يتوهَّم الكثيرون بسبب النزعة القومية والوطنية، والاقتصار في الحكم على الدولة العثمانية في عصور انحطاطها، والمظهر اللامع للتطبيق الديمقراطي في شعوب أوربا وأمريكا -المقصورة عليها وحدها دون شعوب العالم الثالث التابعة لها سياسيًّا واقتصاديًّا- يتوهَّمون بسبب كل هذا أن خلافة العثمانيِّين تَقترِن بالاستعمار الغربي، بآثامه ومآسيه، وفظائعه وأهواله، التي ما زلنا نُعاني مِن آثاره الظاهرة والخفيَّة.
إن عواطف التأثُّر بأزمِنة الضعف والانحلال الأخيرة التي عانت الشعوب الإسلامية خلالها -فعلاً- كثيرًا مِن المظالم والآلام، هذه العواطف تقودنا إلى الوقوع في الكثير مِن الأخطاء، بينما الحكم على دولة امتد عمرها نحو ستة قرون يقتضي آفاقًا أبعد، وتفاصيلَ أشمل.
يقول الأستاذ عبد الرحمن عزام -أمين الجامعة العربية السابق-:
"ولو كان الأمر كما يتصوَّره الذين ينخدعون بآثار دور الانحطاط مِن استخدام الطوائف، والغيرة بين العناصر، والبطش لتغطية الضعف، لاستحال أن يدوم ملك آل عثمان ستمائة سنة، منهما مائتان لا يسندهم فيها إلا سيف مبتور"[1].
وكان يُعبِّر عن الرأي المضادِّ الأستاذ محمد عبد الله عنان في كتابه "مصر الإسلامية" الذي كال الطعنات للخلافة العثمانية، ورأى أن مصر الإسلامية لم تَعرف مِن الخطوب والنكبات نكبة أعظم مِن الفتح العثماني؛ بسبب الضربة التي أصابت الإسلامَ مِن جرائه، وشبَّه تصرُّفات الترك بأعمال السفك والتخريب الهائلة، التي بدأها هولاكو وبرابر التتار بسحق الدولة العباسية والمدنية الإسلامية، واستأنفها تيمورلنك في أواخر القرن الرابع عشر.
وأيضًا اعتبر ما فعله السلطان سليم مِن بعثه العلماء ومهَرة الصناع إلى القسطنطينية، اعتبر ذلك "نفيًا" لهم، واعتبر نقل الكتب والآثار النفيسة إلى الآستانة تخريبًا[2].
ويتدخل الشيخ مصطفى صبري ليُصحِّح هذه المعلومات، فيذكِّر صاحبها بأن معظم الآثار كانت كتبًا مخطوطة دينيَّة وعِلمية، فنقلها السلطان إعجابًا بها، واعتناءً بشأنها إلى عاصمة مُلكِه، بعد أن أصبحَت مصر جزءًا مِن بلاد الدولة، لا فرق بينها وبين الآستانة في ذلك، فكيف يُساوي بين عمل السلطان سليم وهولاكو الذي قذَف بما في خزائن بغداد مِن كتُب إلى دجلة والفرات؟!
أما نقل علماء مصر وزعمائها ومهَرة الصناع فيها فلا يُعدُّ نفيًا، بل ليكونوا مِن المقرَّبين إليه، وليُصبح نفعهم عامًّا لجميع البلاد؛ إذ لا فرق بين المسلمين بسبب أوطانهم أو جنسياتهم، ولم يكن غرض السلطان سليم مِن الفتح إلا توحيد مصر الإسلامية بتركيا الإسلامية.
أما إذا اعتبره الأستاذ عنان انتزاعًا لمصر مِن حكم المماليك الشراكسة، "فقد كانوا هم الآخرون انتزعوها مِن حكم المماليك البحرية الترك، ولم تكن مصر يومئذٍ تحت حكم فاتحيها العرب، ولا المقصود مِن الفتح التحكُّم على الشراكسة والمصريين العرب"[3].
والحق أننا لا نَستسيغ هذه الصور مِن التنافس على السيطرة؛ لأننا لا نضعها في إطارها التاريخي الذي حدثت فيه، بينما هي في الحقيقة تخضَع للعرف الدولي (حينذاك)، ثم نعود فنتحفَّظ لأن هذا العرف يشكل قانونًا مستمرًّا ينظِّم العلاقة بين القوي والضعيف.
ودعونا نقوِّم الواقع الدولي الراهن، هل يختلف عما كان يحدث في التاريخ القريب والبعيد؟ إن بلاد العالم الثالث مقسَّمة بين الدولتين المتعاليتَين -روسيا وأمريكا- كل ما هنالك أن الدول في العصور الماضية افتقدَت وسائل الإعلام التي تصوِّر الأشياء بغير حقيقتها، ولم تكن عقول حكامها بالدهاء نفسه الذي اخترع أشكالاً مِن الاستعمار والسيطرة تحت أسماء "الوصاية" و"الانتداب" وغيرهما! أو وضعَت نظمًا شكلية باسم الاشتراكية والديمقراطية و"الكومنولث"؛ لخداع الشعوب وإلهائها عن حقيقة أوضاعها، وإيهامها بأنها تَحكُم نفسها بنفسها، والحقيقة أنها خاضعة خضوعًا تامًّا للقوى الكبرى!
