السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
إخوتي الكرام، مشاهدي الفضلاء، أيها الحضور..
حياكم الله جميعًا في هذا الدرس الأول من دروس التفسير في هذه الأكاديمية العلمية، وأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يُعيننا على الإخلاص والسداد في القول والعمل..
مُقررنا إن شاء الله سيكون تفسير جزء عم، ابتداءً من سُورة عم التي تُسمى سورة النبأ، إلى نهاية القرآن الكريم، وهذا سيستغرق منا هذا الفصل الدراسي قريبًا من عشرين درسًا، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يتقبل منا فيها العمل وأن يرزقنا الصبر على طلبِ العلم، وأن يَنفعنا بما نعلمه وما نُعلمه.
أحبتي الكرام، بادئ ذي بدء نُعطي نُبذة عن جزء عم..
جزء عم هو الجزء الأخير من هذا المصحف العظيم، وفيه أكثر سور القرآن، وجزء عم يتضمن قسمين من أقسام الْمُفَصَّل، فالمفصل في القرآن الكريم هو الجزء الأخير من كتاب الله -عز وجل-؛ لأن القرآن مُقسم إلى أقسام معلومة عند العلماء وهي: السَّبع المثاني، ثم بعد ذلك الْمِئِين، ثم الْمَثَاني، ثم المفصل، فأقسام القرآن أربعة: السَّبع الطِّوال، ثم المئين، ثم المثاني، ثم المفصل.
والمفصل يبدأ -على الصحيح من أقوال أهل العلم- من سورة ق، وينتهي بسورة الناس.
وسُمي مفصلًا؛ لأنَّ فواصله كثيرة، أو لكثرة الفصل بين سوره بـ(بسم الله الرحمن الرحيم).
وقد قسم العلماء هذا المفصل إلى أقسام ثلاثة، فقالوا: طوال المفصل، وأوساط المفصل، وقصار المفصل.
أما طِوال المفصل فتبدأ من سورة ق إلى نهاية سورة المرسلات، وأما أوساط المفصل فتبدأ من سورة عم إلى نهاية سورة الليل، وأما قصار المفصل فتبدأ من سورة الضحى إلى آخر القرآن.
فإن قلت: ما الفائدة من العلم بهذا المفصل، ومن العلم بطِواله وأوساطه وقصاره؟
قيل: لهذا فوائد؛ أهمهما: ماذا يقرأ الإنسان في صلاته؟
فنجد أنه في صلاة المغرب يُستحب له أن تكون قراءته من قِصار المفصل، ما قِصار المفصل؟ من الضحى إلى الناس.
وأما في الظهر والعصر والعشاء، فيُستحب له أن يقرأ من أوساط المفصل، ما أوساط المفصل؟ من سورة النبأ -السورة التي معنا اليوم- إلى نِهاية سورة الليل، وفي صلاة الفجر يُستحب للإنسان أن يقرأ من طوال المفصل؛ أي من سورة ق إلى نهاية سورة المرسلات.
وهذا المفصل غالبه مكي، كما أن سورة النبأ أو سورة عم هي سورة مكية، والمكي -أيها الأحبة- من كتاب الله -عز وجل- يتميز بأنه يركز على الجانب العقدي، فهو يبني العقيدة في نفس الإنسان.
وبناء العقيدة في نفس الإنسان أمر ضروري، بحيث لا يمكن أن يعمل الإنسان في الحياة إلا عن عقيدة، فأنت الآن إذا اعتقدت شيئًا، ستعمل بناءً على تلك العقيدة، ولذلك جاء القرآن المكي يؤسس لهذه العقيدة في النفوس لتكون التصورات صحيحة، ثم ينطلق الإنسان في العمل.
فمثلًا لو أن الإنسان اعتقد أن هذه الحياة هي نهاية الكون، وأنه لا حياة بعدها، ولا جزاء، ولا بعث، ولا نشور، ولا جنة، ولا نار، كيف ستكون تصرفاته في الدنيا؟ ستكون تصرفات إنسان يُريد أن يَعبَّ من الشهوات، وأن يأخذ بكل ما يُمليه عليه هواه، دونٍ نظر إلى شيء آخر، لماذا؟ لأنه يرى أن هذه الحياة هي نهاية اللذة، ونهاية الشهوة، وآخر ما في هذا الوجود بالنسبة للإنسان.
أما إذا اعتقد الإنسان أن هذه الحياة مرحلة، مرحلة ابتلاء واختبار، وأنه مأمورٌ فيها بأن يكون عبدًا لله، وأن وراء هذه الحياة حياة أخرى أبدية سرمدية، فيها جزاء وفيها نشور، وأنك ستُحاسب على كل شيء تعمله، وتُجازَى على كل شيء تفعله، فهنا تختلف تصرفات الإنسان اختلافًا جذريًّا، بناء على هذه العقيدة.
وهكذا المسلم يَبني تصوراته من خلال هذا الجزء العظيم، وهو جزء المفصل من كتاب الله -عز وجل-، ومن القرآن كله، لكن هذا الجزء من كتاب الله -وهو المفصل- ركز على الجانب الاعتقادي، وهو الإيمان بالله والإيمان بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، والإيمان باليوم الآخر.
هذه المسائل الثلاثة، أو الإيمان بالله وتوحيده، والثانية الإيمان بالرسول وبالرسالة التي جاء بها وهي القرآن، والثالثة قضية اليوم الآخر، هذه القضايا الثلاث هي غالب ما في هذا الجزء العظيم من أجزاء القرآن العظيم.
وسنطبق ذلك -إن شاء الله- في سورة عم، ونرى كيف أن هذه السورة العظيمة الكريمة جاءت لتبين لنا هذه التصورات التي يَبني عليها المسلم حياته الدنيا، ويستعد فيها للقاء الله -جل وعلا-.
سورة عم سورة مكية، والمكي له تعريف عند العلماء، أتمنى لو أنَّ واحدًا منكم يعرف ما هو المكي؟
{طالب: ثمة أقوال، بعض الأقوال... ما هو المكي وما هو مدني، لكن الذي أذكره من الأقوال الراجحة فيما رأيت، أن المكي هو ما نزل قبل الهجرة، والمدني طبعًا ما نزل بعد الهجرة}.
وعليه: لو نزلت آية في مكة بعد الهجرة فهي مدنية، وهكذا لو نزلت آية قبل الهجرة في غير مكة، كالطائف أو غيرها، فتسمى عند العلماء مكية.
إذن: هذا حد زمني لمصطلح مكاني، فالمصطلح مكاني (مكي ومدني) مصطلحات مكانية، ومع ذلك الفاصل فيها هو الزمان، الهجرة، قبل الهجرة وبعد الهجرة، طيب أحسنت، جزاك الله خيرًا.
إذن: المكي بجملته يهتم بالاعتقاد وتأسيسه، ونلاحظ أنه يتميز أيضًا بقوة أسلوبه، وخطابه الواضح والصريح، وحواره للكفار والمشركين في عقائدهم، وما يتبنَّونه من أطروحاتٍ وعقائدَ فاسدةٍ، يناقشها نقاشًا قويًّا وصريحًا ومباشرًا.
ومن ذلك ما سيأتي معنا في قضية الإيمان باليوم الآخر في هذه السورة.
هناك مسألة يا إخوان قبل أن ندلف إلى السورة العظيمة وهي سورة النبأ، هناك قضية تُسمى موضوعات السورة، أو ما يُسمى بمقدمات أو علوم السورة.
هذه العلوم يعني العلوم التي يعرفها الإنسان قبل أن يدخل إلى السورة، منها مثلًا: فضل السورة، ومنها نُزول السورة، نزلت في مكة أو في المدينة، ومنها مقصود السورة، ويُسمى عمود السورة أو محور السورة، ومنها أيضًا أسباب نزول السورة، إذا كان لها سبب نزول، ومنها مناسبة السورة لما قبلها، ومنها مناسبة أول السورة لآخرها، ومناسبة مقاطع السورة لبعضها.. وهكذا.
طبعًا نحن لن نتوسع في هذه الأمور، لكن سنذكر ما يتيسر منها، إذا كان هناك مناسبة وسمح بذلك الوقت.
سورة عم سورة مكية تهتم باليوم الآخر، ولعلنا الآن نحاول أن ننظر إلى موضوعات هذه السورة، سنَجد يا إخواني أن هذه السورة اهتمت اهتمامًا واضحًا باليوم الآخر، تأملوا معي يا إخواني هذه موضوعات سورة النبأ:
الأول: أول مقطع فيها سيكون التساؤل عن النبأ العظيم، الذي قال الله فيه: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ﴿1﴾ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ﴿2﴾ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ﴿3﴾ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴿4﴾ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ هذه الآيات الخمس، سمينا هذا المقطع التساؤل عن النبأ العظيم.
بعد ذلك يأتي الموضوع الثاني، وهو دلائل قدرة الله، لماذا؟ لأن الكفار أنكروا النبأ العظيم وهو يوم القيامة، أو القرآن الذي جاء بخبر يوم القيامة، فلما أنكروه كان من مقتضى الحديث أن يُتحدث عن قدرة الله -عز وجل-، وأن الله قادرٌ على كل شيء.
فجاء قوله: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ﴿6﴾ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴿7﴾ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ﴿8﴾ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ﴿9﴾ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴿10﴾ وَجَعَلْنَا النهَارَ مَعَاشًا ﴿11﴾ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ﴿12﴾ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴿13﴾ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ﴿14﴾ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنبَاتًا ﴿15﴾ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾ هذه دلائل قدرة الله -عز وجل- وعظمته التي نأخذ منها أن الله سيبعث العباد، فلماذا أيها المشركون تستغربون وتُحيلون أن يبعث الله العباد بعد أن أماتهم؟! ما الشيء الغريب في هذا الأمر؟! لماذا استنكرتم هذا الأمر؟!
ثم يأتي الموضوع الثالث من موضوعات هذه السورة الكريمة، وهو مشاهد الآخرة، قال: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا﴾، من هنا بدأت مشاهد الآخرة، فيُحدثنا عن يوم القيامة وماذا يحدث فيه من الأهوال: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ﴿18﴾ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ﴿19﴾ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ وهنا ينتهي المقطع الثالث من مقاطع هذه السورة.
يأتي بعد ذلك المقطع الرابع من مقاطع هذه السورة وهو قوله: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ﴿21﴾ لِلطَّاغِينَ مَآبًا ﴿22﴾ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾ إلى قوله: ﴿فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾، وهو الحديث عن جزاء الكافرين، الكافرين بهذا القرآن، الكافرين بهذا اليوم العظيم، الكافرين بهذه الرسالة التي جاء بها رسول الله -صلوات ربي وسلامه عليه-.
