إنَّ الحمد لله، نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
اللَّهمَّ صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
تحدَّثنا -أيها الإخوة- في آخر درسٍ من دروس سيرة النبي -عليه الصلاة والسلام- عن خروجه -صلى الله عليه وسلم- من مكَّة إلى المدينة مُهاجرًا مع صاحبه أبي بكر -رضي الله عنه- وذكرنا بعض الوقائع التي وقعت في الطريق من مكة إلى المدينة.
نقلنا قصة أم معبد، وقصة سُراقة بن مالك الذي أغرته الفديةُ التي جعلتها قريش لمَن يأتي بمحمدٍ وصاحبه أحياءً أو أمواتًا، مائة ناقة، فذكرنا كيف خرج سُراقة حريصًا على إدراك النبي وصاحبه والعودة بهما، وكيف حفظ الله -تبارك وتعالى- رسوله -عليه الصلاة والسَّلام- من سُراقة.
الآن نُواصل الحديث: ما الذي وقع في الطريق إلى المدينة؟ وكيف وصل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة؟ وكيف استقبله أهلُ المدينة؟ وما أهم الأعمال التي بدأ بها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حين استقرَّت قدمه في المدينة؟ وكيف بدأ التشريع من ربِّ العالمين -سبحانه وتعالى- ينزل على رسوله -صلى الله عليه وسلم؟
فنقول -وبالله تعالى التوفيق:
مما وقع في الطريق إلى المدينة أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لقيَ الزبير بن العوَّام في ركبٍ من المسلمين كانوا تُجارًا عائدين من الشام، فالزُّبير بن العوَّام كان في الشام مع نفرٍ من المسلمين، وهم في رجوعهم من الشام إلى مكة التقى بهم الرسولُ في الطريق إلى المدينة، فكسا الزبيرُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكرٍ ثيابًا بيضاء اشتراها من الشام ورجع بها.
ولما بلغ المسلمين بالمدينة مخرجُ النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكَّة هو وصاحبه الصديق -رضي الله تعالى عنه- كانوا يخرجون كلَّ غداةٍ -كلَّ يومٍ في الصباح- إلى الحرَّة خارج المدينة في انتظار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يرجعون إلا إذا اشتدَّ الحرُّ، ففعلوا ذلك مرارًا، وكل يومٍ يرجعون، فيخرجون ويرجعون، فانقلبوا يومًا بعدما طال انتظارهم، فقد انتظروا كثيرًا ولم يأتِ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، فرجعوا.
فلمَّا آووا إلى بيوتهم إذا برجلٍ من اليهود صَعِدَ على سطح داره فرأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه مُبَيِّضَين -أي عليهما الثياب البِيض التي كساهما الزبير- يزول بهما السَّراب، فلم يملك اليهودي أن صاح بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جدُّكم الذي تنتظرون.
فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- بظَهْر الحرَّة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل في بني عمرو بن عوف، وكانت منازل بني عمرو بن عوف في قباء.
وكان ذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول.
وقيل لهلال ربيع الأول.
وقيل لليلتين خلتا منه.
وقيل لثمانٍ.
وقال بعضُهم: لاثنتي عشرة ليلة -والله تعالى أعلم.
فقام أبو بكرٍ للناس يتلقَّاهم -يستقبلهم- وجلس رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- صامتًا لا يتكلم، فطفق مَن جاء من الأنصار ممن لم يرَ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يعرفه من قبل يُحيِّي أبا بكر؛ لأنَّه لا يعرف الرسول -عليه الصلاة والسلام- حتى أصابت الشمسُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلَّلَ عليه بردائه، فعرف الناسُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك.
فأقام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في بني عمرو بن عوف أربعة أيام، هي: الإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس.
وخرج يوم الجمعة من قباء قاصدًا دخول المدينة.
وكان نزوله -صلى الله عليه وسلم- في قباء على كلثوم بن الهَدْم أخي بني عمرو بن عوف. وقيل: بل نزل على سعد بن خَيْثَمَة.
