إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

أهم الأعمال بعد الهجرة .. فقه السيرة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أهم الأعمال بعد الهجرة .. فقه السيرة

    إنَّ الحمد لله، نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
    اللَّهمَّ صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
    أمَّا بعد، فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
    تحدَّثنا -أيها الإخوة- في آخر درسٍ من دروس سيرة النبي -عليه الصلاة والسلام- عن خروجه -صلى الله عليه وسلم- من مكَّة إلى المدينة مُهاجرًا مع صاحبه أبي بكر -رضي الله عنه- وذكرنا بعض الوقائع التي وقعت في الطريق من مكة إلى المدينة.
    نقلنا قصة أم معبد، وقصة سُراقة بن مالك الذي أغرته الفديةُ التي جعلتها قريش لمَن يأتي بمحمدٍ وصاحبه أحياءً أو أمواتًا، مائة ناقة، فذكرنا كيف خرج سُراقة حريصًا على إدراك النبي وصاحبه والعودة بهما، وكيف حفظ الله -تبارك وتعالى- رسوله -عليه الصلاة والسَّلام- من سُراقة.
    الآن نُواصل الحديث: ما الذي وقع في الطريق إلى المدينة؟ وكيف وصل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة؟ وكيف استقبله أهلُ المدينة؟ وما أهم الأعمال التي بدأ بها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حين استقرَّت قدمه في المدينة؟ وكيف بدأ التشريع من ربِّ العالمين -سبحانه وتعالى- ينزل على رسوله -صلى الله عليه وسلم؟
    فنقول -وبالله تعالى التوفيق:
    مما وقع في الطريق إلى المدينة أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لقيَ الزبير بن العوَّام في ركبٍ من المسلمين كانوا تُجارًا عائدين من الشام، فالزُّبير بن العوَّام كان في الشام مع نفرٍ من المسلمين، وهم في رجوعهم من الشام إلى مكة التقى بهم الرسولُ في الطريق إلى المدينة، فكسا الزبيرُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكرٍ ثيابًا بيضاء اشتراها من الشام ورجع بها.
    ولما بلغ المسلمين بالمدينة مخرجُ النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكَّة هو وصاحبه الصديق -رضي الله تعالى عنه- كانوا يخرجون كلَّ غداةٍ -كلَّ يومٍ في الصباح- إلى الحرَّة خارج المدينة في انتظار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يرجعون إلا إذا اشتدَّ الحرُّ، ففعلوا ذلك مرارًا، وكل يومٍ يرجعون، فيخرجون ويرجعون، فانقلبوا يومًا بعدما طال انتظارهم، فقد انتظروا كثيرًا ولم يأتِ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، فرجعوا.
    فلمَّا آووا إلى بيوتهم إذا برجلٍ من اليهود صَعِدَ على سطح داره فرأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه مُبَيِّضَين -أي عليهما الثياب البِيض التي كساهما الزبير- يزول بهما السَّراب، فلم يملك اليهودي أن صاح بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جدُّكم الذي تنتظرون.
    فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- بظَهْر الحرَّة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل في بني عمرو بن عوف، وكانت منازل بني عمرو بن عوف في قباء.
    وكان ذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول.
    وقيل لهلال ربيع الأول.
    وقيل لليلتين خلتا منه.
    وقيل لثمانٍ.
    وقال بعضُهم: لاثنتي عشرة ليلة -والله تعالى أعلم.
    فقام أبو بكرٍ للناس يتلقَّاهم -يستقبلهم- وجلس رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- صامتًا لا يتكلم، فطفق مَن جاء من الأنصار ممن لم يرَ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يعرفه من قبل يُحيِّي أبا بكر؛ لأنَّه لا يعرف الرسول -عليه الصلاة والسلام- حتى أصابت الشمسُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلَّلَ عليه بردائه، فعرف الناسُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك.
    فأقام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في بني عمرو بن عوف أربعة أيام، هي: الإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس.
    وخرج يوم الجمعة من قباء قاصدًا دخول المدينة.
    وكان نزوله -صلى الله عليه وسلم- في قباء على كلثوم بن الهَدْم أخي بني عمرو بن عوف. وقيل: بل نزل على سعد بن خَيْثَمَة.
    ولا مُنافاة بين القولين، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبيت عند كلثوم، فإذا أصبح جلس في بيت سعد بن خَيْثَمَة، وذلك أنَّه كان عزبًا لا أهلَ له، وكان يُقال لبيته "بيت العُزَّاب"، ولذلك نزل عليه العُزَّابُ من المهاجرين.
    ونزل أبو بكر -رضي الله عنه- على رجلٍ آخر هو خبيب بن إيساف، أحد بني الحارث، خارج المدينة.
    وعليٌّ -رضي الله عنه- كما عرفنا قد نام في فراش النبي ليلة الهجرة بأمره -عليه الصلاة والسلام.
    فأقام عليٌّ -رضي الله عنه- بمكة ثلاث ليالٍ وأيامها، حتى أدَّى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الودائع التي كانت عنده للناس.
    وهذا -يا إخواني- من آداب الإسلام التي يجب على المسلمين أن يتعلموها، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- كان مُلَقَّبًا في قومه بالصادق الأمين، حتى بعد البعثة ومع حربهم له واضطهادهم له كانوا لا يأتمنون على أموالهم غيره، فقد كانوا يضعون عنده الودائع وهم يُحاربونه.
    انظر كيف تجلَّت الأمانة؟
    فلمَّا اتَّفقوا على قتله، وأذن الله له في الهجرة، لم يأخذ الودائع والفلوس ويهرب ويقول: هم جماعة يريدون قتلي!