نعود لآراء الشيخ مصطفى صبري التي أوردَها دفاعًا عن الدولة العثمانية، فاقتبس مِن كتاب أ. د. انكلهارد "تاريخ تطورات الدولة العثمانية" كلامًا يذكر فيه أن "الإسلام الذي قد كان مؤسِّس الحكومة العثمانية بقي حاكمًا مطلقًا فوق الحكومة ناظمًا، فقد كان القانون المدني متَّحدًا مع القرآن"، ثم يُفصِح عن نيات دول أوربا المسيحية التي ظلت تعمل على تقويض الدولة العثمانية بالقوة طيلة خمسة قرون، فلما فشلت اتَّبعت الحيلة لكي تحوِّل حكومة آل عثمان "من الروحانية إلى الدنيويَّة؛ بتخليصها عن تأثير القوانين الدينيَّة؛ كما وقع في العالم المسيحي"[4].
وكان هذا هو السبب الرئيسي للعداء؛ لأن أوربا ظلَّت في حالة حروب صليبية مستمرة منذ عهد السلاجقة الأتراك؛ لتيقُّنها مِن حقيقة دور العثمانيِّين في الدفاع عن الدِّين وعن بلاد المسلمين، الذين لا يفرِّقهم وطن ولا لون جنس ولا قوم، كل ما هنالك أن الحروب الصليبية المبتدئة منذ عهد السلاجقة الأتراك كانت فيها أوربا مهاجِمة والسلاجقة مُدافِعون، وانقلبَ الحال في أيدي الأتراك العُثمانيين فأصبحوا مهاجِمين، وظلت أوربا تعمل لهم ألف حساب؛ لأنهم يجمعون العالم الإسلامي تحت رايتهم، ويصدُّون الخطر الاستعماري الأوربي الفادح.
ليست إذًا العلاقة مشابهة بين دولة مُستعمَرة -بفتح الميم- وأخرى مُستعمِرة -بكسرها- ولعلَّ مِن أقوى الأدلة على ذلك أنه بمجرد انفصال الدولة العربية -بعد نجاح الثورة بقيادة الشريف حسين- انقلب "النجاح" وبالاً على الشعوب؛ لأن الثورة -ثورة العرب التي كسرت الحماية العثمانية- أسهمت في كسر شوكة القوة العثمانية، التي كانت في وجه الأطماع الاستعمارية، التي تدفَّقت بعدها كالسيول الجارفة تقضي على الأخضر واليابس، أو كالوحوش الكاسرة التي ما إن رأت السور الحديدي الفاصل بينها وبين ضحاياها يَنكسِر، حتى التهمتْها في ضراوة وقسوة!
ولنقارن بين الأحداث التي لحقتْنَا تباعًا، وبين ما فعله العثمانيون مع غير العرب مِن دول أوربا، ولنسأل أنفسنا: هل يعدُّ ما فعلوه استعمارًا؟
يقول الأستاذ عبد الرحمن عزام: "لما وصل العثمانيون إلى شرق أوربا، وكلها سجون أبدية يتوالد فيها الفلاحون للعبودية، فكسروا أغلال السجون، وأقاموا مكانها صرح الحرية الفردية، فهم قضوا على نظام الإقطاع والأرستقراطية؛ ليحلَّ محله نظام المواطن الحرِّ، والرعاية المتساوية الحقوق، فوصل في دولتهم الرقيقُ الشركسي والصقلي وغيره إلى أكبر مقامٍ في الدولة، كما وصَل النابِه مِن عامَّة الناس حتى المجهول الأصل إلى مقام الصدارة العُظمى والقيادة العليا، وتعلَّمت أوربا الشرقية على يد محرِّريها سيادةَ القانون على الأحساب والأنساب، والطرائق والمِلَل والنِّحَل"[5].
إن هذه القيم تنفي عن الدولة العثمانية تهمةَ الاستعمار تمامًا، فما كان دور الغرب معنا؟ لعلنا نَصدم القارئ -كما صُدمنا- بحقيقة تقييمه لنا، إنها حقًّا صدمة غير متوقَّعة؛ لأنها صادرة عن "منتسكيو" صاحب كتاب "روح القوانين" الشهير الذي يقول:
"إذا طُلب مني أن أدافع عن حقِّنا المكتَسَب لاتخاذ الزنوج عبيدًا، فإني أقول: إن شعوب أوربا بعد أن أفنَت سكان أمريكا الأصليِّين، لم ترَ بدًّا مِن أن تستعبد شعوب إفريقية؛ لكي تستخدمها في استغلال كل هذه الأقطار الفسيحة، والشعوب المذكورة ما هي إلا جماعات سوداء؛ بحيث يكاد من المستحيل أن ترثي لها، ولا يمكن للمرء أن يتصوَّر أن الله -سبحانه وتعالى- وهو ذو الحكمة السامية قد وضع روحًا -على الأخصِّ روحًا طيبة- في داخل جسم حالك السواد"![6].
المصدر: الألوكة.
[1] من مقاله في "الأهرام" بتاريخ 22/10/1944 بعنوان: "آخر الخلفاء"، نقلاً عن الكتاب الكبير للشيخ مصطفى صبري (1: 86).
[2] نفسه (ص: 84).
[3] نفسه (ص: 85).
[4] نفسه (ص: 81).
[5] نفسه (ص: 86).
[6] نص مترجم مِن الفرنسية بقلم الدكتور محمد عوض محمد بكتابه "الاستعمار والمذاهب الاستعمارية" (ص: 37)، دار المعارف، بمصر سنة 1957م.
بقلم د/مصطفى حلمي
تعليق