ولا مُنافاة بين القولين، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبيت عند كلثوم، فإذا أصبح جلس في بيت سعد بن خَيْثَمَة، وذلك أنَّه كان عزبًا لا أهلَ له، وكان يُقال لبيته "بيت العُزَّاب"، ولذلك نزل عليه العُزَّابُ من المهاجرين.
ونزل أبو بكر -رضي الله عنه- على رجلٍ آخر هو خبيب بن إيساف، أحد بني الحارث، خارج المدينة.
وعليٌّ -رضي الله عنه- كما عرفنا قد نام في فراش النبي ليلة الهجرة بأمره -عليه الصلاة والسلام.
فأقام عليٌّ -رضي الله عنه- بمكة ثلاث ليالٍ وأيامها، حتى أدَّى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الودائع التي كانت عنده للناس.
وهذا -يا إخواني- من آداب الإسلام التي يجب على المسلمين أن يتعلموها، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- كان مُلَقَّبًا في قومه بالصادق الأمين، حتى بعد البعثة ومع حربهم له واضطهادهم له كانوا لا يأتمنون على أموالهم غيره، فقد كانوا يضعون عنده الودائع وهم يُحاربونه.
انظر كيف تجلَّت الأمانة؟
فلمَّا اتَّفقوا على قتله، وأذن الله له في الهجرة، لم يأخذ الودائع والفلوس ويهرب ويقول: هم جماعة يريدون قتلي!
لا، إنَّما أمر عليًّا أن يبيت في مكانه، وإذا أصبح يرد الودائع إلى أهلها، فالأموال -يا إخواني- لها حُرمة، ولا يصح لمسلمٍ أن يستحلَّ مال الكافر دون مُبررٍ وسببٍ شرعي.
فقضى عليٌّ ما عنده من الودائع ثم لحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأدركه بقُباء بعد وصوله بليلتين أو ثلاث، فكانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين، ثم خرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة.
فخرج -عليه الصلاة والسلام- إلى المدينة -كما قلنا- يوم الجمعة قاصدًا البلد الطيب طيبة، فأدركته صلاةُ الجمعة في بني سالم بن عوف في المسجد الذي ببطن الوادي، فصلَّاها، وهي أول جمعةٍ صلَّاها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لأنَّه في مكَّة ما كان يستطيع أن يُصلي.
ثم أتاه رجالٌ من بني سالم بن عمرو بن عوف فقالوا: يا رسول الله، أقِم عندنا في العدد والعُدَّة والمنعَة. ويتمسَّكون بزمام الناقة، التي كان اسمُها القَصْواء.
فيقول لهم -صلى الله عليه وسلم: «خَلُّوا سَبِيلَهَا؛ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ»، لا تمسكوها، دعوها تمشي، تنتهي إلى حيث أراد الله -عز وجل.
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- واضعٌ لها زمامها، لا يُثنيها عن السَّير، وكلَّما مرَّ بدارٍ من دور الأنصار في الطريق عرضوا عليه أن ينزل عندهم في العدد والعُدَّة والمنعة، فيقول لهم مثل قولته الأولى: «دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ».
حتى وصلت الناقةُ إلى موضع مسجده الشريف، فبركت عنده، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- راكبٌ عليها لم ينزل.
ثم سارت الناقةُ، وسارت غير بعيدٍ، ورسول الله واضعٌ لها زمامها لا يُثنيها به، ثم التفتت خلفها ورجعت إلى مبركها أول مرَّةٍ فبركت فيه وألقت بجرانها، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنها، فتنازع الملأُ أيُّهم ينزل عليه؟ وهذا طبعًا شرف كبير، فالرسول سينزل على مَن؟ هذا شرف كبير جدًّا، فاختلفوا أين ينزل؟
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي أَنْزِلُ عَلَى أَخْوَالِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أُكْرِمُهُمْ بِذَلِكَ»؛ لأنَّ أخوال النبي كانوا في المدينة -بني النَّجَّار.
ثم سأل: «أَيُّ دُورِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟».
فقال السيد الجليل أبو أيُّوب الأنصاري -رضي الله عنه: أنا، داري أقرب دارٍ. فاحتمل رَحْلَ رسول الله إلى منزله.
فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مُعتذرًا بلطفٍ عن النزول عند غير بني النَّجار: «الْمَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ».
