محمد فاروق النبهان
تعتبر ولاية المظالم في تاريخ الإسلام من أهمِّ معالِمه الحضارية التي تمثِّل سيادة الحق والعدل، وخضوع جميع أصحاب النفوذ والسلطان للأحكام التي تقرِّرُها عدالةُ الإسلام.
وقد يكون التساؤل مطروحًا حول مهمة هذه الولاية التي لا تخرج في شكلها العامِّ عن مفهوم القضاء العادي، إلا أن التسمية - بولاية المظالم - تُشير إلى الدَّور الذي تقوم به هذه الولاية، وذلك عندما يحكم القضاءُ في قضيةٍ ما، ويتجاوز - لظروفٍ تخرج عن سلطة القاضي - مبادئ الحق والعدل المقرَّرة، فيحكُم القاضي بحكمٍ لا تتوفَّر لدى الطرَفِ الضعيف القناعةُ الكافية بعدالة الحكم ونزاهته؛ وذلك بسبب تحيُّز القاضي لأحد أطراف القضية، لا عن قناعة بذلك، وإنما بسبب سلطانٍ يملِكُه الطرف الآخر، ونفوذٍ يخشى على نفسه منه، وفي هذه الحالة يتجاوز المظلوم ما تفرِضُه عليه التقاليد والأعراف القضائية، فيرفع الأمر إلى جهة نافذةٍ ذات سلطان، تحمي ذلك الطرف الضعيف من سلطان خصمِه، وتفضح تجاوزه، وتكشف عن استغلاله لنفوذه لإلحاق الظلم بالضعفاء من الناس، ممن لا يملِكون ما يملِك من هيبة في سلطته، أو قوة في مركزه.
قال الإمام الماوردي في تعريفه لدَور هذه الولاية:
"ونظرُ المَظالِم هو قَود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة، وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفَّة، قليل الطمع، كثير الورع؛ لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحُماة، وثَبْت القضاة، فيحتاج إلى الجمع بين صفات الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين"؛ (الأحكام السلطانية: 77).
نشأة ولاية المظالم:
لا يمكن تصوُّر وجود ولاية المظالِم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك لأن هذه الولاية لا يمكن تصوُّرها إلا في ظل توفُّر الشروط التالية:
• نظام قضائي يمارس فيه القضاءُ دَوره الفعلي، بحيث تُعرَض القضية على والي المظالِم في الوقت الذي يعجز فيه القضاء العادي عن النظر فيها بسبب ظروف خاصة.
• وجود أصحاب سطلة ونفوذٍ يُمارِسون سلطتَهم بعيدًا عن رقابة وقبضة القضاء، معتمدين على ذلك على ما يملكونه من نفوذ شخصي، يملكون الاعتماد عليه، في كل تجاوز.
• أن يكون القضاءُ ضعيفًا، ولا يملِك القاضي فيه سلطةً قانونية تحميه من غضب أصحاب النفوذ، ولا يمكننا تصوُّر وقوع الظلم وإقراره في ظل نظام قضائي سليم يمارِس فيه القاضي اختصاصَه بحرية ونزاهة.
وبِناءً على هذه التصوُّرات، فإن ولاية المظالِم لا يمكن تصوُّرها في ظلِّ العصر النبوي، نظرًا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينظر بنفسه في المنازعات، ويحتكم النَّاس إليه مباشرة، وقد نستطيع أن نتصوَّر أن بعض ولاتِه - صلى الله عليه وسلم - ارتكب ظلمًا في حقِّ مواطنٍ ضعيف، فعندئذٍ يَعرِضُ ذلك المظلومُ قضيتَه أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - فيحكم له بحقه ويُنصفُه ممَّن ألحق به الظلم، إلا أن ذلك التصوُّر لم تؤكِّده أية روايةٍ تاريخية حول تجاوزاتٍ قام بها الولاة أو القوَّاد في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعود سبب ذلك إلى نقاء تلك الفترة التاريخية من تاريخ الإسلام، من مثل هذه الممارسات الخاطئة، التي لا تظهر عادة إلا في ظل مجتمعات نَمَت فيها جرثومة الظلم، ووجدت بيئة مهيَّأة للانطلاق والظهور.
ويحدِّثنا التاريخ أن عصر الصحابة الأوائل لم يشهَدْ أحداثًا ووقائع تستدعي أن يُرفَع أمرُها إلى خليفة المسلمين لرفع الظلم فيها، وذلك لسببين:
أولهما: أن الخلفاء الراشدين كانوا يباشرون بأنفسهم مهمَّة القضاء.
وثانيهما: أن مراكز القُوى والنفوذ لم تكن تملِكُ سلطة التجاوز، بفضلِ نزاهة القضاء ودَوره الكبير في حسم المنازعات والاختلافات بمقتضى قواعد الشرع وأحكامه القضائية.
ومع هذا فإننا لا يُمكِنُنا أن نستبعدَ أن بعض النَّاس كان يرفعُ مظلمته إلى الخليفة مباشرة، وكان الخليفة يحسم الأمر مباشرة، دون أن يُطلِق على ذلك اسمَ ولاية المظالم، ولعلَّنا نذكر قصة الأعرابي الذي اعتدى عليه ابنُ والي مصر عمرو بن العاص، في حادثة مشهورة، واشتكى ذلك الأعرابي إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فاستدعى واليَه على مصر، وزجره وقال كلمته المشهورة:
"متى استعبدتُم النَّاس وقد ولدَتْهم أمهاتهم أحرارًا".
