معركة بلاط الشهداء
بطل هذه المعركة هو عبد الرحمن الغافقي وكان يوقن بأن الإعداد للمعارك الكبرى إنما يبدأ بإصلاح النفوس، وتزكيتها، ويعتقد أنه ما من أمة تستطيع أن تحقق غايتها في النصر إذا كانت حصونها مُصدَّعة مهددة من الداخل..
لذلك هبَّ يطوف بلاد "الأندلس" بلدًا إثر بلد، ويأمر المنادين أن ينادوا في الناس:
من كانت له مظلمة عند والٍ من الولاة، أو قاضٍ من القضاة، أو أحد من الناس فليرفعها إلى الأمير، وأنه لا فرق في ذلك بين المسلمين وغيرهم من المعاهدين، وكان كلما أمَّ بلدًا دعا الناس إلى صلاة جامعة ثم وقف فيهم خطيبًا، وانطلق يحضهم على الجهاد.. ويرغبهم في الاستشهاد، ويمنيهم برضوان الله والفوز بثوابه.
استعداد للغزو
لبث عبد الرحمن الغافقي عامين كاملين يُعِدُّ العدة للغزو الكبير، فكتّب الكتائب، وعبّأ الجنود.. وشحذ الهمم، وعمّر القلوب…
فانطلق بجيشه الجرار من شمال الأندلس كما ينطلق الإعصار.
وانصب على جنوب "فرنسا" من فوق جبال "البرنية" كما ينصب السيل، وكانت عدة جيشه مائة ألف مجاهد، بين جوانح كل منهم قلب أسد وفي عروقه عزمة مارد..
لقد سقطت مدن جنوب فرنسا تحت سنابك خيول جيش عبد الرحمن الغافقي، كما تسَّاقط أوراق الشجر في فصل الخريف إذا هبت عليها الرياح الهوج.
واهتزت "أوروبا" من أقصاها إلى أقصاها لسقوط نصف "فرنسا" الجنوبي كله في يدي عبد الرحمن الغافقي خلال بضعة أشهر.. وفتح الفرنجة أعينهم على الخطر الداهم القادم من الشرق، ودبَّ الصريخ في كل مكان يدعوهم إلى سدِّ الطريق أمامه بالأجساد إذا انعدم العتاد.
وأقبل الناس على الانضواء تحت لواء "شارل مارتل"، ومعهم الشجر والحجر والشوك والسلاح، كان الجيش الإسلامي آنذاك قد بلغ مدينة "تُوز Tours"، أحاط بها المسلمون إحاطة الفل بالعنق، واسترخصوا في سبيل افتتاحها الأرواح والمهج، فما لبثت أن سقطت بين أيديهم على مرأى "شارك مارتل" ومسمعه.. وبعد ذلك زحف عبد الرحمن الغافقي بجيشه الجرار على مدينة "بُواتييه Poitiers"، وهناك التقى مع جيوش أوروبا الجرارة بقيادة "شارل مارتل".
سكون وترقب
وقف الجيشان الكبيران بضعة أيام كل منهما قبالة الآخر في سكون وترقب وصمت، فقد كان كل من الجيشين يخشى بأس عدوه، ويحسب للقائه ألف حساب، فلما طال الوقت على هذه الحال، ووجد عبد الرحمن الغافقي مراجل الحمية والإقدام تغلي في صدور رجاله؛ آثر أن يكون هو البادئ بالهجوم معتمدًا على الله، ثم على مناقب جُنْده، وانقض بفرسانه على صفوف الفرنجة انقضاض الأسود الكاسرة، وصمد لهم الفرنجة صمود الأطواد الراسخة، وانقضى اليوم الأول من أيام المعركة دون أن ترجح فيه كفة على كفة، ولم يحجز بين المتقاتلين غير هبوط الظلام على ميدان القتال، ثم تجدد النزال في اليوم التالي، وظلَّت المعركة تدور على هذه الحال سبعة أيام طويلة ثقيلة.
فلما كان اليوم الثامن كرَّ المسلمون على عدوهم كرة ففتحوا في صفوفه ثغرة كبيرة، لاح لهم من خلالها النصر كما يلوح ضوء الصبح من خلال الظلام، عند ذلك أغارت فرقة من كتائب الفرنجة على معسكرات الغنائم؛ فلما رأى المسلمون أن غنائمهم قد أوشكت أن تقع في أيدي أعدائهم؛ انكفأ كثير منهم لاستخلاصها منهم؛ فتصدعت لذلك صفوفهم وتضعضعت جموعهم وذهبت ريحهم.