ثم جاء أسعدُ بن زُرَارَةَ نقيب بني النَّجَّار ليلة العقبة، وقد فاته شرفُ نزول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنده، فأخذ بزمام ناقة رسول الله فكانت عنده.
قال: الرسول لم ينزل عندي فإذن آخذ الناقة عندي. واعتبر هذا شرفًا وكرامةً، أن تكون ناقة الرسول عنده.
وكان نزول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدار أبي أيُّوب منقبةً عظيمةً له ولبني النَّجار جميعًا، وقد كانت في المدينة دورٌ كثيرةٌ تبلغ تسعًا، وكلُّ دارٍ محلة مُستقلة بمساكنها ونخيلها وزُروعها وأهليها، وكلُّ قبيلةٍ من قبائلهم قد اجتمعت في محلتهم، وهي كالقُرى المتلاصقة، فاختار الله لرسوله دار بني مالك بن النَّجار تكريمًا لهم؛ لِخُؤُولتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وقد أثنى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على جميع دور الأنصار، فقال: «خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ، ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ، وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ».
وكان يومًا مشهودًا في تاريخ الدنيا، يومَ دخل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المدينة راكبًا ناقته القَصْواء، وأبو بكر الصديق رِدْفَهُ، وملأُ بني النَّجار حوله مُتقَلِّدين سيوفهم؛ يُرهِبون بها أعداءَ الله ورسولِه ومَن تُسَوِّل له نفسُه من اليهود والمشركين أن ينال من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليُعلموهم أنَّه -عليه الصلاة والسلام- إذا كان قد ترك أهلَه ووطنه إلى الله فلا يزال في عزَّةٍ ومَنَعَةٍ من أخواله وأتباعه وأنصاره، إنَّه حقًّا لمشهدٌ مُعبِّرٌ يُغني عن الكلام والخُطَب.
وخرجت المدينة كلها بشبابها وشِيبها وصبيانها ونسائها وولائدها لتُشارك في استقبال القادم الكريم -عليه الصلاة والسلام- وليملؤوا أعينهم من هذا الذي أصبح ذكرُه على كلِّ لسانٍ، وأنصاره في كلِّ بيتٍ.
وخرجت جواري -بنات صغار- من بني النَّجار يضربن بالدُّفوف، وهنَّ يقلن: نحن جواري من بني النَّجار، يا حبَّذا محمدٌ من جار.
قال: «أَتُحْبِبْنَنِي؟».
قلن: إي والله يا رسول الله.
فقال: «وَأَنَا وَاللهِ أُحِبُّكُمْ».
وفي صحيح البخاري ومسلم في حديث الهجرة: وخرج الناسُ حين قدمَ المدينة في الطرق وعلى البيوت، والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر، جاء رسولُ الله. الله أكبر، جاء رسول الله.
وفي دار أبي أيُّوب الأنصاري أقام -عليه الصلاة والسلام- مُعزَّزًا مُكرَّمًا سبعة أشهرٍ حتى بنى المسجد، وبُنِيَت دورُ أهله ونسائه، فانتقل إليها.
ونزل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أول ما نزل في سُفْلِ دار أبي أيوب -يعني في الطابق الأسفل- فأبى أن يصعد، قال: الناس يأتونني، فحتى لا أُتعبهم ويصعدوا إلى أعلى أكون في الأسفل.
فنزل في أسفل دار أبي أيوب، وقد آلم أبا أيوب أن يكون رسولُ الله في السُّفْل وهو في العلو، وألحَّ عليه أن يصعد، حتى بيَّن له النبي وجهةَ نظره، لماذا نزل تحت ولم يصعد فوق؟ وأنَّ ذلك أرفق به وبمَن يأتيه من المسلمين والزائرين، فقد كانت دار أبي أيُّوب منتدى يجتمع فيه المسلمون.
وبالغ أبو أيوب في إكرام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما كانت تطيب نفسه أن يأكل حتى يأكل رسول الله.
فكان يُهيِّئُ الطعام، ويُرسله إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فإذا عادت القَصْعَةُ سأل عن موضع أصابع النبي فيأكل حيث أكل.
وفي ذات مرَّةٍ صنع طعامًا وكان فيه ثوم لم تذهب رائحته، فسأل عن موضع أصابع الرسول فقيل له: لم يأكل منه. هذه المرة لم يأكل.
