الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وسلم،
أما بعد..
فإنَّ الله تعالى قد خصَّ بعض المواسم عن غيرها بالفضل العظيم والثواب الجزيل، وجعل منها فرصة للمؤمن وغنيمة له؛
فالسعيد من استغلَّها في التقرُّبِ منه تعالى، والخاسر من أضاعها فمرت من أمامه مرور الكرام.
قال الله تعالى:
{سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الحديد: 21
ومن نعمته سبحانه على أُمَّةِ الإسلام أن فضَّلها على كثير من خلقه فبلَّغها هذه المواسم.
فالله الله في اغتنام هذه المواسم، ومن أعظمها شهر رمضان الذي فضَّله الله تعالى على سائر الشهور؛ لِمَا اختُصَّ به من فضائل عظيمة.
ومن أجل هذه الفضائل والعطايا الربانية؛ علينا أن نستغل شهر رمضان خير استغلال لنلحق بركب الفائزين،
ونشحذُ الهِمم لكي نصل الى القِمَم، ونُقبِلُ على الله تعالى؛ فلا تدركنا الحسرة فنقول: يا ليتنا كنا معهم فنفوز فوزا عظيما.
من فاته الزرع في وقت البذار فما ...تراه يحصد إلا الهم والندمَ
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته ...في شهره وبحبل الله معتصما
كنا بالأمس نودع شهر رمضان الماضي، واليوم نستقبله من جديد؛ فما أسرع الأيام!
فتأمَّل ما بقي منها! ذهب الفرح والترح والتعب وما بقي إلا ما قدمته أيدينا؛ فهل من متعظ؟
رمضانُ أقبلَ يا أُولي الألبابِ ... فاستَقْبلوه بعدَ طولِ غيابِ
عامٌ مضى من عُمْرِنا في غفْلةٍ ... فَتَنَبَّهوا فالعمرُ ظِلُّ سَحابِ
ولكن.. ماهي الطريقة الأمثل لإستغلال هذه الفرصة في أيام الخير هذه التي منَّ الله بها علينا؟
لا شك أنَّ اتِّباع هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم هو أكمل هَدْي، وعلامة محبة الله تعالى، كما قال جلَّ وعلا:
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ال عمران:31.
وصلاح العمل قائم على شرطين؛ ألا وهما:
1 - الإخلاص لله تعالى. كما قال سبحانه:
{وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} البينة: 5.
2 - متابعة الرسول صل الله عليه وسلم. كما قال تعالى:
{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } الأحزاب:21
فمعرفة هدية صلى الله عليه وسلم وإتّباعه هي أأمن الطرق وأسلمها وأفضلها وأمثلها للتقرب الى الله تعالى،
ثم إنَّ معرفة هدي أصحابه رضي الله عنهم والسلف الصالح هو استكمالٌ لمَسْلَك الطريق الآمن بتوفيق الله سبحانه لنا.
الأفاضل الكرام
هيَّا معًا نتعرف إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، وهدى صحابته والسلف الصالح بعدهم رضوان الله على الجميع،
ففي ذلك شحذ للهمم، واستنهاض للعزائم، واستثارة لكوامِن الخير في المسلم.
الأفاضل الكرام
فلننظر إلى هديه عليه الصلاة والسلام، وإلى هدي أصحابه الأبرار، وسلف الأمة الأخيار، كيف استقبلوا هذا الشهر؛
كيف صاموه وقاموه؟ ، وكيف قضوا أوقاته؟ ، وكيف عاشوا ساعاته؟
لنكون على بصيرة، فإنَّه بمثلهم يُقتدَى، وعلى مِنوَالِهم يُحتذَى.
روى الإمام الترمذي بسند حسن عن طلحة بن عبيد الله: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا رأى الهلال قال:
«اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ»
هذا الحديث عجيب، فهو يقول للهلال: ربي وربك الله، فأنت مخلوق كما أنا مخلوق؛ لأن الأهلَّة والشمس والقمر كانت تُعبَدُ من دون الله،
فأراد صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس ويخبر الأجيال أن الكائنات كلها مخلوقة لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وفي الحديث لمسات التوحيد التي أتى بها عليه الصلاة والسلام.
جُودِهِ صلَّى الله عليه وسلَّم في رمضان
روى الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما:
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ،
فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ".
فكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام فيدارسه كتاب الله، ومواعظه في آياته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
والريح المرسلة هي الصبا (ريحٌ مهبُّها جهة الشَّرق) التي تهب من نجد، فإنها معطاءة باردة، وإذا وصف الشاعر العربي الرجل الكريم،
قال: هو أجود من الصبا، أو أجود من الريح المرسلة.
فأكبر المَعَالِم في سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم في رمضان الجود والعطاء والإنفاق والبذل والهبة والسخاء،
فهو أكبر مَعْلَم نراه في سيرته صلى الله عليه وسلم، لا يمسك شيئاً، حتى الثياب الأسمال التي عليه، إذا سُئل أعطاها،
ففي حديث البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
" أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟
قَالُوا الشَّمْلَةُ. قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدِي فَجِئْتُ لِأَكْسُوَكَهَا،
فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ،
فَحَسَّنَهَا فُلَانٌ، فَقَالَ: اكْسُنِيهَا مَا أَحْسَنَهَا،
قَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا،
ثُمَّ سَأَلْتَهُ وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ، قَالَ:
إِنِّي وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهُ؛ إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي.
قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ ".
فأعطاه الله ما تمنى، وسأل، فكان كفناً له كُفن فيه.
فالرسول عليه الصلاة والسلام يوم يأتي رمضان يستقبله بنفس معطاءة؛ لأن الجزاء من جنس العمل،
فلمَّا كان العبد سخياً كريماً، جازاه الله بمثل فعله من السخاء والكرم.
