إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رحلتى الى النور مع مالك الرحبى والشيخ ابن عثيمين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رحلتى الى النور مع مالك الرحبى والشيخ ابن عثيمين

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    أخوتى و أخواني فى الله وددت أن أنقل لكم فى هذا المنتدى قصة رائعة هى ليست قصة من نسج خيال أحد الكتاب ولكنها قصة شيخ يحكيها بنفسه وهى قصة رحلته فى طلب العلم التى بدات منذ ان كان عمره ستة عشرة سنة ويروى مصاحبته للشيخ بن عثيمين


    والله أنى لاتعجب من اسلوب كاتبها فعندما تبحر فى قراءة هذه القصة تنتابك مشاعر متضاربة والشيخ يحكى عن شيخه بن عثيمين ومواقفه معه فتارة تبكى وتارة تضحك من مواقف الشيخ ابن عثيمين

    فالشيخ ابن عثيمين هو محور هذه القصة

    آسفة أطلت عليكم ولكن أحببت أن أعرض لكم فكرة عامة عنها


    سماها صاحبها الذى سمى نفسه مالك الرحبى ب(رحلتى الى النور)وهى للأمانة منقولة من منتدى آخر ، وسأنقلها لتكون بين أيديكم


    رحلتي إلى النور


    نبذه عن الكتاب:




    هذه فصول قصة حقيقية ...

    أسردها سردا كما هي ...

    قد مر على فصولها أكثر من خمسة عشر عاما..

    ومع ذلك فمشاهدها وحكاياتها ما زالت راسخة في الفؤاد..

    قد نقشت فيه كما ينقش في الصخر لا يزول إلا بأمر الله..

    أطلب من القارئ الكريم أن يتمهل ولا يستعجل..في الحكم على القصة..

    حتى تستكمل فصولها وينتهي رقمها ..

    فهي في النهاية تحكي مواقف عن رجل فذ قد طوته اللحود..

    هذا الرجل هو شامة في جبين التاريخ في عصرنا..

    وأنا في موقفي هذا معه ما أنا إلا حاك وناقل لموقف واحد فقط من مواقفه ..

    وحسنة واحدة من حسناته ..

    أحكي لكم عن هذا الرجل وأقسم على كل حرف فيه ..

    أرويه كما حصل بلا زيادة ونقصان..

    وأما حصر أفعال هذا الرجل ، ورصد جمائله على الناس والأمة

    فهذا مما تعجز عنه طاقة الناس ...

    فمنذا يقدر حصر أفعاله ليجمع أفعال غيره!!

    فأمره إلى الله ..

    هو حسيبه تعالى ورقيبه لا يخفى عليه من أمره شيء..

    سيجد القارئ الكريم في أول القصة مواقف تعنيني أنا بشخصي..

    وهي في النهاية عن شخص مغمور ..

    ولكنها في الخاتمة تكشف نبلا عزيزا لإمام جليل .. قد آن الأوان أن تعرف قصته..

    وقد حكيت بعضا من تلك القصة على أحبابي وأترابي..

    فكلهم أقسم علي إلا أن أكتبها وأنشرها .. فهي واجبة من الواجبات..

    وحق لهذا الإمام علي كأقل جميل له علي أرده..

    خاصة وأنني مقبل على أمر جلل.. لا أدري ما خاتمته..

    فلتكن إذا صدقة من الصدقات وذخرا لي عند الباري سبحانه وتعالى ..

    لعل الله أن يعفو عن الزلات ويتجاوز عني في الصالحين..

    اللهم اغفر لي ولشيخنا وأستاذنا ولوالدي واجعلني معهم في فردوسك الأعلى يا أرحم

    الراحمين.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..


    رحلتي إلى النور

    وبآخره ملحق قصة ( في وداع والدي أبي محمد رحمه الله )


    مالك الرحبي

    ( مازن بن أحمد المنسي الغامدي يرحمه الله )

    توفي في الساعة الثانية ظهر يوم ( الجمعة 13/12/1426)

  • #2
    جزاكم الله خيرا فى الانتظار ان شاء الرحمن

    لبثت ثوب الرجا و الناس قد رقدوا و قمت أشكو إلى مولاي ما أجد
    و قلت يا عدتي في كل نائبة و من عليه لكشف الضر أعتمد
    أشكو إليك ذنوبا أنت تعلمها ما لي على حملها صبر و لا جلد

    تعليق


    • #3
      الحلقة الأولى والثانية


      الحلقة الأولى

      في عام 1409 للهجرة ..
      كنت أدرس في الصف الثاني المتوسط بمدرسة حطين في مدينة الطائف..
      وكنت حينها فتى كأترابي ...
      لاهم لي في الحياة سوى مدرستي واللعب مع أصحابي بعد انتهاء الدراسة..
      لم يكن لدي أي ميول نحو التدين والاستقامة والالتزام بشعائر الدين ..
      بل كنت حينها لا اعرف معنى للدين .. فقد ربينا للأسف من الصغر..
      على الاهتمام بدروسنا ومدرستنا ولم يكن لجانب الدين أي شيء يذكر من الأهمية..
      ويقتصر ذلك في الغالب على صلاة الجمعة .. أو الأعياد..
      كان أول شخص متدين ومستقيم أتأثر به وأحبه هو أستاذي
      في مادة التربية الدينية في تلك السنة واسمه عمير القرشي..
      إن ابتسامة وطيبة الأستاذ عمير ونصائحه وتوجيهاته..
      كل ذلك ما زال في الذاكرة محتبسا .. وكلماته ...
      ما زالت ترن في أذني حتى هذه الساعة وأنا أكتب هذه المذكرات..
      لقد كان مربيا فذا ورجلا ساحرا بعباراته الصادقة ..
      كان حينما يفسر آيات القرءان الكريم ويصف مشاهد يوم القيامة والحشر والجنة والنار
      كانت كلماته وعباراته تلج القلوب كالسهام..
      كان يسير في الصف وبين الطاولات فكنت أطارده بنظري أينما توجه ..
      أريد أن ألتهم ما يقوله التهاما ..
      كانت العبارات تخرج من فمه كأنها مدافع تدوي تدك كل حظوظ الشيطان في القلوب..
      أحسبه رجلا مخلصا والله حسيبه..
      كنا أحيانا ونحن في تلك السنون ما زلنا في حكم الطفولة..!!!
      كنا والله يبلغ بنا التأثر بحديثه حتى نبكي..!!
      ولكن للأسف فجأة وبلا مقدمات حرمنا من هذا الأستاذ الجليل..
      لينقل في التوجيه في إدارة التعليم في المنطقة..!!!
      لقد كان خطئا فادحا أن يحرم الطلاب من هذا المعلم ذو الطراز النادر لينقل لعمل إداري
      ولكن الله تعالى خلف علينا خيرا في أستاذ آخر ..
      كان له فضل علي بشكل خاص..
      لا أنساه له أبدا .. إنه الأستاذ طلال المشعبي..
      قال لنا الأستاذ طلال : أنا تلميذ للأستاذ عمير القرشي ..
      فهو أستاذي وشيخي وأستاذكم لذا سنحاول أن نكمل المسيرة على نفس المنوال..
      لن أطيل الحديث في مواقف الأستاذ طلال بارك الله فيه..
      ولكن سأذكر موقفا له غير مجرى حياتي للخير إن شاء الله تعالى..
      أبدى الأستاذ طلال بي اهتماما خاصا .. ولقد كنت بحمد الله في فصلي من النابهين..
      أحببته حبا يتجاوز حدود الاحترام للطالب مع أستاذه ...
      لتصبح العلاقة علاقة شبيهة بود الابن مع والده ..
      سجلت في برامج التوعية في وقت الفسحة..
      وكنت استمع مع الآخرين لتوجيهات الأستاذ طلال..
      وذات مرة كنت ألعب أمام منزلنا القريب من الجامع فلاحظت سيارة شبيهة بسيارة
      الأستاذ طلال .. انتظرت ولم أصل !!! حتى يخرج صاحبها بعد الصلاة..
      وفعلا خرج الأستاذ طلال ..
      كان للمعلم حينها مهابة هائلة في قلوب الطلاب خلاف ما أسمعه اليوم!!
      توجهت إليه وسلمت عليه... فسألني بصرامة : هل صليت؟؟
      مسحت قفاي وأرخيت رأسي وقلت لا !!
      قال ليش؟؟
      استحييت ولم أجب فهل سأقول أنا لا أصلي أصلا!!!
      فهم الحال ، ولم أنتظر أن يعاتبني توجهت لدورات المياه وتوضأت للصلاة..
      ثم دخلت المسجد فركعت أربع ركعات للعشاء..
      خرجت من المسجد فلم أرى أحدا ..
      بعد عدة أيام رأيت سيارة الأستاذ طلال مرة أخرى أمام المسجد ..
      وهذه المرة سابقت الريح لأصلي مع الجماعة..
      وبعد الصلاة تعمدت أن أظهر للأستاذ خروجي من المسجد..
      ابتسم أستاذي وناداني ..
      اقتربت منه وقال لي أين منزلكم..
      أشرت له لمنزلنا المستأجر حيث قد باع الوالد بيتنا القديم وهو يبني بيتا جديدا في مخطط السحيلي شرق الطائف ..
      دعوته لزيارتنا فقال الآن لا يصلح ولا أستطيع ولكن ممكن أزوركم غدا !!!
      رحبت به وواعدته غدا بعد صلاة المغرب..!!
      ذهبت لوالدي وبلغته بالحال.. استغرب الوالد من الزيارة ..
      فليس من العادة أن يزور معلم تلميذا في بيته ..
      وليس أيضا من العادة أن يدعوا فتى صغير رجلا كبيرا بغير إذن أهله..
      رضخ الوالد للأمر الواقع وقال أهلا به ..
      في اليوم التالي زارنا الأستاذ طلال في بيتنا وتعرف على الوالد ..
      وكان والدي حينها مديرا لإحدى مدارس الطائف..
      كان اللقاء رسميا .. ووالدي من طبعه رحمه الله التكلف مع الضيف..
      فيشعر ذلك الضيف بالحرج فتنقلب المسألة مجاملات في مجاملات..
      والسؤال لماذا الزيارة؟ وما هدفها؟ وهل كان الأستاذ طلال متعمدا لكل ما سبق ؟؟
      ذكر الأستاذ طلال للوالد أن هناك مخيما للشباب في فترة الإجازة النصف سنوية..
      ومدة المخيم أسبوع وتنظمه إدارة التعليم في الطائف.. وقد حث والدي على أن أشارك
      في هذا المخيم!!!
      قال الوالد لا بأس بذلك !!
      فرحت بذلك وسررت بالفكرة فقد كان ذلك بمثابة حلم لي أن أشارك في عمل كهذا ..
      انتهت أيام الامتحانات ..
      وفي صباح يوم من أيام الربيع الجميلة حملني والدي برفقة أخيه الصغير ( عمي)
      في سيارته إلى موقع تجمع المشاركين في المخيم...
      وذلك خلف فناء إدارة التعليم في الطائف..
      وضع والدي في جيبي ثلاثين ريالا وكذلك في جيب أخيه ..
      أظن هذا اكبر مبلغ حصلت عليه في حياتي منذ ولدت حتى ذلك التاريخ!!!
      حينما وصلنا لمنطقة التجمع هالني الجمع الغفير من الفتيان ممن هم في سني أو قريبا مني .. أذكر أن الساحة امتلأت بالحقائب وأكياس النايلون الكبيرة المحشوة بالملابس وبعضهم أحضر معه وسائد وطرا ريح والحفة مطوية بحبال !!!
      أما أنا فجئت بثوبي الذي علي وكيس صغير فيه ملابس قليلة للتبديل..!!
      غادر الوالد بعد أن تأكد من المشرفين عن أن كل شيء على ما يرام..
      طلعت الشمس وما زالت الجموع تزيد حتى غصت بهم الساحة ..
      في حوالي الساعة الثامنة نادى مشرفوا المخيم على أسماء الطلاب المسجلين في المخيم..
      وركبت في الباص المحدد لمجموعتي ..
      كانت وجهتنا لمنطقة الشرائع قريبا من مكة المكرمة شرفها الله..
      في الباص وقف شخص عليه لحية حمراء وثيابه نظيفة .. وساعته في اليمين..!!!
      كان على وجهه نور الطاعة ..
      وقف ليذكرنا بدعاء السفر وسأل:
      من يعرف دعاء السفر؟؟
      أول مرة في حياتي أسمع بدعاء السفر والله..!!
      رددناه جميعا خلفه .. حتى حفظته عن ظهر قلب منذ ذلك الوقت..
      طوال الرحلة كان يتبادل المذكور مع زميل له..
      قراءة مسابقات ورواية قصص وطرائف ونحو ذلك مما يفيد ويمتع..
      كانت أول رحلة مفيدة وأول مرة أدرك كيف يمكن استغلال الوقت ..
      في مثل هذه الرحلات المليئة بالفائدة والإرشاد..
      وصلنا لمنطقة المخيم.. وهي على يمين الداخل إلى مكة قبل أن تصل لنقطة التفتيش..
      كانت أكوام الخيام ملقاة على أرض المخيم..
      وطلبوا من كل مجموعة أن تتولى تركيب خيامها..
      استمتعنا بذلك أيما استمتاع فهذا أول عمل جاد ومتقن أقوم به بشكل جماعي..!!
      وفي وقت صلاة الظهر اجتمعنا تحت خيمة واحدة ضخمة للصلاة..
      ودخل علينا رجل في عمر الأربعينات عليه سيما الصلاح ووجه مليء بالجدية والصرامة..!!!
      وهو الشيخ محمد بن زاهر الشهري بارك الله في عمره ولم أكن اعرفه حينها..
      امتلأ قلبي والله حينها من مهابته..
      حينما وقف في وسط الخيمة وتكلم في الجموع بتوجيهات عامة وأمر كل شخص منا بالانضباط ..
      واستغلال هذه الأيام بالنافع المفيد
      كان الترتيب والنظام والضبط هو السيما البارزة على هذا العمل..
      أذكر أن أصحابي أيقظوني للصلاة قبل الفجر ..
      وحينما ذهبت للوضوء أعطونا كاسات بلاستيكية ..
      بحيث يتوضأ الشخص بكأس واحدة فقط!!!
      رأيت المسجد مضاء والنعال تملاء أطرافه..!!!
      وحينما وصلت إليه شاهدت الناس كأنهم خلية نحل من صوت القرءان..
      أمسكت بشخص مر بجواري وسألته : هل أذن الصبح؟؟
      قال بقي نصف ساعة على الأذان !!!
      صلى بنا الفجر شخص رقيق وصوته جميل ..
      وسمعت أشخاصا تأثروا بالآيات فبكوا !!
      وبعد الصلاة وقف شخص ليتكلم لمدة عشر دقائق .. بخاطرة ونصيحة..
      كان مطلوبا من كل مجموعة أن تختار شخصا يمثلها في الكلمات بعد الصلاة ..
      ومن ثم يقوم أحد المشرفين بالتعليق على كلمته...
      وفي الساعة الثامنة يستيقظ كل المخيم لوجبة الإفطار ..
      ويلزم كل شخص ترتيب مكان نومه.. ولا يتركه مبعثرا..
      وهناك مجموعات تفتش الخيام وتعاقب كل من يهمل بالضغط عشر مرات أو الزحف على بطنه.. كانت مشاهد المعاقبين تثير الضحك والسرور بين المشاركين ..
      كانت البرامج متنوعة وحافلة بالفوائد والنشاط والبهجة..
      فهناك البرامج الترفيهية والمسرحيات والمسابقات والبرامج الرياضية..
      ومن المناشط تنظيم المحاضرات ..
      أول مرة احضر محاضرة كانت في ذلك المخيم وكان ضيفنا هو الشيخ عبد الله الجلالي.
      الداعية المشهور .. وممن زارنا في المخيم لإلقاء المحاضرات.. الشيخ عائض القرني والشيخ سفر الحوالي والشيخ ستر الجعيد والشيخ محمد بن سعيد القحطاني.. وغيرهم..
      لن أغرقك أخي القارئ بالتفاصيل عن هذا المخيم ..
      ولكن يعلم الله تعالى كم كان لتلك المواقف والكلمات والدروس من صدى وتوجيه أحمد الله تعالى عليه أن هيئ لهذه الأمة كهؤلاء الرجال الذين يشرفون على تلك البرامج النافعة المباركة..
      كان مشرفوا المجموعات يوقظونا في ساعة متأخرة من الليل..
      ويأمرونا بالخروج خارج الخيمة ومن ثم نصف في خط طويل ونخرج برفقة احدهم خارج المخيم.. ومن ثم يقوم المشرف بتذكيرنا ووعظنا بكلمات تناسب الحدث..
      كانت تلك الخرجات متعبة في لحظتها ولكن ما يترتب عليها من تأثير على النفس والعقل والفكر شيء يفوق الخيال وصفه..
      إن الإخوة القائمين على تلك البرامج حينما يفعلون ما يفعلون إنما قصدهم بذلك هو غرس النظام واستغلال الأوقات وتنمية الخشية والخوف من الله تعالى في قلوبنا..
      انتهت أيام المخيم ..
      وبنهايته يبدأ مشواري الجديد في هذه الحياة...