    لا، إنَّما أمر عليًّا أن يبيت في مكانه، وإذا أصبح يرد الودائع إلى أهلها، فالأموال -يا إخواني- لها حُرمة، ولا يصح لمسلمٍ أن يستحلَّ مال الكافر دون مُبررٍ وسببٍ شرعي.
    فقضى عليٌّ ما عنده من الودائع ثم لحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأدركه بقُباء بعد وصوله بليلتين أو ثلاث، فكانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين، ثم خرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة.
    فخرج -عليه الصلاة والسلام- إلى المدينة -كما قلنا- يوم الجمعة قاصدًا البلد الطيب طيبة، فأدركته صلاةُ الجمعة في بني سالم بن عوف في المسجد الذي ببطن الوادي، فصلَّاها، وهي أول جمعةٍ صلَّاها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لأنَّه في مكَّة ما كان يستطيع أن يُصلي.
    ثم أتاه رجالٌ من بني سالم بن عمرو بن عوف فقالوا: يا رسول الله، أقِم عندنا في العدد والعُدَّة والمنعَة. ويتمسَّكون بزمام الناقة، التي كان اسمُها القَصْواء.
    فيقول لهم -صلى الله عليه وسلم: «خَلُّوا سَبِيلَهَا؛ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ»، لا تمسكوها، دعوها تمشي، تنتهي إلى حيث أراد الله -عز وجل.
    ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- واضعٌ لها زمامها، لا يُثنيها عن السَّير، وكلَّما مرَّ بدارٍ من دور الأنصار في الطريق عرضوا عليه أن ينزل عندهم في العدد والعُدَّة والمنعة، فيقول لهم مثل قولته الأولى: «دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ».
    حتى وصلت الناقةُ إلى موضع مسجده الشريف، فبركت عنده، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- راكبٌ عليها لم ينزل.
    ثم سارت الناقةُ، وسارت غير بعيدٍ، ورسول الله واضعٌ لها زمامها لا يُثنيها به، ثم التفتت خلفها ورجعت إلى مبركها أول مرَّةٍ فبركت فيه وألقت بجرانها، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنها، فتنازع الملأُ أيُّهم ينزل عليه؟ وهذا طبعًا شرف كبير، فالرسول سينزل على مَن؟ هذا شرف كبير جدًّا، فاختلفوا أين ينزل؟
    فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي أَنْزِلُ عَلَى أَخْوَالِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أُكْرِمُهُمْ بِذَلِكَ»؛ لأنَّ أخوال النبي كانوا في المدينة -بني النَّجَّار.
    ثم سأل: «أَيُّ دُورِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟».
    فقال السيد الجليل أبو أيُّوب الأنصاري -رضي الله عنه: أنا، داري أقرب دارٍ. فاحتمل رَحْلَ رسول الله إلى منزله.
    فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مُعتذرًا بلطفٍ عن النزول عند غير بني النَّجار: «الْمَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ».
    ثم جاء أسعدُ بن زُرَارَةَ نقيب بني النَّجَّار ليلة العقبة، وقد فاته شرفُ نزول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنده، فأخذ بزمام ناقة رسول الله فكانت عنده.
    قال: الرسول لم ينزل عندي فإذن آخذ الناقة عندي. واعتبر هذا شرفًا وكرامةً، أن تكون ناقة الرسول عنده.
    وكان نزول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدار أبي أيُّوب منقبةً عظيمةً له ولبني النَّجار جميعًا، وقد كانت في المدينة دورٌ كثيرةٌ تبلغ تسعًا، وكلُّ دارٍ محلة مُستقلة بمساكنها ونخيلها وزُروعها وأهليها، وكلُّ قبيلةٍ من قبائلهم قد اجتمعت في محلتهم، وهي كالقُرى المتلاصقة، فاختار الله لرسوله دار بني مالك بن النَّجار تكريمًا لهم؛ لِخُؤُولتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم.
    وقد أثنى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على جميع دور الأنصار، فقال: «خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ، ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ، وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ».
    وكان يومًا مشهودًا في تاريخ الدنيا، يومَ دخل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المدينة راكبًا ناقته القَصْواء، وأبو بكر الصديق رِدْفَهُ، وملأُ بني النَّجار حوله مُتقَلِّدين سيوفهم؛ يُرهِبون بها أعداءَ الله ورسولِه ومَن تُسَوِّل له نفسُه من اليهود والمشركين أن ينال من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليُعلموهم أنَّه -عليه الصلاة والسلام- إذا كان قد ترك أهلَه ووطنه إلى الله فلا يزال في عزَّةٍ ومَنَعَةٍ من أخواله وأتباعه وأنصاره، إنَّه حقًّا لمشهدٌ مُعبِّرٌ يُغني عن الكلام والخُطَب.
    وخرجت المدينة كلها بشبابها وشِيبها وصبيانها ونسائها وولائدها لتُشارك في استقبال القادم الكريم -عليه الصلاة والسلام- وليملؤوا أعينهم من هذا الذي أصبح ذكرُه على كلِّ لسانٍ، وأنصاره في كلِّ بيتٍ.
    وخرجت جواري -بنات صغار- من بني النَّجار يضربن بالدُّفوف، وهنَّ يقلن: نحن جواري من بني النَّجار، يا حبَّذا محمدٌ من جار.
    قال: «أَتُحْبِبْنَنِي؟».
    قلن: إي والله يا رسول الله.
    فقال: «وَأَنَا وَاللهِ أُحِبُّكُمْ».
    وفي صحيح البخاري ومسلم في حديث الهجرة: وخرج الناسُ حين قدمَ المدينة في الطرق وعلى البيوت، والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر، جاء رسولُ الله. الله أكبر، جاء رسول الله.