مدارسته صلى الله عليه وسلم للقرآن في رمضان
ومن المعالم الأخرى في حياته صلى الله عليه وسلم والتي تؤخذ من هذا الحديث: مصاحبته صلى الله عليه وسلم للقرآن،
وعيشه معه وتدارسه لآياته مع جبريل عليه السلام، فهذا الشهر شهر القرآن، كما قال تعالى:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} البقرة: 185
فكان إذا دخل عليه الشهر صلى الله عليه وسلم يهيئ نفسه، ويخفف من ارتباطاته ومشاغله، ليعيش تدبر القرآن وقراءته.
والقرآن أخذ الحظ الأوفر والدقائق الغالية، والساعات الثمينة من حياته صلى الله عليه وسلم؛
لأنه كتابه الوحيد ومعجزته الكبرى، أرسله الله في الدنيا معجزة لا يضاهيها أي معجزة؛
لأن المعجزات تنصرم وتنتهي إذا مات أنبياؤها، ولكنَّ القرآن أخذ يشق طريقه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، في قوة وخلود ويخاطب الأجيال.
فالرسول عليه الصلاة والسلام جعل أكبر وقت للقرآن هو وقت رمضان، ولذلك سُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها،
كما في صحيح مسلم، كيف كان خلقه عليه الصلاة والسلام؟
فقالت: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ".
فهو يعيش مع القرآن أينما حلَّ وارتحل، وإذا وجد وقت راحة وإقبال قلب، وسفر روح إلى الله شغل هذا الوقت بالقرآن.
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، حينما قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم –كما أمره-، وبلغ قوله تعالى:
{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا} النساء:41
قال: «حَسْبُكَ الآن»، قال: فنظرت فإذا عيناه تذرفان.
تأثر الحبيب بكلام حبيبه، وتذكَّر صاحبُ هذا الكلام سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الذي أنزله، والذي تكلم به من فوق سبع سماوات،
فعندها بكى صلى الله عليه وسلم.
عيشه عليه الصلاة والسلام مع القرآن
الرسول عليه الصلاة والسلام يوم عاش مع القرآن، عاش مع القرآن عملاً وتدبراً واستنباطاً، يقول لـأُبَيّ بن كعب:
«أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ؟»
قَالَ : قُلْتُ : اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، سورة البقرة: آية 255
قال :فَضَرَبَ صَدْرِي وَقَالَ:«لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ».
أي: والله ليهنك العلم الصافي، والنمير العذب، فإن هذا هو العلم يا أبا المنذر.
وعيشه صلى الله عليه وسلم مع القرآن، عيش تذكر وتدبر،
يقول مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه، كما في حلية الأولياء لأبي نعيم:
" أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي ، وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ ".
والمرجل هو: القدر إذا استجمع غلياناً، فصدره يتخضخض من البكاء، وله صوت أزيز تأثراً بكلام الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
نعم، هذه حياته صلى الله عليه وسلم مع القرآن؛ لأن القرآن أكبر مقاصده أنَّه كتاب هداية، وليس بكتاب طب، ولا تاريخ،
ولا جغرافيا، ولا هندسة؛ ولكنه كتاب هداية يقود القلوب إلى الله الواحد الأحد،فهذا مقصد القرآن، وقد علم ذلك صلى الله عليه وسلم.
كيف صاموه وقاموه؟ ، وكيف قضوا أوقاته؟ ، وكيف عاشوا ساعاته؟
لنكون على بصيرة، فإنَّه بمثلهم يُقتدَى، وعلى مِنوَالِهم يُحتذَى.
روى الإمام الترمذي بسند حسن عن طلحة بن عبيد الله: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا رأى الهلال قال:
«اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ»
هذا الحديث عجيب، فهو يقول للهلال: ربي وربك الله، فأنت مخلوق كما أنا مخلوق؛ لأن الأهلَّة والشمس والقمر كانت تُعبَدُ من دون الله،
فأراد صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس ويخبر الأجيال أن الكائنات كلها مخلوقة لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وفي الحديث لمسات التوحيد التي أتى بها عليه الصلاة والسلام.
جُودِهِ صلَّى الله عليه وسلَّم في رمضان
روى الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما:
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ،
فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ".
فكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام فيدارسه كتاب الله، ومواعظه في آياته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
والريح المرسلة هي الصبا (ريحٌ مهبُّها جهة الشَّرق) التي تهب من نجد، فإنها معطاءة باردة، وإذا وصف الشاعر العربي الرجل الكريم،
قال: هو أجود من الصبا، أو أجود من الريح المرسلة.
فأكبر المَعَالِم في سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم في رمضان الجود والعطاء والإنفاق والبذل والهبة والسخاء،
فهو أكبر مَعْلَم نراه في سيرته صلى الله عليه وسلم، لا يمسك شيئاً، حتى الثياب الأسمال التي عليه، إذا سُئل أعطاها،
ففي حديث البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
" أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟
قَالُوا الشَّمْلَةُ. قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدِي فَجِئْتُ لِأَكْسُوَكَهَا،
فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ،
فَحَسَّنَهَا فُلَانٌ، فَقَالَ: اكْسُنِيهَا مَا أَحْسَنَهَا،
قَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا،
ثُمَّ سَأَلْتَهُ وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ، قَالَ:
إِنِّي وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهُ؛ إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي.
قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ ".
فأعطاه الله ما تمنى، وسأل، فكان كفناً له كُفن فيه.