      الحلقة الثانية



      كان لذلك المخيم أبلغ الأثر على حياتي وسلوكي..
      ولا عجب إن لاحظتم معاشر القراء الكرام ..
      تلك الحرب الضروس على تلك البرامج النافعة..
      من أذناب الغرب والمدسوسين بيننا .. ممن ينعق صبح ومساء بما لا يعقل ..
      فكل باب للخير والفضيلة ونشرها سعوا في درسه والقضاء عليه..
      فلا شك أن لوطأتها عليهم شأنا لا يستهان به..
      فهي تمد الأمة بروافد من العقول المخلصة لهذا الدين والأمة..
      سلكت طريق الهداية واستمر هؤلاء الرجال ممن ذكرت وغيرهم..
      في غرس الفضائل والمعاني السامية في، وفي آلاف الشباب..
      الذين منهم الآن الطبيب والمهندس والمعلم والقاضي والصحفي والداعية والتاجر
      التزمت بالمشاركة في برامج بالمكتبة في جامع ابن عمار بحي القمرية..
      وكان يشرف علينا شخص اسمه خالد بن مسلط البقمي..
      كان غاية في النبل والأدب والشهامة ..
      ولكنه للأسف تغير كثيرا بعد أن انصرف للعمل في التجارة..
      وآخر عهدي به إنسان عادي جدا لا تكاد الدعوة والعمل لها يأخذان من اهتمامه شيئا..
      من المواقف التي لا تنسى مع أبي سليمان وهذه كنيته التي يحب أن نناديه بها حيث نظم لنا رحلة لمجموعة من طلاب المكتبة..
      وكانت الرحلة لأحد الوديان الجميلة في منطقة الشفا جنوب الطائف..
      كلفنا الأخ خالد بذبح الخروف وشويه في برميل ..
      على الطريقة المعروفة في صنع المندي
      ولكن لتأخر نضج الطبيخ بسبب قلة خبرة الطباخين..
      لم يستوي اللحم سوى بعد أذان العصر..
      صلينا العصر .. وبطوننا ترتل وتقرقر جوعا وتثيرها رائحة الشواء حولنا..
      فالمنطقة مليئة بالمصطافين حينها..
      استخرجنا اللحم وعزمنا على أكله حتى ولو لم ينضج جيدا فالجوع أبصر كما يقولون..
      حينما وضعنا السفر واستوى اللحم على الرز المعصفر..
      هطلت علينا كميات هائلة من الأمطار..!!
      كأن حبات المطر تصب علينا صبا ..!!
      لقد استغرق اجتماع السحب وتراكمها دقائق معدودة والله..
      لم نشعر بذلك .. واستمررنا في التهام الطعام المبلول..!!
      وفجأة صرخ الصريخ..
      وتردد صداه في كل الوادي : السيل، السيل..!!
      هجم علينا سيل من فم الوادي ..
      حينما أبصرنا التيار يهدر نحونا ..
      ولى الجميع ولم نلوي على شيء..
      جرف التيار السيارات والأوادم.. ولكن الله سلم فقد تدارك الناس بعضهم..
      أما السيارات فقد امتلأت بالوحل والطين حتى سقوفها ..
      وأما نحن فقد كنا نراقب تلك المشاهد ونحن نرجف تحت الأشجار نرجف من البرد والجوع!!
      هذا موقف أذكره جيدا من تلك الرحلات الممتعة..!!
      تعرفت على شخص بعد ذلك اشتهر بكنيته وهي أبو أسامة..
      واسمه عبد الله الغامدي ... وهو صاحب الإنشاد لقصائد الشريط المشهور هادم اللذات.... لمن يعرفه منكم..
      وكان جارا لنا ، وهو رجل ذو همة عالية في الدعوة على الله ..
      وما زال يعمل في الخطابة حتى كتابة هذه السطور..
      لازمت هذا الرجل عدة سنوات كظله حتى ظن بعض الناس انه والدي!!
      وكنت من شغفي به وعلاقتي القوية أحب تقليد صوته ومشيته وحركاته..
      وأذكر مرة أن أحد المشائخ لحقني في السوق ظانا أن من يلحقه هو أبو أسامه!!
      وكنت مقفيا وأسير بخطى سريعة فصار الرجل يناديني بغير اسمي فلا أرد عليه..!!
      وحينما التفت إليه صدم برؤية شخص آخر غير من يبحث عنه..!!!
      كنت حينها أبلغ الرابعة عشر من عمري تقريبا...
      شاركت في البرامج الدورية للمكتبة يوم الأربعاء والخميس.. من كل أسبوع..
      حتى ذلك الوقت كانت علاقتي بالوالد على مايرام..
      فمستواي الدراسي في المدرسة فوق الجيد جدا ..
      وللأسف فإن بعض الآباء جعلوا المقياس في نجاح أولادهم..
      بمدى تفوقهم في دراستهم دون النظر في تميزهم في الجوانب الأخرى..
      حينما التحقت بمدرسة هوازن الثانوية..
      وكان النظام فيها النظام الشامل أو ما يسمى المطور.. الذي الغي لاحقا لفشله الذر يع..
      كان هذا النظام يعطي حرية في الخيارات للطالب ..
      في اختيار الجدول المناسب له كيفما يشاء..
      وكذلك في اختيار المعلم الذي يرغبه..
      لا شك أن هذا النظام والحرية الممنوحة لي كطالب ..
      ساهم بشكل أو بآخر في تدني مستواي الدراسي..
      فبسبب ارتخاء القبضة كما في النظام العادي ، وتدني الرقابة.. بسبب النظام صرت أغيب عن الدروس والمحاضرات في الفصل بمزاعم واهية..
      في البداية ظن الوالد أن القضية هي مرحلة صعبة سأتجاوزها..
      ولم يقدر الموقف حق قدره .. وليته فعل ..
      لم يسبق لي أن رسبت في أي سنة ..
      ولكن حصل أن حرمت في بعض المواد لا بسبب تدني المستوى بل للغياب..
      حينما علم الوالد بذلك ظن أن السبب هو الرفقة لانشغالي معهم في برامج جانبية..
      غير مهمة .. فالدراسة والمستقبل هي الأساس..
      وبذلك صار الوالد يضغط علي للتقليل من روحاتي وخرجاتي..
      كنت حينها مراهقا .. فاستمرأت أن يمنعني الوالد عما كنت أمارسه لسنوات..!!
      فلم أطعه فيما يأمرني به..
      الذي حصل أن الوالد بمشورة من قريب لي سامحه الله ..
      قرر حرماني حرمانا مطلقا من أصحابي..
      لقد كان ذلك بالنسبة لي أشبه بمنعي من شرب الماء أو تنفس الهواء..
      لقد أعطى ذلك الحضر مفعولا عكسيا فقد تدهورت كثيرا في دراستي ولم اعد أذاكر دروسي ولو فعلت فإن ذلك يكون بالإكراه..!!
      أذكر أن الوالد خوفا من أن ألتقي بأحد من رفقائي منعني مرة من صلاة الجماعة ..
      ولم يستمر ذلك بطبيعة الحال ..
      ولكن كانت تمر علي وجبات دسمة من الحظر كل فترة!!!
      كنت محبا للعلم وطلبه ... وخاصة العلوم الشرعية..
      التزمت بحلقة الشيخ أحمد بن موسى السهلي.. في جامع الأمير أحمد في درس عمدة الحكام .. وكذلك دروس الشيخ صالح الزهراني بجامع الشطبه ..
      في كتاب زاد المعاد..
      لكن المشكلة بالنسبة لي هي وسيلة المواصلات للوصول لهذا الأماكن..
      ويعلم الله كم كنت أعاني لحضور تلك الدروس..
      فكم مرة مشيت عشرات الكيلوات لأصل للدرس..
      وكم مرة توسلت لجار أو صاحب ليوصلني..
      لم يكن هناك رفيق لي لديه سيارة وملتزم بالحضور..
      لقد كنت شغوفا بالعلم وأحرص أن أكون في أول الصفوف أمام المشائخ..
      أذكر مرة أنني مشيت من بيتنا في حي السحيلي وحتى جامع الشطبه..
      لكي أصلي الجمعة مع شيخنا!!!..
      أما حضور محاضرات المشائخ المشهورين فهذا مالا أصبر عليه..
      منعت من ذلك كله دفعة واحدة ...
      حينها قررت أن أهرب من البيت لألتحق بطلب العلم لدى أحد العلماء..