    وفي دار أبي أيُّوب الأنصاري أقام -عليه الصلاة والسلام- مُعزَّزًا مُكرَّمًا سبعة أشهرٍ حتى بنى المسجد، وبُنِيَت دورُ أهله ونسائه، فانتقل إليها.
    ونزل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أول ما نزل في سُفْلِ دار أبي أيوب -يعني في الطابق الأسفل- فأبى أن يصعد، قال: الناس يأتونني، فحتى لا أُتعبهم ويصعدوا إلى أعلى أكون في الأسفل.
    فنزل في أسفل دار أبي أيوب، وقد آلم أبا أيوب أن يكون رسولُ الله في السُّفْل وهو في العلو، وألحَّ عليه أن يصعد، حتى بيَّن له النبي وجهةَ نظره، لماذا نزل تحت ولم يصعد فوق؟ وأنَّ ذلك أرفق به وبمَن يأتيه من المسلمين والزائرين، فقد كانت دار أبي أيُّوب منتدى يجتمع فيه المسلمون.
    وبالغ أبو أيوب في إكرام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما كانت تطيب نفسه أن يأكل حتى يأكل رسول الله.
    فكان يُهيِّئُ الطعام، ويُرسله إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فإذا عادت القَصْعَةُ سأل عن موضع أصابع النبي فيأكل حيث أكل.
    وفي ذات مرَّةٍ صنع طعامًا وكان فيه ثوم لم تذهب رائحته، فسأل عن موضع أصابع الرسول فقيل له: لم يأكل منه. هذه المرة لم يأكل.
    ففزع، كيف لا يأكل الرسول من الطعام؟!
    فذهب إليه وقال: أحرامٌ هو يا رسول الله؟ الثوم حرام؟
    فقال: «لَا، وَلَكِنَّنِي أَكْرَهُهُ، فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي» يعني الملائكة، والملائكة تتأذَّى من الرَّوائح الكريهة الخبيثة.
    ومن هنا نهى -عليه الصلاة والسلام- مَن أكل ثومًا أو بصلًا أن يشهد الجماعة في المسجد؛ لأنَّ البصل والثوم له رائحة كريهة يتأذَّى منها بنو آدم، وتتأذى منها أيضًا الملائكة.
    وإذا كان -يا إخواني- النبي –صلى الله عليه وسلم- نهى مَن أكل بصلًا أو ثومًا أن يقرب المسجد ويشهد الجماعة، فما بالكم بمَن يشرب الدُّخان؟ وريح الدُّخان أخبث وأنتن من البصل والثوم، وأقل شيءٍ أنَّ البصل والثوم مُباحان وليسا حرامًا، أمَّا الدُّخان فحرام.
    فلذلك نهيب بإخواننا جميعًا المُبتلين بهذا التَّدخين أن يُقلِعوا عنه لله -عز وجل- وحتى لا تتأذَّى الملائكةُ برائحتهم الخبيثة إذا دخلوا المسجد.
    وهكذا انتهى رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة واستقرَّ فيها.
    ما الأعمال التي بدأ بها رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- بعد استقراره في المدينة؟
    أول عملٍ قام به -عليه الصلاة والسلام- هو بناء المسجد:
    فأول عملٍ هو بناء المسجد، إذن لابُدَّ في هذه الأولويَّة من شيءٍ مهمٍّ جدًّا، فقبل أن يفعل أيَّ شيءٍ بنى المسجد، فبناء المساجد له أهمية في الإسلام ودورٌ عظيمٌ.
    لذلك قبل أن نتحدَّث عن بناء المسجد نتكلم أولًا عن دور المساجد في نشر الدين والدَّعوة والتربية، والإعداد لكلِّ شيءٍ.
    فنقول في بيان منزلة المساجد في الإسلام:
    يقول الله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18]. فالمساجد بيوت الله في الأرض، ومهبِط الملائكة، ومثوى عباد الله الصَّالحين في الأرض، فيها يصل المسلمُ حباله بحبال السَّماء، ويُزَكِّي نفسَه، ويسمو بروحه حتى تصل إلى معارج القدس، ثم هي إلى ذلك مصحَّات للأبدان، كما هي مصحَّات للأرواح، فهي مستشفيات لعلاج الأبدان، كما أنَّها مُستشفيات للأرواح، فلابُدَّ لمَن يغشاها مُصلِّيًا أن يتطهر من الأحداث والأنجاس في النفس والثَّوب والمكان.
    وهي المُستراح لمَن لا مُستراحَ له، والمأوى والملجأ لمَن لا مأوى له، وهي منازل أدبٍ ووقارٍ، فلا رفع فيها لصوتٍ، ولا لغْوَ فيها ولا فُسُوقَ، وهي منازل طهر ونظافة وتجمُّلٍ.
    وقد جاء في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد وكاد الصحابةُ أن يتناولوه بالأذى، فمنعهم النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- ثم قال للرجل مُعلِّمًا: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ».
    فلا يجوز أن تكون المساجدُ للبيع والشِّراء والعبث واللَّهو، ولا لوجدان الضَّالة، ولا لإثارة الأهواء والمنازعات والمُشاحنات السياسية ونحوها، ولا للخلافات الدينية، وقد كان من أدب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الموعظة التَّلويح لا التَّصريح، فكان يقول: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا؟»، وهي طريقةٌ فذَّة مُبتَكرة في التربية والتعليم، ما كان يقول له: يا فلان لماذا فعلت كذا؟ لما قلت الكلمة هذه؟ لا، كان يترفَّق بالناس، ويُعاملهم بأدبٍ ورفقٍ ولينٍ: «مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ».
    وبذلك التفوا حوله كما قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159].

