إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
اللَّهم صلَّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم- وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
انتهينا في حديثنا عن السيرة النبوية العطرة المباركة إلى وصول النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة مُهاجرًا، وذكرنا أهم الأعمال التي قام بها النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- بعد وصوله إلى المدينة، ومنها:
بناء المسجد، والمُؤاخاة بين المُهاجرين والأنصار، والمُعاهدة بينه -صلى الله عليه وسلم- وبين طوائف اليهود الموجودين في المدينة.
وبعد أن استقر -صلى الله عليه وسلم- ومَن معه من المُهاجرين في المدينة؛ بدأت التَّشريعات الرَّبانية تنزل عليه -صلى الله عليه وسلم- ومنها: مشروعية الأذان لصلاة الجماعة، ومشروعية الصيام والزَّكاة، وتقريبًا في السنة الثانية من الهجرة كانت مشروعية الجهاد.
لماذا شُرِع الجهادُ في الإسلام؟
نحن قد عرفنا من خلال الدروس السَّابقة الاضطهاد والتَّعذيب الذي لقيه النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- ومَن آمن معه من أهل مكة خلال ثلاثة عشر عامًا قضاها -صلى الله عليه وسلم- في مكَّة قبل الهجرة.
ثم اضطرته قريش هو وأصحابه إلى الخروج من ديارهم وأموالهم، فلمَّا هاجروا لم يكُفَّ كفارُ قريشٍ أيديهم عنهم، ولم يكفُّوا ألسنتهم؛ بل أرسلوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين في المدينة رسائل تهديد، منها أنَّهم سيأتونهم في المدينة فيستبيحُون بَيْضَتَهم، ويستأصلون شَأْفَتَهم، ولا يتركون منهم أحدًا.
فلم يكن من حكمة أحكم الحاكمين -سبحانه وتعالى- أن يأمر النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ومَن آمن معه أيضًا بالصَّبر وكفِّ أيديهم كما أمرهم بذلك في مكة قبل الهجرة، فنزل القرآنُ الكريم بالإذن من الله -عز وجل- لرسوله والمؤمنين في الدِّفاع عن أنفسهم.
قال الله -تبارك وتعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم ببَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 39- 41].
فهذه أولى الآيات نزولًا في مشروعية الجهاد.
ونحن حين نُدقق النظر فيها نستخلص منها الأسباب والحِكَم التي من أجلها أُذِن للنبي -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين في الجهاد.
من هذه الأسباب والحِكَم التي شُرِع من أجلها الجهادُ في الإسلام:
أولًا: تأمين دعوة الإسلام: تأمين الدَّعوة حتى يتمكَّن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من تبليغ رسالة ربِّه التي أمره بتبليغها حيث قال: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 67].
فمن الأسباب والحكم التي شُرع من أجلها الجهاد: تأمين الدَّعوة، وتأمين المسلمين الذين اعتنقوا الإسلامَ عن رضًى واطمئنانٍ، وحمايتهم من أذى المشركين، ومنحهم حقّهم في الإعلان عن عقيدتهم وهم آمنون، فليس من الحقِّ والعدل أن يُدافع أصحابُ المذاهب الباطلة عن باطلهم بالقوة، وأن يُترك أصحابُ العقائد الصَّحيحة والشَّريعة السَّمحة من غير أن يُؤذَن لهم في الدِّفاع عن عقيدتهم ودينهم.
ثانيًا: من أسباب وحِكَم مشروعية الجهاد في الإسلام: الانتصاف للمظلوم من الظالم، والانتصار للنفس: فها هم المشركون قد آذوا المسلمين وحاولوا ما وسعهم أن يفتنوهم عن دينهم، فلمَّا لم يُفلحوا أخرجوهم من ديارهم وأهليهم وأموالهم.
والانتصار للنفس أمرٌ فطري، وحقٌّ من حقوق الإنسان قررته الشَّرائع السَّماوية والقوانين الأرضية.
وليس من العدل والحقِّ أن يُترك المشركون يمرحون في الأرض ويجوبون الجزيرة من الجنوب إلى الشَّمال، ولا يُؤذَن للمسلمين في محاربتهم من جنس ما حاربوهم به، وأن يقطعوا عليهم تجارتهم ويأخذوا منها ما تصل إليه أيديهم نظير ما اغتصبوا هم من أموالهم، وأن يُضيقوا عليهم مثلما ضيَّقوا عليهم.