ففزع، كيف لا يأكل الرسول من الطعام؟!
فذهب إليه وقال: أحرامٌ هو يا رسول الله؟ الثوم حرام؟
فقال: «لَا، وَلَكِنَّنِي أَكْرَهُهُ، فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي» يعني الملائكة، والملائكة تتأذَّى من الرَّوائح الكريهة الخبيثة.
ومن هنا نهى -عليه الصلاة والسلام- مَن أكل ثومًا أو بصلًا أن يشهد الجماعة في المسجد؛ لأنَّ البصل والثوم له رائحة كريهة يتأذَّى منها بنو آدم، وتتأذى منها أيضًا الملائكة.
وإذا كان -يا إخواني- النبي –صلى الله عليه وسلم- نهى مَن أكل بصلًا أو ثومًا أن يقرب المسجد ويشهد الجماعة، فما بالكم بمَن يشرب الدُّخان؟ وريح الدُّخان أخبث وأنتن من البصل والثوم، وأقل شيءٍ أنَّ البصل والثوم مُباحان وليسا حرامًا، أمَّا الدُّخان فحرام.
فلذلك نهيب بإخواننا جميعًا المُبتلين بهذا التَّدخين أن يُقلِعوا عنه لله -عز وجل- وحتى لا تتأذَّى الملائكةُ برائحتهم الخبيثة إذا دخلوا المسجد.
وهكذا انتهى رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة واستقرَّ فيها.
ما الأعمال التي بدأ بها رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- بعد استقراره في المدينة؟
أول عملٍ قام به -عليه الصلاة والسلام- هو بناء المسجد:
فأول عملٍ هو بناء المسجد، إذن لابُدَّ في هذه الأولويَّة من شيءٍ مهمٍّ جدًّا، فقبل أن يفعل أيَّ شيءٍ بنى المسجد، فبناء المساجد له أهمية في الإسلام ودورٌ عظيمٌ.
لذلك قبل أن نتحدَّث عن بناء المسجد نتكلم أولًا عن دور المساجد في نشر الدين والدَّعوة والتربية، والإعداد لكلِّ شيءٍ.
فنقول في بيان منزلة المساجد في الإسلام:
يقول الله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18]. فالمساجد بيوت الله في الأرض، ومهبِط الملائكة، ومثوى عباد الله الصَّالحين في الأرض، فيها يصل المسلمُ حباله بحبال السَّماء، ويُزَكِّي نفسَه، ويسمو بروحه حتى تصل إلى معارج القدس، ثم هي إلى ذلك مصحَّات للأبدان، كما هي مصحَّات للأرواح، فهي مستشفيات لعلاج الأبدان، كما أنَّها مُستشفيات للأرواح، فلابُدَّ لمَن يغشاها مُصلِّيًا أن يتطهر من الأحداث والأنجاس في النفس والثَّوب والمكان.
وهي المُستراح لمَن لا مُستراحَ له، والمأوى والملجأ لمَن لا مأوى له، وهي منازل أدبٍ ووقارٍ، فلا رفع فيها لصوتٍ، ولا لغْوَ فيها ولا فُسُوقَ، وهي منازل طهر ونظافة وتجمُّلٍ.
وقد جاء في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد وكاد الصحابةُ أن يتناولوه بالأذى، فمنعهم النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- ثم قال للرجل مُعلِّمًا: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ».
فلا يجوز أن تكون المساجدُ للبيع والشِّراء والعبث واللَّهو، ولا لوجدان الضَّالة، ولا لإثارة الأهواء والمنازعات والمُشاحنات السياسية ونحوها، ولا للخلافات الدينية، وقد كان من أدب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الموعظة التَّلويح لا التَّصريح، فكان يقول: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا؟»، وهي طريقةٌ فذَّة مُبتَكرة في التربية والتعليم، ما كان يقول له: يا فلان لماذا فعلت كذا؟ لما قلت الكلمة هذه؟ لا، كان يترفَّق بالناس، ويُعاملهم بأدبٍ ورفقٍ ولينٍ: «مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ».