  • #2
    رد: أهم الأعمال بعد الهجرة .. فقه السيرة

    p
    وفي الحق أنَّ المساجد في صدر الإسلام -ولا سيَّما المسجد النبوي- كانت تُؤدي خدمات دينيَّة وعلميَّة واجتماعيَّة وصحيَّة وحربيَّة، فكانت المساجد مُتعبَّدات يُؤدِّي فيها المسلمون شعائر دينهم، وكانت تقوم مقام المعاهد والجامعات في التربية والتعليم والتَّهذيب، ومقام الجمعيات الخيرية في جمع الصَّدقات والمساعدات، والتعاون على البر والتقوى.
    وكانت تقوم مقام الملاجئ والمبَرَّات، يلجأ إليها الفقراءُ ممن لا مأوى لهم ولا دار، فيجد فيها المسكن والمأكل والمشرب، كما كان الحال في أهل الصُّفَّة أضياف الله وأضياف الإسلام، وكانت مُنتديات يجتمع فيها المسلمون ويتألَّفون ويتحابُّون ويتشاورون في مصالحهم الدينية والدُّنيوية، ويُبْرِمون ما يرتَؤُون، وكانت تُصنع في المسجد النبوي السِّهام وآلات الجهاد، وتُنصَب فيه الخيام يُستَقْبَل فيها جَرْحَى الحروب، ويُدرَّبون ويُعالجون في المسجد، وكان بعضُ المسلمين يجتمعون في المسجد، فيتمرَّنون على فنون الحرب والقتال.
    وهكذا نجد أنَّ المساجد في صدر الإسلام كانت تُؤدي من الخدمات ما تقوم به جهات عدَّة في عصرنا الحديث.
    لذلك كان أول عملٍ قام به النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- هو بناء المسجد.
    وأول مسجدٍ بناه النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- هو مسجد قُباء، حيث نزل عند بني عمرو بن عوف في قباء، وفي هذا المسجد يقول الله تعالى: ï´؟لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَï´¾ [التوبة: 108].
    لما نزلت الآيةُ بعث رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أهل قباء يسألهم: «مَا هَذَا الطُّهُورُ الَّذِي أَثْنَى اللهُ عَلَيْكُمْ فِيهِ؟»، ربنا أثنى عليكم في طهوركم، كيف تتطهرون حتى أنَّ الله أثنى عليكم؟
    فقالوا: يا رسول الله، ما خرج منا رجلٌ ولا امرأةٌ من الغائط إلا غسل فرجَه -أو قال: مقعدته. فقال: «هُوَ هَذَا».
    فطبعًا من الواجب على المسلم إذا قضى حاجته من بولٍ أو غائطٍ أن يستنجي، والاستنجاء يكون بالحجارة وأمثالها مما يُزِيل الأثر الباقي على موضع الخارج من بولٍ أو غائطٍ، حتى الورق الموجود الآن في الحمامات -الورق الصحي- أو غيره يجوز إزالة الأثر به، ولكن استعمال الماء أفضل؛ لأنَّه أبلغ في إزالة الأثر الباقي، ولذلك أثنى الله تعالى على أهل قباء في طهورهم، فقال: ï´؟فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَï´¾ [التوبة: 108].
    وقد ذهب جماعةٌ من السلف إلى أنَّ المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء.
    وقال بعضُهم: هو مسجد النبي -عليه الصلاة والسلام.
    ولا تعارضَ بين القولين، فأول مسجدٍ بُنِيَ هو مسجد قباء، وقد أُسس على التقوى، ولا شكَّ أنَّ مسجد المدينة أيضًا أُسس على التَّقوى، ولكن كان مسجد قباء أسبق من مسجد المدينة النبوية.
    فلمَّا أقام النبي -عليه الصلاة والسلام- بدار أبي أيُّوب بنى المسجدَ النبوي.
    وقد كانت أرضُ المسجد ليتامى، فعرض عليهم الرسول -عليه الصلاة والسلام- شراء الأرض منهم ليبني مسجده، وعمل المسلمون جميعًا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بناء هذا المسجد.
    ولا شكَّ أنَّ مسجد النبي -عليه الصلاة والسلام- أفضل من مسجد قباء، ومسجد النبي -عليه الصَّلاة والسلام- هو أحد المساجد الثلاثة التي قال فيها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ».
    وفي الصَّحيحين: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ».
    وفي مسجد النبي الرَّوضة الشريفة، التي هي من رياض الجنة، كما في الصَّحيحين أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ».
    وبعد بناء المسجد بُنِيَت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حُجَرٌ حول المسجد الشريف؛ لتكون مساكن له ولأهله، ولم تكن تلك الحُجَر كقصور الملوك والرُّؤساء والأمراء، فالحُجَر لم تكن قُصورًا، إنما كانت بيوتًا مُتواضعةً، فكانت كالمسجد، فالمسجد بُنِيَ بالطوب النَّيء، وهو طينٌ وليس حجارةً، فبُنِيَ بالطوب النَّيء وبعض الحجارة، وكان مُسَقَّفًا بالنخل والجَرِيد، وكذلك كانت بيوت النبي -صلى الله عليه وسلم.
    فهذا أول عملٍ قام به -عليه الصلاة والسلام- بعد استقراره في المدينة.
    العمل الثاني هو: المُؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:
    الأنصار: أهل المدينة، وهم في الأصل الأوس والخَزْرَج، فجمع الله شملَهم، ووحَّد صفَّهم بالإسلام، وصاروا اسمًا واحدًا: "أنصار الله ورسوله".
    والمهاجرون: هم الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا، وينصرون الله ورسوله.
