تولى الكرسي البابوي في سنة (480هـ) 1088م رجل من الرجال المهمين في الكنيسة الغربية، وكان لولايته الأثر في تغيير عدة صفحات متتالية من التاريخ، بل ولعل الآثار التي أحدثها هذا الرجل ما زالت موجودة إلى الآن. وهذا الرجل هو أوربان الثاني الذي تولى الكرسي البابوي في روما إحدى عشرة سنة، وذلك من سنة (480هـ) 1088 إلى سنة (492هـ) 1099م، وكان هو الآخذ لقرار الحروب الصليبية على المشرق الإسلامي[1].
وكان أوربان الثاني رجلاً ذكيًّا سياسيًّا لبقًا، وكان خطيبًا مفوَّهًا، وكان أيضًا جريئًا حاسمًا، وكان مطلعًا على أحوال العالم المعاصر له، وفوق كل ذلك كان يُكِنُّ حقدًا كبيرًا على المسلمين، سواء في بلاد المشرق حيث يحكمون أرض المسيح عليه السلام، أو في الأندلس حيث يحكمون قطعة أوربية مهمَّة على مدار أربعة قرون متتالية حتى زمان تولِّيه البابوية. ثم إنه كان رجلاً ذا طموح كبير، وأحلام واسعة بأن يكون هو الزعيم الأكبر والأوحد للمسيحيين جميعًا في العالم، وذلك بتوحيد الكنيستين الغربية والشرقية؛ استكمالاً لجهود البابا الذي سبقه وهو جريجوري السابع[2].
وكانت العلاقات كما ذكرنا قبل ذلك قد تحسنت نسبيًّا بين البابا السابق جريجوري السابع والإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين، ولقد طلب هذا الأخير المساعدة قبل ذلك من جريجوري السابع لنصرته ضد السلاجقة المسلمين، ولكن حركة جريجوري السابع لم تكن بالقوة المناسبة، ومن ثَمَّ فلم يكن هناك تحرك يُذكر لمساعدة البيزنطيين[3].
غير أن الإمبراطور البيزنطي كرَّر المحاولة مرة ثانية، وأرسل وفدًا جديدًا إلى إيطاليا في مارس سنة (487هـ) 1095م لمقابلة البابا أوربان الثاني، وتجديد طلب المساعدة منه[4].
فكر البابا أوربان الثاني في الأمر، ووجد أنه لو استجاب لطلب الإمبراطور البيزنطي، وعلى نطاق واسع، فسوف يحقِّق عدة أهداف في غاية الأهمية، وفي ضربة واحدة.
فهو أولاً: سيعيد إبراز دور الكنيسة في حياة الأوربيين، حيث سيحمل البابا من جديد دعوة تهمُّ كل الشعوب الأوربية، وهي دعوة ستحمل بين طياتها الغفران الذي يبحث عنه الناس آنذاك بين يدي البابا[5].
وثانيًا: سيقوم البابا بحملة عسكرية تشمل التنسيق بين ممالك وإمارات أوربا المختلفة، وسيحتفظ بالقيادة في يده، فهو بذلك سيستعيد سلطان الكنيسة العسكري والسياسي على كامل أوربا؛ وحيث إن القضية ذات طابع ديني، فالذي سيرفض قد يعاقب بالحرمان، وسحب الثقة، وقد يؤدِّي ذلك إلى زلزلة عرشه، وبالتالي يصبح البابا هو الشخصية الأولى في أوربا سياسيًّا كما هو دينيًّا[6].
وثالثًا: لن يتحسن وضع البابا دينيًّا وسياسيًّا فقط، بل سيتحسن اقتصاديًّا أيضًا، فالبلاد التي ستفتح ستدر أموالاً كثيرة، والأوربيون الذين لن يستطيعوا المشاركة سيدفعون للكنيسة الأموال؛ تكفيرًا عن امتناعهم عن الذهاب لفلسطين.
ورابعًا: الثروات التي ستأتي من فلسطينوالشام، ستحل المشاكل الاقتصادية الطاحنة التي تعاني منها أوربا؛ وبذلك ستستقر الأوضاع المضطربة في أوربا[7].
وخامسًا: ستنصرف طاقات أوربا العسكرية إلى حرب خارجية يُبرِزون فيها قدراتهم ويستنزفون فيها رغباتهم العنيفة، وذلك بدلاً من التصارع الداخلي بين الإمارات والإقطاعيات[8].
سادسًا: ستشن أوربا الصليبية حربًا على العدو التقليدي لهم وهم المسلمون، وهي حرب في نظر البابا لا نهاية لها، ولن يرضى من المسلمين بشيء إلا بتغيير الدين.
سابعًا: سيقوم البابا بذلك بنجدة آلاف الفقراء الذين يموتون في أوربا سنويًّا نتيجة الجوع والمرض والبرد، وسيشعر الجميع بذلك بالرضا نحوه.
