السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
عتاب الله للنبي من دلائل النبوة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
مقدمة (نعمة الفهم)
قال حميد بن عبد الرحمن سمعت معاوية خطيبا يقول: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول:( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ).
الراوي : معاوية بن أبي سفيان المحدث : البخاري
المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 71 خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
والفقه هو: الفهم أي: يرزقه فهما ويرزقه ذكاء ومعرفة؛ بحيث إنه يستنبط الأحكام من الأدلة، وبحيث إنه يكون معه قوة إدراك وقوة فهم واستنباط من الأدلة،
وهذا ما وهبه الله -تعالى- لكثير من الصحابة ومن بعدهم، دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس بقوله:" اللهم فقهه في الدين" وفي رواية:" وعلمه التأويل" الراوي : عبدالله بن عباس المحدث : ابن حبان
المصدر : صحيح ابن حبان الصفحة أو الرقم: 7055 خلاصة حكم المحدث : أخرجه في صحيحه
فكان كذلك، حتى ذكروا أنه فسر مرة سورة النور تفسيرا بليغا لو سمعه اليهود والنصارى والترك والروم لأسلموا، وهذا مما رزقه الله ومما فتح عليه.
كثيرا ما أتوقف عند قوله - صلى الله عليه وسلم - :( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين... ) وأحدث نفسي مستنبطا ومن لم يرد به خيرا لا يفقه في الدين ثم أنظر لعلماء أهل السنة قديما وحديثا وأقول : (قد أراد الله بكم خيرا ولا نزكيكم على الله)
فمن أراد الله-تعالى - به خيرا فتح الله على قلبه وفقهه، وجعل في قلبه فهما للنصوص
وتجدون هذا في الشروح والتفاسير بحيث إن بعضهم إذا شرح الحديث استنبط منه عشرة أحكام، عشرين حكما قد تصل إلى مائة حكم وإلى مائة فائدة من فوائد الحديث، فهذا من الفهم ومن الفقه.
وأنظر كل متحامل على الإسلام فأقول أما هذا فقد أوتي من قبل عقله والعقل وحده لا يكفي للهداية فكم من عاقل يعبد الأصنام ... قد يخترع أعقد المخترعات ثم يسجد إلى صليب أو صنم ... ذلك بأنه لم يوفق.
والتوفيق نعمة قد يمن الله بها على رجل بسيط (وقد يكون أميا) ولكنه صادق الإيمان يتحرى الحلال والحرام في كل أمره وإنما هي نعمة الهدى والرشاد.
لقد قدمت بهذه الكلمات ؛ لأذكر نفسي ومن قرأ بنعمة العقل والتوفيق وأن التوفيق هداية العقل إلى الحق وأن التوفيق نعمة تحتاج إلى شكر ، فسلوا الله الهداية في كل أمركم
فيا معلم داود علمنا ويا مفهم سليمان فهمنا
أقول مستعينا بالله:
إن من أعظم الأدلة على صدق القرآن وعلى صدق نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - وعلى صدق حملة الإسلام من الصحابة - عتاب الله الثابت حتى الآن للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فكم من آية في كتاب الله يعاتب ربنا فيها النبي- صلى الله عليه وسلم – عتاب توجيه أو عتاب تنبيه أو عتاب تحذير ومن بعض ذلك :
قوله تعالى: ((مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [الأنفال:67-68].
وقوله: ((عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ)) [التوبة:43] حيث أذن صلى الله عليه وسلم لقوم في التخلف عن الخروج معه إلى الجهاد.
وقوله: ((عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى)) [عبس:1-4].
وقوله: ((لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ)) [آل عمران:128].
وقوله: ((إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً)) [النساء:105-107].
وقوله: ((وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ)) [النساء:113] وغيرها، ومن أراد التفاصيل فعليه بطلبها في التفاسير.
فما حقيقة العتاب وما معناه؟
قال صاحب مقاييس اللغة:
(عتب) العين والتاء والباء أصلٌ صحيح، يرجع كله إلى الأمر فيه بعضُ الصُّعوبة من كلامٍ أو غيره.
وجاء في المعجم الوسيط:
( عتب ) عليه عتبا وعتابا وتعتابا ومعتبا ومعتبة لامه وخاطبه مخاطبة الإدلال طالبا حسن مراجعته ومذكرا إياه بما كرهه منه .انتهى
وقد ورد هذا اللفظ (العتاب) بتصاريفه في القرآن في أكثر من آية. ومنها قول الحق سبحانه وتعالى عن أهل النار: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنْ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:24]. وهذا في الكفار عياذا بالله.