      تعليق


      • #4
        على فكرة ياجماعة القصة من منتدى أنا المسلم

        تعليق


        • #5


          رائعة يايمامة بارك الله فيكى
          يبدو انها قصة شيقة جدا
          لاتتاخرى علينا بالمزيد
          التعديل الأخير تم بواسطة حاملة الرايه; الساعة 08-08-2010, 08:14 PM. سبب آخر: حذف الوجوه التعبيريه في اقسام مختلطه
          قال ابن الجوزي رحمه الله : "من أصلح سريرته فاحعبير فضله ... وعبقت القلوب بنشر طيبه ... فالله الله في السرائر؛ فإنه ما ينفع معفسادها صلاح ظاهر".

          تعليق


          • #6
            يبدوا إنني تأخرت كثـــــــــــــــــــــــــــــــــيرا ً

            والسبب الإبتلاءات .... اسئل الله الثبات

            نكمل إن شاء الله

            تعليق


            • #7


              الحلقة الثالثة..



              لم تكن فكرة الهروب من المنزل ومن الواقع الجديد الذي أجبرت عليه..
              لم تكن فكرة جاءت على البال فعزمت عليها هكذا!!
              بل كانت الفكرة تطبخ في رأسي عدة أسابيع حتى هممت بها ..
              لم أجرؤ في استشارة أحد في الموضوع.. سوى شخص واحد..
              إنها زوجة والدي الجديدة..
              الخالة كما تسمى في بعض المجتمعات أما نحن فنناديها بالعمة..
              هذه المرأة الطيبة تزوجها الوالد قبل عدة سنوات من ذلك الموقف..
              وهي امرأة عقيم لم ترزق بالذرية ...
              وكنت في تلك الفترة قريبا منها جدا وتثق بي وأثق بها..
              وكانت تتلطف معي حتى كسبت ودي وتعاطفي معها..
              وهي امرأة طيبة ومحبة للخير وتشجعني عليه..
              أوغر ذلك صدر الوالدة علي في البداية..
              ولكن العمة بفطنتها ونباهتها كسبت رضى أمي.. فسلكت الأمور على خير..
              كانت العمة متعاطفة معي في محنتي .. وكنت أطلعها على كل أموري الشخصية تقريبا..
              وحينما فاتحتها بالموضوع وأنني عازم على أن أخرج من البيت ..
              لألتحق بحلقة عالم من علماء الأمة ..
              وسوف أسحب ملفي الدراسي وأكملها..الخ الكلام..
              لقد صورت المسألة لها بنرجسية عجيبة ..
              هكذا بكل بساطة .. سأنجح وستكون الأمور على ما يرام..
              وكانت أمرأه هينة لينة سهلة الإقناع.. فوافقتني..!!
              بل قامت مشكورة وأعطتني من ذهبها فبعته وصرفت نقوده في سفري وترحلي..!!
              لم يكن المبلغ كافيا فاستلفت من أحد كبار السن ممن يعرفني في المسجد مبلغا وافرا ..
              والحمد لله أنه لم يسألني عن مقصدي من هذا المال!!
              كانت الفترة حينها فترة إجازة صيفية ولكن الوالد سامحه الله أجبرني وبغير رضاي على التسجيل في فصل صيفي ..
              وهو ما يسمح به النظام المطور..
              رجوته وتوسلت إليه أن يعفيني من ذلك
              ولكن بلا جدوى فقد أراد من ذلك معاقبتي على تقصيري في الفصل الدراسي السابق!!
              والدي رحمه الله معروف في العائلة بأن لديه حاسة سادسة..
              شك من تصرفاتي وهدوئي المريب والذي عرف بفطرته أنه سيسبق عاصفة ما..!!
              فقد اعتاد أن يراني مهموما غارقا في التفكير في الأسابيع المنصرمة..!!
              فشك في هدوئي واطمئناني المفاجئ!!!
              ولذلك أمر الوالدة بالتحفظ علي ومنعي من الخروج خارج المنزل حتى للصلاة..
              وأخذ بطاقة الأحوال الشخصية التي لي وصار يحملها في جيبه أينما حل..
              حددت يوما معينا للهروب وكان يوم خميس.. ولا أذكر تاريخه بالتحديد..
              ولا ادري لما اخترت هذا اليوم لسفري...!!!
              جهزت حقيبة كبيرة ذات لون أحمر!!!
              ولملمت فيها بعض ثيابي وملابسي واخترت مجموعة من الكتب..
              وأخفيتها عن عيون أهلي لكي لا يكتشفوا الخطة..
              كنت أتربص بالوالد حتى آخذ بطاقة أحوالي من جيبه..
              ولكن مهابته العظيمة في قلبي جعلتني أتردد في فرص كانت مواتية..!!
              طلبت من العمة أن تساعدني في ذلك فخافت من العواقب واعتذرت!!
              صادف أن سافر الوالد مع إخوتي لجدة .. يوم الأربعاء الذي يسبق يوم السفر
              .. فاغتممت من ذلك ..
              وخفت من انكشاف أمري وما أنا عازم عليه..
              فأنا لا أستطيع السفر بدون بطاقة أحوالي الشخصية..
              لذا كان علي الانتظار حتى يقدم أبي من سفره..
              سهرت طوال تلك الليلة أنتظر قدوم الوالد..
              ووصل للبيت قريبا من الفجر...
              وصعد مباشرة لبيت العمة .. ونام نوما عميقا..
              حينما تأكدت من نومه ..
              استخرجت حقيبة سفري .. ووضعتها أمام باب المنزل داخل الفناء..
              ثم صعدت لبيت العمة..
              العائلة كلها كانت تغط في نوم عميق ..
              كانت الساعة حينها السابعة صباحا تقريبا..
              وبهدوء وترقب...
              دخلت لصالة المنزل فرأيت ثوب الوالد معلقا على الباب..!!
              وكنت أعلم أن والدي توقظه أدنى حركة في المنزل ..
              اقتربت من الثوب فسحبته بهدوء ثم فتشته..
              فوقعت عيني على بطاقتي..
              هممت أن آخذ شيئا من نقوده ولكنني خفت، وخيرا فعلت!!
              نزلت من درج المنزل.. و حملت حقيبتي على ظهري..
              كانت ثقيلة جدا والمسافة التي سأقطعها للشارع العام حوالي الكيلو متر..
              كنت أسير وأتعثر لثقل الحقيبة وأنظر خلفي خوفا من الوالد..
              لو رآني أحد الجيران وبتلك الحال فلا شك أنه سيرتاب ..
              وعندها سيحدث مالا تحمد عقباه...
              وصلت للطريق العام وأنا ألهث من التعب..
              أشرت لسيارة أجرة وهي من نوع السوزوكي ونسميه في المنطقة ( الدباب)
              سألني السائق عن وجهتي فقلت له خذني إلى موقف التكاسي المسمى موقف الجنوب..
              وهو الموقف الذي يركب منه المسافرون لجنوب المملكة..
              بحثت في الموقف عن الأجرة المتوجهة لمدينة أبها!!
              كانت أبها حينها تعج بالدعاة والمشائخ المعروفين .. ومنهم الشيخ عائض القرني.. الشيخ عوض القرني.. الشيخ الطحان الشيخ سعيد بن مسفر وغيرهم وغيرهم من الدعاة وطلبة العلم..
              لقد توقعت وبغير سؤال ودراية بأن هؤلاء المشائخ يستقبلون طلبة العلم القادمين للطلب .. فجئت مهاجرا إليهم أطلب العلم..!!!
              لم يستغرق البحث عن سيارة أجرة متجهة لأبها سوى عشر دقائق..
              وكنت في عجلة من أمري فما يدريني لعل الوالد تهديه حنكته فيتلني بتلابيبي!!!
              كان السائق رجلا كبيرا في السن عمره يتجاوز الخمسين سنة..
              ووجهة يدل على طيبته وضعف شخصيته..
              كانت سيارته من نوع البيجو تحمل ثمانية ركاب..
              كانت رفقتي مجموعة من الشباب ..
              وهم من البادية وعلى ملامحهم الطيش والشر ..
              وعرفت من احدهم أنهم ذاهبون للالتحاق بعملهم الجديد في الجيش في خميس مشيط
              وحينما رأيت هؤلاء الشباب وتصرفاتهم الرعناء..
              تذكرت ما حدثني به أخي الذي يعمل في نفس القطاع..
              عن اللواء (وذكر رقمه ) في خميس مشيط..
              وهو لواء سيء الذكر قد انتشرت بين شبابه المخدرات والتصرفات المشينة..!!
              وحينما انطلقنا في مسيرنا الطويل لأبها..
              ارتحت كثيرا وتنفست الصعداء..
              غير أن سروري لم يدم طويلا فهؤلاء الشباب لن يسلم هذا المطوع الصغير من شرهم..
              كانت النظرات من عيونهم تقذف الشرر علي..
              فهذا المطوع الصغير لا بد أن يكون سببا للمشاكل في الطريق..!!
              حاولت أن أكون لطيفا معهم وبعيدا عن الاحتكاك بهم ولكن هيهات!!
              انشغلت بالحديث مع السائق وكنت محشورا بجواره...
              وبعد مرور نصف ساعة من الرحلة تقدم أحد الشباب وأشار بشريط كاسيت أغاني وأمر السائق بإدارته!!
              علمت أن سكوتي ضعف أمام المنكر ..
              فقلت للسائق وبحماس ظاهر.. لا تشغله لا يجوز..
              كان هذا التصرف مني إعلانا للحرب بالنسبة لهؤلاء السفهاء..!!
              والظاهر أن الحركة كانت متعمدة لإثارتي وقد فعلوا!!
              كانوا سبعة وأنا واحد والسائق كان يمكنه التصرف ولكنه رجل ضعيف الشخصية
              قال لي هل لديك شريط قرءان أو محاضرة ..؟؟
              قلت لا .. قال إذا خلهم يسمعوا ما يريدوا ..
              قلت له هذا لا يجوز وحرام..
              قال إذا ارجع للخلف ولا تستمع للغناء ..
              رضخت لهم فقد كان هو وأنا أيضا نخاف من هؤلاء الفتية!!
              تخطيت القوم ورجعت للمقعد الأخير برفقة أحدهم!!
              وبدأت مزامير الشر والطرب تصم الآذان..
              وكان الشباب يتمايلون ويرقصون طربا وضحكا ..
              أما استنشاق دخان السجائر فحدث ولا حرج ..
              لم يشغلني هذا الحال عن التفكير مما سأقدم عليه من أهوال