هبَّ القائد العظيم عندئذ يعمل على رد المنكفتين، ومدافعة المهاجمين، وسدِّ الثغور، وفيما كان بطل الإسلام الغافقي يذرع (يجتاز) أرض المعركة على صهوة جواده الأشهب كرًّا وفرًّا؛ أصابه سهم نافذ؛ فهوى عن متن فرسه كما يهوي العُقاب من فوق قمم الجبال، وثوى شهيدًا على أرض المعركة، فلما رأى المسلمون ذلك عمهم الذعر، وسادهم الاضطراب، واشتدت عليهم وطأة العدو، ولم يوقف بأسه عنهم إلا حلول الظلام، فلما أصبح الصبح وجد "شارل مارتل" أن المسلمين قد انسحبوا من "بواتييه"، فلم يجرؤ على مطاردتهم؛ ذلك أنه خشي أن يكون انسحابهم مكيدة من مكائد الحرب.
لن تجد لسنة الله تبديلاً
لقد كان يوم بلاط الشهداء يومًا حاسمًا في التاريخ أضاع فيه المسلمون أملاً من أعز الآمال، وفقدوا خلاله بطلاً من أعظم الأبطال، وتكررت فيه مأساة "يوم أحد".. سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
ولا تحسبن أن هذا الجرح الغائر قد أوجع أفئدة المسلمين وحدهم، وإنما شاركهم في ذلك طائفة من عقلاء الفرنجة رأوا في انتصار أجدادهم على المسلمين في "بواتييه" مصيبة كبرى رُزِئت بها الإنسانية، ولنستمع إلى رأي "هنري دي شامبون" مدير مجلة "ريفي بار لمنتير" الفرنسية.
"لولا انتصار جيش "شارل مارتل" الهمجي على العرب المسلمين في فرنسا؛ لما وقعت بلادنا في ظلمات القرون الوسطى، ولما أصيبت بفظائعها، ولا كابدت المذابح الأهلية التي دفع إليها التعصب الديني المذهبي، نعم لولا ذلك الانتصار الوحشي على المسلمين في "بواتييه" لظلت "إسبانيا" تنعم بسماحة الإسلام، ولنجت من وصمة محاكم التفتيش، ولما تأخر سير المدنية ثمانية قرون، ومهما اختلفت المشاعر والآراء حول انتصارنا ذاك؛ فنحن مدينون للمسلمين بكل محامد حضارتنا في العلم والفن والصناعة.. مدعوون لأن نعترف بأنهم كانوا مثال الكمال البشري في الوقت الذي كنا فيه مثال الهمجية، وافتراء ما ندعيه اليوم من أن الزمان قد استدار، وأن المسلمين وصلوا في هذا العصر إلى ما كنا عليه في العصور الوسطى.
لذلك هبَّ يطوف بلاد "الأندلس" بلدًا إثر بلد، ويأمر المنادين أن ينادوا في الناس:
من كانت له مظلمة عند والٍ من الولاة، أو قاضٍ من القضاة، أو أحد من الناس فليرفعها إلى الأمير، وأنه لا فرق في ذلك بين المسلمين وغيرهم من المعاهدين، وكان كلما أمَّ بلدًا دعا الناس إلى صلاة جامعة ثم وقف فيهم خطيبًا، وانطلق يحضهم على الجهاد.. ويرغبهم في الاستشهاد، ويمنيهم برضوان الله والفوز بثوابه.
استعداد للغزو
لبث عبد الرحمن الغافقي عامين كاملين يُعِدُّ العدة للغزو الكبير، فكتّب الكتائب، وعبّأ الجنود.. وشحذ الهمم، وعمّر القلوب…
فانطلق بجيشه الجرار من شمال الأندلس كما ينطلق الإعصار.
وانصب على جنوب "فرنسا" من فوق جبال "البرنية" كما ينصب السيل، وكانت عدة جيشه مائة ألف مجاهد، بين جوانح كل منهم قلب أسد وفي عروقه عزمة مارد..
لقد سقطت مدن جنوب فرنسا تحت سنابك خيول جيش عبد الرحمن الغافقي، كما تسَّاقط أوراق الشجر في فصل الخريف إذا هبت عليها الرياح الهوج.
واهتزت "أوروبا" من أقصاها إلى أقصاها لسقوط نصف "فرنسا" الجنوبي كله في يدي عبد الرحمن الغافقي خلال بضعة أشهر.. وفتح الفرنجة أعينهم على الخطر الداهم القادم من الشرق، ودبَّ الصريخ في كل مكان يدعوهم إلى سدِّ الطريق أمامه بالأجساد إذا انعدم العتاد.