وثامنًا: ستتاح للبابا الكاثوليكي الفرصة الذهبية ليضم الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية إلى كنيسته الكاثوليكية، وذلك تحت سيطرته هو، فهو الذي جاء من أقصى البلاد لينقذ النصارى الشرقيين من المسلمين.
وتاسعًا: سيحقِّق حُلمًا عاطفيًّا دينيًّا قديمًا، بالسيطرة على الأرض التي وُلد فيها المسيح وعاش[9].
وعاشرًا وأخيرًا: قد لا تتكرر بعدُ ذلك الفرصة المناسبة التي تبرر للشعوب هذه الحروب الضخمة والتضحيات الهائلة، فالآن النصارى الشرقيون يستغيثون[10]، ومن ثَمَّ فهناك مسوّغ أن تنفق الأموال، وتُزهَق الأرواح لنجدتهم، وستصبح صورة الحرب نبيلة، وستسكت الشعوب الأوربية عن مساءلة البابا عن الثمن الباهظ الذي سيدفعه في هذه الحروب، بينما لو كان المبرر للقتال ليس واضحًا فقد يَفْقد البابا عرشه إذا خسرت أوربا كثيرًا في حربها، وذلك مثلما حدث مع رومانوس الرابع إمبراطور الدولة البيزنطية، الذي خُلع من منصبه بعد الهزيمة الساحقة من السلاجقة في موقعة ملاذكرد[11]. فالبابا سيحقق كل المكاسب باستغلال هذه الفرصة، ولن يخسر شيئًا لو حدث مكروه للجيوش؛ لأنه في النهاية يحارب من أجل أهداف نبيلة فيما يبدو للناس.
فتلك عشرة كاملة!!
ومن هنا فإن البابا تحمَّس كثيرًا للطلب الذي طلبه الوفد البيزنطي الأرثوذكسي، بل إنه جعل الوفد يقابل المجمع الكنسي المجتمع في إيطاليا آنذاك؛ ليعرض صورة الوضع في الشرق، وذلك يكون أبلغ في التأثير في القساوسة، وينفي عن البابا شبهة التخطيط المنفرد للحملة ودون سبب واضح. وقد تحمس الحضور للفكرة، وتكلم البابا مؤيدًا لكلام الوفد البيزنطي، وقرر أن يُعِدَّ العدة لأخذ التدابير اللازمة لغزو الشرق الإسلامي.
ماذا فعل البابا؟!
لقد قرَّر أن يعقد مجلسًا كنسيًّا كبيرًا يضم القساوسة من أطراف أوربا الغربية، وذلك لبحث أحوال الكنيسة المتردية، ثم في نهاية هذا المجلس الكنسي يعقد مؤتمرًا موسعًا يدعو إليه أمراء الإقطاعيات المختلفة، وكذلك الملوك إن أمكن، بل ويدعو إليه عامَّة الشعب؛ ليصبح مؤتمرًا جماهيريًّا مؤثرًا، وفي هذا المؤتمر سيدعو إلى التوجُّه عسكريًّا إلى فلسطين.
ولكن بقي السؤال: أين سيعقد هذا المؤتمر الكبير؟
كان البابا على خلاف مع معظم ملوك أوربا، وخاصةً هنري الرابع ملك ألمانيا، ولكنه كان على علاقة طيبة مع أمراء الإقطاعيات، وخاصةً في فرنسا؛ ولذلك قرر البابا أن يستفيد من علاقاته هذه مع الأمراء في فرنسا فيعقد المؤتمر هناك[12]، وخاصةً أن الكثافة السكانية في فرنسا كبيرة، إضافةً إلى المجاعة الكبيرة التي ضربت شمال فرنسا وشرقه في السنوات العشر الأخيرة، مما أثَّر في الظروف الاقتصادية، وبالتالي سيكون قبولهم لفكرة الحروب ضد الشرق الإسلامي فكرة مقبولة لإخراجهم من أزماتهم الكثيرة[13].
ومن ثَمَّ قرر البابا أن يعقد مؤتمره الجامع في مدينة كليرمون[14] الفرنسية وذلك في (488هـ) 27 من نوفمبر سنة 1095م (خريطة 9)، وقد آثر أن يكون الوقت متأخرًا نسبيًّا؛ ليكون هناك فرصة لتبليغ الدعوة في أطراف فرنسا، وليحضر أكبر عدد من الفرنسيين. كما آثر ألا يكون المؤتمر في باريس؛ لكي لا يصطدم مع فيليب الأول ملك فرنسا، الذي كان على خلاف مع البابا، وأيضًا على خلاف مع أمراء الإقطاعيات الذين يعتمد عليهم البابا في مهمته.
كان البرد شديدًا في ذلك اليوم، ومع ذلك فقد لبَّت جموع هائلة دعوة البابا، واجتمعوا في أحد الحقول الفسيحة في كليرمون، بل وامتلأت القرى والمدن المجاورة لكليرمون بالقادمين من كل مكان لسماع الخطبة المهمة التي كان البابا يرتِّب لها منذ سبعة أشهر كاملة[15].