              الحلقة الرابعة



              استمرت رحلة العذاب تلك لأكثر من ثمان ساعات
              تخللها مواقف مليئة بالتشاحن .. والسباب وتبادل النظرات الحادة!!
              ولكن على العموم وصلنا لأبها.. بحمد الله سالمين..
              ومن محطة الأجرة هناك توجهت لفندق أظن اسمه شمسان!!
              أردت أن اتصل على البيت لأشرح لهم مقصدي مما فعلت..
              وحتى لا يقوموا بالبحث عني فأنا قد خرجت من البيت بطوع أمري!!
              حينما رن الهاتف كان المتحدث على الطرف الآخر هو الوالد..
              كان الغضب قد أخذ منه مأخذا مهولا فقد شكل تصرفي خروجا صارخا على التقاليد والعادات الاجتماعية..
              وقام الوالد بتوعدي وتهديدي بكل ما يخطر على البال..
              وأنا لا ألومه رحمه الله في ردة فعله فقد كان تصرفي غير مقبول..
              إنني أحكي تلك المواقف دون محاولة تبريرها أو الدفاع عن نفسي
              فقد انقضت وولت تلك الأيام بحلوها ومرها .. والله الهادي..
              حينما وضعت متاعي في الفندق وارتحت قليلا..
              حاولت أن أتصل بعدد من أصدقائي وأصحابي ..
              ولكنني لم أجرؤ أن أشرح لهم أين أنا وما هو وضعي..
              فقد خفت أن يضعفوا أمام والدي وإلحاحه فيدلوه على مكاني..
              أذكر أنني اتصلت على احدهم وخنقتني العبرة حينما سمعت صوته..
              أغلقت السماعة دون أن أكمل حديثي معه..
              كانت مشاعري متضاربة بين الخوف والرهبة والشعور بالضياع واليأس..
              حاولت أن أنام في تلك الليلة ولكن بلا جدوى ..
              كنت ممددا على السرير وانظر في السقف وتصيبني موجات من البكاء..
              كانت تدور في مخيلتي عشرات الأفكار
              ولكن مع توارد الخواطر أصطدم بالواقع المرير الذي أنا فيه..
              ذهبت في اليوم التالي لجامع الشيخ عائض القرني..
              حضرت درسه وكان في صحيح البخاري..
              كان الحضور متواضعا للغاية..
              هممت أن اطلب من الشيخ عائض جلسة خاصة لأشرح له وضعي..
              ولكنني استحييت وجبنت..!!
              سبحان الله أقطع مئات الأميال لأجله ثم حينما أقف أمامه أعجز عن حديثه..
              لقد كان انفصاما في الشخصية وعجزا غير مبرر..
              ولكن يظهر لي أن خوفي وارتباكي سبب لي صدمة تجعلني أفتقر للتعقل في القرارات !!
              زرت المركز الصيفي في معهد أبها العلمي..
              كان أغلب المشاركين في المركز ذوو أسنان تقل عني بكثير ..
              كان استقبال المشرفين لي ومقابلتهم معي باردة للغاية..
              لقد كنت ابحث عن شخص يؤويني من الضياع..
              لقد كنت أريد شخصا عاقلا رشيدا..
              أجلس بين يديه فأحدثه بما يعتلج في صدري من آلام وهموم جلبتها لنفسي بيدي!!
              ولكن مشيئة الله تعالى وقدره جعلت هذا اللقاء متأخرا جدا ومع شخصية فذة!!
              حينما شعرت أنني غير مرحب بي غادرت المركز ولم اعد إليه أبدا..
              مكثت أياما أهيم في الأسواق وأتمشى في أماكن النزهة لأقضي الوقت..
              تساءلت مرارا : هل هذا ما جئت من أجله؟؟
              ألم أحضر لطلب العلم..
              فكرت في النفقة فهي لا شك يوما ستنضب وبعدها ماذا سأفعل؟؟
              لم أحاول الاتصال بالعائلة طوال تلك الفترة..
              رأيت أن بقائي في أبها مضيعة للوقت والمال..
              سمعت من قبل بأن الرياض هي مأوى أفئدة طلاب العلم.. من طلاب الجامعات والمعاهد فهي المركز الأول للصحوة الإسلامية..
              وفيها من الدعاة والعلماء ما يعجز حصره..
              ولا شك فهي أرجى من أبها في البحث عما جئت لأجله..
              ويكفي هذه المدينة العريقة شرفا في ذلك الوقت ..
              وجود سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فيها
              وهكذا تغيرت الوجهة ولتكن من أقصى الجنوب إلى وسط المملكة..
              توجهت لمكتب الخطوط واشتريت التذكرة إلى الرياض..
              في جواري في الطائرة كان شخص ملتح عليه سيما الخير..
              عرف نفسه باسم علي السلطان وهو من سكان القصيم..
              تحدثت مع الأستاذ علي عن أمور كثيرة ..
              وعرفت منه أنه من سكان عنيزة وهو معلم في المعهد العلمي ..
              وهو أحد الطلاب في حلقة الشيخ ابن عثيمين رحمة الله عليه العامرة بالطلاب والدارسين من كل بقاع العالم..!!
              كان الحديث عابرا ولكنه أعطاني فكرة شاملة عن المنطقة..
              وصلت للرياض ..
              لقد كانت الرياض بالنسبة لي وأنا ابن المدينة الصغيرة كانت ذا شأن كبير في النفس..
              فمبانيها الكبيرة وشوارعها الفسيحة ومساحتها الشاسعة تأخذ بالألباب..
              نزلت في فندق البطحا وهو مكان أعرفه من قبل فقد رافقت الوالد له مرارا..
              كان سعر الإقامة معقولا وبالجملة فقد كنت مقلالا في نفقتي..
              مكثت عندهم في الفندق حوالي الشهر..
              وما زال الاتصال حتى ذلك الحين مع العائلة مقطوعا ..
              ومرة أخرى أعجز عن أن أتصرف تصرفا راشدا..
              فأنا جئت من الأصل من أجل طلب العلم !!
              ولكن يظهر أن حياة الدعة والراحة التي كنت فيها جعلتني انصرف ولو لفترة عن المقصود!!
              لم يكن هناك شخص أو لم أبحث عن شخص يرشدني ..
              كنت أقضي وقتي كله في الغرفة في الفندق أو في صالون الرياضة والمسبح..
              لقد كنت صيدا يسيرا للضياع والمفسدين ولكن المولى جلت قدرته حماني..
              ذات مرة كنت أمارس السباحة في المسبح..
              فجاءني شاب نحيل من أهل البادية..
              قال هل الماء عميق ؟؟
              قلت لا .. وحسبته يعرف السباحة..!!
              قفز من فوره في وسط الماء..
              انغمس فيه ثم صعد..
              ولكنه صرخ واستنجد بي لكي أخرجه فهو لا يعرف السباحة!!
              التفت حولي لأنادي موظفي المسبح ولكن لا أحد..
              أخذ الرجل يضرب في الماء ويخفق فيه ويشرب منه.. حتى كاد أن يهلك..
              كنت مبتدئا في السباحة ولكن أين المفر..
              ما إن اقتربت منه حتى تلني بشدة وسحبني ولطمني على وجهي!!
              ثم غمسني بشدة في الماء وتخطاني ووضع قدمه على رأسي حتى خرج من الماء..
              أما أنا فقد كدت أهلك حينها!!
              ولم أحاول أن أنقذ غريقا بعدها أبدا...
              لم يكن ذلك هو الموقف السيئ الوحيد..
              ذات مرة حضر للمسبح شاب عليه سيما الخير ..
              وكان برفقته عدد من الشباب الصغار..
              لا اذكر مالذي حصل بيني وبينه لكن يبدو أن الرجل مريض مرضا نفسيا..
              وتصيبه حالات من الهيجان فيضرب من حوله دون شعور..
              وهذا ما حدث معي فقد هاج علي كالثور وضربني على وجهي ضربات كادت تقتلني.. وتركت بصمات على وجهي بقيت حتى حين...
              لم يكن أحد ليجرأ على الدفاع عني فقد كان رجلا مفتولا والله حسيبه..
              رجعت يومها لغرفتي في الفندق وهذه المرة موسوم بعلامات بارزة..!!
              اتصل علي موظف الفندق وطلب مني الحساب..
              نزلت إليه وسددت له مصاريف الأيام الماضية..
              بقي في محفظة نقودي فقط مائة وخمسون ريالا...
              وهو ما يغطي مصاريف يوم أو يومين!!!


              و

              يتبع بإذن الله ,

              تعليق


              • #8
                جزاكِ ربى خيرا يا يمامه
                رزقك ربى الفردوس الاعلى
                اللهم عيّش بطيبة فقد بلغ الشوق مداه
                سبحان الله عدد ماكان وعدد مايكون سبحان الله عددالحركات وعددالسكنات
                سبحان الله والحمدلله ولا اله الا الله والله اكبر
                الحياةُ تستمرُّ رغم مَن فقدنا وما فقدنا، ولن تتوقف دورة الأيام ولو لحظة لتنتظرَنا حتى نألف مصابَنا!

                تعليق


                • #9
                  جزانا وإياكم

                  تعليق


                  • #10
                    وآمين حبيتي أم المجاهدان

                    تعليق


                    • #11





                      الحلقة الخامسة


                      حينما يكون الإنسان في عافية.. لا يشعر بالزمن وهو يمر عليه..
                      وهذا يكون من جهة نعمة ويكون نقمة عليه من جهة أخرى..
                      حينما نضب مالدي من نفقة .. ..
                      أدركت أنني وقعت في خطأ قاتل ..
                      فأنا أمام خيارين إما أن أعود للبيت وهذا مالم يكن واردا على الإطلاق حينها..
                      أو أن أحاول تدارك نفسي بأي وسيلة ممكنة!!
                      ولكن كيف ومع من...؟؟
                      مرت علي تلك الليلة كدهر فقد استغرقت في التفكير والبحث عن مخرج..
                      أعيتني الحيل وضاقت علي السبل..
                      توجهت للخالق سبحانه بكل صدق وإخلاص..
                      سألته سؤال المضطر ..
                      لم يكن في مخيلتي أي سبيل أو أي منفذ..
                      ولكن ثقتي به تعالى هي سبيلي الوحيد..
                      في اليوم التالي توجهت للنادي الرياضي
                      فقد شعرت بالاختناق من بقائي في الغرفة
                      كان النادي شبه خال على غير العادة..
                      وكانت الساعة الواحدة بعد الظهر تقريبا..
                      رأيت في حوض السباحة شخصا يحاول العوم بمشقة ظاهرة..
                      حينما رآني ابتسم ابتسامة عريضة.. وقال لي:
                      هل تعرف السباحة ؟؟
                      قلت له قليلا وأحذرك من التقدم إلى الماء العميق..!!
                      ابتسم وتهلل وجهه وقال إن غرقت ستنقذني أنت!!
                      ضحكت وقلت له ابحث عن غيري..
                      وحكيت له الموقف الذي مر علي قبل فترة من الزمن مع صاحبنا الأعرابي!!
                      سألني عن الكدمات التي على وجهي .. فقد كانت ظاهرة وعميقة!!
                      لم أرد أن استرسل في تفاصيلها .. فقلت له سقطت !!
                      عرفني باسمه وصافحني وقال أنا أخوك سعود المعاشي من منطقة حائل وأنا من قبيلة شمر.... هل سمعت بحائل وأجا وسلمى؟؟
                      عرفته باسمي ..
                      سألني عن عملي ..
                      قلت له أنا لا اعمل ..
                      قال لي أين تقيم ..؟
                      قلت له هنا في الفندق!!
                      قال ألست من سكان الرياض؟؟
                      قلت لا أنا من سكان الطائف!!
                      قال لي ماذا تفعل هنا في مدينة الرياض إذا ؟؟ هل تدرس ؟
                      قلت له أنا جئت لطلب العلم ..!!
                      قال وعند من تدرس من العلماء .؟
                      لم اجبه فأنا لم أبحث عن شيخ حتى تلك اللحظة..
                      لا أدري لماذا استرسل الأخ سعود معي في الحديث ولكنه أصر علي أن أرافقه للغداء سويا..
                      شكرته وتعذرت منه ولكنه ألح بشكل كبير حتى رضيت..
                      قال لي ونحن نمشي .. أنا أملك تسجيلات إسلامية في حائل ..
                      واعرف عددا من المشائخ في الرياض فإن كنت ترغب في أن أعرفك عليهم فعلت..!!
                      صمت ولم أجبه..!!
                      ونحن قعود ننتظر الغداء قال لي سعود:
                      أسمع أخي أنت لك قصة وأكيد لديك مشكلة وأنا اقرأ ذلك في وجهك!!
                      ولو ترغب في ذكرها لي ولا يحرجك الأمر فأرجو أن تخبرني بها ..
                      فما يدريك لعلي أستطيع مساعدتك ..!!
                      خجلت والله من كرمه وسماحة نفسه..
                      إن الأخ سعود حينما يقول لي هذا الكلام فهو رجل صادق غير متكلف أو متصنع..
                      ولقد اكتشفت بعد مخالطتي للأخ سعود أن معدن هذا الرجل معدن أصيل كالذهب ..
                      لقد كان الأخ سعود رحمة ساقها الله لي فإن مجرد إنصاته وسماعه لقصتي هو أمر يشكر عليه بارك الله فيه..
                      حدثته بمشكلتي وأنصت إلي لأكثر من ساعة حتى برد الطعام ولم يأكل منه شيء!!
                      لم يقاطعني طوال حديثي..
                      وحينما استكملت قصتي .. صمت قليلا ثم قال لي..
                      أسمعني جيدا ..
                      أنا رحلتي بعد قليل على حائل وسوف ترافقني للمنطقة وستكون في ضيافتي..
                      ومن هناك سوف نتدبر حلا لمشكلتك... ما رأيك؟؟
                      بالنسبة لي أنا لا أعرف الخ سعود ولكني كالغريق يبحث عن أي شيء ينقذه..
                      قلت له ثم ماذا ؟؟
                      قال ثق تماما سنجد حلا لمشكلتك موضوعك بسيط وسأجد له حلا..
                      أرجوك اصعد لغرفتك ووضب أمتعتك وانتظرني عند الاستقبال..
                      لم يعطني الفرصة- وقد تعمد هذا – حتى أفكر في الموضوع..
                      وحينما صعدت لغرفتي أخذت تجول بخاطري الأفكار:
                      ياترى هل الرجل صادق ؟؟
                      ماذا لو كان .؟؟؟
                      ولكن سيماه الخير !! أسئلة تتردد ولكن لا خيار لي !!
                      لم اخبر الأخ سعود بوضعي المادي.. ولكن كرمه غير المصطنع..
                      جعله يحاسب الفندق دون مشاورتي..!!!
                      طلب سعود من سائق التاكسي أن يسرع ..
                      فقد كان يعلم أنه ليس لدي حجز لمقعد في الطائرة..
                      وبعد قليل التفت إلي وقال :
                      إن سألك أحد من تكون فقل لهم أنك أحد أقربائي وتقيم في الطائف..
                      قلت له ولكن لقب العائلة ؟؟
                      قال لهم أنت فلان الشمري!!
                      قصد الأخ سعود من ذلك حمايتي من ألسنة الناس وتحقيقاتهم..
                      ولكن لقد دفعت أنا ثمن تلك الغلطة الشرعة والاجتماعية ثمنا غاليا..!!
                      وصلنا للمطار واجتهد الأخ سعود حتى حصل لي على مقعد في الطائرة..
                      كان الأخ سعود يلتفت إلي كل فترة ويطمنني بقوله: لا تقلق سوف تحل المشكلة..
                      لقد كنت متأكدا أن سعود ليس لديه عصى سحرية لحل وضعي..
                      ولكن طيبته وسماحته ورطته في هذا المقلب ..
                      وصلنا لمدينة حائل وكان منظر جبالها وهضابها يسحر الناظر..
                      يابعد حيي كلمة تسمعها عشرات المرات يوميا..
                      أهل حائل كرماء وأسخياء بشكل عجيب..
                      والطبيعة البدوية والفطر السليمة هي الغالب على الناس..
                      توجهنا فورا من المطار لمكان عمل الأخ سعود .. لأخذ بعض أوراقه..
                      اكتشفت أنه ضابط صف في المرور..
                      سلمت على أصحابه وعرفني لهم بأنني فلان الشمري!!
                      خجلت من ذلك أيما خجل فأنا لم اعتد على ذلك اللقب..
                      لقد كان ذكاء الناس الفطري وأسئلتهم البسيطة تكشف بسهولة بطلان هذا الانتساب ..بالإضافة للكنة الحجازية فقد كان الأمر برمته مفبركا !!
                      لم تعجبني الحال فلم اعتد الكذب ولكن إرضاء لمضيفي تغاضيت.. وصبرت
                      لاحظت أن في المنطقة أمنا عجيبا فالناس ينامون في بيوتهم..
                      ومفتاح السيارة على المقود..
                      هذا ما رأيته بنفسي في عدة مواقف..
                      تعرفت على إخوة سعود في منزله في حي المطار ..
                      كانا شابين نسيت أسماءهما
                      ولكن طيبة هذه العائلة والمواقف الجميلة التي عشتها في بيتهم
                      هي ذكريات عطرة تبقى معي أينما حللت..