ثم بعد ذلك يأتي المقطع الأخير من مقاطع هذه السورة، وهو جزاء المؤمنين المتقين، الذين يخافون عذاب الله -عز وجل-.
فأصبحت مقاطع السورة بناء على هذا التفصيل خمسة مقاطع، طبعًا هذه مقاطع تقريبية وليست تفصيلية دقيقة، ولكن تُعطينا تصورًا عامًّا عن هذه السورة الكريمة.
نأخذ يا إخواني آيات هذه السورة خشية أن يداهمنا الوقت ونحن ما مررنا عليها.
يقول الله -عز وجل-: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾؛ أي عن أي شيء يتساءل هؤلاء المشركون، إنهم يتساءلون عن شيء ينكرونه، ويُكذبون به، قال: ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾، يتساءلون عن هذا النبأ الذي جئتَ به -يا محمد- وهو النبأ العظيم، والنبأ يقال للخبر المهم، ولذلك عندنا يقال نشرة الأنباء، أو وكالة الأنباء، يعني الأخبار المهمة التي تَشْرئِبُّ النفوس لسماعها.
ثم وصفه بقوله: ﴿النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ واختلف المفسرون ما هو النبأ العظيم؟ هل هو القرآن أو يوم القيامة؟ فمن العلماء من قال ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾: هو القرآن، واستدلوا على ذلك بقول الله -عز وجل- في سورة ص: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ﴿67﴾ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ [ص: 67، 68].
قالوا: ما دام الله وصف القرآن بأنه نبأ عظيم، إذن فنحمل هذه الآية على أن المراد بالنبأ العظيم هو القرآن.
والقول الثاني: أن النبأ العظيم هو يوم القيامة، لماذا قالوا يوم القيامة؟ قالوا: لأن الحديث كله في السورة -كما شاهدنا- عن يوم القيامة، ولا شك أنَّ دليل السياق من الأدلة القوية التي نَستند إليها في ترجيح قول على قول.
يبقى أنْ نخبركم بأنه لا مانعَ أن يكون النبأ العظيم هما جميعًا، ويمكن أن نصوغ هذين القولين بهذه الصياغة، نقول: النبأ العظيم هو القرآن الذي جاء بيومِ القيامة؛ لأنَّ من أعظم أخبار القرآن التي أنكرها المشركون، هو خبر يوم القيامة، وبهذا نقول: ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ عن القرآن الذي جاء بيوم القيامة.
﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾ اختلفوا فيه، فمنهم من يظنه ظنًّا، ومنهم من يُكذب به، ومنهم من يُؤمن به، قال: ﴿كَلَّا﴾ "كلا" عندنا كلمة تأتي بمعنيين في القرآن:
المعنى الأول: بمعنى الردع والزجر، لا صحةَ لما تقولون، ليس الأمر كما تقولون.
والمعنى الثاني: كلا بمعنى حقًّا كما في قول الله -عز وجل-: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿1﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿2﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿3﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿4﴾ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴿5﴾ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾ [العلق: 1- 6]، ما معنى "كلا" هنا، حقًّا إن الإنسان ليطغى.
فإن قلت كيف أفرق بين "كلا" بمعنى حقًا، و"كلا" بمعنى الردع والزجر، هل من أحد يجيب على هذا السؤال؟ ما الفرق بينهما؟
{لعل الجملة التي بعدها تحدد ذلك}.
أو بالعكس، الجملة التي قبلها، الجملة التي قبلها إن كانت تتضمن شيئًا منكرًا يُراد إنكاره؛ إذن: "كلا" للردع والزجر، وإن كانت لا تتضمن شيئًا من ذلك، فـ"كلا" تكون بمعنى "حقًّا"، ولذلك هنا ﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾؛ إذن: هذا شيء يُنكر، كلا؛ ليس الأمر كما تقولون، ﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ أن هذا حق، وأنه كائن بإذن الله -عز وجل-.
﴿ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ تأكيد لهذا الذي ذُكر في الآية الأولى، من باب التشديدِ عليهم، كيف تختلفون في أمر واضح الدلالة؟ لا يمكن أن يكون نهاية مصيرِنا أن نموت، ثم نصبح رميمًا، ثم ينتهي أمرنا تمامًا، وفينا الظالم والمظلوم، والمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والصادق والكاذب، ثم تستوي النهاية، هذا لا يمكن، فلا بد أن يلقى هؤلاء جزاءهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
بهذا انتهت مقدمة هذه السورة الكريمة.
قال الله -عز وجل-: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا﴾ هذه دلائلُ قدرة الله التي تدلُّ على أن الأمر الذي اختلفتم فيه وكذبتم به، ليس كما ذكرتم، بل هو أمر ميسور، وسهل على الله -عز وجل-، وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه، فأنتم إذا كنت تؤمنون بأن الذي بدأ خلقكم هو الله؛ إذن: ما الغريب أن يُعيد ربكم -سبحانه وتعالى- خلْقَكم مرةً أخرى؟! بل قال الله لهم: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غافر: 57]، فلماذا تكذبون بهذا؟! رأيتم يا إخواني، ولهذا جاءت هذه الدلائل.
﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا﴾، "ألم" هذا استفهام، ما نوع هذا الاستفهام؟ استفهام للتقرير، أي قد جعلنا الأرض مهادًا، أو للتعجيب، يعني ألا يتعجب منكم، فقد جعل الله -عز وجل- الأرض مهادًا.
مهادا؛ أي ممهدة للسُّكنى عليها والعيش فوقها والسير على ظهرها.
﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ هذه الجبال العظيمة التي نراها في طول الأرض وعرضها، جعلها الله أوتادًا، ولاحظوا يا إخواني كيف أن القرآن سبق إلى تسميةِ الجبال أوتادًا.
والوتد هو الطُّـنُب الذي تُثبت به الخيمة، يُضرب في الأرض، ثم يجر الحبل ويعلق بهذا الوتد فيثبت الخيمة، هذا يُسمى وتدًا.
نفهم من هذا يا إخواني أنَّ الجبال مثل هذه الأوتاد، فهي تثبت الأرض، ولولا هذه الجبال؛ لما ثَبتت هذه الأرض ولصارت مضطربةً لا يستطيع أحد أن يسكن عليها، ولا نستطيع أن نسير فوق ظهرها، ولا نستطيع أن نبني عليها بناءً أو نقرَّ فوقها.
وهذا التعبير مُعلِمٌ بشيء لم يكتشفه العالم من قبل، إنما عرفوه بعد أن جاءت الحفريات الجديدةُ، والعلم الجديد الذي استطاع أن يصلَ وأن يَسبُر أغوارَ الأرض، فوجدوا أنَّ كل جبلٍ في عُمقه في الأرض مثل ما فوق الأرض، يعني ثلثا الجبل في أسفل الأرض، والثلث الآخر هو البادي.
وهكذا الوتد، نحن الآن عندما نضرب الوتد، هل نجعل طرفه القليل في الأرض، أو أكثر الوتد نجعله في الأرض، أكثر الوتد نجعله غائصا في الأرض، ونجعل الجزء الأعلى الثلث فأقل هو الخارج، حتى نربط به الحبل، وهذا الأمر لا يعرفه الناس من قبل، إنما عرفوه الآن، ولما رسموا الجبال وجدوا كل جبل ذروته هي في الوقت ذاته هي أقصى نقطة تصل إلى قاع الجبل في الأرض، وأن كل جبل أمامنا إذا كان طوله -مثلًا- مئة متر، فهناك مئتا متر داخل الأرض، وهذا يدلنا على أن هذا القرآن قد نزل من عند الله، ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].
قال: ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا﴾ خلقناكم أنتم أيها الناس على صفة الزوجية وهي أن تكونوا من ذكر وأنثى، فتتناسلوا ويبقى النوع البشري إلى أن يأذن الله -عز وجل- بالزوال.
فخلقَنا الله على صفة الزوجية؛ ليأنس بعضنا ببعض، ويجعل بيننا مودة ورحمة، ونتعاون، وليظهر بذلك تفرُّده -سبحانه وتعالى- بأنه هو الواحد المستغنِي عن كلِّ شيء، وكل شيء لا يَستغني عن وجود نظير له، ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات: 49].
فكل المخلوقاتِ تتكونُ من نوعين، حتى الكهرباء سالب وموجب، الماء تجد أن قطرة الماء تتكون من عنصرين، الهواء يتكون من عنصرين، وكل شيء في هذا الكون تجدُ أنه لا بدَّ أن يكون فيه عنصران حتى يحيى ويكون.
إلا الله -سبحانه وتعالى- فهو الواحد الأحد، الغني الصمد، الذي ليس بحاجة إلى أحد، وكل أحد بحاجته -سبحانه وتعالى-.
قال الله -عز وجل-: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ﴿6﴾ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴿7﴾ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ﴿8﴾ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ بعد أن ذكر الزوجية، ذكر نعمة النوم، وهذه النعمة من الله -سبحانه وتعالى-، وهي نعمة تكمل الإنسان وهي دليل على نقص الإنسان، لأنه يحتاج إلى الراحة، أما الله وحده فليس بحاجة إلى هذا لأنَّه -سبحانه وتعالى- لا يمسه نصب ولا يمسه لغوب -جل جلاله وعظمت قدرته-.
قال: ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ ما معنى "سباتا"؟ سُباتا بمعنى راحة، جعلْنا نومكم قاطعًا لأعمالكم فترتاحون به، ومنه سُمي يوم السبت؛ لأن اليهود كانوا يَرتاحون فيه من العمل، ولهذا قال: ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ أي قاطعًا لأعمالِكم وأشغالكم فترتاح أبدانكم.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾، هذا الليل يغشاكم فكأنكم تلبسونه.
ولذلك إذا نزل الليل أو حل الليل اكتفينا بستره عن ستر الثياب، متى يَتجرد الناس من ثيابِهم، أو يتخلصون من هذه الألبسة التي عليهم، عندما يأتي الليل، ولذلك قال الله: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾ يَستركم بظلامِه.
﴿وَجَعَلْنَا النهَارَ مَعَاشًا﴾ جعلنا الناس محلًّا لمعاشِكم، فأنتم تَطلبون الرزق وتضربون في الأرض وتبحثون عن المعاش في وقت النهار.
ولذلك يقول العلماء: هذه سُنة الله ينبغي أن تُراعى، وهو أن يكون النهار للعمل، والليل للراحة والسكن، متى خالفنا هذه السُّنة، سيصيبنا من البلاء ويحصل فينا من الأدواء والضرر بِحَسَبِ مخالفتنا لهذه السُّنة.
وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن أولئك الذين لا ينامون في الليل، وينامون في النهار، يصبح عندهم شيء من الأزمات بسببِ أنهم خالفوا هذه السنة التي خلق الله عليها الخليقة.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾ انتقل من العالم الأرضي السُّفليِّ إلى العالم العلويِّ، انتقال من الأدنى إلى الأعلى، قال: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾ لم يذكر لنا ما هي السبع، هل هي سبع نجوم، ولا أفلاك، ما ذكرها، لكنها معلومة، ومعروفة في فطرة كل واحد منا، ما هي السبع الشداد؟
{السموات السبع}.
ولذلك ما ذكرها اكتفاء بالعلم بها، لأن كل إنسان يعلم ما هي هذه السبع.
﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا﴾ ثم قال: ﴿شِدَادًا﴾ يعني أنها شديدة ومتماسكة، ﴿هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾ [الملك: 3]؛ أي من شقوق، وذكر الله -عز وجل- في سورة الذاريات: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47]؛ أي بقوة، فالسماء محكمة عظيمة الإحكام وهي قبة واسعة، قد رفعها الله -عز وجل- من غير عمد، وهكذا نراها نحن من غير عمدٍ.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾ هذه أيضًا لم يذكر الله -عز وجل- ما هو السراج؟ أيضًا للعلم به، ما هو السراج؟ ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾.
{القمر}.
هل القمر وهاج؟!
{الشمس}.
أي نعم، لاحظ قال "سراجًا"؛ لأن السراج يجتمع فيه شيئان، الأول: الإضاءة، والثاني: الحرارة، وهكذا الشمس، ولذلك وصف القمر في القرآن بأنه نور، ووصفت الشمس بأنها سراج، لكي تتضمن الإضاءة أو الإنارة والحرارة، أما القمر فجُعل نورًا لأنه يقبس نوره من الشمس، وهو يعكس ضوء الشمس.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَهَّاجًا﴾ أي متوهجًا ومتوقدًا، وهكذا نرى الشمسَ، بحيثُ إنَّ الإنسانَ لا يَستطيع أن يركزَ فيها النظرَ أو يصمد لها خصوصًا في وقت الحرِّ، أو إذا قربت من رؤوس الناس.
قال: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا﴾، ما المعصرات؟
{المعصرات هي السحاب}.
طيب، أحسنت، صحيح، والقول الثاني: المعصرات هي الرياح، لكن ما ذكره الأخ رياض من أن المعصرات هي السحب هو الصحيح، لماذا؟ إبقاءً للجملة على تركيبها، لأننا إذا قلنا: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ﴾؛ أي من السحاب ﴿مَاءً ثَجَّاجًا﴾؛ كان الكلام مستقيمًا، أما إذا قلنا: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ﴾؛ أي من الرياح؛ أي أنزلنا بالرياح ﴿مَاءً ثَجَّاجًا﴾ غيرنا "من" إلى "الباء"؛ إذن: المعصرات هي السحب، يُقال للمرأة التي قد دنا حيضها ولم تحِضْ: مُعصر، هذه قد قرُب الحيض منها ولم تحِضْ بعدُ، يُقال لها: مُعصر، وكذلك السَّحاب إذا اجتمعَ فيه الماءُ ولم يَنزلْ؛ يُقال له: مُعصر.
قال: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا﴾؛ أي ماءً كثيرًا سيالًا منصبًّا، قال الله -عز وجل-: ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ﴾؛ أي بهذا الماء ﴿حَبًّا وَنبَاتًا﴾ يُخرج الله ... النبات.
أما الْحَبُّ فهي الحبوب التي يَقتات الناس ويتاجرون بها، مثل الأَرُزِّ والشعير والذرة والدُخن والفول والحمص، والعدس وغيرها من أنواع الحبوب والبقول التي يَقتات الناس بها.
وأما النبات فهو ما سوى الحبوب؛ من الأشجار التي فيها الفواكه، ومن الأشجار التي فيها الخضروات، ومن أيضًا النباتات الأخرى والبقوليات التي يأكلها الناس ويأْتَدِمُون بها، فالله -عز وجل- يخرج لنا بالماء هذا وهذا.
قدَّمَ الْحَبَّ لشدةِ الحاجةِ إليه؛ لأن الناس قد يَستغنون عن الخضروات، قد يستغنون عن الفواكه، لكن لا يستغنون عن الحبوب، فقدمها الله -عز وجل- ليبين عظيم مِنته علينا بهذه الحبوب والأقوات.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾.. حبًّا ونباتًا ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾، هنا سؤال نحوي لا أدري إذا كان بالإمكان الإجابة عليه، يقول : ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنبَاتًا ﴿15﴾ وَجَنَّاتٍ﴾ لماذا قال "جنات" ولم يقل "جناتا"..
{جمع مؤنث}.
جنات: جمع مؤنث سالم، وجمع المؤنث السالم يُنصب وعلامة نصبه الكسرة، فتقول: جاء المسلماتُ ورأيت المسلماتِ، فجنات معطوفة على منصوب، فهي منصوبة مثله، لكنها منصوبة وعلامة نصبها الكسرة؛ لأنها جمع مؤنث سالم.
قال: ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾؛ أي حدائق مُلتفَّة، هذه الحدائق من خَلَقَها؟ من كونها؟ من أنبتها؟ من أخرجها من داخل الأرض وباطنها؟ من الذي أنتجها من تلك الحبوب أو البذور الصغيرة، وجعلها أشجارًا عظيمةً وجعل فيها هذه الفواكه النضرة وهذه الألوان الجميلة؟ الله وحدَه.
الله الذي خلق هذا كله، هل يُمكن أن يُوصف بأنه عاجزٌ عن إعادتكم بعد موتكم؟ وبأنه لا يَقدر على أن يُحييَ الناس بعد أن يموتوا، أين عقولكم يا أهل مكة؟ أين عقولكم يا مشركي العرب؟
قال الله -عز وجل- بعد أن ذكر هذه الدلائل العظيمة الدالة على قدرته، وعظمته، ونعمته على عباده، والقاطعة والمانعة للتكذيب بيوم القيامة قال: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا﴾ الآن بدأ في المقصود وهو الحديث عن يوم القيامة، وعن إنكار ذلك اليوم وما سيحدث فيه من الأهوال.
لماذا لما بدأ بيوم الفصل قال: ﴿إِنَّ﴾، ولم يقل: ﴿يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا﴾ لماذا جاء بـ ﴿إِنَّ﴾.
{من باب التأكيد}.
من باب التأكيد، لماذا التأكيد؟ ما الذي يدعو إلى التأكيد؟ الآن هل أنا بحاجة أن أقولَ: لك أقسم لك بالله أنَّ السماء فوق، هل أنا بحاجة إلى هذا؟ ما أنا بحاجة إلى هذا، تقول: لماذا تحلف؟! أليس كذلك؟
إذن: متى يُؤكد الإنسان كلامه؟ يؤكد الإنسان كلامه عندما يكون الطرف الآخر مُنكرًا.
هنا لَمَّا كان الحديثُ مع من ينكرون البعثَ؛ قال الله -عز وجل- "إن" لتأكيد وقوع هذا اليوم ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا﴾.
يوم الفصل ما هو؟
{يوم القيامة}.
يوم القيامة، طيب سؤال: لماذا سُمِّيَ يوم القيامة بيوم الفصل؟
{فيها يُفصل بين الحقِّ والباطلِ}.
يا سلام، وبين المؤمن والكافر، وبين الظالم والمظلوم، وبين الصادق والكاذب، وبين الحق والباطل كما ذكرت، أحسنت، يُفصل فيه بين الخلق، فسُمي يوم الفصل لذلك.
﴿كَانَ مِيقَاتًا﴾؛ أي موقتًا مُحددًا لا يتقدمُ ولا يتأخرُ عن ميعادِه الذي قد قدَّرَه الله -عز وجل-، ولا يَعلمه أحدٌ إلا هو، ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ [لقمان: 34]، علم الساعة عند الله، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ﴾ ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ﴾، فهذا علم قدِ اختصَّ الله -سبحانه وتعالى- به فلم يطلع عليه نبي مرسلًا، ولا ملكًا مقربًا.
قال الله -عز وجل-: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾؛ أي في ذلك اليوم ينفخ في الصُّورِ، من الذي ينفخ في الصور؟ ملك اسمه إسرافيل، طيب سؤال: لماذا لم يقلْ: يومَ يَنفخُ إسرافيلُ في الصور فتأتون أفواجًا؟ لماذا آثر صيغة المبني لغير المعلوم؟
{أعتقد بأن في سياق بيان خطورة الموقف وليس ثمة حاجة لذكر أسماء، من هو القائم بذلك، وإنما هو لخطورة الموقف}
نعم، للتركيز على أمر المعين، سأعطيكم مثالًا: لو أن إنسانًا جاء وسرق شيئًا، وتريد أن تخبر الناس من أجل أن يستيقظوا لهذه السرقة، فأنت لست بحاجة لأن تقول: سرق إنسان طويل -أو قصير أو عريض- المالَ من البيت، الناس يقولون: أَعِدْ لو سمحتَ إنسان طويل ولا أيش، عريض ولا... فينشغلون بماذا؟ بالمحدِث عن الحدث، لا.. أنت الآن تريد أن تنبههم على شيء محدد، وتلفت انتباههم إلى أمر معين، فتقول: سُرِقَ المال، الناس مباشرة يفزعون في إنقاذ المال من السرقة، أليس كذلك.
هنا قال: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ﴾ ولم يذكر لنا من هو النافخ، لماذا لم يذكر لنا من هو النافخ؟ لأجل أن يركز على الحدث الذي يُراد إثباته، بغضِّ النظر عن المحدِث أو النافخ وهو إسرافيل.
﴿فِي الصُّورِ﴾ الصور هو قَرْن عظيم جدًّا خَلَقَه الله -عز وجل- لينفخ فيه إسرافيل، فإسرافيل ينفخ فيه نفختين، النفخة الأولى نفخة للصعقِ، يموت من على وجهِ الأرض، والنفخة الثانية للبعثِ، كل من مات بالنفخة الأولى أو قبلها يحيى بالنفخة الثانية.
فهما نفختان ينفخ فيهما إسرافيل عليه الصلاة والسلام، وإسرافيل الآن مستعد للنفخ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كيف أنعم؟»؛ يعني كيف أتنعمُ وأتلذذُ «وصاحب القرن قد التقم القرنَ ينتظرُ أن يُؤمر بالنفخِ، فينفخ»، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يَتحيَّنُ الساعة، ويتوقع قيامها في وقته -عليه الصلاة والسلام-، فحريٌّ بنا نحن أن نستعدَّ، وعلى كلٍّ إن لم نُدرك تلك النفخة، فسنُدرك ما قبْلَها وهو الموت الذي هو قيامةُ كلِّ واحد منا.