فالرسول عليه الصلاة والسلام يوم يأتي رمضان يستقبله بنفس معطاءة؛ لأن الجزاء من جنس العمل،
فلمَّا كان العبد سخياً كريماً، جازاه الله بمثل فعله من السخاء والكرم.
مدارسته صلى الله عليه وسلم للقرآن في رمضان
ومن المعالم الأخرى في حياته صلى الله عليه وسلم والتي تؤخذ من هذا الحديث: مصاحبته صلى الله عليه وسلم للقرآن،
وعيشه معه وتدارسه لآياته مع جبريل عليه السلام، فهذا الشهر شهر القرآن، كما قال تعالى:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} البقرة: 185
فكان إذا دخل عليه الشهر صلى الله عليه وسلم يهيئ نفسه، ويخفف من ارتباطاته ومشاغله، ليعيش تدبر القرآن وقراءته.
والقرآن أخذ الحظ الأوفر والدقائق الغالية، والساعات الثمينة من حياته صلى الله عليه وسلم؛
لأنه كتابه الوحيد ومعجزته الكبرى، أرسله الله في الدنيا معجزة لا يضاهيها أي معجزة؛
لأن المعجزات تنصرم وتنتهي إذا مات أنبياؤها، ولكنَّ القرآن أخذ يشق طريقه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، في قوة وخلود ويخاطب الأجيال.
فالرسول عليه الصلاة والسلام جعل أكبر وقت للقرآن هو وقت رمضان، ولذلك سُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها،
كما في صحيح مسلم، كيف كان خلقه عليه الصلاة والسلام؟
فقالت: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ".
فهو يعيش مع القرآن أينما حلَّ وارتحل، وإذا وجد وقت راحة وإقبال قلب، وسفر روح إلى الله شغل هذا الوقت بالقرآن.
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، حينما قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم –كما أمره-، وبلغ قوله تعالى:
{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا} النساء:41
قال: «حَسْبُكَ الآن»، قال: فنظرت فإذا عيناه تذرفان.
تأثر الحبيب بكلام حبيبه، وتذكَّر صاحبُ هذا الكلام سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الذي أنزله، والذي تكلم به من فوق سبع سماوات،
فعندها بكى صلى الله عليه وسلم.
عيشه عليه الصلاة والسلام مع القرآن
الرسول عليه الصلاة والسلام يوم عاش مع القرآن، عاش مع القرآن عملاً وتدبراً واستنباطاً، يقول لـأُبَيّ بن كعب:
«أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ؟»
قَالَ : قُلْتُ : اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، سورة البقرة: آية 255
قال :فَضَرَبَ صَدْرِي وَقَالَ:«لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ».
أي: والله ليهنك العلم الصافي، والنمير العذب، فإن هذا هو العلم يا أبا المنذر.
وعيشه صلى الله عليه وسلم مع القرآن، عيش تذكر وتدبر،
يقول مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه، كما في حلية الأولياء لأبي نعيم:
" أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي ، وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ ".
والمرجل هو: القدر إذا استجمع غلياناً، فصدره يتخضخض من البكاء، وله صوت أزيز تأثراً بكلام الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
نعم، هذه حياته صلى الله عليه وسلم مع القرآن؛ لأن القرآن أكبر مقاصده أنَّه كتاب هداية، وليس بكتاب طب، ولا تاريخ،
ولا جغرافيا، ولا هندسة؛ ولكنه كتاب هداية يقود القلوب إلى الله الواحد الأحد،فهذا مقصد القرآن، وقد علم ذلك صلى الله عليه وسلم.
روى الألباني بإسناد جيد في السلسلة الصحيحة، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت:
( قام [ أي رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ] ليلةً من الليالي فقال: " يا عائشةُ ذَريني أتعبَّدُ لربي "،
قالت : قلتُ :واللهِ إني لَأُحبُّ قُربَك وأحبُّ أن يُسرَّك، قالت :
فقام فتطهَّر ثم قام يصلي، فلم يزلْ يبكي حتى بلَّ حِجرَه، ثم بكى فلم يزلْ يبكي حتى بلَّ الأرضَ،
وجاء بلالٌ يُؤذِنه بالصلاةِ، فلمَّا رآه يبكي قال:يا رسولَ اللهِ تبكي وقد غفر اللهُ لك ما تقدَّم من ذنبِك وما تأخَّر،
قال: " أفلا أكونُ عبدًا شكورًا ؟ لقد نزلتْ عليَّ الليلةَ آياتٌ ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكَّرْ فيها:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية )
فأعظم معَالِم حياته صلى الله عليه وسلم في رمضان هذا القرآن.
ولذلك رأى بعض السلف الصالح أن شهر رمضان يُخصَّص لتدبر القرآن، ولا يشتغل بغيره مهما كان العلم فاضلاً.
فإذا لم يكن شهر رمضان شهرك الذي تختم فيه القرآن، تدبراً وتوجيهاً واستفادة فمتى يكون إذاً؟!
والله عز وجل إنما جعل هذا الشهر شهر عبادة، وقبول، وتوبة، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ "
وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ، فهي لا تؤذي في ذاك الشهر؛ لأن الله عز وجل، أكثر من التوبة على عباده، وجعله موسماً للخيرات،
ولقبول الأعمال، وللتوبة ورفع الدرجات وتقديم الحسنات، فطوبى لمن أدركه رمضان وأحسن فيه، وطوبى لمن أرضى الرحمن في شهر رمضان،
ويا سبحان الله! كم هي فرحته وفوزه يوم يختم الشهر فيعتقه الله فيمن عتق.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقنا من النار
قيام النبي صلى الله عليه وسلم ليالي رمضان
كان صلى الله عليه وسلم إذا أَجَنَّهُ اللَّيْلُ (أَظْلَمَ وَسَتَرَهُ بِظُلْمَتِهِ) في ليالي رمضان قام متبتلاً لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وما أعظم قيام الليل!،
وخاصة في رمضان، وما أحسن السجدات!، وبالخصوص في رمضان، وما أحسن الوضوء والتبتل والدعاء والبكاء!، وبالخصوص في ليالي رمضان.