قلت (أبو أنس): فالعتاب لوم من طرف لآخر على سبيل الحب والإدلال وإنما يعاتب من ترجى عنده العتبى، أي: الرجوع عن الذنب والإساءة أو ما هو أولى، وهذا هو حسبنا فيكم أيها الأحبة! وفي كل من يقرأ هذا الكلام.
هل يقصد بعتاب الله في القرآن الذم؟
قال صاحب (جوامع الكلم 1 / 18):
المعروف عند سائر الناس في معنى العتاب، " أن الشخص إذا عاتب آخر ، والسيد إذا عاتب عبده ، فإنه في تلك الحال واجد عليه أو مريد لعقوبته ، لأجل مخالفته لما أمره به أو نهاه عنه ، لأنه عاص له ، قادم على مخالفة أمره ، وأما عتاب الله عز وجل فإنه ليس من هذا القبيل ؛ لأن أنبياءه لا يقدمون على مخالفته ، وإن ما يقع منهم بمقتضى الطبيعة البشرية ليس مما نهى الله عنه نهى تحريم ليقال كيف يرجحون داعي الطبيعة البشرية على داعي أمر الله وداعي الطبيعة البشرية النفس الأمارة بالسوء ، وداعي أمر الله هو العقل . وأصحاب العقول الكاملة لا يطيعون قرين الشيطان . وإنما هو نهى تنزيه وإرشاد " .
وفيه أيضا:
" فتلك العتابات والتوبيخات دالة على عظم شأنهم ، وجلالة قدرهم عنده لعظيم اعتنائه عز وجل بهم ، فإنه قد يعاتبهم ويلومهم على ما ليس بذنب ، وإنما هو تكميل على تكميل ، وتنزيه لهم عن ملابسة مالا يليق بمقامهم عنده " انتهى
قلت (أبو أنس):
وعموما فالعتاب في القرآن لا يقصد به الذم فالسهو والخطأ غير المقصود واقع من النبي (على تفصيل في ذلك) فإن الأنبياء معصومون لا يتعمدون الخطأ باتفاق أهل السنة سلفيي العقيدة والمنهج.
يقول ابن بابويه من كتاب من لا يحضره الفقيه (ج1 ص234) :
(إن الغلاة والمفوضة - لعنهم الله - ينكرون سهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقولون: لو جاز أن يسهو في الصلاة لجاز أن يسهو في التبليغ لأن الصلاة فريضة كما أن التبليغ فريضة… وليس سهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم كسهونا؛ لأن سهوه من الله عز وجل، وإنما أسهاه ليعلم أنه بشر مخلوق، فلا يتخذ رباً معبوداً دونه، وليعلم الناس بسهوه حكم السهو. وكان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد يقول: أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم). انتهى
وليراجع للاستزادة كتاب (تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء) لأبي الحسن علي بن أحمد السبتي الأموي تحقيق : د.محمد رضوان الداية
هل العتاب القرآني نوع واحد؟
ليس نوعا واحدا بل أنواع متعددة وفيها يقول د. عويد بن عيَّاد بن عايد المطرَفي في كتابه (آيات عتاب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في ضوء العصمة والاجتهاد):
أنواع آيات العتاب في القرآن
1 - النوع الأول: - عتاب التوجيه:
القسم الأول من هذه الأنواع هو ما أطلقنا عليه (عتاب التوجيه) وهو ما يقصد به توجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -في مطلع الرسالة والدعوة إليها- إلى ما يراد منه في تبليغ ما أنزله الله عليه من آيات رسالته وتبليغ ذلك إلى الأمة مهما لاقى في سبيل ذلك من إعنات وعناد وعقبات وإيذاء، ووقوفه بعزيمة صارمة وقوة إرادة ماضية أمام طغيان الشرك وعناد المشركين وشدة تمسكهم بما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم من وثنية ملحدة وكفر عنيد، فلا يبالي بما يلقاه منهم من تكذيب ورد لرسالته، وسخرية به واستهزاء بما يلقيه إليهم من آيات الله حتى يخرجهم من ظلمات هذه الجهالة البليدة إلى نور المعرفة والعلم فيعرفوا الحق ويتقلبوه ويهتدوا بهديه.
وهذا النوع ينقسم إلى قسمين فرعيين:
أولهما: عتاب الدفع وتقوية العزيمة لينهض الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأبلغ الطاقة البشرية في تبليغ الرسالة ونشر الدعوة وألا يبالي بشيء يقف معوقاً لرسالته وتبليغ دعوته.