قال الله -عز وجل-: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾ سؤال فيه شيءٌ من الذكاء: هل هذه النفخة هي النفخة الأولى أو الثانية؟
{يظهر من السياق أنها النفخة الثانية}.
نعم؛ لقوله: ..؟
{﴿فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾}.
﴿فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾؛ يعني إذا نفخ جئتم أفواجًا إلى أرض المحشر والمنشر.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾؛ أي صارت أبوابًا يخرجُ منها أهلُ السماء، ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ﴾، طبعًا هناك قراءة ﴿وَفُتِّحَت﴾؛ لكثرةِ الأبوابِ فيها، التي يَنزلُ منها أهل السماءِ، وأهل السماء ليسوا قليلين، كثر.
كان الصحابة يمشون مرةً مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسمعوا أطيطًا، فالأطيطُ هو صوتُ الشيءِ الذي أثقل بالحملِ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَطَّتِ السماءُ، وحُقَّ لها أن تَئِطَّ، ما فيها موضع شبر إلا وملك قائمٌ، أو ساجد يُصلِّي لله -عز وجل-»، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.
قال: ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا﴾؛ أي في ذلك اليوم، تسير الجبال، كيف تسير الجبال؟ هذا بأمر الله، هذه الجبال الراسية الضخمة الهائلة العظيمة، تدك وتصبح كثيبا مهيلًا، ثم تكون كالعهن المنفوش، ثم تسير ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: 88]، ثم تصبح بعد ذلك ﴿قَاعًا صَفْصَفًا ﴿106﴾لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا ولَا أَمْتًا﴾ [طه: 106، 107].
فهنا ذكر مرحلة من مراحل تحول الجبال في يوم القيامة، ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا﴾... انتهت مشاهد يوم القيامة التي تدل على هول ذلك اليوم، وعلى التغير العظيم الذي سيحدث في ذلك اليوم.
قال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ أي هذا هو جزاء الكافرين، وبدأت بقوله: ﴿إِنَّ﴾ لماذا؟ للتأكيد، طيب، ولم التأكيد؟ لأن الذين يخاطبون في هذه السورة هم من المنكرين، والمنكر يحتاج إلى مؤكدات، بخلاف خالي الذهن الذي لا يحتاج لهذه المؤكدات.
﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ جنهم اسم للنار، التي أعدها الله -عز وجل- للكفار، ﴿كَانَتْ مِرْصَادًا﴾؛ أي راصدة ترصدهم، فهي ترقبهم وتبحث عنهم، كلما مرَّ واحد منهم أو من أهلها عبر الصراط الذي يضعه الله -عز وجل- أخذته النار، فيها كلاليب مثل شوك السعدان، تخدش هؤلاء وتتلقفهم.
وسُميت مرصادًا؛ لأنها ترصد الناس في طريق عبورهم على ظهرها، وهذا يدل على شيء معروفٍ سيكون يوم القيامة وهو ما يُسمى بالصراط، الذي يعبرُ عليه الخلق، وهو أدقُّ من الشعر وأحدُّ من السيف، يَمشي عليه الناس جميعًا، فمنهم من يمشي كالبرقِ ومنهم كالريح، ومنهم كأجاودِ الخيلِ، ومنهم من يهرول، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم من يُكَرْدَسُ في جهنم فتخطفه بكلاليبها وتضعه في قعرها، نسأل الله العافية والسلامة.
لمن هذه المرصاد؟ قال الله -عز وجل-: ﴿لِلطَّاغِينَ﴾ والطاغي هو الذي تجاوز الحد في المعصية، ﴿لِلطَّاغِينَ مَآبًا﴾ أي مقرًّا وموئلًا.
﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾؛ أي ماكثين فيها دهورا طويلة، قد اختلف السلف في الحقب، ما هو؟ كم مدته؟ منهم من قال ثلاث مئة سنة، ومنهم من قال الحقب الواحد، المهم أقوال كثيرة مفادها: أنهم سيلبثون فيها مدة طويلة لا انتهاء لها.
فإما أن تكون لا انتهاءَ لها، ويُراد بذلك مُددٌ غيرُ منتهيةٍ، فتكون مساوية لقولِه: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [النساء: 57]، وإما أن يراد بها أنها لمن طغوا وإن كانوا من غيرِ الشركِ، أو لمن كانوا من أهل التوحيد، وهذا قال به بعض العلماء.
والظاهر والله أعلم أن هذه الآيات سِيقت في حق الكفار؛ بدليل أنه قال في آخر الآيات قال: ﴿فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾، طيب، ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾؛ أي: دهورًا طويلة ... مساوية لقوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾.
﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا ولَا شَرَابًا﴾ هذا... قالوا: ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ﴿23﴾ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا ولَا شَرَابًا﴾ طيب ثم بعد ذلك قال: يتغير العذاب، ولكن الظاهر هو ما ذكرناها والله أعلم.
﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا﴾ ما هو البرد؟ اختلف العلماء فيه على قولين: منهم من قال: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا﴾؛ أي نومًا، ومنهم من قال: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا﴾ أي هواءً باردًا يبرد أجسادهم.
أحبتي عندنا قاعدة في التفسير مهمة جدًّا وهي: أنه عندما يحصل عندنا خلاف في الآية، فإننا نفسر الآية بالمشهور الظاهر المعروف المتبادِر للأذهان من كلام العرب، وندع القليل والنادر والمنكر والشاذ والمهجور، ولو كان صحيحًا ندعه، لو كان ثابتًا بأنَّ العرب يقولون هذا لهذا، لكنه قليل في كلامهم، فإننا لا نُفسره به، وإنما نأخذ بالظاهر المشهور المتبادر للأذهان من كلام العرب.
قال: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا﴾؛ أي هواءً يبردُ حرَّ جهنم. ﴿ولَا شَرَابًا﴾؛ أي ماءً يُبرد حرَّ أجوافهم، فهم لا يذوقون البرد الخارجي والبرد الداخلي، نسأل الله السلامة.
قال: ﴿إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾ العلماء يقولون الواو تدل على على الاختلاف والمغايرة، وإلا كيف يَعطف شيئًا على نفْسِه.
إذن: الحميم مختلف عن الغساق؛ فالحميم هو الماء الحار الذي قد بلغ الغاية في حرِّه، والغساق هو الشراب البارد الذي هو من صديد الكفار وعرقهم وما ينتج منهم من جراء عذابهم، فهو جامع بين النتن وبين البرودة الشديدة، فهم لا يستسيغونه.
لكون الوقت قد أزف فأنا سأحاول المرور على الآيات مرورا سريعًا.
قال: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ أي موافق لأعمالهم.
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ هذا هو سبب العذاب، والقرآن من عادته أنه إذا ذكر العذاب يبين السبب، وإذا ذكر النعيم يبين ما هو السبب؛ حتى نقتدي ونعمل، ونتقي أسباب العذاب.
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾؛ أي يكذبون بيوم القيامة.
﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا﴾؛ أي كذبوا بهذه الآيات التي نزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تكذيبًا من غير حجة ولا بينة.
﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾ قد أحصينا أعمالهم إحصاء دقيقًا، والإحصاء هو العد الدقيق، لم يفتنا من أعمالهم شيء، كما قال الله: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿7﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7، 8].
قال: ﴿فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾؛ أي ذوقوا هذا العذاب، فلن تجدوا بعده إلا عذابًا أزيد منه، وإن قال بعض العلماء هذه الآية أشد شيء في القرآن.
لماذا؟
لأن العادة أن من يسجن أو يعذب يبدأ بالعذاب.... ثم يخف عنه العذاب شيئًا فشيئًا فشيئًا حتى يُفرج عنه، أما في نار جهنم فإنه في كل يوم يُعطى لونا أزيد من اللون الذي قبله.
نسأل الله العفو والسلامة.
بعد أن ذكر عذاب هؤلاء، انتقل إلى نعيم المتقين، بعد أن ذكر الترهيب انتقل إلى الترغيب، من أجل أن النفوس إذا خافت عرفت ... في هذا المنجى والمكان الذي تُحبه النفوس وتحب أن تفوز به.
قال: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾ ولاحظ أنه علق هذا على وصف، قال: ﴿للمتقين﴾، فإذا كان الإنسان مُتقيًا؛ حصل هذا المكان.
﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾ ﴿مَفَازًا﴾ إما أن تكون مكان فوز، أو فوزًا، والظاهر هو الأول، يعني إن للمتقين مكانًا يفوزون به، أو إن للمتقين فوزًا، قولان لأهل العلم، أظهره هو الأول؛ لأنه ذَكَرَ بعده ﴿حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ﴿32﴾ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا﴾. ما هي الكواعب؟ جمع كاعب، وهي الفتاة الشابة التي تَكَعَّبَ ثديها، يعني لا زال ثديها في بداية نُشوئه، وهذا أطيب ما يكون في الفتاة.
﴿أَتْرَابًا﴾؛ أي في سنٍّ واحدة، ﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا﴾ الكأس يطلق عند العرب على الخمر، و﴿دِهَاقًا﴾ يعني ممتلئة، وقد وصفها بعض العلماء: قال ممتلئة ومتتابعة وصافية.
﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا﴾؛ أي في الجنة، التي فيها الحدائق والأعناب ﴿لَغْوًا﴾ أي كلامًا فارغًا، ﴿ولا كذابًا﴾.
﴿جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾؛ أي كافيًا.
﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾؛ أي لا يتحدث أحد في ذلك اليوم إلا أن يأذن له الله -سبحانه وتعالى- من هول الموقف.
﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا﴾ اُختلف في الروح على أقوال، أرجحها على أنه جبريل، لأنه ورد في القرآن في مواطن تسمية جبريل بالروح، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ [الشعراء: 193].
... وقوفا أمام الله -سبحانه وتعالى- لفصل ...
﴿لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾؛ أي قال: كلامًا حقًّا وأعظمه وأجله: لا إله إلا الله.
﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ﴾ الثابت الذي لا شكَّ فيه، ﴿فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا﴾ من شاء اتخذ طريقًا موصلا إلى الله بالعمل الصالح.
قال الله -عز وجل- في ختام هذه السورة: ﴿إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾ أي حذرناكم عذابًا قد أزف، فكل ما هو آت فهو قريب.
﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ ينظر إلى عمله الذي قدمه لتلك الدار فإن كان محسنا فرح بإحسانه، وإن كان مسيئا استاء لما عمل، أو ما قدم من سوء.