قلت لليل هل بجوفك سرٌ عامرٌ بالحديث والأسرار
قال لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار
وقيام الليل لمَّا تركته الأمة الإسلامية -إلا من رحم الله- ذبل في صدورها غصن الإيمان، وضعف اليقين، وعاش الجيل،
لكنه لم يعش بمثل ذاك الجيل الذي عاش مع الرسول صلى الله عليه وسلم،
جيلٌ فيه برود، وتهاون وتكاسل إلا من رحم ربك ، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} سبأ:13
فلما علم ذلك كان يمضي صلى الله عليه وسلم ليالي رمضان متهجداً لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} الإسراء:79
والذي ينبغي للمسلم الذي يريد أن ينصح نفسه أن يكثر من تلاوة القرآن ويكثر من صلاة الليل، فإن هذا الشهر شهر تجديد للروح، وفرصة ثمينة
لا تتعوض أبد الدهر، وشهر توبة وعتق من النار، وخيبة وندامة وهلاك وبوار لمن أدركه رمضان ولم يتب من المعاصي والخسران، ولم يعتقه الله من النيران.
وكان عليه الصلاة والسلام كما جاء عند مسلم عن عائشة رضي الله عنها:
(ما كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يزيدُ في رمضانَ ، ولا في غيرِه ، على إحدى عشرةَ ركعةً ).
ولكن الركعة الواحدة تساوي آلاف الركعات من ركعات كثير من الناس، يقف في الركعة الواحدة أمداً طويلاً، فيناجي ربه، ويتدبر كلام مولاه،
ويحيي روحه بتدبر القرآن، يبكي ويتباكى ويناجي ويسجد ويركع طويلاً، فتصبح الركعة حسنة جداً ما أحسن منها، والله يقول:
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} الملك:2 ، ولم يقل أكثر عملاً.
لذلك كان التجويد في التراويح والقيام أحسن من التكثير بلا جودة، وكان الكيف أحسن من الكمِّ حتى بالتلاوة،
فلا يُهذرم القرآن (1) ، ولا يهذُّ هذَّا (2)، ولا يحدر (يسرع) حدراً شديداً فتضيع معانيه وحروفه على حساب الختم.
فإن المقصود هو التدبر والمعايشة للمعاني، فإن من الناس من يختم القرآن في رمضان مرة،ولكن يا لها من ختمة ما أحسنها وأجودها!
وما أجلها وأعظمها! شافا أمراض نفسه بكلام الله، وداوى جراحات قلبه بكلام مولاه، فكان للقرآن أثر في قراءته.
وأناس يقرءون فيختمون كثيراً، لكن مقصودهم الأجر فهم مأجورون، لكن غذاء الروح، ومدد اليقين وماء الإيمانلا يحصل إلا بالتدبر ومعايشة القرآن.
من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصوم
كان له صلى الله عليه وسلم سنن كثيرة في صيامه ولكن نذكر أهم معالمها:
تعجيل الفطر وتأخير السحور
كان عليه الصلاة والسلام في رمضان يعجل الإفطار، ويقول: {أَحَبُّ عِبَادِي إِلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا } أخرجه الترمذي بسند حَسَن.
والفطر هنا إذا غربت الشمس، لأن اليهود كانوا يؤخرون الفطر، فعجَّل صلى الله عليه وسلم الإفطار، بشرط أن تغرب الشمس وأن يذهب النهار،
وأن يأتي الليل، وكان يفطر صلى الله عليه وسلم على رطب، كما في حديث أنس عند أبي داود والترمذي بسند حسن، قال:
" كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رُطَبَاتٍ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتُمَيْرَاتٌ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تُمَيْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ ".
وعند الترمذي بسند حسن من حديث سلمان بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ ، فَإِنَّهُ بَرَكَةٌ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَمْرًا فَالْمَاءُ فَإِنَّهُ طَهُورٌ ".
والعجيب أن في الرطب والتمر سرٌ عجيب للصائم، أورد ذلك ابن القيم، فإن البطن إذا جاع كان أحلى شيء يوافق المعدة التمر، فهو حلو يوافق الجوع،
فسبحان الله من علَّمه وهداه -صلى الله عليه وسلم- سواء السبيل، فكان طبيباً للأبدان، وطبيباً للقلوب يقودها إلى الله تبارك وتعالى.
وكان عليه الصلاة والسلام يُؤخِّر السحور، بشرط ألا يُصبح عليه الصباح، فيقول عليه الصلاة والسلام: " تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً " ،
وبركة السحور تأتي بأمور ثلاثة:
أولاً: أنه إحياء لهذه السنة العامرة من الرسول عليه الصلاة والسلام،
فبركة السنة لا يعادلها شيء، وكثيرٌ من الناس قد يترك طعام السحور، وقد خالف في ذلك السنة ولو أن صومه صحيح،
فالسنة أن تقوم فتتسحر بما يسر الله، ليبارك الله في قيامك وصيامك.
ثانياً: أنها ساعة ينـزل الله فيها إلى سماء الدنيا فيقول:
{هَلْ مِنْ دَاعٍ ، فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ، هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ ، فَأَغْفِرَ لَهُ}
فإذا رآك الله وأنت مُتسحِّر ذاكرٌ له، مستغفر منيب تائب، غفر لك سبحانه، وقبل دعاءك وأجاب سؤالك، وتاب عليك فيمن تاب، وأعتق رقبتك من النار،
فهنيئاً لك بتلك الجلسة الإيمانية، فمقصودها وسرها الثاني أن تكون مستغفراً في السحر، فما أحسن السحر! وما أطيب السحر!