ثالثًا: إنَّ في تشريع الجهاد نشرًا للسلام والأمان في الأرض، وتأمين كلِّ ذي دينٍ على دينه، واحترام مُقدَّسات الأديان في الأرض: فالمسلمون حينما تكون لهم السُّلطة والغلبة في الأرض؛ فلا خشيةَ على أهل الأديان الأخرى منهم؛ لأنَّ لهم من وصايا دينهم ما يعصمهم من الظلم والجَور والتَّعنُّت، وليس كذلك الحال لو ساد غيرُ المسلمين وملكوا، وهو ما يشهد به الواقع والتاريخ.
رابعًا: إنَّ الإسلام بما خصَّه الله تعالى به من عموم الدَّعوة للناس أجمعين، وبما جاء به من عقائد وتشريعات وآداب أكسبته الصَّلاحية لكلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ فهو الحقيق بأن يسود الأرض، والمسلمون المُتمَسِّكون به هم الأحق بالسيادة والاستخلاف في الأرض؛ لأنَّهم هم الذين ينشرون فيها الهدى والحق والعدل والرحمة والبر والخير، وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وذلك أساس كلِّ خيرٍ وصلاحٍ.
فهذه هي الحِكَم والعلل التي دلَّت عليها هذه الآية الكريمة التي أذن الله تعالى فيها للنبي -عليه الصلاة والسَّلام- ومَن آمن معه في الدِّفاع عن أنفسهم: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39].
ومن هنا كانت غزوات النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأولاها: غـزوة بدر.
وكان سببُ هذه الغزوة: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بلغه أنَّ أبا سفيان خرج من مكة إلى الشَّام في قافلةٍ تجاريةٍ، فخرج -عليه الصَّلاة والسَّلام- في مئتين من المُهاجرين بقصد اعتراض هذه القافلة والسَّيطرة عليها ومُصادرة هذه القافلة والاستيلاء عليها؛ ليكون في ذلك إضعافٌ للمشركين، وسيطرةٌ على بعض أموالهم التي يُنفقونها ليصدوا عن سبيل الله، وليكون في الاستيلاء عليها تقويةٌ للمسلمين، وتعويضٌ لهم عن أموالهم التي خلَّفوها وراءهم في مكة وسيطرت عليها قريش.
وبلغ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في خروجه هذا مكانًا يُعرَف بالعُشَيرة، فلمَّا انتهى إليه علم أنَّ القافلة قد فاتته إلى الشَّام، فرجع -عليه الصلاة والسلام- ولم يلقَ في هذه الغزوة كيدًا؛ إلا أنَّه -صلى الله عليه وسلم- ظلَّ يرقُب عودة هذه القافلة ويتتبع حركتها، وبعث العيونَ -أي الجواسيس- يرصدون عودة هذه القافلة من الشام إلى مكَّة.
فلمَّا بلغه -صلى الله عليه وسلم- أنَّ أبا سفيان في طريق عودته إلى مكة من الشام؛ قال لمَن حوله من أصحابه: «إِنَّ لَنَا طَلِبَةً، فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا»، أي سنخرج لحاجةٍ -ولم يُصرِّح بها- فمَن كان ظهرُه حاضرًا -أي دابته، أو جَمَله، أو حصانه موجود- يركب معنا، فاستأذنه بعضُ الناس أن يذهبوا ويأتوا بظُهورهم -الخيل والجِمَال- من البيوت، فقال: «لَا؛ إِلَّا مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا»، مَن كان جاهزًا يخرج معنا، ومَن ليس بجاهزٍ فليبقَ.
فنشط رجالٌ وقعد رجالٌ؛ لظنِّهم أنَّه لن يكون قتالٌ كما لم يكن قبل ذلك.
فخرج -عليه الصلاة والسلام- في بضعة عشر وثلاثمئة من أصحابه، ولم يكن معهم من الخيل إلا فرسان: فرسٌ للمقداد بن الأسود، وفرسٌ للزبير بن العوَّام.
وكان معهم سبعون بعيرًا، يَعْتَقِب الرَّجلان والثلاثة على البعير الواحد، أي أنَّ كلَّ اثنين وثلاثة على بعيرٍ، فواحدٌ يركب وينزل، والثاني يركب وينزل، وهكذا.