وبذلك التفوا حوله كما قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
اللَّهمَّ صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
تحدَّثنا -أيها الإخوة- في آخر درسٍ من دروس سيرة النبي -عليه الصلاة والسلام- عن خروجه -صلى الله عليه وسلم- من مكَّة إلى المدينة مُهاجرًا مع صاحبه أبي بكر -رضي الله عنه- وذكرنا بعض الوقائع التي وقعت في الطريق من مكة إلى المدينة.
نقلنا قصة أم معبد، وقصة سُراقة بن مالك الذي أغرته الفديةُ التي جعلتها قريش لمَن يأتي بمحمدٍ وصاحبه أحياءً أو أمواتًا، مائة ناقة، فذكرنا كيف خرج سُراقة حريصًا على إدراك النبي وصاحبه والعودة بهما، وكيف حفظ الله -تبارك وتعالى- رسوله -عليه الصلاة والسَّلام- من سُراقة.
الآن نُواصل الحديث: ما الذي وقع في الطريق إلى المدينة؟ وكيف وصل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة؟ وكيف استقبله أهلُ المدينة؟ وما أهم الأعمال التي بدأ بها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حين استقرَّت قدمه في المدينة؟ وكيف بدأ التشريع من ربِّ العالمين -سبحانه وتعالى- ينزل على رسوله -صلى الله عليه وسلم؟
فنقول -وبالله تعالى التوفيق:
مما وقع في الطريق إلى المدينة أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لقيَ الزبير بن العوَّام في ركبٍ من المسلمين كانوا تُجارًا عائدين من الشام، فالزُّبير بن العوَّام كان في الشام مع نفرٍ من المسلمين، وهم في رجوعهم من الشام إلى مكة التقى بهم الرسولُ في الطريق إلى المدينة، فكسا الزبيرُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكرٍ ثيابًا بيضاء اشتراها من الشام ورجع بها.
ولما بلغ المسلمين بالمدينة مخرجُ النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكَّة هو وصاحبه الصديق -رضي الله تعالى عنه- كانوا يخرجون كلَّ غداةٍ -كلَّ يومٍ في الصباح- إلى الحرَّة خارج المدينة في انتظار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يرجعون إلا إذا اشتدَّ الحرُّ، ففعلوا ذلك مرارًا، وكل يومٍ يرجعون، فيخرجون ويرجعون، فانقلبوا يومًا بعدما طال انتظارهم، فقد انتظروا كثيرًا ولم يأتِ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، فرجعوا.
فلمَّا آووا إلى بيوتهم إذا برجلٍ من اليهود صَعِدَ على سطح داره فرأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه مُبَيِّضَين -أي عليهما الثياب البِيض التي كساهما الزبير- يزول بهما السَّراب، فلم يملك اليهودي أن صاح بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جدُّكم الذي تنتظرون.
فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- بظَهْر الحرَّة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل في بني عمرو بن عوف، وكانت منازل بني عمرو بن عوف في قباء.
وكان ذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول.
وقيل لهلال ربيع الأول.
وقيل لليلتين خلتا منه.
وقيل لثمانٍ.
وقال بعضُهم: لاثنتي عشرة ليلة -والله تعالى أعلم.
فقام أبو بكرٍ للناس يتلقَّاهم -يستقبلهم- وجلس رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- صامتًا لا يتكلم، فطفق مَن جاء من الأنصار ممن لم يرَ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يعرفه من قبل يُحيِّي أبا بكر؛ لأنَّه لا يعرف الرسول -عليه الصلاة والسلام- حتى أصابت الشمسُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلَّلَ عليه بردائه، فعرف الناسُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك.
فأقام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في بني عمرو بن عوف أربعة أيام، هي: الإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس.
وخرج يوم الجمعة من قباء قاصدًا دخول المدينة.
وكان نزوله -صلى الله عليه وسلم- في قباء على كلثوم بن الهَدْم أخي بني عمرو بن عوف. وقيل: بل نزل على سعد بن خَيْثَمَة.
ولا مُنافاة بين القولين، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبيت عند كلثوم، فإذا أصبح جلس في بيت سعد بن خَيْثَمَة، وذلك أنَّه كان عزبًا لا أهلَ له، وكان يُقال لبيته "بيت العُزَّاب"، ولذلك نزل عليه العُزَّابُ من المهاجرين.