وفي عصر بني أميَّة ابتدأت المظالم، وارتفع صوت أصحابها، يُطالِبون برفع الظلم عنهم، وتشير الروايات التاريخية إلى أن أول خليفة حدَّد يومًا للنظر في المظالم هو عبدالملك بن مَرْوان، وكان ينظر في المظالم المعروضة عليه، فإذا أشكل منها شيء ردَّه إلى قاضيه ابن إدريس الأزدي.
واشتهر برفع المظالم الخليفة الأموي "عمر بن عبدالعزيز"، وكان خليفة قويًّا في الحق، يكره الظلم وينفِرُ منه، وعندما استلم الخلافة وجد أمامه مظالم بني أمية، وقد خلَّفت وراءها ضحايا من أصحاب الحقوق، وقرَّر الخليفة أن يتصدَّر لتلك المظالم، بالرغم من خطورة التصدِّي لأصحابها، وهم أصحاب نفوذ وسلطان، وبخاصة وهم من بني أمية، ممن يملِكُون تاريخًا عريضًا في الحكم، ويملكون دعمًا قويًّا من السلطة، ومع هذا فقد قرَّر "عمر" أن يخوضَ "معركة الحق" دفاعًا عن الحق والعدل، وقيل له في ذلك: إنَّا نخافُ عليك من ردِّها العواقبَ، فقال: كل يوم أتقيه وأخافه دون يوم القيامة لا وُقِيته.
وجلس عددٌ من الخلفاء العباسيين للنظر في المظالم؛ منهم: المهدي، والهادي، والرشيد، والمأمون، واتخذ المهديُّ لنفسه بيتًا له، شبك من حديد على الطريق، تطرح فيه القصص، وكان يدخله بنفسه، ويأخذ ما يجد من شكايات ومظالم، فينظر فيها ويقضي بما يراه حقًّا وعدلًا.
وأحيانًا كان الخلفاء يوكِلون أمر المظالم إلى قاضٍ مختصٍّ من أصحاب النفوذ والسلطة والهيبة، ويفوِّضونه باسمِهم أن ينظر في المظالم، وأن يقف إلى جانب أصحابها دفاعًا عن الحقوق.
الاختلاف بين ولاية القضاء وولاية المظالم:
لا تُعتَبر ولاية المظالم إحدى الوظائف القضائية التي تحتاج إلى تقليد وتكليف رسمي، إلا عندما تستحدث وظيفة خاصة بها، ويجلس لها مَن يكلَّف بأمرها، دون غيرها من الأعمال.
ومن المعروف في مَيْدان القضاء أن ولاية القضاء تُعتَبر عقدًا كبقية العقود الأخرى التي تحتاج إلى إيجاب وقَبول، وألفاظ خاصة تدل على عقد ولاية القضاء.
وهناك ألفاظ صريحة تدلُّ على المراد بطريقة مباشرة دون حاجة إلى قرينة ويدخل ضمن هذا كلُّ الألفاظ التي تدلُّ على التولية؛ كقول المولِّي لمن يكلفه بالقضاء: قلَّدتُك أو ولَّيتك، أو استخلفتُك، وأحيانًا يستعمل المولِّي صيغًا لا تدل على التولية بنفسها، وإنما عن طريق القرائن التي تُرافِقها، كقولِه: اعتمدتُ عليك، وعوَّلتُ عليك، ورددتُ إليك، وفوَّضت إليك، وأسندتُ إليك.
ومن الطبيعي أن هذا الكلام الذي يعتبر إيجابيًّا يحتاج إلى قَبول من الشخص المكلَّف بالمهمة، والقبول قد يكون صريحًا، وقد يدل الحال عليه بالقرائن المعتادة، ولا بد في هذه الحالة عند تقليد القضاء من قناعة المولِّي بجدارة الشخص المولَّى للقيام بالمهمة المنوطة به، وهناك شرط آخر وهو إذاعة الخبر ونشره بين النَّاس لكي يُذعِن الجميع لطاعة المسؤول الجديد.
أما ولاية المظالم، فإنها لا تحتاج إلى تقليد وتولية، إذا تولاها الخليفة، أو تولاَّها صاحبُ ولاية عامة، وأن صاحب الولاية العامَّة يملِكُ - بحكم عموم ولايتِه - أن ينظر في كلِّ ما يعرض عليه من مشاكل الناس، وأن يتدخَّل لحلِّها وإنصاف أصحابها، ويدخل ضمن مَن يحق لهم النظر في المظالم: الوزراء والأمراء.
وتختلف صلاحية الوزراء عن الأمراء، فالوزير يملِك - بمقتضى المفاهيم الإدارية الإسلامية التي كانت متبعة - ولايةً عامة في جميع أنحاء الدولة، فيما أسند إليه من مهام، بخلاف الأمير، فإنه يملك ولاية عامة في كل شيء وفي حدود المنطقة الجغرافية التي تعتبر جزءًا من إمارته.
أمَّا غير هؤلاء من أصحاب الولاية العامة، فلا يجوز لهم النظر في أمرِ المظالم إلا بتقليدٍ وتولية، ويخضع التقليدُ لنفس الشروط التي تخضعُ لها تولية القضاء، وتُعتَبر - في هذه الحالة - ولايةُ المظالم إحدى أهم ولايات القضاء.
قال الماوردي:
"فإن كان (والي المظالم) ممن يملك الأمور السَّابقة - كالوزراء والأمراء - لم يحتَج النظرُ فيها إلى تقليدٍ، وكان له بعموم ولايته النظرُ فيها، وإن كان ممن لم يفوَّض إليه عموم النظر احتاج إلى تقليد وتولية إذا اجتمعت فيه الشروط المتقدمة"؛ (الأحكام السلطانية: 77).
تعليق