إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

هجرة النبي صلى الله عليه وسلم .. فقه السيرة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • هجرة النبي صلى الله عليه وسلم .. فقه السيرة

    إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، اللَّهُمَّ صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
    أمَّا بعد، فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم- وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
    رأينا فيما سبق من دروس السيرة النبوية العَطِرة إصرار قريش على عدم اتِّباع النبي -صلى الله عليه وسلم- وكيف أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لمَّا رأى منهم هذا الإصرار والاستكبار عن اتِّباعه أراد أن يبحث عن بيئةٍ أخرى يُبَلِّغ فيها دعوة ربِّه، فخرج إلى الطَّائف، فلم يكن أهلُ الطَّائف أحسن حالًا من أهل مكَّة، فأساؤوا استقباله -صلى الله عليه وسلم- وآذوه وأغروا به صبيانهم وسُفهاءهم حتى رموه بالحجارة -كما وضَّحنا ذلك سابقًا.
    فلم يكن بدٌّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد استحكمت العداوةُ بينه وبين قريش، وإصرارهم على خلافه، وإيباء أهل الطَّائف نصرته والدُّخول في دعوته وإيذاؤهم له، لم يكن بدٌّ من أن يُيَمِّم وجهَه إلى قبائل العرب الأخرى في مواسم الحج وأسواق التِّجارة، فخرج -عليه الصَّلاة والسَّلام- إلى بعض قبائل العرب وعرض عليهم نفسَه ودعوته، وجعل يقول: «قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا»، ومع ذلك أبت القبائلُ التي خرج إليها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن تُجيبه إلى ما دعاهم إليه، وأن يتبعوه على ما جاء به من عند الله -سبحانه وتعالى.
    ومع ذلك لم ييأس -صلى الله عليه وسلم- واستمر يغشى القبائلَ والبُطون في المواسم والمجامع والمنازل، ويكلم أشراف كلِّ قومٍ، ولا يسألهم مع ذلك شيئًا إلا أن يأووه ويمنعونه.
    وكان يقول لهم: «لَا أُكْرِهُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَلَى شَيْءٍ، مَنْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِالَّذِي أَدْعُوهُ إِلَيْهِ فَذَلِكَ، وَمَنْ كَرِهَ لَمْ أُكْرِهْهُ، وَإِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا يُرَادُ لِي مِنَ الْقَتْلِ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي، وَحَتَّى يَقْضِيَ اللهُ لِي وَلِمَنْ صَحِبَنِي بِمَا شَاءَ»، فلم يقبل أحدٌ منهم، وما يأتي أحدًا من تلك القبائل إلا قالوا: قوم الرجل أعلم به، أترون أنَّ رجلًا يُصلحنا وقد أفسد قومَه ولفظوه؟! إذا كان قومه وأهله رفضوه وآذوه؛ فنحن كيف نُجيبه ونتبعه؟!
    وقد شاء الله تعالى أن يدَّخِر فضل الاتِّباع والنُّصرة لأهل المدينة الذين صاروا الأنصار، ولجأ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى وسيلةٍ أخرى عسى أن يكون من ورائها خيرٌ للدَّعوة، فكان لا يسمع بقادمٍ يأتي مكة من العرب له اسمٌ وشرفٌ إلا تصدَّى له ودعاه إلى الله تعالى، وعرض عليه ما جاء به من الهُدى والحقِّ.
    فقدم سُويد بن الصَّامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجًّا أو مُعتَمِرًا، وكان قوم سُويد يُسمُّونه فيهم "الكامل"؛ لجلده وشِعْره وشرفه ونسبه، فتصدَّى له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حين سمع به، فدعاه إلى الله والإسلام.
    فقال له سُويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي.
    فقال له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: «وَمَا الَّذِي مَعَكَ؟».
    قال: مجلة لقمان. أي صحيفة لقمان، تُطلَق عليها الحكمة، حكمة لقمان.
    فقال له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: «اعْرِضْهَا عَلَيَّ».
    فعرضها عليه، فقال: «إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ حَسَنٌ، وَالَّذِي مَعِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا».
    أنت معك كلام لقمان، ولقمان هذا رجلٌ صالحٌ، وليس نبيًّا، فكلامه ليس بكلام نبيٍّ، وليس من عند الله، ولكنَّه كلامٌ حُلْوٌ؛ لأنَّ لقمان آتاه الله الحكمة، فكلامه كلام حسنٌ وجميلٌ.
    يقول النبيُّ –صلى الله عليه وسلم: «وَلَكِنَّ الَّذِي مَعِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، الَّذِي مَعِي قُرْآنٌ أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيَّ، هُوَ هُدًى وَنُورٌ»، فتلى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على سُويد القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إنَّ هذا القول حسن.
    فلم يُسلم ولا ابتعد عن الإسلام، ثم انصرف عنه، وقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتله الخزرج، وقد كان رجالٌ من قومه يقولون: إنَّا لنراه قُتِل وهو مسلمٌ. وكان قد قُتِل قبل يوم بُعَاث.