خطب البابا خطبة طويلة عصماء، وكان بليغًا مفوهًا، وصبرت الجموع في البرد الشديد، بل وتفاعلت تفاعلاً كبيرًا مع كلمات البابا، الذي ضرب على أكثر من وتر في خطبته؛ وذلك ليؤثِّر في كل الحضور على اختلاف نوعياتهم وظروفهم وأهدافهم.
وقد جاءت خطبة البابا في أكثر من رواية من الروايات الأوربية التي صوَّرت الحدث، واستخدم فيها أكثر من وسيلة لإقناع الحضور بضرورة التوجه إلى فلسطين لنجدة النصارى الشرقيين، ولحماية الحجاج المسيحيين الذين يعانون - كما يصور البابا - من ظلم وبطش الكفار (وهو يقصد المسلمين) [16].
وكان من المؤثرات التي استخدمها البابا في خطبته أنه لا يتكلم في هذه الخطبة نيابة عن نفسه، وإنما يتكلم نيابة عن المسيح عليه السلام نفسه، فقال مثلاً: "ومن ثَمَّ فإنني لست أنا، ولكن الرب هو الذي يحثكم باعتباركم وزراء المسيح أن تحضوا الناس من شتى الطبقات"[17]. واستخدم فيها نصًّا من إنجيل لوقا فيه: "ومن لا يحمل صليبه، ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا"[18].
وكان من المؤثرات أيضًا أنه وعد المشاركين في الحملة بالغفران، وهو مطلب جماهيري في ذلك الوقت، خاصةً مع شعور الناس أن الدنيا ستفنى قريبًا كما وضحنا قبل ذلك، وكان من كلام البابا في هذه النقطة أنه قال: "إني أخاطب الحاضرين، وأعلن لأولئك الغائبين، فضلاً عن أن المسيح يأمر بهذا، أنه سوف يتم غفران ذنوب كل أولئك الذاهبين إلى هناك، إذا ما انتهت حياتهم بأغلالها الدنيوية، سواء في مسيرتهم على الأرض، أو أثناء عبورهم البحر، أو في خضم قتالهم ضد الوثنيين (يقصد المسلمين)، وهذا الغفران أمنحه لكل من يذهب بمقتضى السلطة التي أعطاني الرب إياها". وهو في هذا المقام يقول للجميع أنكم في كل الأحوال محققون للفائدة والخير، فحتى لو وصل الأمر لحدِّ الموت، فإن المشارك سيموت وهو مغفور الذنب[19].
وكان من المؤثرات أيضًا أنه استفاض في تصوير مدى الألم والمعاناة التي يشعر بها الحجاج النصارى في فلسطين، وهذا كله من الكذب والزور، ولكنه صوَّر القضية كقضية إنسانية مؤثرة[20].
وكان من المؤثرات أيضًا أنه لوَّح بوضوح بالثراء الذي عليه بلاد الشرق، بل إنه ذكر لهم ما جاء في الإنجيل عن أرض فلسطين حيث قال: "ووهبنا هذه الأراضي التي تفيض لبنًا وعسلاً"[21]. يقصد فلسطين، وبذلك حرَّك عواطف الفقراء والأمراء معًا؛ فالفقير يبحث عن الحياة، والأمير يبحث عن التوسع والتملك.
وكان من المؤثرات أيضًا أنه نبَّه الفرسان إلى وجود ميدان خصب لاستعراض قوتهم، وإبراز كفاءتهم بدلاً من التصارع معًا، وإخلال الأمن في داخل أوربا.
وكان من المؤثرات أيضًا امتداح شجاعة الفرنسيين وقدراتهم القتالية، وأيضًا امتداح تاريخ أسلافهم، وتحميلهم تبعات سيادة أوربا وريادتها[22].
وكان من المؤثرات أيضًا جذب المديون بوضع الدَّين عنه إذا شارك في القتال أو تقسيطه على فترات طويلة، وإعفاء أملاك الملاَّك من الضرائب أثناء القتال[23]، وإعفاء المجرمين من العقاب على جرائمهم إنْ هم شاركوا في الحملة[24].
ولقد صاغ البابا أوربان الثاني كل هذه المؤثرات بأسلوب بديع، وكلمات مؤثرة، وحجج مقنعة حتى دخلت كلماته قلوب كل الحضور، وأشعلت - رغم البرد الشديد - حماسة كل السامعين، حتى إنه بمجرد الانتهاء من كلمته استجاب الحضور استجابة هائلة، وقاموا يطلقون صيحة واحدة، يقولون فيها: "الرب يريدها" Deus lo volt، وهي الصيحة التي صارت شعارًا للحرب بعد ذلك[25].
يتبع...
تعليق