    والأخوة الإيمانية -يا إخواني- لها دورٌ عظيمٌ في قوَّة المجتمع المسلم، وفي رهبة الأعداء منهم، وفي نصرهم على عدوهم، فطالما كان المسلمون مُتماسكين مُتآلفين مُتحابِّين، مثلهم كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام: «كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، فتكون شوكتهم قويَّةً، والعدو لا يُفكر أبدًا أن يهجم عليهم، وإذا فكَّر أذاقوه مرارة الهزيمة، فالاجتماع قوَّة، والأخوة الإيمانية نعمةٌ أنعم الله بها علينا: ï´؟وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًاï´¾ [آل عمران: 103]، ï´؟إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌï´¾ [الحجرات: 10].
    فالرسول -عليه الصلاة والسلام- لما استقرَّ بالمدينة ألهمه الله سبحانه أن يعمل عملًا في غاية الحُسن، حسن السياسة، وأصالة الرأي، وبُعْد النظر، فعقد بين المهاجرين والأنصار أخوة، بها يتعاونون ويترافقون ويتناصرون ويتوارثون.
    وقد اختلف العلماءُ في وقت هذه المُؤاخاة:
    فقيل: بعد الهجرة بخمسة أشهر.

    تعليق


    • #3
      رد: أهم الأعمال بعد الهجرة .. فقه السيرة

      وقيل: بتسعة أشهر.
      وقيل: والنبي يبني المسجد.
      وقيل: قبل بنائه.
      والراجح أنَّه كان بعد بناء المسجد.
      وكان ذلك جمعًا للشَّمْل، وتوثيقًا للعُرَى، وقطعًا لدسائس الأعداء، ولا سيَّما اليهود الذين يعيشون في المدينة.
      فكان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وعلي بن أبي طالب أخوين، وأبو بكر وخارجة بن زيد أخوين، وعمر وعُتْبَان بن مالك أخوين، وهكذا آخى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بين الصَّحابة من المهاجرين والأنصار.
      قال ابنُ سعد: آخى بين مائة: خمسين من المهاجرين، وخمسين من الأنصار.
      والله -سبحانه وتعالى- قد أقرَّ هذه المُؤاخاة وما جعل فيها رسولُ الله من التَّوارُث إلى حين: ï´؟وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًاï´¾ [الأحزاب: 6].
      فكانت هذه المُؤاخاة منقبةً عظيمةً من مناقب الأنصار، وقد ضرب الأنصارُ المثل الأعلى في الإيثار، فكان الرجلُ يأخذ بيد أخيه من المهاجرين ويقول له: هذا مالي نصفه لي ونصفه لك.
      ومَن كانت عنده زوجتان يقول: وعندي امرأتان، انظر أيّهما تُعجبك وأتنازل لك عنها؛ فتُطلَّق، وإذا انقضت عدتها تزوَّجتها.
      فضرب الأنصارُ المثل الأعلى في الإيثار، ولكن المهاجرين ضربوا المثل الأعلى أيضًا في الزهد والورع، فحين يقول لك أخوك: خذ من مالي. هذا شيءٌ طيبٌ منه، أنت أيضًا تكون أفضل ولا تأخذ، وهذا ما فعله المهاجرون، فالأنصار عرضوا على إخوانهم أن يُقاسِموهم أموالهم، والمهاجرون قالوا: لا.
      ففي الحديث قال الأنصارُ لرسول الله: اقسم بيننا وبين إخواننا النَّخِيل.
      قالوا: لا يا رسول الله، لا نُقسم أموالهم بيننا.
      قالوا: طيب، تكفونا المَؤُونَةَ. اشتغلوا في النَّخل وتكون مشاركةً ومُزارعةً، فالأرض أرضنا وأنتم تزرعونها ونقسم الثَّمر بيننا.
      قالوا: نعم. وبهذا نأخذها مقابل عملٍ.
      هكذا المسلم يا إخواني، فالمسلم لابُدَّ أن يعمل ويكسب، ولا يكن عالةً على غيره.
      وقد ضرب عبدُ الرحمن بن عوف المثل الأعلى في ذلك، فحين أخذه أخوه وذهب به، قال: هذا مالي، نصفه لك ونصفه لي، والزوجتان واحدة أُطلِّقها وتتزوجها بعد ذلك.
      قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، نحن لم نأتِ لنأخذ أموالكم ولا نساءكم، دُلَّني على السوق. أي قل متى سوقكم؟ وأين؟ واتركني.
      ودلَّه على السوق، وذهب عبد الرحمن بن عوف فنزل السوق، فرزقه الله وتزوج وعاش.
      فضرب الصحابةُ من الأنصار المثل الأعلى في الإيثار، والمهاجرون ضربوا المثل الأعلى في الزهد فيما في أيدي إخوانهم.
      وقد مدحهم الله -تبارك وتعالى- في قوله -عز وجل: ï´؟لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَï´¾ [الحشر: 8، 9].
      فالأخوة الإيمانية -يا إخواني- الآن عُرَاها مُقَطَّعة، والصِّلات ليست موجودةً بيننا، فالدنيا انفتحت علينا، فقطَّعت صِلاتنا، وأوقعت بيننا العداوةَ والبغضاءَ والشَّحناء والخُصومات، فالعداوة والبغضاء الآن موجودة بين الأشقاء، فضلًا عن عموم المسلمين.