                      و

                      يتبع بإذن الله
                      التعديل الأخير تم بواسطة حاملة الرايه; الساعة 08-08-2010, 09:41 PM. سبب آخر: حذف المكرر من الحلقات

                      تعليق


                      • #12


                        :LLL:

                        الحلقة السادسة

                        لقد قضيت في حائل حوالي العشرين يوما أعتبرها من أجمل أيام حياتي..
                        الكرم الحاتمي .. والسماحة وعلوم الرجال كما يقولون..
                        أشياء متجذرة في هذا المجتمع النبيل..
                        لقد سرني والله أن أنتسب لهم وليتني كنت غصنا من أغصانهم..
                        ولكن الحقيقة تبقى هي الفيصل وهي قدر الإنسان الذي كتبه الخالق جل في علاه عليه..
                        لن استرسل في تفصيل يومياتي في حائل وفي ضيافة الشهم النبيل سعود المعاشي..وإخوته.
                        لا أنسى رحلات الصيد في وديان حائل في شمالها وشرقها..
                        وفي منطقة جبه وحيه وبقعا وغيرها...
                        أذكر أننا زرنا بيوتا قديمة يقول مرافقنا أنها منازل حاتم الطائي العربي الكريم المشهور
                        يوجد في المنطقة مسجد قديم للغاية لم يبق منه سوى بعض أسواره وله محرابان !!
                        أحدهما متجه لبيت المقدس والآخر متجه للكعبة..
                        ويزعم أهل المنطقة أنه كان كنيسة وحول لمسجد ..منذ مئات السنين..
                        ولا أدري عن صحة هذا الكلام...
                        لكن الصلاة في هذا المسجد وتذكر الأجداد قبل مئات السنين الذين قد صلوا وركعوا في هذا المسجد إن تلك الذكرى تثير في النفس السكون والخشوع ..
                        ولقد سجدنا عدة ركعات فيه وكان بعض الإخوة يبكي تأثرا بالروحانية فيه..
                        أذكر زيارتنا لمنطقة أسمها حية وكان برفقتنا شخص نسيت اسمه
                        و يظهر أن لديه خلفية أدبية وشعرية وتاريخية لا بأس بها..
                        استغرقت الرحلة للمنطقة حوالي الساعتين .. والطريق إليها جلد و غير معبد..
                        ونحن نسير في الطريق صدنا عددا من طيور الحبش أو ما يسمى الحجل..
                        وكانت هي غداءنا في تلك الرحلة..
                        حينما وصلنا للمنطقة أشار لنا دليلنا لجهة الوادي وقال هناك تقع حية!!
                        لم نشاهد سوى صخور ضخمة قد تساقطت من سفوح الجبال بفعل السيول والأمطار..؟؟
                        أوقفنا سيارتنا وترجلنا وصعدنا على الصخور..
                        مشينا حوالي ربع كيلو بين الصخور والأنقاض..
                        وكنا كلما تعمقنا في الوادي تزداد المنطقة بهاء واخضرارا!!
                        حينما وصلنا لحية سحرنا بتلك الطبيعة الخلابة المحشورة بين الجبال..
                        هي واحة خضراء مليئة بالأعشاب والحشائش..
                        وفي وسطها برك ماء وجداول صغيرة تصب من أعلى الوادي..
                        أخذ محدثنا يروي لنا أشعارا وقصائد لامرئ القيس
                        حينما كان سيد هذا الوادي ويغازل الفتيات اللاتي يأتين لسقي البهائم من تلك البرك..
                        لقد ترسخت صورة حية كجنة وبساتين في ذاكرتي
                        وأتمنى لو أعود لها وأصور للناس تلك المشاهد..
                        كنا ننطلق كل يومين أو ثلاثة برفقة سعود وأصحابه للنزهة والصيد وزيارة الآثار..
                        فقد وافق وجودي معهم وقت عطل وإجازات..
                        أهل حائل فخورون جدا بأرضهم وطبائعهم ويعتزون بذلك أيما اعتزاز..
                        وحينما يقدم عليهم ضيف يشبعوه كرما وأنسا حتى يتمنى أن لا يفارقهم..
                        أما السمر والحديث في البراري والنوم أحيانا فتلك متعة لا يمكن وصفها..
                        لقد تناسيت كل ما أنا فيه من إشكالات وانغمرت في تلك الرحلة الانتقالية!!
                        سميتها انتقالية لأنها والله أعلم كانت تهيئة لي لأيام ووجوه ومنطقة أخرى
                        تختلف اختلافا جذريا عما أنا فيه وعما كنت قبل فترة بسيطة عليه!!
                        كيف تغيرت بي الأحوال كنت قبل أيام قليلة أعيش كالمشرد ..
                        وهاأنذا أستمتع برفقة يضن الزمان بمثلهم..!!
                        سمها مراحل أو قفزات من أوضاع سيئة إلى وضع جديد يصعب على المرء توقعه أو تخيله
                        ولذلك يقول تعالى ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب)..
                        الإنسان بطبعه عجول وطماع ويريد أن تسير أوضاعه على هواه ورغباته..
                        ولكن القدر بحكمة إلهية يقود الإنسان إلى الأفضل والأحسن لحاله ..
                        حتى ولو كرهها وجهل عاقبتها..
                        ولذلك يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
                        لو كشف الله لخلقه ستر القدر لما وجدوا خيرا لهم مما قدره الخالق عليهم سبحانه..
                        كاشفني الخ سعود برغبته في أن يتصل على والدي لكي يطلب أن يصلح بيننا..
                        لم تناسبني الفكرة وطلبت منه أن يتأنى قليلا..
                        فأنا ما زلت أبحث عن قاعدة صلبة اتكئ عليها ..
                        فأنا ابحث على استقرار وليس من المعقول أن يستمر حالي هكذا..
                        احترم رغبتي ولم يحاول أن يضغط علي لكي لا يجعلني أظن أنه تململ مني..
                        كنت أنام في ملحق منفصل برفقة إخوة سعود الذين هم في سن قريبة مني..
                        وكان لدي حرية واسعة في الخروج بالسيارة التي وضعت تحت تصرفي..
                        لم اتصل حينها بأي مخلوق .. من قريب أو بعيد..
                        حضرت دروس الشيخ حمد الغاوي في شرح بلوغ المرام
                        وأعجبني أسلوبه الميسر في التدريس ..
                        قال لي أحد طلابه هذا أسلوب تعلمه عن شيخه ابن عثيمين..
                        عرض علي الأخ سعود أن نسافر لمنطقة القصيم ..
                        وذلك برفقة احد أصحابه الذي لديه عمل هناك ليوم واحد ..
                        فرحت بذلك أيما فرح فالمتعة في اكتشاف مكان جديد هي مما فطر عليه الناس..


                        الحلقة السابعة

                        توجهنا لمنطقة القصيم ...
                        وكانت وجهتنا مدينة بريده..
                        كانت بريدة في تلك الأيام مركز التعليم الشرعي في المملكة ..
                        ويسميها منافقو بلادنا مركز تفريخ الإرهاب!!
                        وكان حينها الشيخ سلمان العودة هو جديلها المحكك ..
                        في الطريق آنسنا صاحبنا أبو آدم الذي كنا برفقته بسواليفه والقصص الذي يرويها..
                        ومن رواياته ما قصه من مواقف مرت عليه خلال ابتعاثه للدراسة في لندن..
                        مما أذكره ...
                        يقول : كنت ذات مرة أتجول في مكتبة الجامعة التي ادرس فيها وابحث عن كتاب
                        وكان حينها رجلا وسيما تملأ الرجولة والفحولة عين ناظره منه!!!
                        كانت تراقبه فتاة انجليزية ذات عيون زرقاء وأهداب سحرية..
                        وهو يتصفح الكتب وينسخ في الأوراق التي بين يديه ..
                        ولم يلاحظ هو تلك العيون المتوهجة ولا تلك القطة المتوحشة التي تراقبه!!!
                        يبدوا أنها امتلاءت منه فقررت أن تملك فؤاده..
                        لحقته إلى مطعم الجامعة واحتالت أن تتعرف عليه؟؟
                        وبعد قصة طويلة وظريفة لا يصلح ذكرها هنا وقع الرجل في النهاية في حبائلها!!
                        أغرم الفتى بها و أ غرمت به..
                        فتزوجا وعاشا معا طوال فترة الدراسة..
                        ولكن ....!!
                        كانت أم الفتاة نصرانية متعصبة لدينها ..
                        فضغطت على ابنتها وحولت حياتها لجحيم ، حتى تفرقا ولم يلتقيا بعدها أبدا..
                        تألم كثيرا لفراقها ولكنه لم يكن لديه خيار ..
                        التفت صاحبنا لولده الصغير وكان معنا!!
                        وقال له: انتبه تعلم أمك!!!
                        أضحكنا وآنسنا بطرافته المفرطة وسعة صدره ..
                        حينما وصلنا لبريده كنت أتأمل وجوه الناس..!!
                        كنت أتصور بريدة في مخيلتي مليئة بل قل كل أهلها متدينون !!
                        لا شك أن الدين هو الغالب في الناس ولكن لا تسلم أي مدينة من مظاهر السفور والفساد
                        أو الرجال غير المتمسكين بالهدي الظاهر الواجب!!!
                        الملاحظ كثرة العمالة الآسيوية هناك..
                        فالشوارع منهم غاصة حتى يخيل إليك انك في بومباي أو نيودلهي!!
                        كنت أتصور بريدة قبل أن أراها كأنها مثل الجامعة تعج بطلبة العلم
                        الذين يحملون كتبهم وقراطيسهم..
                        و أسواق المدينة مهجورة سوى من السوقية أو كبار السن والأشياخ...
                        حينما قطعنا طريق بريده الرئيسي والذي يشق المدينة لشقين..
                        لم ألاحظ أي فرق يذكر عن مدن المملكة الأخرى..
                        أسواق ومحلات مليئة بل غاصة ودخان وشباب طائش ..
                        الملاحظ هو قلة أو انعدام السفور وقلة الجهر بالمعاصي ..
                        وهذا ترسخ لدي بالإقامة الطويلة في القصيم لاحقا..
                        توجهنا فورا لشغل الرجل وانقضى سريعا..
                        فقال سعود ما رأيكم لو نذهب لمسجد الشيخ فلان وذكر اسمه ونسيته..
                        هذا المسجد مبني على الطراز القديم وما زال أهله يعيشون حياة الأولين!!
                        لم نتردد في الذهاب فهذا شيء لم نسمع به من قبل!!
                        دخلنا للحي ...
                        الحي حديث وبيوته مبنية من الخراسان وعلى أجمل واحدث طراز.. !!
                        وفي وسط الحي مسجد قديم متهالك البناء وأظن أصل بناءه من الطين ولكنه صبغ حديثا..
                        وكان وقت صلاة العصر ..
                        أذن المؤذن ولم نسمعه لأن الآذان بلا ميكرفون..
                        المسجد مفروش بالرمل والناس تصلي على الرمل ..
                        غالب من في المسجد هم من الشيوخ وكبار السن وفيهم مجموعة من متوسطي الأعمار والصغار
                        تسننا وجلسنا لانتظار الإمام ...
                        توقعت أن يدخل علينا شيخ معمم كعمائم السلف وعليه قلنسوة قد أرخي طرفاها
                        ومشدود وسطه بمشد ويتدلى منه سيفه!!
                        فهذا ما نعرفه عن السلف ولا يخلو الأمر من مبالغة طبعا!!
                        دخل شيخ نحيل لحيته مصبوغة بالكتم الأسود..
                        ومشيته عليها السكينة والتواضع والخضوع لله تعالى..
                        ووجهه أبيض مضيء بنور الطاعة....
                        وعليه عباءة سوداء وشماغ احمر..
                        طلب من المؤذن أن يقيم..
                        قام شيخ كبير محني الظهر لا يكاد أن يرى وأقام للصلاة..
                        و صلى بنا الإمام صلاة مريحة لم تكن بالطويلة أو العجلة..
                        وحينما سلم التف حوله مجموعة من الصبية بأيديهم كتب صغيرة ..
                        وقعدوا خاضعين كأن على رؤوسهم الطير ينتظرون من الشيخ إشارة البدء
                        سحب الإمام مهفة من القصب كانت بجواره وقال لأحدهم سم..
                        بدأ الفتية كل واحد منهم على حده. بقراءة فصول قصيرة
                        من مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب..
                        من كشف الشبهات ومن الأصول الثلاثة وقرأ أكبرهم من كتاب التوحيد..
                        كانوا يقرؤون بصوت خافت وخاشع ملحن وجماعة المسجد مطرقون بإنصات ولا تسمع لهم همسا
                        لم يعلق الشيخ سوى بتصحيح النطق والعبارات..
                        استغرقت القراءة حوالي عشرين دقيقة ..
                        وبعدها انصرف الجميع وقام الإمام من محرابه..
                        تقدم أصحابي إليه وصافحوه ..
                        وبقيت أنا أراقب الموقف..
                        أحببت القصيم من يومها وأحببت أهلها
                        فأهلها أهل دين وصلابة في الحق والتزامهم بالإسلام خير التزام..
                        عدنا لحائل وفي الطريق عرض علي سعود عرضا كان هو الباب الذي منه
                        ولجت للسعادة والنور إن شاء الله تعالى