    ثم قدم أبو الحَيْسَر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأَشْهَل فيهم إياس بن مُعاذ يلتمسون الحِلْفَ من قريش على قومهم من الخزرج، فسمع بهم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فأتاهم فجلس إليهم فقال: «هَلْ لَكُمْ فِي خَيْرٍ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ؟»، أنتم جئتم تستعينون بقريش على قومكم ينصرونكم ويُدافِعون عنكم، وهناك شيءٌ أفضل من هذا وخيرٌ من ذلك.
    قالوا: وما هو؟
    قال: «أَنَا رَسُولُ اللهِ إِلَى الْعِبَادِ، أَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيَّ الْكِتَابَ»، ثم ذكر لهم الإسلامَ، وتلا عليهم القرآن.
    فقال إياس بن معاذ -وكان غلامًا حَدَثًا- هذا والله خيرٌ مما جِئتم له.
    فأخذ أبو الحَيْسَر كفًّا من ترابٍ وضربه بوجهه وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا. فسكت الغلامُ؛ لأنَّه صغير.
    وقام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عنهم، وانصرفوا هم إلى المدينة.
    وكانت وقعة بُعَاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك -مات- وقد روى مَن حضره من قومه أنَّه ما زال وهو يموت يُهَلِّل، ويُكَبِّر، ويحمد الله، ويُسبِّح بحمده حتى مات، فما كانوا يشكُّون أنَّه مات مسلمًا، لقد استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما سمع.
    ويوم بُعَاث هذا موقعةٌ عظيمةٌ وقعت بين الأوس والخَزْرَج قبل الإسلام، وقُتِل فيها خلقٌ كثيرٌ من أشرافهم وكُبرائهم، ولم يبقَ فيهم من شيوخهم إلا القليل، وقد كان النَّصر فيها للأوس على الخزرج.
    وقد شاء الله -سبحانه وتعالى- أن تكون هذه الواقعةُ العظيمة قُبَيل مَقْدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة؛ لتتهيَّأ النفوسُ لقبول الإسلام والإيمان بالنبي -عليه الصلاة والسلام- وليظهر فضلُ الإسلام على الأنصار، وهما الأوس والخَزْرَج، فقد جمعهم بعد الفُرقة، وغرس في قلوبهم المحبَّة بعد العداوة، والوِئَام بعد الشِّقاق، ولذلك قال اللهُ لهم مُمتنًّا عليهم بذلك: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: 103].
    ولما أراد اللهُ -سبحانه وتعالى- إظهار دينه، وإعزاز نبيه، وإنجاز وعده له؛ خرج -صلى الله عليه وسلم- في موسم الحج فعرض نفسَه على قبائل العرب كما كان يصنع في كلِّ موسمٍ، فبينما هو عند العقبة ساق الله له نفرًا من الخزرج أراد بهم خيرًا، فكانوا طلائع هذا النور الذي أبى الله إلا أن يكون من المدينة.
    فلمَّا لقيهم قال لهم: «مَنْ أَنْتُمْ؟».
    قالوا: نفرٌ من الخزرج.
    قال: «أَمِنْ مَوَالِي الْيَهُودِ؟» أي من حُلفائهم؟
    قالوا: نعم.
    قال: «أَفَلَا تَجْلِسُونَ إِلَيَّ أُكَلِّمُكُمْ؟!»، أفلا تجلسون معي أتكلم معكم؟!
    قالوا: بلى.
    فجلسوا إليه، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلامَ، وتلا عليهم القرآنَ.
    وكان من أسباب مُسارعتهم إلى قبول دعوة الإسلام: أنَّ اليهود كانوا يُساكنوهم المدينة، وكان اليهودُ أهلَ كتابٍ وعلمٍ، وكان الخَزْرَج أهلَ شركٍ ووثنيَّةٍ، وكانت تقع بين اليهود والأوس والخزرج وقائع وحروب، وكانت الغلبةُ والنصر للعرب -للأوس والخزرج- فكان إذا وقع شيءٌ من ذلك قالت اليهود للعرب: إنَّ مبعُوثًا الآن قد أظلَّ زمانه، سنتبعه ونُقتلكم معه قتلَ عادٍ وإِرَم.
    قال الله تعالى عن اليهود: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 89].
    فاليهود كانوا موجودين في المدينة مع الأوس والخزرج، فكان يحصل بينهم حروب، وكان العربُ ينتصرون على اليهود، فكان اليهودُ حين يُغلَبُوا يقولوا للعرب: طيب، الآن قد اقترب ظهورُ نبي آخر الزمان، ونحن سنُؤمن به ونتبعه ونُقاتلكم معه وننتقم ونثأر.
    فلمَّا كلَّم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أولئك النَّفر ودعاهم إلى الله؛ تهامَسُوا فيما بينهم، وقال بعضُهم لبعضٍ: والله إنَّه النبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقونكم إليه. ألم يقل اليهود: اقترب ظهورُ آخر الأنبياء، وأنَّهم سيتبعونه؟ هذا هو النبي، بادِرُوا أنتم إلى اتِّباعه واسبقوهم إلى الإيمان به.
    فلا عجب أن أسرعوا إلى إجابته وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: إنَّا تركنا قومنا، ولا قومَ بينهم من العداوة والشَّر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم بك،وسنَقْدُم عليهم وندعوهم إلى الإسلام، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجلَ أعزّ منك.
    ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم بعد أن آمنوا وأسلموا، وكانوا ستة نفر، هم: أسعد بن زُرَارَة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وقُطبة بن عامر، وعُقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله، وقال بعضُهم: كانوا ثمانيةً.
    فلمَّا قدموا المدينةَ ذكروا لقومهم أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعوهم إلى الإسلام؛ فانتشر الإسلامُ في دُورِ الأنصار، فلم تبقَ دارٌ إلا ويُذكَر فيها رسولُ الله والإسلام.