ثانيهما: عتاب الإقصار والمقصود منه تخفيف اندفاع النبي - صلى الله عليه وسلم - في التبليغ عما يشق على نفسه من الجهد، وبذل فوق ما يستطع من طاقته البشرية حتى كاد يبخع نفسه ويضعف قوته لعظم ما كان يكابد مما كاد -لو استمر فيه- أن يؤخر نشر الدعوة.
وهذا القسم كالثمرة للقسم الأول لأن ما جاء في قوة الدفع والإغراء وشدة الخطاب جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يندفع بقوة إلى تبليغ ما أنزل عليه ربه من آيات تخاطب الكفار وتجبه المشركين تجبيها يغمزهم من جميع جوانبهم العقدية والعقلية والاجتماعية حتى كان - صلى الله عليه وسلم - يبلغ في ذلك كل مبلغ مما كاد يمس نهوضه بتبليغ رسالته ونشر دعوته كما عبر عنه القرآن الكريم فيما سنسوقه من آيات.
فجاء هذا للرجوع به - صلى الله عليه وسلم - إلى الطريق الوسط السوي الذي يؤدي به إلى تبليغ رسالته تبليغاً بيناً دون أن يلحقه في ذلك إرهاق ربما أخر من سير الرسالة وقوفاً " مع ما أمر به مما هو تسبب والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ".
2 - النوع الثاني: عتاب التنبيه:
القسم الثاني من أقسام العتاب الرئيسية ما سميناه (عتاب التنبيه) والمقصود منه تنبيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يحتمل وقوعه منه لو لم ينبه إلى ذلك لوقع مثل ذلك الفعل منه مرة أخرى.
3 - النوع الثالث: عتاب التحذير:
النوع الثالث من أنواع العتاب الرئيسبة هو ما سميناه (عتاب التحذير) والمقصود منه تحذير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عاقبة أمر وقع فيه خطأ في اجتهاد يترتب عليه لو لم يحذر منه - ضرر في التشريع والأحكام وسير الأمة على مقتضى رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوته التي جاء بها من عند الله تعالى.انتهى
يتبع بمشيئة الله
بسم الله الرحمن الرحيم
عتاب الله للنبي من دلائل النبوة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
مقدمة (نعمة الفهم)
قال حميد بن عبد الرحمن سمعت معاوية خطيبا يقول: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول:( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ).
الراوي : معاوية بن أبي سفيان المحدث : البخاري
المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 71 خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
والفقه هو: الفهم أي: يرزقه فهما ويرزقه ذكاء ومعرفة؛ بحيث إنه يستنبط الأحكام من الأدلة، وبحيث إنه يكون معه قوة إدراك وقوة فهم واستنباط من الأدلة،
وهذا ما وهبه الله -تعالى- لكثير من الصحابة ومن بعدهم، دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس بقوله:" اللهم فقهه في الدين" وفي رواية:" وعلمه التأويل" الراوي : عبدالله بن عباس المحدث : ابن حبان
المصدر : صحيح ابن حبان الصفحة أو الرقم: 7055 خلاصة حكم المحدث : أخرجه في صحيحه
فكان كذلك، حتى ذكروا أنه فسر مرة سورة النور تفسيرا بليغا لو سمعه اليهود والنصارى والترك والروم لأسلموا، وهذا مما رزقه الله ومما فتح عليه.
كثيرا ما أتوقف عند قوله - صلى الله عليه وسلم - :( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين... ) وأحدث نفسي مستنبطا ومن لم يرد به خيرا لا يفقه في الدين ثم أنظر لعلماء أهل السنة قديما وحديثا وأقول : (قد أراد الله بكم خيرا ولا نزكيكم على الله)
فمن أراد الله-تعالى - به خيرا فتح الله على قلبه وفقهه، وجعل في قلبه فهما للنصوص
وتجدون هذا في الشروح والتفاسير بحيث إن بعضهم إذا شرح الحديث استنبط منه عشرة أحكام، عشرين حكما قد تصل إلى مائة حكم وإلى مائة فائدة من فوائد الحديث، فهذا من الفهم ومن الفقه.
وأنظر كل متحامل على الإسلام فأقول أما هذا فقد أوتي من قبل عقله والعقل وحده لا يكفي للهداية فكم من عاقل يعبد الأصنام ... قد يخترع أعقد المخترعات ثم يسجد إلى صليب أو صنم ... ذلك بأنه لم يوفق.