                        الحلقة الثامنة

                        سمعت عن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أول مرة عن طريق
                        جارنا في الحي القديم في الطائف الأخ صالح الأسمري..
                        والذي أصبح الآن من أنشط الدعاة ونشرا للعلم وتعليمه..
                        حينما هداني الله تعالى خصني الشيخ صالح وكان حينها في المرحلة الأخيرة من الثانوية
                        خصني بعناية واهتمام فكنت أصحبه دوما للمسجد..
                        حيث أن باب بيتنا يجاور باب منزله مباشرة..
                        وكان يحدثني عن الشيخ بن عثيمين وعن دروسه في الحرم في العشر الأواخر..
                        وبعد انتقالنا للحي الجديد..
                        في ذلك العام 1410 للهجرة نزلت برفقة شباب المكتبة للبقاء بجوار بيت الله الحرام طوال فترة العشر الأواخر...
                        وحضرت في سطح الحرم درس الشيخ العلامة ابن عثيمين عليه سحائب الرحمة والغفران..
                        كانت تلك أول مرة أرى بها هذا العلم الجليل..
                        في اليوم التالي أخذتني الحماسة فاقتربت من كرسي الشيخ فدفعت ثمن اقترابي غاليا..
                        فلقد أوقفني الشيخ كعادته في دروسه وسألني سؤالا عما كان يتحدث عنه ؟؟
                        وكنت حينها شارد الذهن ..!!
                        فما استطعت أن أجيبه.. !!
                        فأمرني بالجلوس فشعرت بالخجل والخيبة حيث فشلت في أول امتحان معه!!
                        وما عدت لذلك المكان مرة أخرى..
                        بل بقيت خلف ظهره أو في صفوف بعيدة..
                        وفي إحدى رحلاتنا لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم..
                        حضرت درس الشيخ أبي بكر الجزائري ...
                        وبكرت بالحضور لأكون قريبا من الشيخ فكنت في الصف الثاني أمامه مباشرة..
                        سمعت الطلبة يتهامسون بين بعضهم.. فسمعت احدهم يذكر اسم ابن عثيمين..؟؟
                        وبعد دقائق جاء شيخ مسن قصير ورقيق البنية
                        لحيته بيضاء وشعره ابيض ووجهه أبيض.. وثوبه ابيض عليه غترة بيضاء..!!
                        وجبهته ناصعة عليها أثر السجود.. وحاجباه عريضان ومليئان بالشعر الأبيض
                        يجر عباءته خلفه ..
                        ويشق الصفوف نحو المقعد المخصص للشيخ أبي بكر الجزائري..!!
                        إنه الشيخ ابن عثيمين!!
                        هممت أن أقوم ولكن كيف ؟؟
                        فعندما رفعت رأسي ونظرت خلفي ..
                        رأيت ارتالا من البشر تحدق في الشيخ ابن عثيمين والذي أصبح خلفي مباشرة..!!
                        عندما استوى الشيخ على المقعد أشار إلي بعنف وسخط وقال :
                        أجلس فقد آذيت إخوانك..!!
                        جلست مطرقا .. ثم بدأ الشيخ حديثه بالحمد والصلاة ..
                        فأنصت لكل حرف وكلمة يقولها..
                        فما يدريني لعله سيفعلها مرة أخرى ويسألني..؟؟
                        ولقد فعلها والله مرتين .. في ذلك الدرس!!
                        فأجبته وأنا أتتعتع وأرتجف خوفا منه .. ولكن أجبته بما يريد..
                        فكافأني بكلمة واحده قال لي : أحسنت..!!
                        هذا الرجل تحبه من النظرة الأولى..
                        أحبته ملايين المسلمين في كل مكان..
                        وسمعت من الناس ما زاد حبي له.. من زهده في معاشه وهيئته ومسكنه..
                        فلقد سمعت حينها أنه يعيش في بيت من طين..!!
                        ولقد زاره الملك في عنيزة فاستقبله في هذا البيت من الطين .. وجلسا سويا على الأرض!!
                        وأنه يأكل مما يحرثه ويزرعه بنفسه!!
                        كانت تلك الصور في الذهن إن صحت أو لم تصح...
                        تثير الإعجاب والمحبة للشيخ مع ما وهبه الخالق سبحانه
                        من علم راسخ وفقه وفهم للشريعة قل نظيره في زماننا..
                        كانت فصاحة الشيخ وقوة حجته تبهر مستمعيه..
                        مع ما يثيره الشيخ من دعابة ومزاح مع من يسألهم ..
                        في تلك الجلسة في المدينة سأل الشيخ سؤالا ..
                        ثم نظر حوله بنظرة تذكرك بالصقر حينما يلتفت بحثا عن فريسة!!
                        وأخذت نبضات قلبي تزيد فقد ظننته سيلتفت إلي ويسألني..
                        فأشار للشخص الذي بجواري..
                        وكان رجلا بدينا فيه سمرة ويلبس المرآة على عينيه..
                        أشار له الشيخ وقال له: قم..؟؟
                        بقي الرجل فاغرا فاه ينظر للشيخ كالأبله!!
                        فكرر الشيخ كلامه وقال :أنت قم ،وطقطق بأصبعيه وأشار بسبابته إليه!!
                        فقال له أنا؟؟ وأشار لنفسه!!
                        قال: نعم أنت!!
                        تزحزح الرجل وحاول القيام بتثاقل حتى دفع من بجواره !!!
                        وحينما علا لم يستطع أن يرفع رأسه وبقي في هيئة كالراكع!!
                        كان مشهد جاري ذلك يثير الضحك والشفقة معا!!
                        فالظاهر انه لم يعتد الوقوف أمام الجموع وبين يدي إمام من أئمة السنة كابن عثيمين!!
                        أغلق الشيخ الميكرفون وناداه ليقترب منه ..
                        فدنا الرجل من الشيخ وهو منحني!!
                        فاقترب الشيخ من أذنه فهمس فيها بكلمات لم نسمعها!!
                        فكان الشيخ يهمس في أذنه والرجل يهز رأسه ويضحك..!!
                        ثم أمره الشيخ بالرجوع والجلوس في مكانه واستأنف درسه..
                        إن ذلك الموقف والتواضع والسماحة من رجل في مكانة الشيخ يجعل محبته
                        تسري للقلب كما تسري النار في الهشيم..


                        الحلقة التاسعة

                        حينما التفت إلي سعود قال لي..
                        ما رأيك في الالتحاق بحلقة الشيخ ابن عثيمين!!
                        ظننت الرجل يسخر مني !!
                        ثم أكمل حديثه وقال..
                        أنا اعرف شخصا مقربا من الشيخ محمد ويمكنه أن يتصل به مباشرة ليشفع لك!!
                        قلت له: أنا سمعت أن شروط قبول الطلاب عند الشيخ قاسية للغاية!!
                        فلا بد أن يكون حافظا للقرءان ولصحيح البخاري عن ظهر قلب!!
                        بلع سعود ريقه ثم صمت!!
                        وصلنا لحائل... ولم أنم تلك الليلة..
                        لقد كان ثني الركب بين يدي هذا العالم الجليل أمنية كل طالب علم..
                        لقد اشغل سعود تفكيري بتلك العبارة....
                        بعد صلاة الفجر قلت ياسعود.. وين رفيقك اللي يعرف الشيخ..
                        قال الليلة فيه عرس وسيحضر الرجل وبعرفك عليه..
                        انتظرت بفارغ الصبر ذلك اللقاء ولكن الرجل غاب ولم يحضر العرس..
                        في اليوم التالي صلينا العصر في مسجد ذلك الرجل ..
                        نسيت اسمه ولكنه رجل وقور وهادئ الطبع ..
                        درس عند الشيخ لأربع سنوات وكان محل ثقة الشيخ فعينه مشرفا على سكن الطلبة..
                        دخلنا منزله وجلسنا في مجلس الضيوف..
                        لم يكن يعلم الرجل عن الموضوع..
                        قال له سعود .. هذا الأخ فلان الشمري!!
                        يا الله ما أثقل تلك العبارة على قلبي ولكنه قالها سامحه الله..
                        قال : يرغب في الدراسة عند الشيخ محمد ونريدك تشفع له عند الشيخ..
                        رحب الأخ بذلك وتهللت أساريره وقال :بكل سرور..
                        وسأكتب له توصية عند الشيخ ..
                        سألته هل من شروط القبول حفظ القرءان أو صحيح البخاري كما سمعت؟؟
                        قال : أبدا هذا ليس بصحيح ويمكنك الدراسة عند الشيخ بدون شيء..
                        أما إذا أردت الالتحاق بالسكن فلا بد من توصيه.. وسوف اكتبها لك..متى ستذهب؟؟
                        التفت لسعود فأنا ضيفه ، ومعنى ذلك هو أنني سأغادر حائل وأهل حائل..
                        ويعلم الله تعالى صعوبة ذلك على نفسي.. ولكن لابد من عمل شيء..
                        فوالداي لا بد أنهما قلقان علي فلو علما أنني لدى عالم ادرس
                        والدراسة على الأبواب فلا بد أن أكمل دراستي الثانوية..
                        لو علما بأن أموري جيده فلا شك أن ذلك سيخفف من وقع المصيبة عليهما..
                        قال سعود: سوف اذهب في نهاية الأسبوع لتبوك وسوف أصحبك للقصيم..
                        ومن هناك سأسافر لتبوك....
                        وفعلا فقد كتب الأخ الكريم تلك التوصية مشكورا ..
                        ولكن ما كدر خاطري أنه نسبني لقبيلة أخرى غير قبيلتي ..
                        لقد كان خطئا فادحا سأدفع ثمنه غاليا من سمعتي لاحقا!!!
                        وضعت التزكية في جيبي وذهبنا للمنزل..
                        رآني سعود كئيبا فسألني عن سبب ذلك ..
                        أخبرته بأن من أسباب زعلي هو أنني سأفارق أناسا أحببتهم من كل جوارحي..
                        كما أحب إخوتي بل وأكثر..
                        سأفارق الأنس والكرم والجود والسماحة واللطف ..
                        ماذا لو لم تصلح أموري هناك..
                        وما يدريني ماذا ينتظرني في عنيزة والقصيم..
                        ألم أزل شابا غرا صغيرا لم تصقله الحياة
                        ماذا لو وقعت في يد أناس لا يخافون الله..
                        لقد كانت حالي استثنائية بكل المعايير وفيها من المغامرة والطيش شيء غير يسير..
                        دمعت عين سعود وقال لي :
                        والله إن بقاءك يسرني ويسر إخوتي ..
                        وإنني والوالدة والزوجة وجميع الأقارب الذين عرفوك يعدوك كواحد منا..
                        فلو شئت أن تمكث معنا فهذا يسرنا ويسعدنا ولو مكثت في بيتي عشر سنين..
                        ولكن إن مصلحتك تهمني ولا بد أن تتصل بعائلتك ووالديك ..
                        فهما مهما غضبا عليك فسيبقيان اهلك واقرب الناس لك..
                        وأنت شاب ما زلت في مقتبل العمر وتحب العلم والتحصيل فهذه فرصة ثمينة لك..
                        وثق تماما حتى لو انتقلت للعيش في القصيم فسأبقى قريبا منك تعودني وأعودك
                        وبخصوص تكاليف دراستك وإقامتك فسأتكفل لك بكل فلس تنفقه..
                        فانظر ماذا ترى والله يقدر لك الصالح..
                        لا شك أن كلام الأخ سعود هو حق ومع التأمل والتفكير فالمصلحة تقتضي
                        أن أتدارك حل مشكلتي بكل السبل الممكنة..
                        لقد قدم لي سعود الكثير الكثير..
                        فيكفي انه آواني وفرج كربتي جزاه الله عني خير الجزاء..
                        أخذني في اليوم التالي لسوق السيارات..
                        فرأيته يبحث عن سيارة ليشتريها..
                        قلت له ياسعود أنت لا تحتاج لسيارة أخرى!!
                        فلديك اثنتان وإخوتك غير محتاجين..
                        قال أريد أن اشتري لك سيارة..
                        أقسمت بالله عليه ورفضت رفضا قاطعا وجلست أتجادل معه أكثر من ساعة
                        حتى أقنعته بالعدول عن ذلك..
                        لم يكن سعود رجلا غنيا فهو متوسط الحال والذي لا اشك فيه أنه سيقترض ذلك المال..
                        وحتى لو لم يقترضه وكان غنيا فكفاني منه جوده وسخاؤه ..
                        فقد كان كل يوم أو يومين يضع في جيبي مبلغا جزيلا دون أن أطلبه والله..
                        قال لي مرة لقد زوجت أختي الصغرى قبل أن تأتيني بشهر واحد..
                        والله لو كنت أعرفك حينها وكنت موجودا معنا لزوجتك إياها!!
                        بارك الله في سعود وفي ماله وولده وكثر الله من أمثاله..
                        وليس هذا غريبا على أهل تلك المنطقة فمع أن انتشار الجهل بالأحكام الشرعية بين أهل
                        الشمال عموما هو الغالب ..إلا أنك تجد فيهم من الكرم والجود مالا تجده في مناطق
                        أخرى..
                        حدثني مرة سعود يقول تعطلت سيارتي مرة وأنا على طريق عام ..
                        فتوقف رجل أعرابي معه سيارة وانيت داتسن ذات باب واحد..
                        .. دون أن أشير له.. ومعه زوجته في داخل السيارة..
                        فعرف أنه لا يمكن إصلاح السيارة في الحال..
                        ولا بد من إحضار مهندس ..
                        أمر ذلك الرجل زوجته بالركوب في صندوق السيارة..
                        قال سعود: أبدا أنا سأركب في الصندوق.. ودع الأهل في مكانهم..!!
                        قال الرجل: هي طالق إن لم تركب أنت في الأمام وهي في الخلف..!!
                        ولقد رأيت من كرمهم وجودهم وافتخارهم بذلك ما يعز نظيره والله..
                        إن ميزة الكرم لدى الناس هناك أنه جود غير متكلف ..
                        فهذه سليقتهم وهذه طباعهم توارثوها من أجدادهم وما زالت راسخة لديهم..