    فلمَّا كان العام الثاني جاء اثنا عشر رجلًا من المدينة، فأسلموا وبايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان منهم خمسة من الستة الذين أسلموا أولًا، وزاد عليهم سبعة، هم: معاذ بن الحارث، وذَكْوَان بن عبد قيس، وعُبادة بن الصَّامت، ويزيد بن ثَعْلَبة، والعباس بن عُبادة، وأبو الهيثم مالك بن التَّيهَان، وعُوَيم بن ساعدة؛ فبايعوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام.
    وقد اختلف أهلُ السِّيَر في البيعة التي تمَّت علامَ كانت -بيعة العقبة الأولى؟
    فقالوا: بايعوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- على ألا يُشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادَهم، ولا يأتوا ببُهْتَانٍ يفترونه بين أيديهم وأرجُلهم، ولا يعصوا النبيَّ في معروفٍ.
    وقال بعضُهم: كانت البيعةُ على السَّمع والطَّاعة في النَّشاط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وعلى أن نقول الحقَّ ولا نخاف في الله لومةَ لائمٍ، وعلى أن ننصر رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا.
    فهذه هي البيعة التي بايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هؤلاء النَّفر الاثني عشر عليها، وسُمِّيت "بيعة العقبة الأولى".
    فرجعوا إلى المدينة، ثم كتبوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ابعث إلينا مَن يُقرئنا القرآن. ابعث لنا واحدًا من أصحابك يُعلِّمنا القرآن.
    وصادف هذا الطلب رغبةً في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- فأرسل إليهم الصَّحابي الجليل مُصْعَب بن عُمَير، وأمره أن يُقرئهم القرآن، ويُعلِّمهم الإسلام، ويُفقههم في الدين، وأن يؤمَّهم في الصَّلاة؛ ففعل ذلك مُصْعَب -رضي الله عنه- وبذل جهده في نشر الإسلام في المدينة، ونجح -رضي الله عنه- في إسلام الكافرين من أهلها، وكان من أجلِّ مَن أسلم على يد مُصْعَب: سعد بن مُعاذ، وأُسَيد بن حُضَير، وبإسلامهما أسلم الكثيرون من أهل المدينة.
    ثم إنَّ مُصعبًا -رضي الله عنه- رجع إلى مكة بعد أن دعا إلى الله بإخلاصٍ وعزيمةٍ صادقةٍ، وخرج مَن خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حُجَّاج قومهم من أهل الشِّرك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- العقبة من أوسط أيام التَّشريق -أيام التَّشريق هي الأيام الثلاثة بعد يوم عيد الأضحى، وهو اليوم العاشر من ذي الحجَّة، فأيام التَّشريق هي: يوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر- فاتَّفقوا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن يلقوه في أوسط أيام التَّشريق، وذلك حين أراد الله بهم ما أراد من كرامةٍ ونصر نبيه، وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشِّرك وذويه.
    وكان فيهم كعب بن مالك والبراء بن مَعْرُور، وهو سيد من ساداتهم، وكبير من كُبرائهم.
    قال كعب: فلمَّا فرغنا من الحجِّ وكانت اللَّيلة التي واعدنا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- لها، ومعنا عبدُ الله بن عمرو بن حرام -والد جابر بن عبد الله- سيد من ساداتنا، وشريفٌ من أشرافنا أخذناه معنا، وكنا نكتم مَن معنا من المشركين أمرنا. أي لم يقولوا لماذا جاؤوا؟ ولا أنَّهم سيُقابلون الرسول –صلى الله عليه وسلم- فأسرُّوا الأمر عنهم.
    قال: فكلَّمناه وقلنا له: يا أبا جابر، إنَّك سيدٌ من ساداتنا، وشريفٌ من أشرافنا، وإنَّا نرغب بك عمَّا أنت فيه أن تكون حطبًا للنار غدًا. ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إيانا العقبة، فأسلم وشهد معنا العقبة، وكان نقيبًا.
    قال كعب: فنمنا تلك اللَّيلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلثُ اللَّيل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نتسلل تسلُّلًا -أي خرجوا في الخفاء حتى لا يشعر بهم أحدٌ- حتى اجتمعنا في الشِّعْب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلًا، ومعنا امرأتان.
    قال كعب: فاجتمعنا في الشِّعْب ننتظر رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذٍ على دين قومه.
    فالعباس عم النبي جاء معه يحضر بيعة العقبة الثانية ولم يكن أسلم، إلا أنَّه أحبَّ أن يحضر أمر ابن أخيه ويستوثِق له.
    فلمَّا جلس كان أول مُتكلِّمٌ العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج -وكانت العربُ إنَّما يُسمُّون هذا الحي من الأنصار الخزرجَ لخزرجها وأوسها- إنَّ محمدًا منَّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزٍّ من قومه ومَنَعَةٍ في بلده، وإنَّه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللُّحُوق بكم، فإن كنتم ترون أنَّكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه؛ فأنتم وما تحمَّلتم. وإن كنتم ترون أنَّكم مُسْلِمُوه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنَّه في عزةٍ ومَنَعَةٍ من قومه وبلده.
    فقالوا: قد سمعنا يا رسول الله، فخُذْ لنفسك ولربِّك ما أحببت.
    فالعباس بن عبد المطلب عم النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- حضر بيعة العقبة الثانية حتى يطمئنَّ على ابن أخيه، وإن كان لم يتبعه ولم يُسلِم به بعد، لكنَّه يريد أن يستوثِق أنَّ أهل المدينة سيكونوا أوفياء لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- وسينصرونه ويحمُونه كما يحمُون أبناءهم ونساءهم.