﴿وَيقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾ يعني لم أخلق أصلًا، أو ليتني بعد إذ حوسبت أكون ترابًا، كما يرى من البهائم عندما يقتص الله لبعضها من بعض، ثم يقول لها كوني ترابًا، فتكون ترابًا، فيتمنى الكافر أن يكون مثلها.
إلى هنا أحبتي وصلنا نهاية درسنا في تفسير هذه السورة، وإن كنا اختصرنا في آخرها، لكن لعلنا في المرات القادمة نزن الوقت إن شاء الله، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. مشاهدي الكرام إلى لقاء في حلقة قادمة ودرس جديد مع سورة النازعات، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
إخوتي الكرام، مشاهدي الفضلاء، أيها الحضور..
حياكم الله جميعًا في هذا الدرس الأول من دروس التفسير في هذه الأكاديمية العلمية، وأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يُعيننا على الإخلاص والسداد في القول والعمل..
مُقررنا إن شاء الله سيكون تفسير جزء عم، ابتداءً من سُورة عم التي تُسمى سورة النبأ، إلى نهاية القرآن الكريم، وهذا سيستغرق منا هذا الفصل الدراسي قريبًا من عشرين درسًا، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يتقبل منا فيها العمل وأن يرزقنا الصبر على طلبِ العلم، وأن يَنفعنا بما نعلمه وما نُعلمه.
أحبتي الكرام، بادئ ذي بدء نُعطي نُبذة عن جزء عم..
جزء عم هو الجزء الأخير من هذا المصحف العظيم، وفيه أكثر سور القرآن، وجزء عم يتضمن قسمين من أقسام الْمُفَصَّل، فالمفصل في القرآن الكريم هو الجزء الأخير من كتاب الله -عز وجل-؛ لأن القرآن مُقسم إلى أقسام معلومة عند العلماء وهي: السَّبع المثاني، ثم بعد ذلك الْمِئِين، ثم الْمَثَاني، ثم المفصل، فأقسام القرآن أربعة: السَّبع الطِّوال، ثم المئين، ثم المثاني، ثم المفصل.
والمفصل يبدأ -على الصحيح من أقوال أهل العلم- من سورة ق، وينتهي بسورة الناس.
وسُمي مفصلًا؛ لأنَّ فواصله كثيرة، أو لكثرة الفصل بين سوره بـ(بسم الله الرحمن الرحيم).
وقد قسم العلماء هذا المفصل إلى أقسام ثلاثة، فقالوا: طوال المفصل، وأوساط المفصل، وقصار المفصل.
أما طِوال المفصل فتبدأ من سورة ق إلى نهاية سورة المرسلات، وأما أوساط المفصل فتبدأ من سورة عم إلى نهاية سورة الليل، وأما قصار المفصل فتبدأ من سورة الضحى إلى آخر القرآن.
فإن قلت: ما الفائدة من العلم بهذا المفصل، ومن العلم بطِواله وأوساطه وقصاره؟
قيل: لهذا فوائد؛ أهمهما: ماذا يقرأ الإنسان في صلاته؟
فنجد أنه في صلاة المغرب يُستحب له أن تكون قراءته من قِصار المفصل، ما قِصار المفصل؟ من الضحى إلى الناس.
وأما في الظهر والعصر والعشاء، فيُستحب له أن يقرأ من أوساط المفصل، ما أوساط المفصل؟ من سورة النبأ -السورة التي معنا اليوم- إلى نِهاية سورة الليل، وفي صلاة الفجر يُستحب للإنسان أن يقرأ من طوال المفصل؛ أي من سورة ق إلى نهاية سورة المرسلات.
وهذا المفصل غالبه مكي، كما أن سورة النبأ أو سورة عم هي سورة مكية، والمكي -أيها الأحبة- من كتاب الله -عز وجل- يتميز بأنه يركز على الجانب العقدي، فهو يبني العقيدة في نفس الإنسان.
وبناء العقيدة في نفس الإنسان أمر ضروري، بحيث لا يمكن أن يعمل الإنسان في الحياة إلا عن عقيدة، فأنت الآن إذا اعتقدت شيئًا، ستعمل بناءً على تلك العقيدة، ولذلك جاء القرآن المكي يؤسس لهذه العقيدة في النفوس لتكون التصورات صحيحة، ثم ينطلق الإنسان في العمل.
فمثلًا لو أن الإنسان اعتقد أن هذه الحياة هي نهاية الكون، وأنه لا حياة بعدها، ولا جزاء، ولا بعث، ولا نشور، ولا جنة، ولا نار، كيف ستكون تصرفاته في الدنيا؟ ستكون تصرفات إنسان يُريد أن يَعبَّ من الشهوات، وأن يأخذ بكل ما يُمليه عليه هواه، دونٍ نظر إلى شيء آخر، لماذا؟ لأنه يرى أن هذه الحياة هي نهاية اللذة، ونهاية الشهوة، وآخر ما في هذا الوجود بالنسبة للإنسان.
أما إذا اعتقد الإنسان أن هذه الحياة مرحلة، مرحلة ابتلاء واختبار، وأنه مأمورٌ فيها بأن يكون عبدًا لله، وأن وراء هذه الحياة حياة أخرى أبدية سرمدية، فيها جزاء وفيها نشور، وأنك ستُحاسب على كل شيء تعمله، وتُجازَى على كل شيء تفعله، فهنا تختلف تصرفات الإنسان اختلافًا جذريًّا، بناء على هذه العقيدة.
وهكذا المسلم يَبني تصوراته من خلال هذا الجزء العظيم، وهو جزء المفصل من كتاب الله -عز وجل-، ومن القرآن كله، لكن هذا الجزء من كتاب الله -وهو المفصل- ركز على الجانب الاعتقادي، وهو الإيمان بالله والإيمان بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، والإيمان باليوم الآخر.
هذه المسائل الثلاثة، أو الإيمان بالله وتوحيده، والثانية الإيمان بالرسول وبالرسالة التي جاء بها وهي القرآن، والثالثة قضية اليوم الآخر، هذه القضايا الثلاث هي غالب ما في هذا الجزء العظيم من أجزاء القرآن العظيم.
وسنطبق ذلك -إن شاء الله- في سورة عم، ونرى كيف أن هذه السورة العظيمة الكريمة جاءت لتبين لنا هذه التصورات التي يَبني عليها المسلم حياته الدنيا، ويستعد فيها للقاء الله -جل وعلا-.
سورة عم سورة مكية، والمكي له تعريف عند العلماء، أتمنى لو أنَّ واحدًا منكم يعرف ما هو المكي؟
{طالب: ثمة أقوال، بعض الأقوال... ما هو المكي وما هو مدني، لكن الذي أذكره من الأقوال الراجحة فيما رأيت، أن المكي هو ما نزل قبل الهجرة، والمدني طبعًا ما نزل بعد الهجرة}.
وعليه: لو نزلت آية في مكة بعد الهجرة فهي مدنية، وهكذا لو نزلت آية قبل الهجرة في غير مكة، كالطائف أو غيرها، فتسمى عند العلماء مكية.
إذن: هذا حد زمني لمصطلح مكاني، فالمصطلح مكاني (مكي ومدني) مصطلحات مكانية، ومع ذلك الفاصل فيها هو الزمان، الهجرة، قبل الهجرة وبعد الهجرة، طيب أحسنت، جزاك الله خيرًا.
إذن: المكي بجملته يهتم بالاعتقاد وتأسيسه، ونلاحظ أنه يتميز أيضًا بقوة أسلوبه، وخطابه الواضح والصريح، وحواره للكفار والمشركين في عقائدهم، وما يتبنَّونه من أطروحاتٍ وعقائدَ فاسدةٍ، يناقشها نقاشًا قويًّا وصريحًا ومباشرًا.
ومن ذلك ما سيأتي معنا في قضية الإيمان باليوم الآخر في هذه السورة.
هناك مسألة يا إخوان قبل أن ندلف إلى السورة العظيمة وهي سورة النبأ، هناك قضية تُسمى موضوعات السورة، أو ما يُسمى بمقدمات أو علوم السورة.
هذه العلوم يعني العلوم التي يعرفها الإنسان قبل أن يدخل إلى السورة، منها مثلًا: فضل السورة، ومنها نُزول السورة، نزلت في مكة أو في المدينة، ومنها مقصود السورة، ويُسمى عمود السورة أو محور السورة، ومنها أيضًا أسباب نزول السورة، إذا كان لها سبب نزول، ومنها مناسبة السورة لما قبلها، ومنها مناسبة أول السورة لآخرها، ومناسبة مقاطع السورة لبعضها.. وهكذا.
طبعًا نحن لن نتوسع في هذه الأمور، لكن سنذكر ما يتيسر منها، إذا كان هناك مناسبة وسمح بذلك الوقت.
سورة عم سورة مكية تهتم باليوم الآخر، ولعلنا الآن نحاول أن ننظر إلى موضوعات هذه السورة، سنَجد يا إخواني أن هذه السورة اهتمت اهتمامًا واضحًا باليوم الآخر، تأملوا معي يا إخواني هذه موضوعات سورة النبأ:
الأول: أول مقطع فيها سيكون التساؤل عن النبأ العظيم، الذي قال الله فيه: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ﴿1﴾ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ﴿2﴾ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ﴿3﴾ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴿4﴾ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ هذه الآيات الخمس، سمينا هذا المقطع التساؤل عن النبأ العظيم.
بعد ذلك يأتي الموضوع الثاني، وهو دلائل قدرة الله، لماذا؟ لأن الكفار أنكروا النبأ العظيم وهو يوم القيامة، أو القرآن الذي جاء بخبر يوم القيامة، فلما أنكروه كان من مقتضى الحديث أن يُتحدث عن قدرة الله -عز وجل-، وأن الله قادرٌ على كل شيء.
فجاء قوله: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ﴿6﴾ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴿7﴾ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ﴿8﴾ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ﴿9﴾ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴿10﴾ وَجَعَلْنَا النهَارَ مَعَاشًا ﴿11﴾ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ﴿12﴾ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴿13﴾ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ﴿14﴾ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنبَاتًا ﴿15﴾ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾ هذه دلائل قدرة الله -عز وجل- وعظمته التي نأخذ منها أن الله سيبعث العباد، فلماذا أيها المشركون تستغربون وتُحيلون أن يبعث الله العباد بعد أن أماتهم؟! ما الشيء الغريب في هذا الأمر؟! لماذا استنكرتم هذا الأمر؟!
ثم يأتي الموضوع الثالث من موضوعات هذه السورة الكريمة، وهو مشاهد الآخرة، قال: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا﴾، من هنا بدأت مشاهد الآخرة، فيُحدثنا عن يوم القيامة وماذا يحدث فيه من الأهوال: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ﴿18﴾ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ﴿19﴾ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ وهنا ينتهي المقطع الثالث من مقاطع هذه السورة.