      فيجب علينا أن نتذكر أنَّ من أهمِّ الأعمال وأعظمها التي قام بها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بعد الهجرة المُؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فيجب علينا أن نتذكر أننا إخوة، آخى الله بيننا: ï´؟إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌï´¾ [الحجرات: 10]، فيجب علينا أن نُحافظ على هذه الأُخوة، وأن يُؤدي كلُّ مسلمٍ لإخوانه المسلمين الحقَّ الذي جعله الإسلامُ للمسلم على أخيه، فحق المسلم على المسلم خمس: أن تُسلِّم عليه إذا لقيته، وإذا مرض تعوده، وإذا مات تتبع جنازته، وإذا استنصحك تنصح له، وإذا كان مُحتاجًا تقف بجواره.
      هذه هي الأخوة الإيمانية: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».
      كذلك من أهم الأعمال التي قام بها النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- بعد استقراره في المدينة: مُعاهدة اليهود:
      فلئن كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بإخائه بين المهاجرين والأنصار بلغ الغاية في الحكمة والتَّدبير والسياسة، فقد كان العملُ البارع حقًّا الذي يدلُّ على الحنكة السياسية والقدرة الفائقة على حلِّ المشاكل هو ما قام به النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- من مُوادعة اليهود ومُحالفتهم، فقد كتب بين المهاجرين والأنصار كتابًا وادع فيه اليهود وعاهدهم وأقرَّهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم.
      فالنبي -عليه الصلاة والسلام- دخل المدينة وفيها ثلاث طوائف من اليهود: بنو النَّضير، وبنو قَيْنُقَاع، وبنو قُرَيظَة.
      وكان اليهود يقرؤون في كتبهم أنَّ نبيَّ آخر الزمان سيُهاجر إلى يَثْرِب، فهاجروا إليها في انتظاره، وكما قلنا في الدرس السابق لما كان أهلُ المدينة -الأوس والخزرج- يُحاربون اليهود ويغلبونهم، كان اليهودُ يقولون للعرب: غدًا يظهر نبي آخر الزمان ونتبعه ونؤمن به ونُحاربكم معه.
      وسبحان الله! لما جاء لم يفعلوا، ووفَّق الله أهلَ المدينة لاتِّباعه، وكان ذلك السبب في بيعة العقبة -كما شرحنا سابقًا.
      فالنبي -عليه الصلاة والسلام- آخى بين الأنصار والمهاجرين، فقوَّى العلاقات، ووطَّد الصِّلات.
      وكان لابُدَّ من أن يأمن جانب اليهود، فكتب بينهم كتابًا عاهدهم فيه وأقرَّهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم شروطًا له، وشرط لهم أيضًا عليه شروطًا.
      وهذا هو نص الكتاب الذي فيه هذه المُعاهدة التي عاهد فيها الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- اليهود.
      «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،
      هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، إِنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ، الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ، وَهُمْ يَفْدُونَ عَانِيهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ، وَبَنُو عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ». ثم ذكر كلَّ بطنٍ من بطون الأنصار وأهل كلِّ دارٍ.
      وكان في هذا الكتاب: «وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَقَرَّ بِمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَآمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَنْصُرَ مُحْدِثًا -يعني يُحدِثُ حدثًا يستوجِب عليه العُقُوبةَ- وَلَا يُؤْوِيهِ، وَأَنَّهُ مَنْ نَصَرَهُ أَوْ آوَاهُ؛ فَإِنَّ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللهِ وَغَضَبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَإِنَّكُمْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ مَرَدَّهُ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَإِلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَّ الْيَهُودَ يَتَّفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ، وَأَنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ، وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ وَمَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُهْلِكُ إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ.
      وَأَنَّ لِيَهُودِ بَنِي النَّجَّارِ وبَنِي الْحَارِثِ، وَبَنِي ... -وسَمَّاهُم- مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَأَنَّ بِطَانَةَ يَهُودٍ كَأَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِ مُحَمَّدٍ، وَلَا يَنْحَجِرُ عَلَى ثَأْرٍ جُرِحَ، وَأَنَّهُ مَنْ فَتَكَ فَبِنَفْسِهِ، إِلَّا مَنْ ظُلِمَ، وَأَنَّ عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتَهُمْ، وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ نَفَقَتَهُمْ، وَأَنَّ بَيْنَهُمُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَأَنَّ بَيْنَهُمُ النُّصْحَ وَالنَّصِيحَةَ وَالْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَأْثَمِ امْرُؤٌ بِحَلِيفِهِ، وَأَنَّ النَّصْرَ لِلْمَظْلُومِ، وَأَنَّ يَثْرِبَ حَرَامٌ لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَأَنَّ الْجَارَ كَالنَّفْسِ غَيْرَ مُضَارٍّ وَلَا آثِمَ، وَأَنَّهُ لَا تُجَارُ حُرْمَةٌ إِلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا.
      وَأَنَّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوِ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ؛ فَإِنَّ مَرَدَّهُ إِلَى اللهِ وَإِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، وَأَنَّ اللهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَبَرِّهِ، وَأَنَّهُ لَا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا، وَأَنَّ بَيْنَهُمُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ دَهِمَ يَثْرِبَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى صُلْحٍ يُصَالِحُونَهُ وَيُلْبِسُونَهُ؛ فَإِنَّهُمْ يُصَالِحُونَهُ.
      وَأَنَّهُمْ إِذَا دَعُوا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا مَنْ حَارَبَ فِي الدِّينِ، عَلَى كُلِّ أُنَاسٍ حِصَّتُهُمْ مِنْ جَانِبِهِمْ الَّذِي قِبَلُهُمْ».
      هذه هي الوثيقة التي وضعها النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- منذ قُرابة أربعة عشر قرنًا، وهي وثيقةٌ جديرةٌ بالإعجاب حقًّا، وثَّق فيها ما بين المهاجرين والأنصار من إخاءٍ وحِلْفٍ، وقرَّر فيها حريَّة العقيدة لغير المسلمين، وحرية الرأي وحُرمة المدينة، وحُرمة الحياة، وحُرمة المال.