    قالوا: سمعنا كلامك يا عباس، نحن وافُون بإذن الله، تكلَّم يا رسول الله.
    فتكلم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فتلا القرآن، ودعا إلى الله ورغَّب في الإسلام، ثم قال: «أُبَايعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ».
    فأخذ البراء بن مَعْرُور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحقِّ نبيًّا، لنمنعنَّك مما نمنع منه أُزُرَنا -أي نساءنا- فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل السِّلاح، ورثناها كابرًا عن كابرٍ.
    وكانت وصاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم أن يُوجِزُوا في القول، فقد روى البيهقيُّ أنَّه قال: «لِيَتَكَلَّمْ مُتَكَلِّمُكُمْ وَلَا يُطِلِ الْخُطْبَةَ؛ فَإِنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَيْنًا، وَإِنْ يَعْلَمُوا بِكُمْ يَفْضَحُوكُمْ»، قال لهم: ليتكلم كلُّ واحدٍ بما يُريد لكن بسرعةٍ؛ مخافة أن ينتشر الخبرُ في المشركين، فيأتوكم فيُقاتلوكم أو يمنعوكم من الرجوع، أو كذا، أو كذا، مما تفعله قريش.
    فتكلم بعضُهم وبايعوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فلمَّا بايعوه قال -عليه الصَّلاة والسَّلام: «أَخْرِجُوا مِنْكُمُ اثْنَي عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ كُفَلَاءَ عَلَى قَوْمِهِمْ بِمَا فِيهِمْ»، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا، تسعة من الخَزْرَج، وثلاثة من الأوس.
    ثم قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- للنُّقَباء: «أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كُفَلَاءُ، كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي» أي المُهاجرين.
    قالوا: نعم.
    فكان هذا إلزامًا من الرسول –صلى الله عليه وسلم- لهم، والتزامًا منهم له.
    ثم أذن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لهم في الانصراف بعدما تمَّت البيعةُ.
    وفي الصَّباح غدت جُلَّةُ قريش على الأنصار بعدما سمعوا نبأ البيعة، حتى جاؤوا إليهم في منازلهم فقالوا: يا معشر الخَزْرَج، إنَّه قد بلغنا أنَّكم جئتم إلى صاحبنا تستخرجوه من بين أظهُرنا، وتُبايعونه على حربنا، وإنَّه والله ما من حيٍّ من العرب أبغض إلينا أن تَنْشِب الحربُ بيننا وبينهم منكم.
    أي أنتم جئتم لتأخذوا صاحبنا من بيننا، تنصروه علينا وتُحاربوننا به، نحن والله لا نكره أن نُحارب أحدًا غيركم، فما نُحب أن نُحاربكم، لكن بفعلكم هذا أنتم تستعدوننا وتدعوننا إلى حربكم.
    فانبعث مَن هناك من المشركين يحلفون بالله ما كان من هذا شيء، وما علمناه. وصدقوا لأنَّهم لم يعلموا؛ لأنَّ الذين بايعوا كتموا الخبر عن عامَّة القوم، وأمَّا المسلمون فصار بعضُهم ينظر إلى بعضٍ ولا يتكلم.
    ثم نفر الناس من مِنًى، وتحسس المشركون الخبر فوجوده صدقًا.
    فلمَّا رجع الأنصارُ الذين بايعوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة الثانية إلى المدينة أظهروا الإسلامَ بها، وكان في قومهم بقايا من شيوخٍ لهم على دينهم من الشِّرك فدعوهم إلى الإسلام فأسلموا.
    ثم لمَّا انتشر الإسلامُ في المدينة آلم المشركين وأقضَّ مضاجعَهم انتشار الإسلام في المدينة؛ فزادوا في إيذاء المسلمين ونالوا منهم غاية النَّيل، وضيَّقوا عليهم السُّبُل والمسالك، فلم يكن بدٌّ لهؤلاء الصَّحابة المُستضعفين من الهجرة إلى المدينة؛ لأنَّه أصبحت بالمدينة بيوت مُسلمة ورجال مُسلمون، فأذن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه في الهجرة إلى المدينة، وقد جاؤوا يشكون إليه ما يجدونه من الأذى والعَنَت فكان يُصَبِّرهم، ثم إنَّه -عليه الصَّلاة والسَّلام- رأى رُؤيا في المنام أنَّهم يُهاجرون إلى المدينة، فأذن -عليه الصَّلاة والسَّلام- لأصحابه في الهجرة إليها.
    فبدؤوا يُهاجرون، ولكن قريشًا لم تتركهم، فوقفت قريش في طريق هجرة المُستضعفين من المؤمنين، واستخدموا أساليب كثيرةً في منعهم من الهجرة، فكانت المرأةُ تخرج بولدها فيأخذون منها ولدَها، وكان الرجلُ يخرج بماله فيأخذون منه ماله، وربما منعوا بعضَهم من الهجرة، وآذوهم إيذاءًا شديدًا حتى انطلق منهم مَن انطلق بفضل الله -عز وجل- ووصل إلى المدينة.
    وبقيَ النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- في مكة وليس معه من أصحابه إلا مَن عجز عن الهجرة إلى المدينة وأبو بكر وعلي -رضي الله عنهما- لأنَّهما قد تخلَّفا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من أجله.
    وكان الصديقُ -رضي الله عنه- إذا همَّ بالهجرة إلى المدينة يقول له النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام: «لَا تَعْجَلْ؛ لَعَلَّ اللهَ يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا»، فيفهم أبو بكر أنَّ النبي –صلى الله عليه وسلم- يعني نفسه.
    فكان كلمَّا أراد الهجرة يقول له: انتظر، لعل الله يجعل لك صاحبًا يُهاجِر معك. فيفهم أبو بكر أنَّ النبي أراد نفسه.