يأتي بعد ذلك المقطع الرابع من مقاطع هذه السورة وهو قوله: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ﴿21﴾ لِلطَّاغِينَ مَآبًا ﴿22﴾ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾ إلى قوله: ﴿فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾، وهو الحديث عن جزاء الكافرين، الكافرين بهذا القرآن، الكافرين بهذا اليوم العظيم، الكافرين بهذه الرسالة التي جاء بها رسول الله -صلوات ربي وسلامه عليه-.
ثم بعد ذلك يأتي المقطع الأخير من مقاطع هذه السورة، وهو جزاء المؤمنين المتقين، الذين يخافون عذاب الله -عز وجل-.
فأصبحت مقاطع السورة بناء على هذا التفصيل خمسة مقاطع، طبعًا هذه مقاطع تقريبية وليست تفصيلية دقيقة، ولكن تُعطينا تصورًا عامًّا عن هذه السورة الكريمة.
نأخذ يا إخواني آيات هذه السورة خشية أن يداهمنا الوقت ونحن ما مررنا عليها.
يقول الله -عز وجل-: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾؛ أي عن أي شيء يتساءل هؤلاء المشركون، إنهم يتساءلون عن شيء ينكرونه، ويُكذبون به، قال: ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾، يتساءلون عن هذا النبأ الذي جئتَ به -يا محمد- وهو النبأ العظيم، والنبأ يقال للخبر المهم، ولذلك عندنا يقال نشرة الأنباء، أو وكالة الأنباء، يعني الأخبار المهمة التي تَشْرئِبُّ النفوس لسماعها.
ثم وصفه بقوله: ﴿النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ واختلف المفسرون ما هو النبأ العظيم؟ هل هو القرآن أو يوم القيامة؟ فمن العلماء من قال ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾: هو القرآن، واستدلوا على ذلك بقول الله -عز وجل- في سورة ص: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ﴿67﴾ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ [ص: 67، 68].
قالوا: ما دام الله وصف القرآن بأنه نبأ عظيم، إذن فنحمل هذه الآية على أن المراد بالنبأ العظيم هو القرآن.
والقول الثاني: أن النبأ العظيم هو يوم القيامة، لماذا قالوا يوم القيامة؟ قالوا: لأن الحديث كله في السورة -كما شاهدنا- عن يوم القيامة، ولا شك أنَّ دليل السياق من الأدلة القوية التي نَستند إليها في ترجيح قول على قول.
يبقى أنْ نخبركم بأنه لا مانعَ أن يكون النبأ العظيم هما جميعًا، ويمكن أن نصوغ هذين القولين بهذه الصياغة، نقول: النبأ العظيم هو القرآن الذي جاء بيومِ القيامة؛ لأنَّ من أعظم أخبار القرآن التي أنكرها المشركون، هو خبر يوم القيامة، وبهذا نقول: ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ عن القرآن الذي جاء بيوم القيامة.
﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾ اختلفوا فيه، فمنهم من يظنه ظنًّا، ومنهم من يُكذب به، ومنهم من يُؤمن به، قال: ﴿كَلَّا﴾ "كلا" عندنا كلمة تأتي بمعنيين في القرآن:
المعنى الأول: بمعنى الردع والزجر، لا صحةَ لما تقولون، ليس الأمر كما تقولون.
والمعنى الثاني: كلا بمعنى حقًّا كما في قول الله -عز وجل-: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿1﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿2﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿3﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿4﴾ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴿5﴾ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾ [العلق: 1- 6]، ما معنى "كلا" هنا، حقًّا إن الإنسان ليطغى.
فإن قلت كيف أفرق بين "كلا" بمعنى حقًا، و"كلا" بمعنى الردع والزجر، هل من أحد يجيب على هذا السؤال؟ ما الفرق بينهما؟
{لعل الجملة التي بعدها تحدد ذلك}.
أو بالعكس، الجملة التي قبلها، الجملة التي قبلها إن كانت تتضمن شيئًا منكرًا يُراد إنكاره؛ إذن: "كلا" للردع والزجر، وإن كانت لا تتضمن شيئًا من ذلك، فـ"كلا" تكون بمعنى "حقًّا"، ولذلك هنا ﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾؛ إذن: هذا شيء يُنكر، كلا؛ ليس الأمر كما تقولون، ﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ أن هذا حق، وأنه كائن بإذن الله -عز وجل-.
﴿ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ تأكيد لهذا الذي ذُكر في الآية الأولى، من باب التشديدِ عليهم، كيف تختلفون في أمر واضح الدلالة؟ لا يمكن أن يكون نهاية مصيرِنا أن نموت، ثم نصبح رميمًا، ثم ينتهي أمرنا تمامًا، وفينا الظالم والمظلوم، والمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والصادق والكاذب، ثم تستوي النهاية، هذا لا يمكن، فلا بد أن يلقى هؤلاء جزاءهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
بهذا انتهت مقدمة هذه السورة الكريمة.
قال الله -عز وجل-: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا﴾ هذه دلائلُ قدرة الله التي تدلُّ على أن الأمر الذي اختلفتم فيه وكذبتم به، ليس كما ذكرتم، بل هو أمر ميسور، وسهل على الله -عز وجل-، وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه، فأنتم إذا كنت تؤمنون بأن الذي بدأ خلقكم هو الله؛ إذن: ما الغريب أن يُعيد ربكم -سبحانه وتعالى- خلْقَكم مرةً أخرى؟! بل قال الله لهم: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غافر: 57]، فلماذا تكذبون بهذا؟! رأيتم يا إخواني، ولهذا جاءت هذه الدلائل.
﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا﴾، "ألم" هذا استفهام، ما نوع هذا الاستفهام؟ استفهام للتقرير، أي قد جعلنا الأرض مهادًا، أو للتعجيب، يعني ألا يتعجب منكم، فقد جعل الله -عز وجل- الأرض مهادًا.
مهادا؛ أي ممهدة للسُّكنى عليها والعيش فوقها والسير على ظهرها.
﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ هذه الجبال العظيمة التي نراها في طول الأرض وعرضها، جعلها الله أوتادًا، ولاحظوا يا إخواني كيف أن القرآن سبق إلى تسميةِ الجبال أوتادًا.
والوتد هو الطُّـنُب الذي تُثبت به الخيمة، يُضرب في الأرض، ثم يجر الحبل ويعلق بهذا الوتد فيثبت الخيمة، هذا يُسمى وتدًا.
نفهم من هذا يا إخواني أنَّ الجبال مثل هذه الأوتاد، فهي تثبت الأرض، ولولا هذه الجبال؛ لما ثَبتت هذه الأرض ولصارت مضطربةً لا يستطيع أحد أن يسكن عليها، ولا نستطيع أن نسير فوق ظهرها، ولا نستطيع أن نبني عليها بناءً أو نقرَّ فوقها.
وهذا التعبير مُعلِمٌ بشيء لم يكتشفه العالم من قبل، إنما عرفوه بعد أن جاءت الحفريات الجديدةُ، والعلم الجديد الذي استطاع أن يصلَ وأن يَسبُر أغوارَ الأرض، فوجدوا أنَّ كل جبلٍ في عُمقه في الأرض مثل ما فوق الأرض، يعني ثلثا الجبل في أسفل الأرض، والثلث الآخر هو البادي.
وهكذا الوتد، نحن الآن عندما نضرب الوتد، هل نجعل طرفه القليل في الأرض، أو أكثر الوتد نجعله في الأرض، أكثر الوتد نجعله غائصا في الأرض، ونجعل الجزء الأعلى الثلث فأقل هو الخارج، حتى نربط به الحبل، وهذا الأمر لا يعرفه الناس من قبل، إنما عرفوه الآن، ولما رسموا الجبال وجدوا كل جبل ذروته هي في الوقت ذاته هي أقصى نقطة تصل إلى قاع الجبل في الأرض، وأن كل جبل أمامنا إذا كان طوله -مثلًا- مئة متر، فهناك مئتا متر داخل الأرض، وهذا يدلنا على أن هذا القرآن قد نزل من عند الله، ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].
قال: ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا﴾ خلقناكم أنتم أيها الناس على صفة الزوجية وهي أن تكونوا من ذكر وأنثى، فتتناسلوا ويبقى النوع البشري إلى أن يأذن الله -عز وجل- بالزوال.
فخلقَنا الله على صفة الزوجية؛ ليأنس بعضنا ببعض، ويجعل بيننا مودة ورحمة، ونتعاون، وليظهر بذلك تفرُّده -سبحانه وتعالى- بأنه هو الواحد المستغنِي عن كلِّ شيء، وكل شيء لا يَستغني عن وجود نظير له، ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات: 49].
فكل المخلوقاتِ تتكونُ من نوعين، حتى الكهرباء سالب وموجب، الماء تجد أن قطرة الماء تتكون من عنصرين، الهواء يتكون من عنصرين، وكل شيء في هذا الكون تجدُ أنه لا بدَّ أن يكون فيه عنصران حتى يحيى ويكون.
إلا الله -سبحانه وتعالى- فهو الواحد الأحد، الغني الصمد، الذي ليس بحاجة إلى أحد، وكل أحد بحاجته -سبحانه وتعالى-.
قال الله -عز وجل-: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ﴿6﴾ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴿7﴾ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ﴿8﴾ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ بعد أن ذكر الزوجية، ذكر نعمة النوم، وهذه النعمة من الله -سبحانه وتعالى-، وهي نعمة تكمل الإنسان وهي دليل على نقص الإنسان، لأنه يحتاج إلى الراحة، أما الله وحده فليس بحاجة إلى هذا لأنَّه -سبحانه وتعالى- لا يمسه نصب ولا يمسه لغوب -جل جلاله وعظمت قدرته-.
قال: ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ ما معنى "سباتا"؟ سُباتا بمعنى راحة، جعلْنا نومكم قاطعًا لأعمالكم فترتاحون به، ومنه سُمي يوم السبت؛ لأن اليهود كانوا يَرتاحون فيه من العمل، ولهذا قال: ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ أي قاطعًا لأعمالِكم وأشغالكم فترتاح أبدانكم.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾، هذا الليل يغشاكم فكأنكم تلبسونه.
ولذلك إذا نزل الليل أو حل الليل اكتفينا بستره عن ستر الثياب، متى يَتجرد الناس من ثيابِهم، أو يتخلصون من هذه الألبسة التي عليهم، عندما يأتي الليل، ولذلك قال الله: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾ يَستركم بظلامِه.
﴿وَجَعَلْنَا النهَارَ مَعَاشًا﴾ جعلنا الناس محلًّا لمعاشِكم، فأنتم تَطلبون الرزق وتضربون في الأرض وتبحثون عن المعاش في وقت النهار.