ثالثاً: أنه يعينك بإذن الله على الصيام في النهار،
ويسكن حالك وأنت تتلذذ بنعمة الله، وتتناول طعام سحورك، كأنك تقول: يا رب هذا الطعام الذي خلقته ورزقته أتقوى به على طاعتك،
وهو من أنواع الشكر على النعمة، وما أحسن الطعام إذا نوى به العبد التقوي على عبادة الواحد الأحد.
الإكثار من الذكر
كان من هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان: أن يُكثر من الذكر والتبتل والاستغفار والمناجاة والدعاء، فإنها حياة القلوب.
كان يواصل الصيام وينهى الصحابة عن الوصال، فيواصلون ويقولون: يا رسول الله إنك تواصل، أي: مواصلة الليل بالنهار،
قال:" إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ ، إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي " وفي رواية: {إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ ، إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ}
أورد هذه الروايات ابن القيم في زاد المعاد بألفاظها، قال: واختلف أهل العلم على قسمين:
قوم يقولون: إنه طعام حسي وماء معروف يسقى به عليه الصلاة والسلام ويأكل، وليس هذا بصحيح؛ لأنه لو كان كذلك لما كان صائماً عليه الصلاة والسلام،
ولو كان كذلك لما قال: {إني لست كهيئتكم} ،ولو كان كذلك لما كان له ميزة عليه الصلاة والسلام عليهم في الوصال.
والصحيح أنه يُطعم ويُسقى بالمعارف التي تُفاض على قلبه من الواحد الأحد، من لذة المناجاة، وحسن الذكر، وعذوبة دعائه لمولاه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى،
وبما يغدق على روحه، ويسدل على قلبه من ذكر ودعاء وتبتل يشبع ويروي، ولذلك ترى بعض الناس إذا سُرُّوا بأمر تركوا الطعام والشراب،
وإذا سُرُّوا بأمر نزلت دموع الفرحة من خدودهم.
طفح السرور علي حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
فبعض الناس لولهه ولكثرة سروره وفرحه يستعيض به عن الطعام، حتى قال الأول وهو يتحدث عن لذة قلبه بقدوم قادم، أو بكلام حبيب، أو بمناجاة صاحب:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نورٌ يستضاء به ومن حديثك في أعقابها حاد
إذا تشكت كلال السير أسعفها شوق القدوم فتحيا عند ميعادي
فكأنه عليه الصلاة والسلام لفرحه بعبودية ربه كان من أسر الناس قلباً، ومن أشرحهم صدراً، يستعيض عن كثرة الطعام والشراب بهذا،
ولذلك يقول الأندلسي أبو إسحاق الألبيري لابنه في قصيدته الرائعة المبكية الحارة التي توجه إلى كل شاب، وهي من أحسن القصائد والوصايا، يقول:
فَقَوْت الرُّوح أرواح المعاني وليس بأن طعمِت ولا شَرِبتا
يقول: قوت القلب، وغذاء الروح هي جواهر المعاني من الآيات والأحاديث، وليس بأن تأكل وتشرب؛ لأن هذا للجسم، يقول:
تفت فؤادك الأيام فتا وتنحت جسمك الساعات نحتا
وتدعوك المنون دعاء صدق ألا يا صاح أنت أريد أنتا
إلى أن يقول:
فواظبه وخذ بالجد عنه فإن أعطاكه الله انتفعتا
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا
فكان عليه الصلاة والسلام يتغذى بالذكر والتهليل والتكبير والتسبيح والاستغفار، وبكثرة المناجاة، والدعاء،
فأدعوكم أيها الأخيار والأبرار إلى استغلال هذا الشهر في كثرة الذكر.
وننبه على الظاهرة التي نسأل الله أن يجعل مكانها خيراً ومبرَّةً ورحمة، ظاهرة استغلال النهار في النوم؛ فإنها وجدت عند الصالحين بكثرة،
فتجد الصالح من الصائمين يقضي ساعات يومه في النوم، فما كأنه وجد للجوع حرارة، ولا للظمأ مشقة، ولا وجد لمعاناة العبادة كلفة.
فأي حياة هذه الحياة في رمضان، إذا نام من الصباح إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى الغروب، فما هو مفهوم الصيام إذاً في حقه،
ثم أمضى الليل في السهر، وظاهرة تغيير برنامج المسلم في رمضان ليست بمحمودة، بل على المسلم أن يكون على وتيرته،
وما هو الداعي إلى أن يغير وقته لهذا الوقت، فيجعل وقت المناجاة والذكر وحرارة الجوع، ومشقة الظمأ رقاداً ونعاساً ونوماً، فأين معنى الصيام؟!
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة:183
فأعظم مقاصد الصيام التقوى، والتقوى تحصل بأن تعيش ساعات ودقائق الصيام لتتعامل معه،
فما الفرق بين المفطر الذي ينام النهار كله، وبين الصائم الذي ينام النهار كله؟!!
الاعتكاف
كان من هديه عليه الصلاة والسلام الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان.
والاعتكاف: لزوم مسجدٍ لطاعة الله عز وجل، فيحيي قلبه بالذكر والتلاوة، ويقطع مشاغله وارتباطاته بالناس، ويحيا مع الله عز وجل،
فيفرغ القلب لمولاه، ويكثر من دعاء ربه تبارك وتعالى، ويحيي قلبه بالآيات البينات.