وأقبل الناس على الانضواء تحت لواء "شارل مارتل"، ومعهم الشجر والحجر والشوك والسلاح، كان الجيش الإسلامي آنذاك قد بلغ مدينة "تُوز Tours"، أحاط بها المسلمون إحاطة الفل بالعنق، واسترخصوا في سبيل افتتاحها الأرواح والمهج، فما لبثت أن سقطت بين أيديهم على مرأى "شارك مارتل" ومسمعه.. وبعد ذلك زحف عبد الرحمن الغافقي بجيشه الجرار على مدينة "بُواتييه Poitiers"، وهناك التقى مع جيوش أوروبا الجرارة بقيادة "شارل مارتل".
سكون وترقب
وقف الجيشان الكبيران بضعة أيام كل منهما قبالة الآخر في سكون وترقب وصمت، فقد كان كل من الجيشين يخشى بأس عدوه، ويحسب للقائه ألف حساب، فلما طال الوقت على هذه الحال، ووجد عبد الرحمن الغافقي مراجل الحمية والإقدام تغلي في صدور رجاله؛ آثر أن يكون هو البادئ بالهجوم معتمدًا على الله، ثم على مناقب جُنْده، وانقض بفرسانه على صفوف الفرنجة انقضاض الأسود الكاسرة، وصمد لهم الفرنجة صمود الأطواد الراسخة، وانقضى اليوم الأول من أيام المعركة دون أن ترجح فيه كفة على كفة، ولم يحجز بين المتقاتلين غير هبوط الظلام على ميدان القتال، ثم تجدد النزال في اليوم التالي، وظلَّت المعركة تدور على هذه الحال سبعة أيام طويلة ثقيلة.
فلما كان اليوم الثامن كرَّ المسلمون على عدوهم كرة ففتحوا في صفوفه ثغرة كبيرة، لاح لهم من خلالها النصر كما يلوح ضوء الصبح من خلال الظلام، عند ذلك أغارت فرقة من كتائب الفرنجة على معسكرات الغنائم؛ فلما رأى المسلمون أن غنائمهم قد أوشكت أن تقع في أيدي أعدائهم؛ انكفأ كثير منهم لاستخلاصها منهم؛ فتصدعت لذلك صفوفهم وتضعضعت جموعهم وذهبت ريحهم.
هبَّ القائد العظيم عندئذ يعمل على رد المنكفتين، ومدافعة المهاجمين، وسدِّ الثغور، وفيما كان بطل الإسلام الغافقي يذرع (يجتاز) أرض المعركة على صهوة جواده الأشهب كرًّا وفرًّا؛ أصابه سهم نافذ؛ فهوى عن متن فرسه كما يهوي العُقاب من فوق قمم الجبال، وثوى شهيدًا على أرض المعركة، فلما رأى المسلمون ذلك عمهم الذعر، وسادهم الاضطراب، واشتدت عليهم وطأة العدو، ولم يوقف بأسه عنهم إلا حلول الظلام، فلما أصبح الصبح وجد "شارل مارتل" أن المسلمين قد انسحبوا من "بواتييه"، فلم يجرؤ على مطاردتهم؛ ذلك أنه خشي أن يكون انسحابهم مكيدة من مكائد الحرب.
لن تجد لسنة الله تبديلاً
لقد كان يوم بلاط الشهداء يومًا حاسمًا في التاريخ أضاع فيه المسلمون أملاً من أعز الآمال، وفقدوا خلاله بطلاً من أعظم الأبطال، وتكررت فيه مأساة "يوم أحد".. سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
ولا تحسبن أن هذا الجرح الغائر قد أوجع أفئدة المسلمين وحدهم، وإنما شاركهم في ذلك طائفة من عقلاء الفرنجة رأوا في انتصار أجدادهم على المسلمين في "بواتييه" مصيبة كبرى رُزِئت بها الإنسانية، ولنستمع إلى رأي "هنري دي شامبون" مدير مجلة "ريفي بار لمنتير" الفرنسية.
"لولا انتصار جيش "شارل مارتل" الهمجي على العرب المسلمين في فرنسا؛ لما وقعت بلادنا في ظلمات القرون الوسطى، ولما أصيبت بفظائعها، ولا كابدت المذابح الأهلية التي دفع إليها التعصب الديني المذهبي، نعم لولا ذلك الانتصار الوحشي على المسلمين في "بواتييه" لظلت "إسبانيا" تنعم بسماحة الإسلام، ولنجت من وصمة محاكم التفتيش، ولما تأخر سير المدنية ثمانية قرون، ومهما اختلفت المشاعر والآراء حول انتصارنا ذاك؛ فنحن مدينون للمسلمين بكل محامد حضارتنا في العلم والفن والصناعة.. مدعوون لأن نعترف بأنهم كانوا مثال الكمال البشري في الوقت الذي كنا فيه مثال الهمجية، وافتراء ما ندعيه اليوم من أن الزمان قد استدار، وأن المسلمين وصلوا في هذا العصر إلى ما كنا عليه في العصور الوسطى.
تعليق