      وبذلك سبق -عليه الصلاة والسلام- إلى تقرير حقوق الإنسان منذ ذلك الزمن البعيد، فحقوق الإنسان في الإسلام، وقرَّر فيها أيضًا تحريم الجريمة والإثم والغدر والخديعة، وهي فتحٌ جديدٌ حقًّا في الحياة السياسية والمدنية في هذا العالم يومئذٍ، هذا العالم الذي كانت تغلب عليه روحُ الاستبداد، وتعبث فيه يدُ الظلم فسادًا، ولا تُراعى فيه الحقوق ولا الحُرمات.
      ومن مُقتضى هذه الوثيقة أصبحت المدينةُ حَرَمًا آمنًا، وأصبح كلٌّ من المسلمين واليهود في أمنٍ من جانب الآخر، وأصبح اليهود مُلزَمين بمعاونة المسلمين إذا ما دَهَم المدينة عدوٌّ، وبعدم مساعدة المشركين ومناصرتهم ضدهم.
      ولقد وفَّى النبيُّ والمسلمون بكلِّ الالتزامات التي أوجبتها هذه الوثيقة عليهم، وفي المقابل لم يكن من اليهود وفاء، بل عادوا إلى طبيعتهم من الدَّسِّ والوقيعة والخداع، فحاولوا الوقيعة بين الأوس والخزرج، وهمُّوا بقتل النبي، واستباحوا حُرمات المسلمين، فكانت عاقبة أمرهم ذُلًّا وهوانًا، وإخراجًا من المدينة وقتلًا لبعضهم -كما سيأتي في السيرة إن شاء الله تبارك وتعالى.
      هذه أهم الأعمال التي قام بها النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- بعد استقراره في المدينة.
      وبدأ الوحي ينزل، وبدأت التَّشريعات تنزل من ربِّ العالمين -سبحانه وتعالى- لأنَّه لم يكن في مكة غير التَّوحيد والعقيدة، وبعد عشر سنين أُمِرُوا بالصلاة في الإسراء والمعراج -كما شرحنا سابقًا- فلم يكن في مكة لا حلالَ ولا حرامَ، ولا تكاليف ولا شيء، ولكن لما استقرُّوا وأصبحت لهم دولة، وأمِنُوا على أنفسهم نزل الحلال والحرام، كما تقول عائشةُ -رضي الله عنها: "كان أول ما نزل من القرآن آيات من المُفَصَّل -والمُفَصَّل هو حزب يبدأ من أول "ق" وينتهي بسورة "الناس"- فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثابَ الناسُ إلى الإسلام نزل الحلالُ والحرامُ، ولو نزل أول ما نزل: لا تزنوا. لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا. ولو نزل أول ما نزل: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا".
      فظلَّ -عليه الصلاة والسلام- ثلاثة عشرة سنةً في مكة يُؤسس العقيدةَ -يا إخواني- فهي الأساس الأول، فأنت عندما تبني بيتًا تُؤسس له، وكلَّما كنت ناويًا أن ترفع البناء عاليًا فلابُدَّ أن يكون الأساسُ قويًّا، فقوة البنيان من قوة أساسه.
      فالرسول -عليه الصلاة والسلام- في مكة أسس العقيدة في نفوس أصحابه.
      انظر من أثر تأسيس العقيدة! هانت عليهم أموالَهم وديارَهم وأوطانَهم، وتركوها في سبيل عقيدتهم، فلمَّا استقروا في المدينة وصارت لهم دولةٌ نزلت الشَّرائع.
      فأول ما شُرِعَ: الأذان. وهو الإعلام بالصلاة، فالصلاة شُرِعَت في مكة قبل الهجرة بثلاث سنوات ليلة المعراج، لكن لم يكونوا في مكَّة يُؤذِّنون ولا يُصلون جماعةً؛ لأنَّ قريشًا كانت موجودةً وتمنعهم من ذلك.
      لقد فرض الله -سبحانه وتعالى- الصَّلوات الخمس على الأمَّة قبل الهجرة ليلة الإسراء والمعراج، فكانوا يُصلون ولا يُؤذِّنون؛ لأنَّ الظروف المحيطة بهم في مكة ما كانت تسمح لهم بالدَّعوة إلى الصلاة والإعلان بها، فلمَّا اطمأنَّ الرسولُ وأصحابه في المدينة، واستحكم أمر الإسلام، وبدأ تشريع الأحكام، وأصبحوا على حالٍ تُؤهلهم لإظهار شعائر الإسلام -فكَّر النبيُّ والمسلمون في وسيلةٍ للإعلان عن الصَّلاة.
      نحن الآن أصبحنا آمنين، فأصبح لنا مكان، ولنا مسجد، فكيف نُعَرِّفُ النَّاسَ أنَّه حان وقت الصبح، وحان وقت الظهر، وحان وقت العصر؟ كيف نُعرِّفهم؟ روى البخاريُّ في صحيحه بسنده عن ابن عمر قال: "كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون، فيتحيَّنون الصلاةَ، ليس يُنادى لها".
      كانوا مثلًا يقولون: دخل وقت الظهر. فيقوموا يُصلون. وبعد قليلٍ يقولون: دخل وقت العصر. فيقوموا يُصلون، وهكذا.
      فتكلَّموا يومًا في ذلك، قالوا: نريد أن نعمل شيئًا نُنبِّه به الناسَ الذين لم يأتوا إلى أنَّ الصلاة قد حان وقتها.
      فقال بعضُهم: اتَّخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النَّصارى. ندق الجرس والناس تعرف دخول وقت الظهر، ودخول وقت العصر، وهكذا.