                        ويتبع بإذن الله ,

                        تعليق


                        • #13

                          :LLL:



                          الحلقة العاشرة.


                          مرت الأيام التالية علي سريعا ..
                          وحرصت أن استمتع بالجلوس فيها بالقرب من سعود..وأولاده وإخوته..
                          ذهبنا سويا أنا وسعود للمكتبة واشترى لي مجموعة من الكتب..
                          لقد أراد سعود أن يعدني إعدادا شاملا للدراسة عند هذا الحبر..
                          لقد كان سعود أشبه بوالد يزف ولده ...
                          ولم أكن اعلم أنا أو سعود ما يخبئه القدر لي..
                          قبل يوم السفر قدم قريب لسعود وكان قريب عهد بعرس ..
                          تلفظ معي هذا الرجل بكلام فهمت منه أنني غير مرحب بي..
                          قال لي: أنت لست من شمر وأريدك أن تخرج هويتك من جيبك لتثبت عكس ذلك..
                          كان متكئا على وسادة ومقابلا لي ..ويشير بيده بكل تيه وغرور..
                          قام أخو سعود إليه فأراد أن يلطمه على وجهه فدفعته وقلت له دعه ليقل ما يقل..
                          لم يكن من اللائق بي أن أحرج الأخ سعود في بيته فسكت ..
                          لكن أخا سعود استدعاني للمختصر وقال لي..
                          دعك من هذا السفيه وأنا أعرف كل شيء عنك وأنت أكرم عندي منه..
                          خفف ذلك علي كثيرا ففكرة الانتساب تلك مع خطئها الشرعي لم تكن فكرتي و هي
                          شيء مخالف لأعراف الناس وتقاليدهم وفيها ما فيها!!!
                          في اليوم التالي سافرنا صباحا للقصيم..
                          ودعت إخوة سعود ثم انطلقنا لرحلة الطلب ..
                          لم يكن إخوة سعود على استقامة تامة بالدين مع محافظتهما على الصلاة في المسجد
                          إلا أنهما رجلان شهمان طيبان وفيهما من الخلال الحميدة ما يفوق كثيرا ممن
                          رايتهم من المحافظين على الشعائر الظاهرة..
                          لقد أتصل علي سعود بعد أربع سنوات من ذلك اللقاء الأخير..
                          واخبرني بخبر اليم عن أخويه
                          فلقد حدث لهما حادث بالسيارة على الطريق العام في أحد طرق الشمال السيئة ..
                          فتوفيا على الفور رحمهما الله رحمة واسعة..
                          وخلف على سعود فيهما خيرا في ذريته وأولاده..
                          مر علي منذ أن خرجت من بيتنا من الطائف حوالي ثلاثة شهور تقريبا..
                          وهاأنذا أنتقل لمنطقة جديدة والله أعلم مالذي ينتظرني..
                          كنا وسعود في تلك السفرة صامتين .. فليس في مخيلتي أي كلمات أو حوار دار بيننا..
                          سعود هذا رجل .. ويكفي أن اسميه رجل..
                          إن من الناس من هو كمعدن الحديد ومنهم من هو كالفضة ومنهم من هو كالذهب..
                          سعود في نظري معدنه أثمن من الذهب والله ..
                          أنا لا احكم على الرجل من خلال موقفه هذا معي هذا اتركه للقراء الكرام..
                          وصدقوني يا معاشر القراء الكرام إن سعود لا يعلم عما أكتبه عنه الآن..شيئا والله..
                          ولو علم لغضب من ذلك وكرهه..
                          فهو يرى عمله ذاك شيئا يتقرب به لربه ولا يريد أن يخالطه مدح الناس..
                          إن سعود لا ينتظر من عمله ذاك أن أكتب عنه أو أن أمجده فهو لم يكن يعلم
                          ولا أنا كنت أعلم أين تسير بنا الأمور وما هي خاتمتها..
                          إنني أكتب هذا الكلام وهذه المواقف لأسجل لأبنائي ما حل بوالدهم..
                          لأروي لهم عمن رويت ومن خالطت ليعرفوا قدر الرجال وليعرفوا الدب مع الناس
                          إنني يا أبنائي وأنتم الآن أطفال صغار وستكبرون إن شاء الله..
                          اقتطع لكم من جسدي قطعا صغيرة مليئة بالمآسي والأحزان والأتراح والعذاب والآهات
                          فأنسجها لكم بهذه العبارات لكي تستمتعوا بها..
                          وتكون أنيسا لكم في دهاليز وظلمات ومضائق الحياة..
                          وأسجل للقراء الكرام ما حدث معي حتى يكون للناس فيها عبرة لمن أراد ذلك..
                          إنني أطلب من إخوتي القراء الكرام أن يشاركوني هذا الدعاء..
                          اللهم جازي سعود عني خير الجزاء
                          اللهم بارك له في ولده وذريته اللهم واغنه من فضلك واجعله من عبادك الصالحين واختم
                          له بخاتمة صالحة يا ارحم الراحمين .. اللهم اجعله من أهل فردوسك الأعلى ووالديه
                          وإخوانه وذريته يارب العالمين..
                          وصلت أنا وسعود إلى عنيزة ..
                          تلك المدينة الصغيرة الجميلة الهادئة..
                          مدينة العلم والعلماء..
                          دفن فيها من العلماء والصالحين على قرون مالله بهم عليم..
                          سماها أمين الريحاني باريس نجد..
                          شوارعها جميلة ونظيفة وأهلها كمجمل أهل القصيم فيهم العلم والدين والأدب الرفيع..
                          دخلت عنيزة وأنا فقير مشرد احمل معي حقيبة ملابس وكرتون كتب..
                          وكنت احمل قبل هذا في جعبتي تجارب قاسية وخبرة بسيطة في الحياة وسذاجة وقلة حيلة ..
                          دخلت عنيزة وأنا حائر و رأسي متلبد بغيوم الشك والارتياب والضياع ..
                          لم أكن أعلم وأنا أدخل عنيزة هل سأمكث فيها يوما أو أسبوعا أو شهرا.. فما يدريني
                          فأنا منذ شهور أتنقل في البلاد من مدينة لأخرى ..
                          ومن يد ليد أخرى ولكن رعاية الكريم ورحمته سبحانه هي التي ترعاني
                          دخلت وأنا ابلغ السادسة عشر عاما فقط..
                          وبقيت في عنيزة أكثر من اثنتي عشرة عاما..
                          حافلة بالتجارب والمواقف الرائعة مع إمام الدنيا وفقيهها شيخنا العلامة
                          محمد بن صالح العثيمين عليه سحائب الرحمة والغفران..