ولذلك يقول العلماء: هذه سُنة الله ينبغي أن تُراعى، وهو أن يكون النهار للعمل، والليل للراحة والسكن، متى خالفنا هذه السُّنة، سيصيبنا من البلاء ويحصل فينا من الأدواء والضرر بِحَسَبِ مخالفتنا لهذه السُّنة.
وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن أولئك الذين لا ينامون في الليل، وينامون في النهار، يصبح عندهم شيء من الأزمات بسببِ أنهم خالفوا هذه السنة التي خلق الله عليها الخليقة.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾ انتقل من العالم الأرضي السُّفليِّ إلى العالم العلويِّ، انتقال من الأدنى إلى الأعلى، قال: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾ لم يذكر لنا ما هي السبع، هل هي سبع نجوم، ولا أفلاك، ما ذكرها، لكنها معلومة، ومعروفة في فطرة كل واحد منا، ما هي السبع الشداد؟
{السموات السبع}.
ولذلك ما ذكرها اكتفاء بالعلم بها، لأن كل إنسان يعلم ما هي هذه السبع.
﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا﴾ ثم قال: ﴿شِدَادًا﴾ يعني أنها شديدة ومتماسكة، ﴿هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾ [الملك: 3]؛ أي من شقوق، وذكر الله -عز وجل- في سورة الذاريات: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47]؛ أي بقوة، فالسماء محكمة عظيمة الإحكام وهي قبة واسعة، قد رفعها الله -عز وجل- من غير عمد، وهكذا نراها نحن من غير عمدٍ.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾ هذه أيضًا لم يذكر الله -عز وجل- ما هو السراج؟ أيضًا للعلم به، ما هو السراج؟ ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾.
{القمر}.
هل القمر وهاج؟!
{الشمس}.
أي نعم، لاحظ قال "سراجًا"؛ لأن السراج يجتمع فيه شيئان، الأول: الإضاءة، والثاني: الحرارة، وهكذا الشمس، ولذلك وصف القمر في القرآن بأنه نور، ووصفت الشمس بأنها سراج، لكي تتضمن الإضاءة أو الإنارة والحرارة، أما القمر فجُعل نورًا لأنه يقبس نوره من الشمس، وهو يعكس ضوء الشمس.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَهَّاجًا﴾ أي متوهجًا ومتوقدًا، وهكذا نرى الشمسَ، بحيثُ إنَّ الإنسانَ لا يَستطيع أن يركزَ فيها النظرَ أو يصمد لها خصوصًا في وقت الحرِّ، أو إذا قربت من رؤوس الناس.
قال: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا﴾، ما المعصرات؟
{المعصرات هي السحاب}.
طيب، أحسنت، صحيح، والقول الثاني: المعصرات هي الرياح، لكن ما ذكره الأخ رياض من أن المعصرات هي السحب هو الصحيح، لماذا؟ إبقاءً للجملة على تركيبها، لأننا إذا قلنا: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ﴾؛ أي من السحاب ﴿مَاءً ثَجَّاجًا﴾؛ كان الكلام مستقيمًا، أما إذا قلنا: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ﴾؛ أي من الرياح؛ أي أنزلنا بالرياح ﴿مَاءً ثَجَّاجًا﴾ غيرنا "من" إلى "الباء"؛ إذن: المعصرات هي السحب، يُقال للمرأة التي قد دنا حيضها ولم تحِضْ: مُعصر، هذه قد قرُب الحيض منها ولم تحِضْ بعدُ، يُقال لها: مُعصر، وكذلك السَّحاب إذا اجتمعَ فيه الماءُ ولم يَنزلْ؛ يُقال له: مُعصر.
قال: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا﴾؛ أي ماءً كثيرًا سيالًا منصبًّا، قال الله -عز وجل-: ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ﴾؛ أي بهذا الماء ﴿حَبًّا وَنبَاتًا﴾ يُخرج الله ... النبات.
أما الْحَبُّ فهي الحبوب التي يَقتات الناس ويتاجرون بها، مثل الأَرُزِّ والشعير والذرة والدُخن والفول والحمص، والعدس وغيرها من أنواع الحبوب والبقول التي يَقتات الناس بها.
وأما النبات فهو ما سوى الحبوب؛ من الأشجار التي فيها الفواكه، ومن الأشجار التي فيها الخضروات، ومن أيضًا النباتات الأخرى والبقوليات التي يأكلها الناس ويأْتَدِمُون بها، فالله -عز وجل- يخرج لنا بالماء هذا وهذا.
قدَّمَ الْحَبَّ لشدةِ الحاجةِ إليه؛ لأن الناس قد يَستغنون عن الخضروات، قد يستغنون عن الفواكه، لكن لا يستغنون عن الحبوب، فقدمها الله -عز وجل- ليبين عظيم مِنته علينا بهذه الحبوب والأقوات.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾.. حبًّا ونباتًا ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾، هنا سؤال نحوي لا أدري إذا كان بالإمكان الإجابة عليه، يقول : ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنبَاتًا ﴿15﴾ وَجَنَّاتٍ﴾ لماذا قال "جنات" ولم يقل "جناتا"..
{جمع مؤنث}.
جنات: جمع مؤنث سالم، وجمع المؤنث السالم يُنصب وعلامة نصبه الكسرة، فتقول: جاء المسلماتُ ورأيت المسلماتِ، فجنات معطوفة على منصوب، فهي منصوبة مثله، لكنها منصوبة وعلامة نصبها الكسرة؛ لأنها جمع مؤنث سالم.
قال: ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾؛ أي حدائق مُلتفَّة، هذه الحدائق من خَلَقَها؟ من كونها؟ من أنبتها؟ من أخرجها من داخل الأرض وباطنها؟ من الذي أنتجها من تلك الحبوب أو البذور الصغيرة، وجعلها أشجارًا عظيمةً وجعل فيها هذه الفواكه النضرة وهذه الألوان الجميلة؟ الله وحدَه.
الله الذي خلق هذا كله، هل يُمكن أن يُوصف بأنه عاجزٌ عن إعادتكم بعد موتكم؟ وبأنه لا يَقدر على أن يُحييَ الناس بعد أن يموتوا، أين عقولكم يا أهل مكة؟ أين عقولكم يا مشركي العرب؟
قال الله -عز وجل- بعد أن ذكر هذه الدلائل العظيمة الدالة على قدرته، وعظمته، ونعمته على عباده، والقاطعة والمانعة للتكذيب بيوم القيامة قال: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا﴾ الآن بدأ في المقصود وهو الحديث عن يوم القيامة، وعن إنكار ذلك اليوم وما سيحدث فيه من الأهوال.
لماذا لما بدأ بيوم الفصل قال: ﴿إِنَّ﴾، ولم يقل: ﴿يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا﴾ لماذا جاء بـ ﴿إِنَّ﴾.
{من باب التأكيد}.
من باب التأكيد، لماذا التأكيد؟ ما الذي يدعو إلى التأكيد؟ الآن هل أنا بحاجة أن أقولَ: لك أقسم لك بالله أنَّ السماء فوق، هل أنا بحاجة إلى هذا؟ ما أنا بحاجة إلى هذا، تقول: لماذا تحلف؟! أليس كذلك؟
إذن: متى يُؤكد الإنسان كلامه؟ يؤكد الإنسان كلامه عندما يكون الطرف الآخر مُنكرًا.
هنا لَمَّا كان الحديثُ مع من ينكرون البعثَ؛ قال الله -عز وجل- "إن" لتأكيد وقوع هذا اليوم ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا﴾.
يوم الفصل ما هو؟
{يوم القيامة}.
يوم القيامة، طيب سؤال: لماذا سُمِّيَ يوم القيامة بيوم الفصل؟
{فيها يُفصل بين الحقِّ والباطلِ}.
يا سلام، وبين المؤمن والكافر، وبين الظالم والمظلوم، وبين الصادق والكاذب، وبين الحق والباطل كما ذكرت، أحسنت، يُفصل فيه بين الخلق، فسُمي يوم الفصل لذلك.
﴿كَانَ مِيقَاتًا﴾؛ أي موقتًا مُحددًا لا يتقدمُ ولا يتأخرُ عن ميعادِه الذي قد قدَّرَه الله -عز وجل-، ولا يَعلمه أحدٌ إلا هو، ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ [لقمان: 34]، علم الساعة عند الله، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ﴾ ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ﴾، فهذا علم قدِ اختصَّ الله -سبحانه وتعالى- به فلم يطلع عليه نبي مرسلًا، ولا ملكًا مقربًا.
قال الله -عز وجل-: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾؛ أي في ذلك اليوم ينفخ في الصُّورِ، من الذي ينفخ في الصور؟ ملك اسمه إسرافيل، طيب سؤال: لماذا لم يقلْ: يومَ يَنفخُ إسرافيلُ في الصور فتأتون أفواجًا؟ لماذا آثر صيغة المبني لغير المعلوم؟
{أعتقد بأن في سياق بيان خطورة الموقف وليس ثمة حاجة لذكر أسماء، من هو القائم بذلك، وإنما هو لخطورة الموقف}
نعم، للتركيز على أمر المعين، سأعطيكم مثالًا: لو أن إنسانًا جاء وسرق شيئًا، وتريد أن تخبر الناس من أجل أن يستيقظوا لهذه السرقة، فأنت لست بحاجة لأن تقول: سرق إنسان طويل -أو قصير أو عريض- المالَ من البيت، الناس يقولون: أَعِدْ لو سمحتَ إنسان طويل ولا أيش، عريض ولا... فينشغلون بماذا؟ بالمحدِث عن الحدث، لا.. أنت الآن تريد أن تنبههم على شيء محدد، وتلفت انتباههم إلى أمر معين، فتقول: سُرِقَ المال، الناس مباشرة يفزعون في إنقاذ المال من السرقة، أليس كذلك.
هنا قال: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ﴾ ولم يذكر لنا من هو النافخ، لماذا لم يذكر لنا من هو النافخ؟ لأجل أن يركز على الحدث الذي يُراد إثباته، بغضِّ النظر عن المحدِث أو النافخ وهو إسرافيل.
﴿فِي الصُّورِ﴾ الصور هو قَرْن عظيم جدًّا خَلَقَه الله -عز وجل- لينفخ فيه إسرافيل، فإسرافيل ينفخ فيه نفختين، النفخة الأولى نفخة للصعقِ، يموت من على وجهِ الأرض، والنفخة الثانية للبعثِ، كل من مات بالنفخة الأولى أو قبلها يحيى بالنفخة الثانية.