    التعديل الأخير تم بواسطة لؤلؤة باسلامى 2; الساعة 15-10-2014, 12:13 AM.

  • #2
    رد: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم .. فقه السيرة

    ففي صحيح البخاري في سياق حديث الهجرة الطَّويل: "وتجهَّز أبو بكر قِبَل المدينة، فقال له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: «عَلَى رِسْلِكَ؛ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي»، فقال: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟" أي يا رسول الله، أنت ترجو أن يأذن الله لك بالهجرة؟
    فقال: «نَعَمْ»، فحبس أبو بكر نفسَه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليصحبه في الهجرة، وعلف راحلتين كانتا عنده أربعة أشهر.
    فكانت عنده راحلتان -جملين- يركب واحدةً، ويركب الرسولُ الأخرى، فأخذ يعلفهما ويُسمِّنهما حتى تقويا على السفر، وتتحملا عناء السفر من مكة إلى المدينة؛ استعدادًا للهجرة.
    فلمَّا رأت قريش أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أصبح له أتباعٌ كثيرون، وأنصارٌ من أهل المدينة يفدُونه بأنفسهم وأهليهم وأولادهم، وأنَّ أصحابه من المُهاجرين قد أمسوا بدار أمانٍ وعزٍّ ومَنَعَةٍ بعد أن هاجروا إليها وتجمَّعوا فيها؛ خافت قريش أن يخرج رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه من المُهاجرين والأنصار، وحينئذٍ تكون الطَّامةُ؛ لأنَّه لو هاجر إلى المدينة صارت له دولةٌ، وصارت له قُوَّة؛ فيُحاربهم ويقضي عليهم، فاجتمع أشرافُهم ورُؤساؤهم في دار النَّدوة يتشاورون في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف نصنع معه؟ كيف نتصرف معه؟
    فقال قائلُهم: احبسوه. فقالوا: لو حبسناه سيأتي قومُه ويكسروا باب السّجن ويُخرجوه.
    قال: أخرجوه من البلد. قالوا: كيف نُخرجه من البلد والرجل لسانه حلو، سيكلم الناسَ وسيسمعون كلامَه ويتبعونه ويكثر أنصاره؟
    قال قائلُهم: اقتلوه.
    وقد ذكرت بعضُ الكتب أنَّ الذي أشار بالقتل الشَّيطان، فالشَّيطان تصوَّر في صورة رجلٍ شيخٍ من العرب، ودخل عليهم دار النَّدوة واجتمع معهم وسمع كلامهم.
    فلمَّا قال قائلُهم: اقتلوه. قالوا: نِعْم الرأي.
    فاتَّفقوا على أن يجمعوا من كلِّ قبيلةٍ فتًى شابًّا جَلْدًا قويًّا، حتى يجمعوا أربعين شابًّا، وكلّ واحدٍ يأخذ سيفًا، ويبيتون في ليلةٍ أمام بيت محمدٍ، فإذا خرج يُصلي الفجر ضربوه ضربة رجلٍ واحدٍ؛ فيتفرَّق دمُه في القبائل، فلا يقدر قومُه على محاربة قبائل العرب كلّها، فيرضوا بالدِّية ويرتاحوا.
    وفي ذلك يقول الله -تبارك وتعالى: ï´؟وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيمْكُرُونَ وَيمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَï´¾ [الأنفال: 30].
    فأذن الله -سبحانه وتعالى- لنبيه –صلى الله عليه وسلم- في الهجرة في اللَّيلة التي اتَّفقت فيها قريش على أن يبيت أمام الدَّار أربعون شابًّا ليقتلوه.
    وكان من عادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأتي بيتَ أبي بكر كلَّ يومٍ مرتين: أول النَّهار، وآخر النَّهار، فكان يزور أبا بكر مرتين في اليوم، مرة في الصباح وأخرى في آخر النهار.
    قالت عائشة -رضي الله عنها: "فبينما نحن يومًا جلوس في بيت أبي بكر في نَحْر الظَّهيرة" في يومٍ من الأيام، تقول: "قال قائلٌ لأبي بكر: هذا رسول الله مُتَقَنِّعًا -أي مُغَطِّيًا رأسَه- في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه السَّاعة إلا أمرٌ". فما دام أنَّه قد جاء في الظُّهر -في الحر- إذن فهناك شيءٌ حدث.
    فجاء رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فأستأذن على أبي بكر، وهذا من الآداب التي علَّمنا ربنا إيَّاها: ï´؟لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَاï´¾ [النور: 27]، فاستأذن فأذن له، فدخل.
    فاستأخر أبو بكر عن السَّرير حتى جلس عليه، فقال لأبي بكر: «أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ»، أي أخرج الناس الموجودين في الدار، فهناك سِرٌّ لا أُريد أن يسمعه أحدٌ.
    فقال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت، إنَّما هم أهلك. أي لا يوجد أحدٌ في الدار غريب، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ»، فقال أبو بكر وهو يبكي من الفرح -لأنَّ هذا ما كان ينتظره: "الصُّحْبَة يا رسول الله". خذني معك يا رسول الله، فقال -صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ» تأتي معي.
    قالت عائشة: "فوالله ما شعرتُ قطُّ قبل ذلك اليوم أنَّ أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذٍ".
    فالناس حين تبكي تبكي في المُصيبة، في الحزن، لكن أبو بكر فرح فبكى من شدَّة الفرح؛ لأنَّه سيُصاحِب الرسول –صلى الله عليه وسلم- في هجرته.
    ثم قال الصديقُ: يا نبي الله، إنَّ هاتين راحلتان كنت أعددتهما لهذا -كما سبق- فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين. اختر واحدةً منهما، أحسنهما اخترها، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: «بِالثَّمَنِ» آخذها بثمنها، أنت صاحبي وأخي وحبيبي، لكن آخذها بثمنها.
    واستأجرا عبد الله بن أُرَيقِط، وكانت أمه من بني سهم بن عمرو، وكان مُشركًا، فاستأجراه ليدلهما على الطريق، ولكنَّه مع شركه أَمِنَاه، أي رأيا فيه الأمانة مع أنَّه مُشرِك، لكن وجدا فيه أنَّه صادق وأمين سيكتم خبرهما وسيصل بهما إلى المدينة.