حتى إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان له زميلان يَعْتَقِبَان معه بعيرًا.
فسار -صلى الله عليه وسلم- بمَن خرج معه من أصحابه.
وكان أبو سفيان حين دنا من المدينة بلغَ من شدَّة حذره وحرصه على أموال الناس التي معه أنَّه صار يتحسس الأخبارَ، فعلم أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج يعترض طريقه، فاستأجر رجلًا وكلَّفه أن يأتي مكة يستغيثهم ويستصرخهم للخروج لإنقاذ أبي سفيان والقافلة التي معه.
فدخل ذلك الأجيرُ إلى مكَّة وقد ركب بعيرَه، وجَدَعَ أنفَه وأُذنَه، وشقَّ قميصَه، وجعل ظهره للوراء، وأخذ يصرخ بأعلى صوتٍ: يا معشر قريش، اللَّطِيمَة اللَّطِيمَة -أي أدركوا اللَّطِيمَة، وهي العِير التي تحمل الطيب.
قال: يا معشر قريش، اللَّطِيمَة اللَّطِيمَة، أموالكم قد خرج محمدٌ يعترضها، ما أرى أن تُدركوها، ولئن أصاب محمدٌ أموالكم هذه المرة لن تُفلحوا أبدًا.
فاجتمع كبراؤُهم وأشرافُهم وتشاوروا، ثم أصرُّوا على الخروج لإنقاذ القافلة التِّجارية.
وكان أبو سفيان قد غيَّر طريقَه ومسيره الذي ينتظره فيه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فلمَّا نجا وتجاوز المكانَ واطمأنَّ أنَّه قد نجا؛ أرسل إلى قريشٍ يُخبرهم بنجاته، وأنَّه لا داعي للخروج، فقد نجَّى الله العِيرَ ومَن فيها.
فلمَّا بلغتهم رسالةُ أبي سفيان انقسموا فريقين:
فريقٌ قال: خرجنا لإنقاذ القافلة، وقد نجاها الله فلا داعي للخروج.
إلا أنَّ أبا جهل -لعنه الله- أصرَّ على الخروج والوصول إلى بدرٍ، قائلًا: والله لا نرجع حتى نأتي بدرًا، فنُقِيم عليها ثلاثًا، ننحر الجُزُر، ونُطعم الطعام، ونُسقى الخمر، وتعزف علينا القِيَان، حتى تسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا؛ فلا يزالون يهابوننا بعد ذلك اليوم أبدًا.
فوافقه مَن وافقه، وخالفه مَن خالفه، إلا أنَّهم خرجوا حتى وصلوا إلى بدرٍ.
فاستشار النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه في لقاء العدو؛ لأنَّ الإسلام يُحرِّم أن يُعطي المسلمُ الدَّنيَّة، كما يُحرِّم الذل والهوان، فلا ينبغي للمسلم أن يُهين نفسه ولا أن يُذلها، ولا ينبغي للمسلمين أن يضعفوا أمام العدو المُتَغَطْرِس المُتكبر المَغْرور الذي خرج بطرًا ورئاء الناس يُريد أن يسمع به الناسُ -كما قال أبو جهلٍ.
فاستشار -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه في لقاء العدو، فقال بعضُهم: ما أخرجنا إلا العِير، وما أردنا النَّفِير، ولم نستعدَّ له.
فكره -صلى الله عليه وسلم- قول ذلك القائل، ثم قال: «أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ».
فتكلم أبو بكر -رضي الله عنه- وأحسن، فأعرض عنه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم.
فتكلم عمرُ فأحسن، فأعرض عنه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم.
فقام سعدُ بنُ عبادةٍ فقال: إيَّانا تُريد يا رسول الله؟
أي تقصدنا نحن الأنصار؟
قال: والله لو أمرتنا أن نُخِيضَها البحر لأَخَضْنَاها.
أي لو قلت لنا: انزلوا بالخيل البحر، سننزل بها.
قال: ولو أمرتنا أن نضرب أكبادَها إلى بَرْكِ الغِمَاد لفعلنا.
فسُرَّ بذلك رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم.
وعن عبد الله بن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: لقد شهدتُ من المقداد بن الأسود مشهدًا لأن أكون أنا صاحبه أحبّ إليَّ من كذا وكذا.
وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
اللَّهم صلَّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم- وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
انتهينا في حديثنا عن السيرة النبوية العطرة المباركة إلى وصول النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة مُهاجرًا، وذكرنا أهم الأعمال التي قام بها النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- بعد وصوله إلى المدينة، ومنها:
بناء المسجد، والمُؤاخاة بين المُهاجرين والأنصار، والمُعاهدة بينه -صلى الله عليه وسلم- وبين طوائف اليهود الموجودين في المدينة.
وبعد أن استقر -صلى الله عليه وسلم- ومَن معه من المُهاجرين في المدينة؛ بدأت التَّشريعات الرَّبانية تنزل عليه -صلى الله عليه وسلم- ومنها: مشروعية الأذان لصلاة الجماعة، ومشروعية الصيام والزَّكاة، وتقريبًا في السنة الثانية من الهجرة كانت مشروعية الجهاد.
لماذا شُرِع الجهادُ في الإسلام؟
نحن قد عرفنا من خلال الدروس السَّابقة الاضطهاد والتَّعذيب الذي لقيه النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- ومَن آمن معه من أهل مكة خلال ثلاثة عشر عامًا قضاها -صلى الله عليه وسلم- في مكَّة قبل الهجرة.
ثم اضطرته قريش هو وأصحابه إلى الخروج من ديارهم وأموالهم، فلمَّا هاجروا لم يكُفَّ كفارُ قريشٍ أيديهم عنهم، ولم يكفُّوا ألسنتهم؛ بل أرسلوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين في المدينة رسائل تهديد، منها أنَّهم سيأتونهم في المدينة فيستبيحُون بَيْضَتَهم، ويستأصلون شَأْفَتَهم، ولا يتركون منهم أحدًا.
فلم يكن من حكمة أحكم الحاكمين -سبحانه وتعالى- أن يأمر النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ومَن آمن معه أيضًا بالصَّبر وكفِّ أيديهم كما أمرهم بذلك في مكة قبل الهجرة، فنزل القرآنُ الكريم بالإذن من الله -عز وجل- لرسوله والمؤمنين في الدِّفاع عن أنفسهم.
قال الله -تبارك وتعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم ببَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 39- 41].
فهذه أولى الآيات نزولًا في مشروعية الجهاد.
ونحن حين نُدقق النظر فيها نستخلص منها الأسباب والحِكَم التي من أجلها أُذِن للنبي -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين في الجهاد.
من هذه الأسباب والحِكَم التي شُرِع من أجلها الجهادُ في الإسلام:
أولًا: تأمين دعوة الإسلام: تأمين الدَّعوة حتى يتمكَّن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من تبليغ رسالة ربِّه التي أمره بتبليغها حيث قال: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 67].
فمن الأسباب والحكم التي شُرع من أجلها الجهاد: تأمين الدَّعوة، وتأمين المسلمين الذين اعتنقوا الإسلامَ عن رضًى واطمئنانٍ، وحمايتهم من أذى المشركين، ومنحهم حقّهم في الإعلان عن عقيدتهم وهم آمنون، فليس من الحقِّ والعدل أن يُدافع أصحابُ المذاهب الباطلة عن باطلهم بالقوة، وأن يُترك أصحابُ العقائد الصَّحيحة والشَّريعة السَّمحة من غير أن يُؤذَن لهم في الدِّفاع عن عقيدتهم ودينهم.
ثانيًا: من أسباب وحِكَم مشروعية الجهاد في الإسلام: الانتصاف للمظلوم من الظالم، والانتصار للنفس: فها هم المشركون قد آذوا المسلمين وحاولوا ما وسعهم أن يفتنوهم عن دينهم، فلمَّا لم يُفلحوا أخرجوهم من ديارهم وأهليهم وأموالهم.
والانتصار للنفس أمرٌ فطري، وحقٌّ من حقوق الإنسان قررته الشَّرائع السَّماوية والقوانين الأرضية.
وليس من العدل والحقِّ أن يُترك المشركون يمرحون في الأرض ويجوبون الجزيرة من الجنوب إلى الشَّمال، ولا يُؤذَن للمسلمين في محاربتهم من جنس ما حاربوهم به، وأن يقطعوا عليهم تجارتهم ويأخذوا منها ما تصل إليه أيديهم نظير ما اغتصبوا هم من أموالهم، وأن يُضيقوا عليهم مثلما ضيَّقوا عليهم.