ونزل أبو بكر -رضي الله عنه- على رجلٍ آخر هو خبيب بن إيساف، أحد بني الحارث، خارج المدينة.
وعليٌّ -رضي الله عنه- كما عرفنا قد نام في فراش النبي ليلة الهجرة بأمره -عليه الصلاة والسلام.
فأقام عليٌّ -رضي الله عنه- بمكة ثلاث ليالٍ وأيامها، حتى أدَّى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الودائع التي كانت عنده للناس.
وهذا -يا إخواني- من آداب الإسلام التي يجب على المسلمين أن يتعلموها، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- كان مُلَقَّبًا في قومه بالصادق الأمين، حتى بعد البعثة ومع حربهم له واضطهادهم له كانوا لا يأتمنون على أموالهم غيره، فقد كانوا يضعون عنده الودائع وهم يُحاربونه.
انظر كيف تجلَّت الأمانة؟
فلمَّا اتَّفقوا على قتله، وأذن الله له في الهجرة، لم يأخذ الودائع والفلوس ويهرب ويقول: هم جماعة يريدون قتلي!
لا، إنَّما أمر عليًّا أن يبيت في مكانه، وإذا أصبح يرد الودائع إلى أهلها، فالأموال -يا إخواني- لها حُرمة، ولا يصح لمسلمٍ أن يستحلَّ مال الكافر دون مُبررٍ وسببٍ شرعي.
فقضى عليٌّ ما عنده من الودائع ثم لحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأدركه بقُباء بعد وصوله بليلتين أو ثلاث، فكانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين، ثم خرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة.
فخرج -عليه الصلاة والسلام- إلى المدينة -كما قلنا- يوم الجمعة قاصدًا البلد الطيب طيبة، فأدركته صلاةُ الجمعة في بني سالم بن عوف في المسجد الذي ببطن الوادي، فصلَّاها، وهي أول جمعةٍ صلَّاها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لأنَّه في مكَّة ما كان يستطيع أن يُصلي.
ثم أتاه رجالٌ من بني سالم بن عمرو بن عوف فقالوا: يا رسول الله، أقِم عندنا في العدد والعُدَّة والمنعَة. ويتمسَّكون بزمام الناقة، التي كان اسمُها القَصْواء.
فيقول لهم -صلى الله عليه وسلم: «خَلُّوا سَبِيلَهَا؛ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ»، لا تمسكوها، دعوها تمشي، تنتهي إلى حيث أراد الله -عز وجل.
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- واضعٌ لها زمامها، لا يُثنيها عن السَّير، وكلَّما مرَّ بدارٍ من دور الأنصار في الطريق عرضوا عليه أن ينزل عندهم في العدد والعُدَّة والمنعة، فيقول لهم مثل قولته الأولى: «دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ».
حتى وصلت الناقةُ إلى موضع مسجده الشريف، فبركت عنده، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- راكبٌ عليها لم ينزل.
ثم سارت الناقةُ، وسارت غير بعيدٍ، ورسول الله واضعٌ لها زمامها لا يُثنيها به، ثم التفتت خلفها ورجعت إلى مبركها أول مرَّةٍ فبركت فيه وألقت بجرانها، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنها، فتنازع الملأُ أيُّهم ينزل عليه؟ وهذا طبعًا شرف كبير، فالرسول سينزل على مَن؟ هذا شرف كبير جدًّا، فاختلفوا أين ينزل؟
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي أَنْزِلُ عَلَى أَخْوَالِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أُكْرِمُهُمْ بِذَلِكَ»؛ لأنَّ أخوال النبي كانوا في المدينة -بني النَّجَّار.
ثم سأل: «أَيُّ دُورِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟».
فقال السيد الجليل أبو أيُّوب الأنصاري -رضي الله عنه: أنا، داري أقرب دارٍ. فاحتمل رَحْلَ رسول الله إلى منزله.
فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مُعتذرًا بلطفٍ عن النزول عند غير بني النَّجار: «الْمَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ».