والاعتكاف سُنَّة من أحسن السنن وقد عطل إلا من بعض الأشخاص، وهو أحسن ما يمكن أن يربى به القلب، يوم تتفرغ من الناس، ومن كلامهم،
والاتصال بهم، لتتصل برب الناس وملكهم وإلههم، وهل ثَمَّ أحسن من هذا؟
وكان عليه الصلاة والسلام في رمضان يقوم الليل، وربما قام الناس معه جماعة، وربما ترك عليه الصلاة والسلام الجماعة وصلى وحده،
ولذلك أتى عُمَر رضي الله عنه فجمع الناس في صلاة التراويح.
روى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ (جَمَاعَات) مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ،
وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ؛ فَقَالَ عُمَرُ:
( إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ) ،
ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ عُمَرُ:
( نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنْ الَّتِي يَقُومُونَ )
يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ.
من الرواية السابقة وما فيها من توضيح لاقتداء الفاروق عمر رضي الله عنه برسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة التراويح جماعة؛
باعتبار أنها سُنَّة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قد تركها خشية أن تُفرَضَ على الأمة، فلمَّا مات زالت هذه الخشية [1]،
وكان أبو بكر رضي الله عنه منشغلاً بحروب المرتدين وخلافته قصيرة (سنتان)، فلمَّا استتب أمر المسلمين في عهد عمر رضي الله عنه،
جمع الناس على صلاة التراويح في رمضان، كما اجتمعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم،
فقُصَارى ما فعله عمر رضي الله عنه العودة إلى تلك السُنَّة وإحياؤها.
ومن الرواية السابقة أيضًا؛ نبدأ فيما هو آت بالتعرف على أحوال السلف الصالح في رمضان،
وللحديث بقية إن شاء الله،
فــ
____________________
(1) هَذْرَمَ القرآنَ: أَسرع في قراءَته لا يتدبَّرُ معانيه.
(2) هَذَّ القرآنَ: أَسرعَ في قراءَته.
[1] روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
" صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ،
قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ ، إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ ، قَالَ : وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ "
..
المراجع:
________
- قبسات من هدي النبي في رمضان، لناصر محمد آل متعب
- من محاضرة: هدي الرسول وأصحابه في رمضان، للشيخ عائض القرني، (المصدر: إسلام ويب)
- الإسلام سؤال وجواب
ولذلك رأى بعض السلف الصالح أن شهر رمضان يُخصَّص لتدبر القرآن، ولا يشتغل بغيره مهما كان العلم فاضلاً.
فإذا لم يكن شهر رمضان شهرك الذي تختم فيه القرآن، تدبراً وتوجيهاً واستفادة فمتى يكون إذاً؟!
والله عز وجل إنما جعل هذا الشهر شهر عبادة، وقبول، وتوبة، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ "
وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ، فهي لا تؤذي في ذاك الشهر؛ لأن الله عز وجل، أكثر من التوبة على عباده، وجعله موسماً للخيرات،
ولقبول الأعمال، وللتوبة ورفع الدرجات وتقديم الحسنات، فطوبى لمن أدركه رمضان وأحسن فيه، وطوبى لمن أرضى الرحمن في شهر رمضان،
ويا سبحان الله! كم هي فرحته وفوزه يوم يختم الشهر فيعتقه الله فيمن عتق.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقنا من النار
قيام النبي صلى الله عليه وسلم ليالي رمضان
كان صلى الله عليه وسلم إذا أَجَنَّهُ اللَّيْلُ (أَظْلَمَ وَسَتَرَهُ بِظُلْمَتِهِ) في ليالي رمضان قام متبتلاً لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وما أعظم قيام الليل!،
وخاصة في رمضان، وما أحسن السجدات!، وبالخصوص في رمضان، وما أحسن الوضوء والتبتل والدعاء والبكاء!، وبالخصوص في ليالي رمضان.
قلت لليل هل بجوفك سرٌ عامرٌ بالحديث والأسرار
قال لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار
وقيام الليل لمَّا تركته الأمة الإسلامية -إلا من رحم الله- ذبل في صدورها غصن الإيمان، وضعف اليقين، وعاش الجيل،
لكنه لم يعش بمثل ذاك الجيل الذي عاش مع الرسول صلى الله عليه وسلم،
جيلٌ فيه برود، وتهاون وتكاسل إلا من رحم ربك ، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} سبأ:13
فلما علم ذلك كان يمضي صلى الله عليه وسلم ليالي رمضان متهجداً لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} الإسراء:79
والذي ينبغي للمسلم الذي يريد أن ينصح نفسه أن يكثر من تلاوة القرآن ويكثر من صلاة الليل، فإن هذا الشهر شهر تجديد للروح، وفرصة ثمينة
لا تتعوض أبد الدهر، وشهر توبة وعتق من النار، وخيبة وندامة وهلاك وبوار لمن أدركه رمضان ولم يتب من المعاصي والخسران، ولم يعتقه الله من النيران.
وكان عليه الصلاة والسلام كما جاء عند مسلم عن عائشة رضي الله عنها:
(ما كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يزيدُ في رمضانَ ، ولا في غيرِه ، على إحدى عشرةَ ركعةً ).
ولكن الركعة الواحدة تساوي آلاف الركعات من ركعات كثير من الناس، يقف في الركعة الواحدة أمداً طويلاً، فيناجي ربه، ويتدبر كلام مولاه،
ويحيي روحه بتدبر القرآن، يبكي ويتباكى ويناجي ويسجد ويركع طويلاً، فتصبح الركعة حسنة جداً ما أحسن منها، والله يقول:
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} الملك:2 ، ولم يقل أكثر عملاً.