      وقال بعضُهم: اتَّخذوا بُوقًا مثل بوق اليهود. مزمار تنفخون فيه.
      فقال عمر: أولا تبعثون رجلًا يُنادي بالصلاة؟
      فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: «قُمْ يَا بِلَالُ فَنَادِ لِلصَّلَاةِ».
      وكان هذا النِّداء بلفظ: الصلاة جامعة.
      فأول نداءٍ كان بلفظ: الصلاة جامعة.
      هذا أول صفة أذانٍ: "الصلاة جامعة"، فيأتون للصلاة.
      فبينما هم على ذلك رأى عبدُ الله بن زيد بن عبد ربِّه في منامه مَن يُلقِّنه الأذان، فأتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فقال: «إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٍّ». وأقرَّه على ذلك.
      وقال له -قال لعبد الله بن زيد بن عبد ربِّه الذي رأى الأذان في المنام: «أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ؛ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ»، فبلال صوته جميلٌ، فقف بجانبه ولقِّنه الأذان الذي رأيته في المنام حتى يُؤذن به إلى أن يحفظه، وبعد ذلك بلال يُؤذن؛ لأنَّه أندى صوتًا.
      إذن حين نتَّخذ مُؤذِّنًا نتخذ مَن كان صوته نَدِيًّا، فالمؤذن يكون صوته جميلٌ.
      فلمَّا سمع الفاروقُ عمر -رضي الله عنه- الأذان -بلال يؤذن بالأذان- جاء يجُرُّ رداءه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: يا نبي الله، لقد رأيتُ مثلَ الذي رأى. فقال رسولُ الله: «الْحَمْدُ للهِ، رُؤْيَا حَقٍّ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى».
      وكان بلال بن رَباح هو مُؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع وجود مُساعدين له في بعض الأحيان.
      والأذان شعيرةٌ من شعائر الإسلام، فلا يجوز تركه، حتى أنَّه جاء في الحديث: أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- كان إذا أراد أن يُغِيرَ على قومٍ انتظر حتى يسمع الأذان، فإذا سمع أذانًا فهم مسلمون، وإذا لم يسمع الأذانَ فهم غير مسلمين.
      وفي الحديث عنه -عليه الصلاة والسلام- أنَّه: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ أَوْ بَدْوٍ لَا يُؤَذِّنُونَ، وَلَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ؛ إِلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ».
      فالأذان مطلوبٌ حتى يُستحب للرجل إذا كان في البادية وحده وأراد الصلاة أن يؤذن، ويرفع صوته بالأذان، فقد جاء في الحديث: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُؤَذِّنُ فَيَسْمَعَ صَوْتَهُ إِنْسٌ وَلَا جِنٌّ وَلَا حَجَرٌ وَلَا شَجَرٌ إِلَّا وَشَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
      وقد قال -عليه الصلاة والسلام- في فضل المُؤذنين: «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
      فهذا أول التَّشريعات، مشروعية الأذان للإعلام بدخول وقت الصلاة؛ حتى يجتمع المُصلون ويُصلون في جماعةٍ.
      ومن التَّشريعات التي شُرِعت في المدينة بعد ذلك: الجهاد في سبيل الله لقتال أعداء الله؛ لتكون كلمةُ الله هي العُليا.
      فنحن نعلم من خلال السيرة في العهد المكي أنَّ المسلمين كانوا مُستَضْعَفِين في مكة، وقريش تسلَّطوا عليهم بالاضطهاد والتَّعذيب، فقُتِلَ منهم مَن قُتِلَ تحت وطأة التَّعذيب، وكلَّما اشتكوا للرسول يقول: «اصْبِرُوا».
      وأكثر ربُّ العالمين -سبحانه وتعالى- من الأمر بالصبر في القرآن المكي، اصبر، اصبر، اصبروا، كفوا أيديكم، أقيموا الصلاة، آتوا الزكاة، اتربوا أولًا، أسِّسوا أنفسكم أولًا.
      فلمَّا هاجروا إلى المدينة واستقرُّوا فيها أُذِن لهم في الدفاع عن أنفسهم، فنزل قول الله تعالى: ï´؟أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواï´¾ [الحج: 39].
      فالكفَّار لم يتركوا النبيَّ وأصحابه بعد الهجرة، لا، لقد بعثوا إليهم رسالات إنذار، لا يغُرَّنَّكم أنَّكم أفلتُّمونا إلى يثرب، سنأتيكم، فنستبيح بيضَتكم، ونستأصلكم، وكذا، وكذا.
      فأذن الله للمسلمين في الدِّفاع عن أنفسهم: ï´؟أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌï´¾ [الحج: 39].
      وإلى هنا انتهى وقتُ الدرس؛ فنكتفي بهذا ونُواصل الحديثَ -بإذن الله- في الدروس القادمة، سائلين الله -سبحانه وتعالى- أن ينفعنا بما قلنا وبما سمعنا، وأن يرزقنا التَّأسي بالنبي صاحب هذه السيرة، فهذا هو المقصود -يا إخواني- من دراسة السيرة النبوية العَطِرة، فالمقصد هو أن نتأسَّى برسول الله في الصَّغيرة والكبيرة، في الخاصَّة والعامَّة، كما قال تعالى: ï´؟لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًاï´¾ [الأحزاب: 21].
      هذا والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

      تعليق


      • #4
        رد: أهم الأعمال بعد الهجرة .. فقه السيرة

        السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

        جزاكم الله خيرا
        أسأل الله أن يبارك فيكم ويجعله في موازين اعمالكم
        اللهم آمين


        تعليق

        يعمل...
        X