ثم جاء أسعدُ بن زُرَارَةَ نقيب بني النَّجَّار ليلة العقبة، وقد فاته شرفُ نزول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنده، فأخذ بزمام ناقة رسول الله فكانت عنده.
قال: الرسول لم ينزل عندي فإذن آخذ الناقة عندي. واعتبر هذا شرفًا وكرامةً، أن تكون ناقة الرسول عنده.
وكان نزول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدار أبي أيُّوب منقبةً عظيمةً له ولبني النَّجار جميعًا، وقد كانت في المدينة دورٌ كثيرةٌ تبلغ تسعًا، وكلُّ دارٍ محلة مُستقلة بمساكنها ونخيلها وزُروعها وأهليها، وكلُّ قبيلةٍ من قبائلهم قد اجتمعت في محلتهم، وهي كالقُرى المتلاصقة، فاختار الله لرسوله دار بني مالك بن النَّجار تكريمًا لهم؛ لِخُؤُولتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وقد أثنى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على جميع دور الأنصار، فقال: «خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ، ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ، وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ».
وكان يومًا مشهودًا في تاريخ الدنيا، يومَ دخل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المدينة راكبًا ناقته القَصْواء، وأبو بكر الصديق رِدْفَهُ، وملأُ بني النَّجار حوله مُتقَلِّدين سيوفهم؛ يُرهِبون بها أعداءَ الله ورسولِه ومَن تُسَوِّل له نفسُه من اليهود والمشركين أن ينال من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليُعلموهم أنَّه -عليه الصلاة والسلام- إذا كان قد ترك أهلَه ووطنه إلى الله فلا يزال في عزَّةٍ ومَنَعَةٍ من أخواله وأتباعه وأنصاره، إنَّه حقًّا لمشهدٌ مُعبِّرٌ يُغني عن الكلام والخُطَب.
وخرجت المدينة كلها بشبابها وشِيبها وصبيانها ونسائها وولائدها لتُشارك في استقبال القادم الكريم -عليه الصلاة والسلام- وليملؤوا أعينهم من هذا الذي أصبح ذكرُه على كلِّ لسانٍ، وأنصاره في كلِّ بيتٍ.
وخرجت جواري -بنات صغار- من بني النَّجار يضربن بالدُّفوف، وهنَّ يقلن: نحن جواري من بني النَّجار، يا حبَّذا محمدٌ من جار.
قال: «أَتُحْبِبْنَنِي؟».
قلن: إي والله يا رسول الله.
فقال: «وَأَنَا وَاللهِ أُحِبُّكُمْ».
وفي صحيح البخاري ومسلم في حديث الهجرة: وخرج الناسُ حين قدمَ المدينة في الطرق وعلى البيوت، والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر، جاء رسولُ الله. الله أكبر، جاء رسول الله.
وفي دار أبي أيُّوب الأنصاري أقام -عليه الصلاة والسلام- مُعزَّزًا مُكرَّمًا سبعة أشهرٍ حتى بنى المسجد، وبُنِيَت دورُ أهله ونسائه، فانتقل إليها.
ونزل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أول ما نزل في سُفْلِ دار أبي أيوب -يعني في الطابق الأسفل- فأبى أن يصعد، قال: الناس يأتونني، فحتى لا أُتعبهم ويصعدوا إلى أعلى أكون في الأسفل.
فنزل في أسفل دار أبي أيوب، وقد آلم أبا أيوب أن يكون رسولُ الله في السُّفْل وهو في العلو، وألحَّ عليه أن يصعد، حتى بيَّن له النبي وجهةَ نظره، لماذا نزل تحت ولم يصعد فوق؟ وأنَّ ذلك أرفق به وبمَن يأتيه من المسلمين والزائرين، فقد كانت دار أبي أيُّوب منتدى يجتمع فيه المسلمون.
وبالغ أبو أيوب في إكرام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما كانت تطيب نفسه أن يأكل حتى يأكل رسول الله.
فكان يُهيِّئُ الطعام، ويُرسله إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فإذا عادت القَصْعَةُ سأل عن موضع أصابع النبي فيأكل حيث أكل.
وفي ذات مرَّةٍ صنع طعامًا وكان فيه ثوم لم تذهب رائحته، فسأل عن موضع أصابع الرسول فقيل له: لم يأكل منه. هذه المرة لم يأكل.