ثالثًا: إنَّ في تشريع الجهاد نشرًا للسلام والأمان في الأرض، وتأمين كلِّ ذي دينٍ على دينه، واحترام مُقدَّسات الأديان في الأرض: فالمسلمون حينما تكون لهم السُّلطة والغلبة في الأرض؛ فلا خشيةَ على أهل الأديان الأخرى منهم؛ لأنَّ لهم من وصايا دينهم ما يعصمهم من الظلم والجَور والتَّعنُّت، وليس كذلك الحال لو ساد غيرُ المسلمين وملكوا، وهو ما يشهد به الواقع والتاريخ.
رابعًا: إنَّ الإسلام بما خصَّه الله تعالى به من عموم الدَّعوة للناس أجمعين، وبما جاء به من عقائد وتشريعات وآداب أكسبته الصَّلاحية لكلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ فهو الحقيق بأن يسود الأرض، والمسلمون المُتمَسِّكون به هم الأحق بالسيادة والاستخلاف في الأرض؛ لأنَّهم هم الذين ينشرون فيها الهدى والحق والعدل والرحمة والبر والخير، وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وذلك أساس كلِّ خيرٍ وصلاحٍ.
فهذه هي الحِكَم والعلل التي دلَّت عليها هذه الآية الكريمة التي أذن الله تعالى فيها للنبي -عليه الصلاة والسَّلام- ومَن آمن معه في الدِّفاع عن أنفسهم: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39].
ومن هنا كانت غزوات النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأولاها: غـزوة بدر.
وكان سببُ هذه الغزوة: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بلغه أنَّ أبا سفيان خرج من مكة إلى الشَّام في قافلةٍ تجاريةٍ، فخرج -عليه الصَّلاة والسَّلام- في مئتين من المُهاجرين بقصد اعتراض هذه القافلة والسَّيطرة عليها ومُصادرة هذه القافلة والاستيلاء عليها؛ ليكون في ذلك إضعافٌ للمشركين، وسيطرةٌ على بعض أموالهم التي يُنفقونها ليصدوا عن سبيل الله، وليكون في الاستيلاء عليها تقويةٌ للمسلمين، وتعويضٌ لهم عن أموالهم التي خلَّفوها وراءهم في مكة وسيطرت عليها قريش.
وبلغ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في خروجه هذا مكانًا يُعرَف بالعُشَيرة، فلمَّا انتهى إليه علم أنَّ القافلة قد فاتته إلى الشَّام، فرجع -عليه الصلاة والسلام- ولم يلقَ في هذه الغزوة كيدًا؛ إلا أنَّه -صلى الله عليه وسلم- ظلَّ يرقُب عودة هذه القافلة ويتتبع حركتها، وبعث العيونَ -أي الجواسيس- يرصدون عودة هذه القافلة من الشام إلى مكَّة.
فلمَّا بلغه -صلى الله عليه وسلم- أنَّ أبا سفيان في طريق عودته إلى مكة من الشام؛ قال لمَن حوله من أصحابه: «إِنَّ لَنَا طَلِبَةً، فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا»، أي سنخرج لحاجةٍ -ولم يُصرِّح بها- فمَن كان ظهرُه حاضرًا -أي دابته، أو جَمَله، أو حصانه موجود- يركب معنا، فاستأذنه بعضُ الناس أن يذهبوا ويأتوا بظُهورهم -الخيل والجِمَال- من البيوت، فقال: «لَا؛ إِلَّا مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا»، مَن كان جاهزًا يخرج معنا، ومَن ليس بجاهزٍ فليبقَ.
فنشط رجالٌ وقعد رجالٌ؛ لظنِّهم أنَّه لن يكون قتالٌ كما لم يكن قبل ذلك.
فخرج -عليه الصلاة والسلام- في بضعة عشر وثلاثمئة من أصحابه، ولم يكن معهم من الخيل إلا فرسان: فرسٌ للمقداد بن الأسود، وفرسٌ للزبير بن العوَّام.
وكان معهم سبعون بعيرًا، يَعْتَقِب الرَّجلان والثلاثة على البعير الواحد، أي أنَّ كلَّ اثنين وثلاثة على بعيرٍ، فواحدٌ يركب وينزل، والثاني يركب وينزل، وهكذا.