    فدفعا إليه الرَّاحلتين اللَّتين أعدهما الصديقُ -رضي الله عنه- للهجرة، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما الذي واعداه بعد ثلاثة، قالا: الرَّاحلتان عندك، وبعد ثلاث تأتي بهن.
    واشتركت أسماء وعائشة -ابنتا الصديق- في تجهيز السُّفْرَة التي سيأخذها المهاجران -رسول الله وصاحبه- ووضعتاها في جرابٍ، فلمَّا أرادتا ربط فم الجراب لم تجدا شيئًا؛ فشقَّت السيدةُ أسماء نِطَاقَها -الحزام الذي كانت تربطه في وسطها- نصفين، فربطت فمَ الجراب بنصفه، وتحزَّمت بالنِّصف الآخر، لأجل هذا كانوا يقولون عنها: "ذات النِّطاقين".
    ثم عاد رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيته بعدما أخبر أبا بكر بإذن الله له في الهجرة، وبعد أن أعدَّا العُدَّة للهجرة، وكان جبريلُ -عليه السَّلام- قد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا يبيت على فراشه تلك اللَّيلة، فلمَّا كان اللَّيل اجتمع فتيانٌ من قريشٍ على بابه، وبيدهم السيوف المُرهَفَة، ويتطاير من عيونهم شررُ الغدر والمكيدة، فلمَّا رأى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مكانهم قال لعليِّ بن أبي طالب: «نَمْ عَلَى فِرَاشِي، وَتَغَطَّى بِبُرْدَتِي هَذِهِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إِلَيْكَ مِنْهُمْ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ»، أنت نم على فراشي، فإن هم رأوك قالوا: محمد نائم. ويطمئنوا، واطمئن يا عليّ لن يفعلوا فيك شيئًا -بإذن الله.
    وكان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ينام في بُردِه هذا إذا نام، فسمع عليٌّ ما أشار به رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- وأطاعه طيبةً بذلك نفسه، فنام في فراش النبي وهو يعرف أنَّ مَن بالخارج يُريدون قتل النبي، فمن الممكن أن ينظروا فيجدوه نائمًا فيدخلوا ويقتلوه، ومع ذلك نام عليٌّ في فراش النبي، وبذلك كان أول فدائيٍّ شابٍّ في الإسلام، فقد وقى رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم- بنفسه وهو يعلم أنَّه على قيد أذرعٍ من سيوف المشركين ورماحهم، وكان هذا التَّدبير المُحْكَم الذي أشار به جبريلُ - عليه السلام- مما لبَّس الأمرَ على المشركين المُتربِّصين بالنبي، فكانوا إذا نظروا من خلل الباب -أي فتحات الباب- وجدوا النَّائم فيظنونه النبي، بينما هو الفتى الشُّجاع علي.
    وفي هَجْعَةٍ من اللَّيل خرج رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- من داره، والفتيان أمام الدار، فسلط اللهُ عليهم النومَ فناموا؛ فلم يشعروا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد خرج من بينهم.
    وذهب -عليه الصَّلاة والسلام- إلى بيت صاحبه الصديق -رضي الله عنه- وكان الصديقُ يترقَّب وصولَه في أيَّة ساعةٍ بعدما اتَّفقا على الصُّحبة في الهجرة، وأعدَّا للسفر عُدَّته؛ لأنَّ الله -تبارك وتعالى- أمر المسافر بأخذ الزَّاد: ï´؟وَتَزَوَّدُواï´¾ [البقرة: 197]، فلا يصح أن يسافر إنسانٌ هكذا وليس معه مالٌ ولا طعامٌ وشرابٌ ويقول: أنا مُتوكِّلٌ على الله. لا، التَّوكُّل على الله لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب، فالتَّوكُّل على الله واجب، والأخذ بالأسباب واجبٌ، فتأخذ بالأسباب ولا تلتفت إليها ولا تتوكَّل عليها، بل تأخذ بالأسباب كما أُمِرتَ وتتوكَّل على الله -عز وجل.
    فخرج -عليه الصَّلاة والسَّلام- وصاحبُه وقد تزوَّدا بالزَّاد والماء ليلًا من بيت أبي بكر حتى لا يراهما أحدٌ، وسلكا طريقًا غير معهودةٍ، فبدلًا من أن يسيرا نحو الشَّمال؛ ذهبا إلى الجنوب حيث غار ثَور.
    وكان خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهلال ربيع الأول، وقيل في آخر صفر.
    ولما خرج -عليه الصَّلاة والسَّلام- من مكة توجَّه إليها قائلًا: «وَاللهِ إِنَّكِ لَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَيَّ، وَإِنَّكِ لَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ، وَلَولَا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ».
    وفي الطَّريق إلى الغار رأى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- من أبي بكر عجبًا، فأبو بكر مرة يمشي أمام النبي، ومرة يرجع وراءه، ومرة عن يمينه، ومرة عن شماله. فسأله عن ذلك: «مَا لَكَ يَا أَبَا بَكْر؟» قال: يا رسول الله، أذكر الطلبَ فأمشى خلفك، وأذكر الرصدَ فأكون أمامك، ومرةً عن يمينك، ومرةً عن شمالك. لا آمن عليكَ يا رسول الله، أنا خائف عليك، أريد أن أُحافِظ عليك.
    فقال له النبيُّ –صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا بَكْر، لَوْ كَانَ شَيْءٌ لَأَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ بِكَ دُونِي؟» قال: نعم، والذي بعثك بالحقِّ. أنا أفديك بنفسي يا رسول الله، أفديك بنفسي وبأبي وأمي وبأهلي.
    وما زالا يسيران في ظُلْمَة اللَّيل بين الرِّمال والصُّخور حتى وصلا إلى غار ثَور.
    فلمَّا أراد الرسولُ –صلى الله عليه وسلم- أن يدخل سبقه أبو بكر. لماذا؟ حتى يطمئن إلى أنَّ الغار نظيفٌ وجيد، وليس فيه أيُّ دوابٍّ ولا هَوَامٍّ تُؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
    وفي الغار حفظ الله رسولَه -صلى الله عليه وسلم.