ففزع، كيف لا يأكل الرسول من الطعام؟!
فذهب إليه وقال: أحرامٌ هو يا رسول الله؟ الثوم حرام؟
فقال: «لَا، وَلَكِنَّنِي أَكْرَهُهُ، فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي» يعني الملائكة، والملائكة تتأذَّى من الرَّوائح الكريهة الخبيثة.
ومن هنا نهى -عليه الصلاة والسلام- مَن أكل ثومًا أو بصلًا أن يشهد الجماعة في المسجد؛ لأنَّ البصل والثوم له رائحة كريهة يتأذَّى منها بنو آدم، وتتأذى منها أيضًا الملائكة.
وإذا كان -يا إخواني- النبي –صلى الله عليه وسلم- نهى مَن أكل بصلًا أو ثومًا أن يقرب المسجد ويشهد الجماعة، فما بالكم بمَن يشرب الدُّخان؟ وريح الدُّخان أخبث وأنتن من البصل والثوم، وأقل شيءٍ أنَّ البصل والثوم مُباحان وليسا حرامًا، أمَّا الدُّخان فحرام.
فلذلك نهيب بإخواننا جميعًا المُبتلين بهذا التَّدخين أن يُقلِعوا عنه لله -عز وجل- وحتى لا تتأذَّى الملائكةُ برائحتهم الخبيثة إذا دخلوا المسجد.
وهكذا انتهى رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة واستقرَّ فيها.
ما الأعمال التي بدأ بها رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- بعد استقراره في المدينة؟
أول عملٍ قام به -عليه الصلاة والسلام- هو بناء المسجد:
فأول عملٍ هو بناء المسجد، إذن لابُدَّ في هذه الأولويَّة من شيءٍ مهمٍّ جدًّا، فقبل أن يفعل أيَّ شيءٍ بنى المسجد، فبناء المساجد له أهمية في الإسلام ودورٌ عظيمٌ.
لذلك قبل أن نتحدَّث عن بناء المسجد نتكلم أولًا عن دور المساجد في نشر الدين والدَّعوة والتربية، والإعداد لكلِّ شيءٍ.
فنقول في بيان منزلة المساجد في الإسلام:
يقول الله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18]. فالمساجد بيوت الله في الأرض، ومهبِط الملائكة، ومثوى عباد الله الصَّالحين في الأرض، فيها يصل المسلمُ حباله بحبال السَّماء، ويُزَكِّي نفسَه، ويسمو بروحه حتى تصل إلى معارج القدس، ثم هي إلى ذلك مصحَّات للأبدان، كما هي مصحَّات للأرواح، فهي مستشفيات لعلاج الأبدان، كما أنَّها مُستشفيات للأرواح، فلابُدَّ لمَن يغشاها مُصلِّيًا أن يتطهر من الأحداث والأنجاس في النفس والثَّوب والمكان.
وهي المُستراح لمَن لا مُستراحَ له، والمأوى والملجأ لمَن لا مأوى له، وهي منازل أدبٍ ووقارٍ، فلا رفع فيها لصوتٍ، ولا لغْوَ فيها ولا فُسُوقَ، وهي منازل طهر ونظافة وتجمُّلٍ.
وقد جاء في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد وكاد الصحابةُ أن يتناولوه بالأذى، فمنعهم النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- ثم قال للرجل مُعلِّمًا: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ».
فلا يجوز أن تكون المساجدُ للبيع والشِّراء والعبث واللَّهو، ولا لوجدان الضَّالة، ولا لإثارة الأهواء والمنازعات والمُشاحنات السياسية ونحوها، ولا للخلافات الدينية، وقد كان من أدب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الموعظة التَّلويح لا التَّصريح، فكان يقول: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا؟»، وهي طريقةٌ فذَّة مُبتَكرة في التربية والتعليم، ما كان يقول له: يا فلان لماذا فعلت كذا؟ لما قلت الكلمة هذه؟ لا، كان يترفَّق بالناس، ويُعاملهم بأدبٍ ورفقٍ ولينٍ: «مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ».
وبذلك التفوا حوله كما قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159].
تعليق