حتى إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان له زميلان يَعْتَقِبَان معه بعيرًا.
فسار -صلى الله عليه وسلم- بمَن خرج معه من أصحابه.
وكان أبو سفيان حين دنا من المدينة بلغَ من شدَّة حذره وحرصه على أموال الناس التي معه أنَّه صار يتحسس الأخبارَ، فعلم أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج يعترض طريقه، فاستأجر رجلًا وكلَّفه أن يأتي مكة يستغيثهم ويستصرخهم للخروج لإنقاذ أبي سفيان والقافلة التي معه.
فدخل ذلك الأجيرُ إلى مكَّة وقد ركب بعيرَه، وجَدَعَ أنفَه وأُذنَه، وشقَّ قميصَه، وجعل ظهره للوراء، وأخذ يصرخ بأعلى صوتٍ: يا معشر قريش، اللَّطِيمَة اللَّطِيمَة -أي أدركوا اللَّطِيمَة، وهي العِير التي تحمل الطيب.
قال: يا معشر قريش، اللَّطِيمَة اللَّطِيمَة، أموالكم قد خرج محمدٌ يعترضها، ما أرى أن تُدركوها، ولئن أصاب محمدٌ أموالكم هذه المرة لن تُفلحوا أبدًا.
فاجتمع كبراؤُهم وأشرافُهم وتشاوروا، ثم أصرُّوا على الخروج لإنقاذ القافلة التِّجارية.
وكان أبو سفيان قد غيَّر طريقَه ومسيره الذي ينتظره فيه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فلمَّا نجا وتجاوز المكانَ واطمأنَّ أنَّه قد نجا؛ أرسل إلى قريشٍ يُخبرهم بنجاته، وأنَّه لا داعي للخروج، فقد نجَّى الله العِيرَ ومَن فيها.
فلمَّا بلغتهم رسالةُ أبي سفيان انقسموا فريقين:
فريقٌ قال: خرجنا لإنقاذ القافلة، وقد نجاها الله فلا داعي للخروج.
إلا أنَّ أبا جهل -لعنه الله- أصرَّ على الخروج والوصول إلى بدرٍ، قائلًا: والله لا نرجع حتى نأتي بدرًا، فنُقِيم عليها ثلاثًا، ننحر الجُزُر، ونُطعم الطعام، ونُسقى الخمر، وتعزف علينا القِيَان، حتى تسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا؛ فلا يزالون يهابوننا بعد ذلك اليوم أبدًا.
فوافقه مَن وافقه، وخالفه مَن خالفه، إلا أنَّهم خرجوا حتى وصلوا إلى بدرٍ.
فاستشار النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه في لقاء العدو؛ لأنَّ الإسلام يُحرِّم أن يُعطي المسلمُ الدَّنيَّة، كما يُحرِّم الذل والهوان، فلا ينبغي للمسلم أن يُهين نفسه ولا أن يُذلها، ولا ينبغي للمسلمين أن يضعفوا أمام العدو المُتَغَطْرِس المُتكبر المَغْرور الذي خرج بطرًا ورئاء الناس يُريد أن يسمع به الناسُ -كما قال أبو جهلٍ.
فاستشار -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه في لقاء العدو، فقال بعضُهم: ما أخرجنا إلا العِير، وما أردنا النَّفِير، ولم نستعدَّ له.
فكره -صلى الله عليه وسلم- قول ذلك القائل، ثم قال: «أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ».
فتكلم أبو بكر -رضي الله عنه- وأحسن، فأعرض عنه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم.
فتكلم عمرُ فأحسن، فأعرض عنه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم.
فقام سعدُ بنُ عبادةٍ فقال: إيَّانا تُريد يا رسول الله؟
أي تقصدنا نحن الأنصار؟
قال: والله لو أمرتنا أن نُخِيضَها البحر لأَخَضْنَاها.
أي لو قلت لنا: انزلوا بالخيل البحر، سننزل بها.
قال: ولو أمرتنا أن نضرب أكبادَها إلى بَرْكِ الغِمَاد لفعلنا.
فسُرَّ بذلك رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم.
وعن عبد الله بن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: لقد شهدتُ من المقداد بن الأسود مشهدًا لأن أكون أنا صاحبه أحبّ إليَّ من كذا وكذا.
تعليق