    وجاء المشركون حين فقدوا الرسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- لما طلع الصُّبح فوجدوا عليًّا، فعلموا أنَّ الرسول قد نجا، فأرادوا أن يُدركوه قبل أن يصل إلى المدينة، فتفرَّقوا يمينًا وشمالًا حتى انتهوا إلى باب الغار الذي فيه الرسول وصاحبه، ووقفوا يتحدَّثون.
    وقال أبو بكر: يا رسول الله، لو نظر أحدُهم تحت قدميه لأبصرنا.
    فقال له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا بَكْر، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟»، كيف تخاف يا أبا بكر وربنا معنا؟
    وفي هذا نزل قول ربِّ العالمين: ï´؟إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَاï´¾ [التوبة: 40].
    وقوله تعالى: ï´؟بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَاï´¾ تدلُّ على ضعف ما يُروى من أنَّ العنكبوت نسجت والحمامة باضت؛ لأنَّ نسج العنكبوت وبيض الحمامة من الأشياء المرئيَّة، وربنا يقول: ï´؟وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌï´¾ [التوبة: 40].
    فلبث -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبو بكر في الغار ثلاث ليالٍ حتى هدأ الطلبُ، وانصرف المشركون ويئسوا منه، ويئسوا من إدراكه، فخرج -عليه الصَّلاة والسَّلام- وكان الدَّليل عبد الله بن أُرَيقِط قد أتاهما بالرَّاحلتين وخرج بهما، وسلك طريقًا بعيدةً عن الطُّرق المعروفة حتى وصل بهما إلى المدينة.
    وفي الطَّريق إلى المدينة مرَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بأمِّ مَعْبَد، وكانت له معها واقعةٌ طيبةٌ وقصةٌ ظريفةٌ.
    روى البيهقيُّ وغيرُه عن أخي أم مَعْبَد حُبَيْش صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لما خرج رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه أبو بكر وعامر بن فُهَيرة وابن أُرَيقِط يدلُّهم على الطريق مرُّوا بقديد على أم معبد، وأم مَعْبَد اسمها عاتِكَة بنت خالد بن خُلَيد، وكانت امرأةً مُسِنَّةً من القواعد، فلهذا كانت تظهر على الرِّجال، وكانت امرأةً جَلْدَةً قويَّةً، فكانت تَحْتَبِي بفناء القُبَّة -الخيمة التي كانت فيها- ثم تسقي وتطعم مَن يمر بها، فكانت امرأةً كريمةً تُكرِم مَن يمُرّ بها في خيمتها، فتُطعِمه وتسقيه.
    وكان الناسُ في وقت جدبٍ وقَحْطٍ، فسأل الرسولُ -عليه الصَّلاة والسَّلام- أم مَعْبَد: «أَعِنْدَكِ لَبَنٌ أَوْ لَحْمٌ نَشْتَرِيهِ؟» فلم يجدوا عندها شيئًا.
    قالت: والله لو كان عندنا شيءٌ ما أَعْوَزْنَاكُم نحرها. فنحن أصلًا نُطعِم المُسافِرين جميعًا ونسقيهم، ولكن السنة هذه سنة جَدْبٍ وقَحْطٍ، فليس عندنا شيءٌ.
    فنظر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى شاةٍ في ناحية الخيمة، أي نظر فوجد شاةً هَزِيلةً ضعيفةً؛ لأنَّه لا يوجد طعامٌ، وطبعًا الغنم حين ترعى تَسْمَن وتحمل اللَّحمَ، وحين لا تأكل تضعف.
    فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لأم مَعْبَد: «هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ؟» الشاة هذه هل فيها لبنٌ أم لا؟
    قالت: هي أجهد من ذلك. أي ما فيها لبن؛ لأنَّها ضعيفة هزيلة ولا تأكل.
    قال: «أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا؟» هل تسمحين لي أن أحلبها؟
    قالت: نعم، بأبي أنت وأمي، إن رأيت حلبًا فاحلبها.
    فدعا بالشَّاة فاعتقلها ومسح ضرعَها وسمَّى الله ودعا لها؛ فدرَّت بفضل الله -سبحانه وتعالى- لبنًا كثيرًا، فسقى القومَ، وسقى صاحبتها، وشرب -عليه الصَّلاة والسَّلام- آخرهم، وقال: «سَاقِي الْقَوْمَ آخِرُهُمْ شُرْبًا»، وهذا أدبٌ من الآداب، فحين نكون جالسين جماعةً وواحدٌ منَّا يأتي بماءٍ ليسقينا لا يشرب أولًا، بل يسقي كلَّ الجالسين ثم يشرب هو.
    فالرسول –صلى الله عليه وسلم- لما حلب الشَّاةَ التي كانت مُجْهَدةً –أي ما فيها أيُّ لبنٍ- فدرَّت بفضل الله وبركة النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- لبنًا سقى الحاضرين، وكان آخرهم شُربًا.
    ثم حلب مرةً أخرى، وحلب، وحلب، ثم قال للمرأة: «ارْفَعِي هَذَا لِزَوْجِكِ»، أي حين يأتي زوجُك أعطيه اللَّبنَ. ثم ركبوا وذهبوا.
    فلمَّا رجع زوجُها أخبرته بخبره، فقال: هذا واله صاحب قريش، لو رأيتُه لاتَّبعتُه، ولأجهدنَّ إن وجدتُ إلى ذلك سبيلًا. أي سأحاول أن أمشي وراءه وأتبعه.
    وفي الطَّريق أيضًا -طريق الهجرة من مكة إلى المدينة- كانت هناك قصة فيها معجزة للنبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- فقريش لما خرج الرسولُ من بينها ويَئِست منه عضَّت أصابع النَّدم، كيف خرج من بينهم ولم ينتبهوا؟!
    فهم يُريدون أن يأتوا به بأيِّ وسيلةٍ، فأعلنوا في الناس: مَن يأتي بمحمَّدٍ حيًّا أو ميتًا فله مئة ناقة مكافأة. مَن يأتينا بمحمدٍ ولو حتى ميتًا له مئة ناقة. وطبعًا مئة ناقة شيء مُغْرٍ، فجعل الناسُ يتنافسون في البحث عن محمدٍ وصاحبه والإتيان بهما؛ ليأخذوا هذا الجُعْل -وهو المئة ناقة.
    فكان ممن حرص على ذلك سُرَاقَة بن مالك، فحرص على أن يفوز بهذه الجائزة القُرشيَّة.
    يروي سُرَاقَة كيف خرج في طلب النبي –صلى الله عليه وسلم- وصاحبه وما حصل معه، قال: فبينما أنا جالسٌ في مجلس قومي أقبل رجلٌ منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال: يا سُراقة، إنِّي قد وجدتُ آنفًا أَسْوِدَةً.
    ما معنى أسْوِدَة؟
    أي جماعة يمشون لكن لا أعرف مَن هم.
    قال: إني قد وجدتُ آنفًا أَسْوِدَةً بالساحل أُراها –أظنها- محمدًا وأصحابه.