والتوفيق نعمة قد يمن الله بها على رجل بسيط (وقد يكون أميا) ولكنه صادق الإيمان يتحرى الحلال والحرام في كل أمره وإنما هي نعمة الهدى والرشاد.
لقد قدمت بهذه الكلمات ؛ لأذكر نفسي ومن قرأ بنعمة العقل والتوفيق وأن التوفيق هداية العقل إلى الحق وأن التوفيق نعمة تحتاج إلى شكر ، فسلوا الله الهداية في كل أمركم
فيا معلم داود علمنا ويا مفهم سليمان فهمنا
أقول مستعينا بالله:
إن من أعظم الأدلة على صدق القرآن وعلى صدق نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - وعلى صدق حملة الإسلام من الصحابة - عتاب الله الثابت حتى الآن للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فكم من آية في كتاب الله يعاتب ربنا فيها النبي- صلى الله عليه وسلم – عتاب توجيه أو عتاب تنبيه أو عتاب تحذير ومن بعض ذلك :
قوله تعالى: ((مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [الأنفال:67-68].
وقوله: ((عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ)) [التوبة:43] حيث أذن صلى الله عليه وسلم لقوم في التخلف عن الخروج معه إلى الجهاد.
وقوله: ((عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى)) [عبس:1-4].
وقوله: ((لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ)) [آل عمران:128].
وقوله: ((إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً)) [النساء:105-107].
وقوله: ((وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ)) [النساء:113] وغيرها، ومن أراد التفاصيل فعليه بطلبها في التفاسير.
فما حقيقة العتاب وما معناه؟
قال صاحب مقاييس اللغة:
(عتب) العين والتاء والباء أصلٌ صحيح، يرجع كله إلى الأمر فيه بعضُ الصُّعوبة من كلامٍ أو غيره.
وجاء في المعجم الوسيط:
( عتب ) عليه عتبا وعتابا وتعتابا ومعتبا ومعتبة لامه وخاطبه مخاطبة الإدلال طالبا حسن مراجعته ومذكرا إياه بما كرهه منه .انتهى
وقد ورد هذا اللفظ (العتاب) بتصاريفه في القرآن في أكثر من آية. ومنها قول الحق سبحانه وتعالى عن أهل النار: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنْ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:24]. وهذا في الكفار عياذا بالله.
قلت (أبو أنس): فالعتاب لوم من طرف لآخر على سبيل الحب والإدلال وإنما يعاتب من ترجى عنده العتبى، أي: الرجوع عن الذنب والإساءة أو ما هو أولى، وهذا هو حسبنا فيكم أيها الأحبة! وفي كل من يقرأ هذا الكلام.
هل يقصد بعتاب الله في القرآن الذم؟
قال صاحب (جوامع الكلم 1 / 18):
المعروف عند سائر الناس في معنى العتاب، " أن الشخص إذا عاتب آخر ، والسيد إذا عاتب عبده ، فإنه في تلك الحال واجد عليه أو مريد لعقوبته ، لأجل مخالفته لما أمره به أو نهاه عنه ، لأنه عاص له ، قادم على مخالفة أمره ، وأما عتاب الله عز وجل فإنه ليس من هذا القبيل ؛ لأن أنبياءه لا يقدمون على مخالفته ، وإن ما يقع منهم بمقتضى الطبيعة البشرية ليس مما نهى الله عنه نهى تحريم ليقال كيف يرجحون داعي الطبيعة البشرية على داعي أمر الله وداعي الطبيعة البشرية النفس الأمارة بالسوء ، وداعي أمر الله هو العقل . وأصحاب العقول الكاملة لا يطيعون قرين الشيطان . وإنما هو نهى تنزيه وإرشاد " .
وفيه أيضا:
" فتلك العتابات والتوبيخات دالة على عظم شأنهم ، وجلالة قدرهم عنده لعظيم اعتنائه عز وجل بهم ، فإنه قد يعاتبهم ويلومهم على ما ليس بذنب ، وإنما هو تكميل على تكميل ، وتنزيه لهم عن ملابسة مالا يليق بمقامهم عنده " انتهى
قلت (أبو أنس):
وعموما فالعتاب في القرآن لا يقصد به الذم فالسهو والخطأ غير المقصود واقع من النبي (على تفصيل في ذلك) فإن الأنبياء معصومون لا يتعمدون الخطأ باتفاق أهل السنة سلفيي العقيدة والمنهج.