لذلك كان التجويد في التراويح والقيام أحسن من التكثير بلا جودة، وكان الكيف أحسن من الكمِّ حتى بالتلاوة،
فلا يُهذرم القرآن (1) ، ولا يهذُّ هذَّا (2)، ولا يحدر (يسرع) حدراً شديداً فتضيع معانيه وحروفه على حساب الختم.
فإن المقصود هو التدبر والمعايشة للمعاني، فإن من الناس من يختم القرآن في رمضان مرة،ولكن يا لها من ختمة ما أحسنها وأجودها!
وما أجلها وأعظمها! شافا أمراض نفسه بكلام الله، وداوى جراحات قلبه بكلام مولاه، فكان للقرآن أثر في قراءته.
وأناس يقرءون فيختمون كثيراً، لكن مقصودهم الأجر فهم مأجورون، لكن غذاء الروح، ومدد اليقين وماء الإيمانلا يحصل إلا بالتدبر ومعايشة القرآن.
من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصوم
كان له صلى الله عليه وسلم سنن كثيرة في صيامه ولكن نذكر أهم معالمها:
تعجيل الفطر وتأخير السحور
كان عليه الصلاة والسلام في رمضان يعجل الإفطار، ويقول: {أَحَبُّ عِبَادِي إِلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا } أخرجه الترمذي بسند حَسَن.
والفطر هنا إذا غربت الشمس، لأن اليهود كانوا يؤخرون الفطر، فعجَّل صلى الله عليه وسلم الإفطار، بشرط أن تغرب الشمس وأن يذهب النهار،
وأن يأتي الليل، وكان يفطر صلى الله عليه وسلم على رطب، كما في حديث أنس عند أبي داود والترمذي بسند حسن، قال:
" كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رُطَبَاتٍ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتُمَيْرَاتٌ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تُمَيْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ ".
وعند الترمذي بسند حسن من حديث سلمان بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ ، فَإِنَّهُ بَرَكَةٌ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَمْرًا فَالْمَاءُ فَإِنَّهُ طَهُورٌ ".
والعجيب أن في الرطب والتمر سرٌ عجيب للصائم، أورد ذلك ابن القيم، فإن البطن إذا جاع كان أحلى شيء يوافق المعدة التمر، فهو حلو يوافق الجوع،
فسبحان الله من علَّمه وهداه -صلى الله عليه وسلم- سواء السبيل، فكان طبيباً للأبدان، وطبيباً للقلوب يقودها إلى الله تبارك وتعالى.
وكان عليه الصلاة والسلام يُؤخِّر السحور، بشرط ألا يُصبح عليه الصباح، فيقول عليه الصلاة والسلام: " تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً " ،
وبركة السحور تأتي بأمور ثلاثة:
أولاً: أنه إحياء لهذه السنة العامرة من الرسول عليه الصلاة والسلام،
فبركة السنة لا يعادلها شيء، وكثيرٌ من الناس قد يترك طعام السحور، وقد خالف في ذلك السنة ولو أن صومه صحيح،
فالسنة أن تقوم فتتسحر بما يسر الله، ليبارك الله في قيامك وصيامك.
ثانياً: أنها ساعة ينـزل الله فيها إلى سماء الدنيا فيقول:
{هَلْ مِنْ دَاعٍ ، فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ، هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ ، فَأَغْفِرَ لَهُ}
فإذا رآك الله وأنت مُتسحِّر ذاكرٌ له، مستغفر منيب تائب، غفر لك سبحانه، وقبل دعاءك وأجاب سؤالك، وتاب عليك فيمن تاب، وأعتق رقبتك من النار،
فهنيئاً لك بتلك الجلسة الإيمانية، فمقصودها وسرها الثاني أن تكون مستغفراً في السحر، فما أحسن السحر! وما أطيب السحر!
ثالثاً: أنه يعينك بإذن الله على الصيام في النهار،
ويسكن حالك وأنت تتلذذ بنعمة الله، وتتناول طعام سحورك، كأنك تقول: يا رب هذا الطعام الذي خلقته ورزقته أتقوى به على طاعتك،
وهو من أنواع الشكر على النعمة، وما أحسن الطعام إذا نوى به العبد التقوي على عبادة الواحد الأحد.
الإكثار من الذكر
كان من هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان: أن يُكثر من الذكر والتبتل والاستغفار والمناجاة والدعاء، فإنها حياة القلوب.
كان يواصل الصيام وينهى الصحابة عن الوصال، فيواصلون ويقولون: يا رسول الله إنك تواصل، أي: مواصلة الليل بالنهار،
قال:" إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ ، إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي " وفي رواية: {إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ ، إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ}
أورد هذه الروايات ابن القيم في زاد المعاد بألفاظها، قال: واختلف أهل العلم على قسمين:
قوم يقولون: إنه طعام حسي وماء معروف يسقى به عليه الصلاة والسلام ويأكل، وليس هذا بصحيح؛ لأنه لو كان كذلك لما كان صائماً عليه الصلاة والسلام،
ولو كان كذلك لما قال: {إني لست كهيئتكم} ،ولو كان كذلك لما كان له ميزة عليه الصلاة والسلام عليهم في الوصال.
والصحيح أنه يُطعم ويُسقى بالمعارف التي تُفاض على قلبه من الواحد الأحد، من لذة المناجاة، وحسن الذكر، وعذوبة دعائه لمولاه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى،
وبما يغدق على روحه، ويسدل على قلبه من ذكر ودعاء وتبتل يشبع ويروي، ولذلك ترى بعض الناس إذا سُرُّوا بأمر تركوا الطعام والشراب،
وإذا سُرُّوا بأمر نزلت دموع الفرحة من خدودهم.