                          الحلقة الحادية عشره


                          أكتب هذه المقالة وأنا مطرق وصامت..
                          أضع يدي على رأسي .. لكي أنظم ذاكرتي..
                          تمر أمام عيني الآن مئات المواقف .. والخواطر..
                          أشبه بحاسوب أدخلت إليه آلاف البيانات في وقت واحد..!!
                          إنني بهذه المقالة يا إخوتي وأخواتي أندب نفسي ..!!
                          إنني بها أنكأ جرحا غائرا..
                          قد خيطته بغرز منسوجة من الحديد ..
                          أحكي لكم عن أبي عبد الله !!
                          لكي تستمتعوا وتستأنسوا بعطره الجميل..
                          وبذكريات لا يعرف تفاصيلها من البشر سواي...
                          أما أنا فإنني أشق جروحا عميقة من جسدي وروحي
                          لأقول لكم خذوا هذه الذكرى الجميلة الموجودة في أعماقي، دونكم الدليل والبرهان..!!
                          عندما وصلنا لعنيزة أنا وسعود كان الوقت ضحى..
                          اذكر تلك اللحظات جيدا وما زالت في مخيلتي..
                          أوقفنا سيارتنا أمام الجامع الكبير في عنيزة..
                          عليه لوحة صغيرة خضراء..
                          مكتوب عليها جامع الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي رحمه الله
                          رفعت رأسي لأنظر لتلك المنارة الشاهقة والتي بنيت بجوارها منارتان حديثتان..
                          كأنهما فتاتان ذواتا قوام جميل ودلال وبهاء.. تنظران بشفقة وتشف
                          لتلك المنارة القديمة البناء المبنية بالطين واللبن..
                          تغنى أحد أدباء عنيزة بها قائلا..على لسان تلك المنارة..
                          وهي تخاطب الناس عن الشيخ ابن عثيمين قالت: أنا المئذنة وهو المنارة..!!!
                          نعم والله هي المئذنة وهو المنارة ..
                          هذه المئذنة بناها بناء محترف قبل عشرات السنين وكلف بناؤها عشرون ريالا..!!
                          ولكن أمير عنيزة زاد البناء عشرة ريالات مكافأة له على إتقان صنعته!!
                          وهي حتى هذه الساعة مازالت شامخة تفخر وتشرف على ضرتيها!!
                          وتغني وتقول .. أنا المئذنة وهو المنارة...
                          اقتربت من باب المسجد فشاهدت لوحة صغيرة مكتوب عليها تسجيلات إسلامية..
                          دخلت للتسجيلات فرأيت رجلا ملتح ابيض وسيم الطلعة قصير وممتلئ
                          على وجهه لحية قد اختلط سوادها ببياضها..
                          سلمت عليه .. فرد علي بصوت فيه بحة !!
                          قلت له أين أجد الشيخ محمد ؟؟
                          قال الشيخ الآن في الجامع وعنده درس حتى الساعة العاشرة والنصف..
                          قلت : وبعد ذلك ..
                          قال : يذهب ماشيا لبيته.. هل أنت طالب جديد أم تريد الفتوى؟؟
                          قلت : لا، أنا أريد الالتحاق بحلقة الشيخ..
                          رحب بي .. وقال أهلا بك في عنيزة ...
                          ثم عرفني باسمه ، وقال أنا أخوك عبد الرحمن الخليفي ..
                          قلت له وهل أنت قريب الشيخ الخليفي إمام الحرم..؟
                          قال هو أحد أقاربنا..
                          قلت : أريد التحق بسكن الطلاب من أقابل؟؟
                          قال: قابل الشيخ مباشرة وتحدث معه فهو صاحب الحل والربط!!!
                          منذ ذلك التاريخ أصبحت لي مع أبي صالح علاقة طيبة.. بارك الله فيه
                          خرجت من عنده فسمعت صارخا يصرخ على الميكرفون ..
                          بسم الله ونصلي على رسول الله...
                          عشرة ،عشرة، عشرة !!
                          ظننتها محاضرة !!!
                          ولكن حينما أنصت له عرفت أنه صوت البائع في سوق الخضار المقابل للمسجد...!!!
                          قلت لسعود ماذا ترى؟؟
                          قال : دعنا لنذهب نفطر وتصلي مع الشيخ صلاة الظهر.. وتقابله..
                          توجهنا لأطراف عنيزة في المزارع المحيطة بها..
                          حيث تنتشر البساتين الخضراء والمزروعة بالنخيل على مد البصر..
                          جلسنا تحت ظلال شجرة واخرج سعود عدة الطبخ ..
                          وصنعنا الشاي.. والإفطار..
                          كانت آخر جلسة لي مع سعود في مثل هذه الحال..
                          قلت لسعود : أنت لديك سفر طويل ، فهيا قم وأوصلني للجامع وسوف أتدبر أمري..
                          وفعلا توجهنا للجامع .. وأوقفني أمامه .. ودخلت أنا وسعود لصرحة المسجد ..
                          حينما فتحنا الباب وجدنا الجامع خال من الطلاب ..والشيخ قد طلع من الدرس!!
                          وضعت متاعي في زاوية المسجد قريبا من رفوف النعال..
                          ثم خرجت مع سعود..
                          أردت أن يكون وداعا سريعا!! حتى لا ينفطر فؤادي والله.. حزنا وكمدا..
                          قبلته بين عينيه ودعوت له وانصرفت وأنا تخنقني العبرة..
                          دخلت للمسجد فتنهدت وصليت على رسول الله..
                          تجولت بنظري في الجامع ..
                          لمن لا يعرف الجامع يظن ذلك الجزء هو كل الجامع..
                          استصغرته في البداية .. ولكن بعد حين عرفت أن ذلك تقسيم متعمد
                          وهو تقسيم معهود في المنطقة كلها..
                          في وسط المسجد يقع محراب خشبي مقوس ارتفاعه حوالي نصف ذراع ..
                          وبجوارة علبة خشبية صغيرة لوضع النعال!!
                          وفرشت سجادة من الفرش الرخيص ..
                          قد بليت مواضع السجود منها وموضع الركبتين!!
                          وألقيت بجواره مهفة ليروح بها الإمام عن نفسه من الحر..
                          وقعت عيني على مقعد على يسار الداخل للجامع ارتفاعه ذراع ويتسع لجالس واحد فقط
                          ولا قوائم له، يتكئ من يجلس عليه على جدار المسجد..
                          وأمام المقعد اسطوانة حدية مدهون مثبت بالأرض بمسامير قوية
                          عرضت عليه خشية طولها نصف متر تقريبا فيها فتحات صغيرة..
                          لوضع الميكرفونات عليها..
                          وأمام ذلك المقعد قد ألصقت بالأرض علامات منحنية كقوس لترتيب صفوف الطلاب..
                          حول شيخهم...
                          عرفت أن ذلك هو موقع الدروس..
                          صليت تحية المسجد واتكأت على الجدار ووضعت خدي على كف يدي
                          أفكر في حالي....
                          فتح الباب بشدة ودلف منه شخص كبير في السن!! ..
                          وعليه مرآة عريضة وبشت ثقيل !!
                          حينما رآني نظر لي نظرة حادة .. فصرفت وجهي عنه خوفا من نظراته..
                          فلم يعرني كثير انتباه!!
                          كأنه يقول واحدة بواحدة..!!
                          وضع نعله خلف موقع الإمام ثم خرج من المسجد!!






                          الحلقة الثانية عشر..


                          كان ذلك الشيخ الذي دخل للمسجد وخرج هو العم عبد الله بن عمر العمري..
                          وهو احد أقران الشيخ ابن عثيمين في الدراسة على شيخه ابن سعدي رحمه الله..
                          بعد برهة وجيزة دخل ذلك الشيخ مرة أخرى ..
                          وتسنن ثم نشر مصحفه وانكب عليه..
                          بقيت وحيدا أرقب باب المسجد وارقب حقيبتي وكرتوني..
                          خرجت قليلا من باب المسجد ، و قفت على الدرج الخارجي العريض ..
                          حيث يقابل الخارج من المسجد دكانان أحدهما مكتوب عليه مركز إحياء التراث ..
                          وعلى اليسار لوحة مكتوب عليها مؤسسة الاستقامة.. وكانت مغلقة!!
                          دخلت لإحياء التراث ، وهي عبارة عن مكتب خدمات تصوير ..
                          مليء بمذكرات دروس الشيخ ابن عثيمين ، وغيره من العلماء..
                          استأذنت البائع بالتصفح فأذن لي..
                          وسألته : هل هذه من تأليف الشيخ ..؟؟
                          قال : كلا ، هذه مذكرات مفرغة من دروس الشيخ ...
                          خرجت من عنده ثم توجهت للوضوء والاستعداد للصلاة..
                          بعد دقائق ... دخل شاب نحيل بهي الطلعة..
                          وتقدم لدولاب طويل أبيض خلف المحراب ملصق بالجدار..
                          ففتحه ثم أضاء الميكرفون فأذن.. بصوت عذب وندي أعجز عن وصفه..
                          لم اسمع في حياتي أذانا جميلا مثل أذان ذلك الشاب ..
                          لا أدري هل ذلك بسبب حبي للجامع وأهله أم أن ذلك حق يوافقني عليه آخرون..؟؟
                          لكن هذا رأيي الشخصي عن ذلك الصوت ولا شك أن الأذواق تختلف في الحكم ..!!
                          فلا تلوموني إخوتي !!!
                          اسم ذلك الشاب عبد الرحمن الريس بارك الله فيه..فهو جاري في الصف لسنوات !!
                          بعدها تتابع الناس في الدخول للمسجد ولكن بوتيرة بطيئة!!
                          خلاف ما رأيته في المساجد الأخرى.. !!
                          وغالب من جاء للمسجد هم من الشباب المستقيم الملتزم ...
                          تأخر الإمام فسألت من بجواري : هل الشيخ موجود ؟؟
                          قال : نعم ولكنه يتأخر..
                          وبعد مرور حوالي خمس وأربعين دقيقة من الأذان دخل الشيخ...
                          هو كما عهدته لم يتغير من شكله شيء ..
                          غير أنني هذه المرة أنا من قدم إليه..
                          تقدم من الباب ثم خلع نعله وحملها بيده ثم سلم على الجماعة ..
                          وقف المؤذن وفي يده ميكرفون ذو حبل طويل مما يعلق على الصدر..!!
                          أقام الصلاة .. وكان الشيخ يستن بالسواك بيده اليسرى!!
                          التفت للمؤذن ثم تناول منه الميكرفون فعلقه الشيخ على صدره بلمسة إحترافية..!!
                          ثم التفت للناس وأمر الجميع بالاستواء والتراص..
                          نظرات الشيخ ثاقبة وحاجباه كثيفان مليئان بالشعر الأبيض..
                          يثيران في النفس الرهبة والمهابة.. كأن نظرته تخترق جسدك اختراقا..!!
                          قدم وأخر في الصفوف كأنه قائد جيش !!
                          حينما اطمأن من تراص الصفوف واستكمال الأول فالأول كبر الشيخ..
                          أطال الشيخ في الركعة الأولى إطالة لم أعهدها...!!
                          وفي ركوعه وسجوده وسائر الأركان يطيل الشيخ تطويلا بينا..
                          فمع كبر سنه إلا أن نشاطه وتماسكه يساعدانه على تحمل تلك الصلاة !!
                          ثم إن أغلب من يصلي معه من الشباب النشيط..
                          سوى العم عبد الله العمري سالف الذكر..
                          ورجلا آخر له شأن وأي شان...
                          رجل مسن رقيق الجسم لا تكاد أن ترى في جسمه مزعة لحم..
                          منحني الظهر ثيابه رثة وهيئته كهيئة مخبول أو معتوه !!
                          ولكنه يحمل في صدره علما كالجبال ..
                          إنه الشيخ الزاهد عبد الله الفالح..
                          حينما رأيته ظننته شحاتا ..
                          ولكن سمعت عنه وجالسته بعد ذلك فوجدت الرجل واسع الإطلاع راسخ العلم ..
                          غير انه زاهد في الدنيا ومتعها حتى إنه لم يتزوج قط..!!
                          ولعل أن تأتي مناسبة للحديث عن هذا الحبر بشكل أوسع ..
                          ختم الشيخ صلاته بالسلام ..
                          ثم استغفر بصوت جهوري .. وضج المسجد خلفه بالتسبيح والتهليل..
                          ثم استدار الشيخ بفتوة ونشاط كما يستدير الفارس على صهوة فرسه..!!
                          واستمر في تسبيحه وتهليله..
                          تخطيت الصفوف وجلست بجوار الشيخ فألقيت بين يديه توصية صاحبي..
                          فأشار لي الشيخ بيده اليسرى وهزها بعنف أن انتظر ..
                          فخجلت وشعرت بحرارة تملئ وجهي حياء من ذلك الموقف..
                          حينما استكمل الشيخ تسبيحه قال ماذا تريد..؟؟
                          فقدمت له الورقة..
                          فقال : ماذا فيها؟؟
                          قلت: توصية من فلان..
                          قال أعرفه وماذا تريد ؟؟
                          قلت أريد أن ألتحق بحلقتك للدراسة لديك...
                          قرأ الورقة بسرعة ثم أعادها وقال..: هذا لا يكفي لا بد من توصيتين .. ابحث عن شخص آخر أعرفه ليوصي بك..!!!
                          ثم فز من مجلسه وتناول نعله وقام..!!!
                          بقيت برهة أنظر حولي واحترت..؟؟؟
                          هل انتهى كل شيء ؟؟
                          لم اطل التفكير بل عزمت أن ألحق بالشيخ لأكلمه مرة أخرى..!!
                          خرجت فلحقته فرأيت حشدا من الناس تسير مع الشيخ..
                          منهم السائل والمستفتي ومنهم صاحب الحاجة ..
                          كنت أراقب المشهد وأنا بحذو الشيخ ..
                          يسير الشيخ من المسجد حتى بيته في كل الصلوات..
                          صيفا وشتاء .. دونما كلل ..
                          ولقد رأيت فتية نشطاء أقوياء يعجزون عن لحاق الشيخ حينما يسرع الخطى!!
                          بعد تجاوز نصف المسافة .. ورجوع أكثر الناس..
                          نظر إلي وقال : ايش عندك؟
                          قلت له : ياشيخ لقد جئتك من مكان بعيد ولا يعرفني أحد سوى فلان الذي أوصى بي..
                          فماذا أفعل ؟ لا سكن عندي ولا أعرف أحدا هنا في عنيزة؟؟؟
                          قال : هل أنت شمري من حائل؟؟
                          أسقط في يدي فالورقة فيها فلان الشمري؟؟
                          فلو قلت غير ما هو مكتوب فهذا نهاية المطاف ؟؟
                          وإن كذبت فلا حول ولا قوة إلا بالله !!
                          تماسكت وقلت: نعم أنا شمري؟؟
                          قال هل يعرفك عبد الله العبيلان رئيس مكتب الدعوة في حائل؟
                          قلت : لا والله..
                          قال هل يعرفك فلان رئيس المحكمة؟؟
                          قلت : لا والله ياشيخ!!
                          قال : ماذا افعل لك تصرف!!
                          قلت : هل ممكن أن أنزل في السكن مع الطلاب حتى أجد من يزكيني؟؟
                          أدار الشيخ وجهه نحوي..
                          أخذني الشيخ طولا وعرضا بنظره وتأملني ثم قال : لا بأس أذهب لمحمد البجادي !!
                          وقله أرسلني لك محمد للسكن مؤقتا !!
                          قبلت رأسه ورجعت لمتاعي..
                          حملته ثم التففت من خلف السكن المقابل للمسجد..
                          وشاهدت جموعا من الطلبة تصعد وتنزل من باب السكن..
                          فرأيت لوحة مكتوب عليها : مكتبة عنيزة الوطنية ..
                          أسسها الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي..
                          وها أنذا أدخل السكن الذي لن أخرج منه سوى بعد سنوات..





                          يتبع بإذن الله ,

                          تعليق


                          • #14
                            جزاكي الله خيرا يا يمامة و جعله في ميزان حسناتك
                            القصة جميلة أوي و طويلة أوي أوي أوي لكن شيقة
                            بارك الله فيكي

                            تعليق


                            • #15
                              جزانا وإياكم

                              وفيكم بارك الله

                              تعليق

                              يعمل...
                              X