يقول ابن بابويه من كتاب من لا يحضره الفقيه (ج1 ص234) :
(إن الغلاة والمفوضة - لعنهم الله - ينكرون سهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقولون: لو جاز أن يسهو في الصلاة لجاز أن يسهو في التبليغ لأن الصلاة فريضة كما أن التبليغ فريضة… وليس سهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم كسهونا؛ لأن سهوه من الله عز وجل، وإنما أسهاه ليعلم أنه بشر مخلوق، فلا يتخذ رباً معبوداً دونه، وليعلم الناس بسهوه حكم السهو. وكان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد يقول: أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم). انتهى
وليراجع للاستزادة كتاب (تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء) لأبي الحسن علي بن أحمد السبتي الأموي تحقيق : د.محمد رضوان الداية
هل العتاب القرآني نوع واحد؟
ليس نوعا واحدا بل أنواع متعددة وفيها يقول د. عويد بن عيَّاد بن عايد المطرَفي في كتابه (آيات عتاب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في ضوء العصمة والاجتهاد):
أنواع آيات العتاب في القرآن
1 - النوع الأول: - عتاب التوجيه:
القسم الأول من هذه الأنواع هو ما أطلقنا عليه (عتاب التوجيه) وهو ما يقصد به توجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -في مطلع الرسالة والدعوة إليها- إلى ما يراد منه في تبليغ ما أنزله الله عليه من آيات رسالته وتبليغ ذلك إلى الأمة مهما لاقى في سبيل ذلك من إعنات وعناد وعقبات وإيذاء، ووقوفه بعزيمة صارمة وقوة إرادة ماضية أمام طغيان الشرك وعناد المشركين وشدة تمسكهم بما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم من وثنية ملحدة وكفر عنيد، فلا يبالي بما يلقاه منهم من تكذيب ورد لرسالته، وسخرية به واستهزاء بما يلقيه إليهم من آيات الله حتى يخرجهم من ظلمات هذه الجهالة البليدة إلى نور المعرفة والعلم فيعرفوا الحق ويتقلبوه ويهتدوا بهديه.
وهذا النوع ينقسم إلى قسمين فرعيين:
أولهما: عتاب الدفع وتقوية العزيمة لينهض الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأبلغ الطاقة البشرية في تبليغ الرسالة ونشر الدعوة وألا يبالي بشيء يقف معوقاً لرسالته وتبليغ دعوته.
ثانيهما: عتاب الإقصار والمقصود منه تخفيف اندفاع النبي - صلى الله عليه وسلم - في التبليغ عما يشق على نفسه من الجهد، وبذل فوق ما يستطع من طاقته البشرية حتى كاد يبخع نفسه ويضعف قوته لعظم ما كان يكابد مما كاد -لو استمر فيه- أن يؤخر نشر الدعوة.
وهذا القسم كالثمرة للقسم الأول لأن ما جاء في قوة الدفع والإغراء وشدة الخطاب جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يندفع بقوة إلى تبليغ ما أنزل عليه ربه من آيات تخاطب الكفار وتجبه المشركين تجبيها يغمزهم من جميع جوانبهم العقدية والعقلية والاجتماعية حتى كان - صلى الله عليه وسلم - يبلغ في ذلك كل مبلغ مما كاد يمس نهوضه بتبليغ رسالته ونشر دعوته كما عبر عنه القرآن الكريم فيما سنسوقه من آيات.
فجاء هذا للرجوع به - صلى الله عليه وسلم - إلى الطريق الوسط السوي الذي يؤدي به إلى تبليغ رسالته تبليغاً بيناً دون أن يلحقه في ذلك إرهاق ربما أخر من سير الرسالة وقوفاً " مع ما أمر به مما هو تسبب والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ".
2 - النوع الثاني: عتاب التنبيه:
القسم الثاني من أقسام العتاب الرئيسية ما سميناه (عتاب التنبيه) والمقصود منه تنبيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يحتمل وقوعه منه لو لم ينبه إلى ذلك لوقع مثل ذلك الفعل منه مرة أخرى.
3 - النوع الثالث: عتاب التحذير:
النوع الثالث من أنواع العتاب الرئيسبة هو ما سميناه (عتاب التحذير) والمقصود منه تحذير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عاقبة أمر وقع فيه خطأ في اجتهاد يترتب عليه لو لم يحذر منه - ضرر في التشريع والأحكام وسير الأمة على مقتضى رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوته التي جاء بها من عند الله تعالى.انتهى
يتبع بمشيئة الله
تعليق