورة مصغرة من التعليم في الجامع الأزهر
في ذلك الوقت.
ثم تخرَّج محمد الخضر الحسين في الزيتونة غزير العلم
واسع الأفق، فصيح العبارة، محبًّا للإصلاح
فأنشأ مجلة "السعادة العظمى"
سنة (1321هـ= 1902م)
لتوقظ الغافلين من أبناء أمته
وتفضح أساليب الاستعمار
وترشد الناس إلى مبادئ الإسلام وشرائعه.
تعليق