    قال سُراقة: فعرفتُ أنَّهم هم، فقلت له: إنَّهم ليسوا هم -يُريد أن يُضلل صاحبه حتى لا يأتي هو بهم ويأخذ المُكافأة- كان فلان وفلان وفلان ذاهبين ونحن جالسين، فرأيتهم أنتَ فظننتهم محمدًا وأصحابه. ثم سكت.
    قال سُراقة: ثم قمتُ فدخلتُ فأمرتُ جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء الدار فتحبسها عليَّ، وأخذتُ رُمحي فخرجتُ به من ظهر البيت، فحططتُ بزِجِّه الأرض، وخفضت عاليه حتى أتيتُ فرسي فركبتها، فرفعتُها تقرب بي حتى دنوتُ منهم.
    أي أنَّه لم يخرج من باب الدار، فجعل البنت تأخذ الفرسَ من وراء الدار وتُقابله بها، ونزل هو من السَّطح حتى لا يراه أحدٌ، وأخذ السيف معه ومشى.
    قال: لما اقتربتُ من الرسول وصحبه عثرت بي فرسي، فخررتُ عنها -وقعت- فأَهْوَيتُ يدي إلى كِنَانَتِي فاستخرجتُ الأَزْلامَ فاستقسَمْتُ بها أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره، وكنتُ أرجو أن أرده فآخذ المئة ناقة.
    قال ربُّنا في سورة المائدة في المُحَرَّمات: ï´؟وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌï´¾ [المائدة: 3]. ما هذه الأَزْلام؟
    الأَزْلام هذه أقداح كانت عند العرب، يستخدمها الواحدُ منهم حين يُريد أن يفعل شيئًا ويريد أن يعرف: إن كان خيرًا فعله وإن كان شرًّا تركه، فيضرب الأَزْلامَ حتى تقول له الآلهةُ: افعل أو لا تفعل.
    فكان الواحدُ منهم يأتي بثلاثة أقداحٍ وورقٍ، ويكتب في ورقةٍ "افعل"، وورقةٍ "لا تفعل"، وورقةٍ يتركها بيضاء، ويضع كلَّ واحدةٍ منها في قدحٍ، ويُدير الأقداحَ عدة مرات حتى تقف، فإذا جاء قدحٌ أمامه أخذه، فإذا كان فيه "لا تفعل" يقول: الأمر ليس فيه خير؛ فالآلهة تقول: ليس فيه خير. فلا يفعله. وإذا كان "افعل" يستبشر ويعمله. وإذا أخذ الورقة البيضاء الفارغة يُدير الأقداح مرةً أخرى إلى أن تأتي ورقة مكتوب فيها "افعل" أو "لا تفعل".
    يقول: فاستخرجتُ الأزلامَ فاستقسمتُ بها أضرهما أم لا؟ فخرج الذي أكره.
    وما هو؟
    "لا تضرهم"، وهو يتمنى أن يضرهم حتى يأخذ المئة ناقة.
    قال: فركبتُ فرسي وعصيتُ الأزلام.
    أبى أن يسمع كلام الآلهة هذه المرة حتى يأخذ المئة ناقة.
    قال: فركبتُ فرسي تقرب بي، حتى إذا سمعتُ قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو لا يلتفت، وأبو بكر يُكثِر الالتفات. فالرسول –صلى الله عليه وسلم- يمشي ولا ينظر وراءه من شدَّة أمنه وطُمأنينته، وأبو بكر من شدَّة خوفه على رسول الله يلتفت.
    فقال أبو بكر: يا رسول الله، هذا فارسٌ قد لَحِقَ بنا. والتفت نبيُّ الله -صلى الله عليه وسلم- فدعا عليه قائلًا: «اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ، اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ».
    قال سُراقة: فساخت يدا فرسي حتى بلغتا الرُّكبتين.
    أي نزلت رجلا الفرس في الرمل إلى الرُّكبتين.
    قال: فخررتُ عنها وصرعتني، ثم زجرتُها، فلم تكد تُخرِج يديها، فلمَّا استوت قائمةً إذا لأثر يديها عُثَان -دخان في السَّماء- فاستقسمتُ بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتُهما بالأمان. قلتُ لهم: اطمئنُّوا، الأمان لكم مني وأنتم أيضًا أعطوني الأمان.
    قال: أنا سراقة بن مالك، انظرُوني أُكلمكم -انتظروا أكلمكم- فوالله لا أُرِيبُكم، ولا يأتيكم مني شيءٌ تكرهونه، ادعُ الله لي ولا أضرك. فدعا له النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام.
    قال: فوقفوا، فركبتُ فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيتُ ما لقيتُ من الحبس عنهم -كلَّما يقترب تقع به الفرس- فعرفت أنَّه ممنوعٌ، وأنَّه سيظهر أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلتُ له: إنَّ قومك قد جعلوا فيك الدِّيَة، وأخبرتُهم أخبار ما يُريد الناس بهم، وعرضتُ عليهم الزَّاد والمتاع، فلم يَرْزَآنِي مما معي شيء –أي لم يأخذوا مني شيئًا- ولم يسألاني.
    فقلتُ: يا رسول الله، مُرني بشيءٍ.
    قال: «قِفْ مَكَانَكَ وَلَا تَتْرُكْ أَحَدًا يَلْحَقُ بِنَا، وَأَخْفِ عَنَّا»، أي امكث هنا ولا تدع أحدًا يلحَق بنا، ولا تقل أنَّك قد رأيتنا.
    وإلى هنا ينتهي بنا الوقتُ في هذا الدرس على أمل الاستكمال -إن شاء الله- في الدرس القادم -بإذن الله- ونسأل الله تعالى التَّوفيقَ والسَّداد، وأن ينفعنا بما نسمع ونقول، وأن يرزقنا التَّأسِّي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.
    هذا والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



    التعديل الأخير تم بواسطة لؤلؤة باسلامى 2; الساعة 15-10-2014, 12:14 AM.

    تعليق


    • #3
      رد: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم .. فقه السيرة

      السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
      جزاكم الله خيرًا ونفع بكم اللهم آمين


      تعليق


      • #4
        رد: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم .. فقه السيرة
        السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

        جزاكم الله خيرًا ونفع الله بكم


        سبحان الله ....الحمدلله ....الله أكبر ....لا اله الا الله
        غــرفة العنــاية الإيمــانية المركـزة ’’ بادرى بالـدخــول ’’



        تعليق


        • #5
          للنفع

          تعليق

          يعمل...
          X