طفح السرور علي حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
فبعض الناس لولهه ولكثرة سروره وفرحه يستعيض به عن الطعام، حتى قال الأول وهو يتحدث عن لذة قلبه بقدوم قادم، أو بكلام حبيب، أو بمناجاة صاحب:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نورٌ يستضاء به ومن حديثك في أعقابها حاد
إذا تشكت كلال السير أسعفها شوق القدوم فتحيا عند ميعادي
فكأنه عليه الصلاة والسلام لفرحه بعبودية ربه كان من أسر الناس قلباً، ومن أشرحهم صدراً، يستعيض عن كثرة الطعام والشراب بهذا،
ولذلك يقول الأندلسي أبو إسحاق الألبيري لابنه في قصيدته الرائعة المبكية الحارة التي توجه إلى كل شاب، وهي من أحسن القصائد والوصايا، يقول:
فَقَوْت الرُّوح أرواح المعاني وليس بأن طعمِت ولا شَرِبتا
يقول: قوت القلب، وغذاء الروح هي جواهر المعاني من الآيات والأحاديث، وليس بأن تأكل وتشرب؛ لأن هذا للجسم، يقول:
تفت فؤادك الأيام فتا وتنحت جسمك الساعات نحتا
وتدعوك المنون دعاء صدق ألا يا صاح أنت أريد أنتا
إلى أن يقول:
فواظبه وخذ بالجد عنه فإن أعطاكه الله انتفعتا
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا
فكان عليه الصلاة والسلام يتغذى بالذكر والتهليل والتكبير والتسبيح والاستغفار، وبكثرة المناجاة، والدعاء،
فأدعوكم أيها الأخيار والأبرار إلى استغلال هذا الشهر في كثرة الذكر.
وننبه على الظاهرة التي نسأل الله أن يجعل مكانها خيراً ومبرَّةً ورحمة، ظاهرة استغلال النهار في النوم؛ فإنها وجدت عند الصالحين بكثرة،
فتجد الصالح من الصائمين يقضي ساعات يومه في النوم، فما كأنه وجد للجوع حرارة، ولا للظمأ مشقة، ولا وجد لمعاناة العبادة كلفة.
فأي حياة هذه الحياة في رمضان، إذا نام من الصباح إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى الغروب، فما هو مفهوم الصيام إذاً في حقه،
ثم أمضى الليل في السهر، وظاهرة تغيير برنامج المسلم في رمضان ليست بمحمودة، بل على المسلم أن يكون على وتيرته،
وما هو الداعي إلى أن يغير وقته لهذا الوقت، فيجعل وقت المناجاة والذكر وحرارة الجوع، ومشقة الظمأ رقاداً ونعاساً ونوماً، فأين معنى الصيام؟!
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة:183
فأعظم مقاصد الصيام التقوى، والتقوى تحصل بأن تعيش ساعات ودقائق الصيام لتتعامل معه،
فما الفرق بين المفطر الذي ينام النهار كله، وبين الصائم الذي ينام النهار كله؟!!
الاعتكاف
كان من هديه عليه الصلاة والسلام الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان.
والاعتكاف: لزوم مسجدٍ لطاعة الله عز وجل، فيحيي قلبه بالذكر والتلاوة، ويقطع مشاغله وارتباطاته بالناس، ويحيا مع الله عز وجل،
فيفرغ القلب لمولاه، ويكثر من دعاء ربه تبارك وتعالى، ويحيي قلبه بالآيات البينات.
والاعتكاف سُنَّة من أحسن السنن وقد عطل إلا من بعض الأشخاص، وهو أحسن ما يمكن أن يربى به القلب، يوم تتفرغ من الناس، ومن كلامهم،
والاتصال بهم، لتتصل برب الناس وملكهم وإلههم، وهل ثَمَّ أحسن من هذا؟
وكان عليه الصلاة والسلام في رمضان يقوم الليل، وربما قام الناس معه جماعة، وربما ترك عليه الصلاة والسلام الجماعة وصلى وحده،
ولذلك أتى عُمَر رضي الله عنه فجمع الناس في صلاة التراويح.
روى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ (جَمَاعَات) مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ،
وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ؛ فَقَالَ عُمَرُ:
( إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ) ،
ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ عُمَرُ:
( نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنْ الَّتِي يَقُومُونَ )
يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ.
من الرواية السابقة وما فيها من توضيح لاقتداء الفاروق عمر رضي الله عنه برسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة التراويح جماعة؛
باعتبار أنها سُنَّة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قد تركها خشية أن تُفرَضَ على الأمة، فلمَّا مات زالت هذه الخشية [1]،
وكان أبو بكر رضي الله عنه منشغلاً بحروب المرتدين وخلافته قصيرة (سنتان)، فلمَّا استتب أمر المسلمين في عهد عمر رضي الله عنه،
جمع الناس على صلاة التراويح في رمضان، كما اجتمعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم،
فقُصَارى ما فعله عمر رضي الله عنه العودة إلى تلك السُنَّة وإحياؤها.
ومن الرواية السابقة أيضًا؛ نبدأ فيما هو آت بالتعرف على أحوال السلف الصالح في رمضان،
وللحديث بقية إن شاء الله،
فــ
____________________
(1) هَذْرَمَ القرآنَ: أَسرع في قراءَته لا يتدبَّرُ معانيه.
(2) هَذَّ القرآنَ: أَسرعَ في قراءَته.
[1] روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
" صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ،
قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ ، إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ ، قَالَ : وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ "
..
المراجع:
________
- قبسات من هدي النبي في رمضان، لناصر محمد آل متعب
- من محاضرة: هدي الرسول وأصحابه في رمضان، للشيخ عائض القرني، (المصدر: إسلام ويب)
- الإسلام سؤال وجواب
تعليق