فهما نفختان ينفخ فيهما إسرافيل عليه الصلاة والسلام، وإسرافيل الآن مستعد للنفخ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كيف أنعم؟»؛ يعني كيف أتنعمُ وأتلذذُ «وصاحب القرن قد التقم القرنَ ينتظرُ أن يُؤمر بالنفخِ، فينفخ»، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يَتحيَّنُ الساعة، ويتوقع قيامها في وقته -عليه الصلاة والسلام-، فحريٌّ بنا نحن أن نستعدَّ، وعلى كلٍّ إن لم نُدرك تلك النفخة، فسنُدرك ما قبْلَها وهو الموت الذي هو قيامةُ كلِّ واحد منا.
قال الله -عز وجل-: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾ سؤال فيه شيءٌ من الذكاء: هل هذه النفخة هي النفخة الأولى أو الثانية؟
{يظهر من السياق أنها النفخة الثانية}.
نعم؛ لقوله: ..؟
{﴿فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾}.
﴿فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾؛ يعني إذا نفخ جئتم أفواجًا إلى أرض المحشر والمنشر.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾؛ أي صارت أبوابًا يخرجُ منها أهلُ السماء، ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ﴾، طبعًا هناك قراءة ﴿وَفُتِّحَت﴾؛ لكثرةِ الأبوابِ فيها، التي يَنزلُ منها أهل السماءِ، وأهل السماء ليسوا قليلين، كثر.
كان الصحابة يمشون مرةً مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسمعوا أطيطًا، فالأطيطُ هو صوتُ الشيءِ الذي أثقل بالحملِ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَطَّتِ السماءُ، وحُقَّ لها أن تَئِطَّ، ما فيها موضع شبر إلا وملك قائمٌ، أو ساجد يُصلِّي لله -عز وجل-»، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.
قال: ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا﴾؛ أي في ذلك اليوم، تسير الجبال، كيف تسير الجبال؟ هذا بأمر الله، هذه الجبال الراسية الضخمة الهائلة العظيمة، تدك وتصبح كثيبا مهيلًا، ثم تكون كالعهن المنفوش، ثم تسير ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: 88]، ثم تصبح بعد ذلك ﴿قَاعًا صَفْصَفًا ﴿106﴾لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا ولَا أَمْتًا﴾ [طه: 106، 107].
فهنا ذكر مرحلة من مراحل تحول الجبال في يوم القيامة، ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا﴾... انتهت مشاهد يوم القيامة التي تدل على هول ذلك اليوم، وعلى التغير العظيم الذي سيحدث في ذلك اليوم.
قال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ أي هذا هو جزاء الكافرين، وبدأت بقوله: ﴿إِنَّ﴾ لماذا؟ للتأكيد، طيب، ولم التأكيد؟ لأن الذين يخاطبون في هذه السورة هم من المنكرين، والمنكر يحتاج إلى مؤكدات، بخلاف خالي الذهن الذي لا يحتاج لهذه المؤكدات.
﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ جنهم اسم للنار، التي أعدها الله -عز وجل- للكفار، ﴿كَانَتْ مِرْصَادًا﴾؛ أي راصدة ترصدهم، فهي ترقبهم وتبحث عنهم، كلما مرَّ واحد منهم أو من أهلها عبر الصراط الذي يضعه الله -عز وجل- أخذته النار، فيها كلاليب مثل شوك السعدان، تخدش هؤلاء وتتلقفهم.
وسُميت مرصادًا؛ لأنها ترصد الناس في طريق عبورهم على ظهرها، وهذا يدل على شيء معروفٍ سيكون يوم القيامة وهو ما يُسمى بالصراط، الذي يعبرُ عليه الخلق، وهو أدقُّ من الشعر وأحدُّ من السيف، يَمشي عليه الناس جميعًا، فمنهم من يمشي كالبرقِ ومنهم كالريح، ومنهم كأجاودِ الخيلِ، ومنهم من يهرول، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم من يُكَرْدَسُ في جهنم فتخطفه بكلاليبها وتضعه في قعرها، نسأل الله العافية والسلامة.
لمن هذه المرصاد؟ قال الله -عز وجل-: ﴿لِلطَّاغِينَ﴾ والطاغي هو الذي تجاوز الحد في المعصية، ﴿لِلطَّاغِينَ مَآبًا﴾ أي مقرًّا وموئلًا.
﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾؛ أي ماكثين فيها دهورا طويلة، قد اختلف السلف في الحقب، ما هو؟ كم مدته؟ منهم من قال ثلاث مئة سنة، ومنهم من قال الحقب الواحد، المهم أقوال كثيرة مفادها: أنهم سيلبثون فيها مدة طويلة لا انتهاء لها.
فإما أن تكون لا انتهاءَ لها، ويُراد بذلك مُددٌ غيرُ منتهيةٍ، فتكون مساوية لقولِه: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [النساء: 57]، وإما أن يراد بها أنها لمن طغوا وإن كانوا من غيرِ الشركِ، أو لمن كانوا من أهل التوحيد، وهذا قال به بعض العلماء.
والظاهر والله أعلم أن هذه الآيات سِيقت في حق الكفار؛ بدليل أنه قال في آخر الآيات قال: ﴿فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾، طيب، ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾؛ أي: دهورًا طويلة ... مساوية لقوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾.
﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا ولَا شَرَابًا﴾ هذا... قالوا: ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ﴿23﴾ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا ولَا شَرَابًا﴾ طيب ثم بعد ذلك قال: يتغير العذاب، ولكن الظاهر هو ما ذكرناها والله أعلم.
﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا﴾ ما هو البرد؟ اختلف العلماء فيه على قولين: منهم من قال: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا﴾؛ أي نومًا، ومنهم من قال: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا﴾ أي هواءً باردًا يبرد أجسادهم.
أحبتي عندنا قاعدة في التفسير مهمة جدًّا وهي: أنه عندما يحصل عندنا خلاف في الآية، فإننا نفسر الآية بالمشهور الظاهر المعروف المتبادِر للأذهان من كلام العرب، وندع القليل والنادر والمنكر والشاذ والمهجور، ولو كان صحيحًا ندعه، لو كان ثابتًا بأنَّ العرب يقولون هذا لهذا، لكنه قليل في كلامهم، فإننا لا نُفسره به، وإنما نأخذ بالظاهر المشهور المتبادر للأذهان من كلام العرب.
قال: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا﴾؛ أي هواءً يبردُ حرَّ جهنم. ﴿ولَا شَرَابًا﴾؛ أي ماءً يُبرد حرَّ أجوافهم، فهم لا يذوقون البرد الخارجي والبرد الداخلي، نسأل الله السلامة.
قال: ﴿إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾ العلماء يقولون الواو تدل على على الاختلاف والمغايرة، وإلا كيف يَعطف شيئًا على نفْسِه.
إذن: الحميم مختلف عن الغساق؛ فالحميم هو الماء الحار الذي قد بلغ الغاية في حرِّه، والغساق هو الشراب البارد الذي هو من صديد الكفار وعرقهم وما ينتج منهم من جراء عذابهم، فهو جامع بين النتن وبين البرودة الشديدة، فهم لا يستسيغونه.
لكون الوقت قد أزف فأنا سأحاول المرور على الآيات مرورا سريعًا.
قال: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ أي موافق لأعمالهم.
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ هذا هو سبب العذاب، والقرآن من عادته أنه إذا ذكر العذاب يبين السبب، وإذا ذكر النعيم يبين ما هو السبب؛ حتى نقتدي ونعمل، ونتقي أسباب العذاب.
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾؛ أي يكذبون بيوم القيامة.
﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا﴾؛ أي كذبوا بهذه الآيات التي نزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تكذيبًا من غير حجة ولا بينة.
﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾ قد أحصينا أعمالهم إحصاء دقيقًا، والإحصاء هو العد الدقيق، لم يفتنا من أعمالهم شيء، كما قال الله: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿7﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7، 8].
قال: ﴿فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾؛ أي ذوقوا هذا العذاب، فلن تجدوا بعده إلا عذابًا أزيد منه، وإن قال بعض العلماء هذه الآية أشد شيء في القرآن.
لماذا؟
لأن العادة أن من يسجن أو يعذب يبدأ بالعذاب.... ثم يخف عنه العذاب شيئًا فشيئًا فشيئًا حتى يُفرج عنه، أما في نار جهنم فإنه في كل يوم يُعطى لونا أزيد من اللون الذي قبله.
نسأل الله العفو والسلامة.
بعد أن ذكر عذاب هؤلاء، انتقل إلى نعيم المتقين، بعد أن ذكر الترهيب انتقل إلى الترغيب، من أجل أن النفوس إذا خافت عرفت ... في هذا المنجى والمكان الذي تُحبه النفوس وتحب أن تفوز به.
قال: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾ ولاحظ أنه علق هذا على وصف، قال: ﴿للمتقين﴾، فإذا كان الإنسان مُتقيًا؛ حصل هذا المكان.
﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾ ﴿مَفَازًا﴾ إما أن تكون مكان فوز، أو فوزًا، والظاهر هو الأول، يعني إن للمتقين مكانًا يفوزون به، أو إن للمتقين فوزًا، قولان لأهل العلم، أظهره هو الأول؛ لأنه ذَكَرَ بعده ﴿حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ﴿32﴾ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا﴾. ما هي الكواعب؟ جمع كاعب، وهي الفتاة الشابة التي تَكَعَّبَ ثديها، يعني لا زال ثديها في بداية نُشوئه، وهذا أطيب ما يكون في الفتاة.
﴿أَتْرَابًا﴾؛ أي في سنٍّ واحدة، ﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا﴾ الكأس يطلق عند العرب على الخمر، و﴿دِهَاقًا﴾ يعني ممتلئة، وقد وصفها بعض العلماء: قال ممتلئة ومتتابعة وصافية.
﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا﴾؛ أي في الجنة، التي فيها الحدائق والأعناب ﴿لَغْوًا﴾ أي كلامًا فارغًا، ﴿ولا كذابًا﴾.
﴿جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾؛ أي كافيًا.
﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾؛ أي لا يتحدث أحد في ذلك اليوم إلا أن يأذن له الله -سبحانه وتعالى- من هول الموقف.
﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا﴾ اُختلف في الروح على أقوال، أرجحها على أنه جبريل، لأنه ورد في القرآن في مواطن تسمية جبريل بالروح، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ [الشعراء: 193].
... وقوفا أمام الله -سبحانه وتعالى- لفصل ...
﴿لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾؛ أي قال: كلامًا حقًّا وأعظمه وأجله: لا إله إلا الله.
﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ﴾ الثابت الذي لا شكَّ فيه، ﴿فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا﴾ من شاء اتخذ طريقًا موصلا إلى الله بالعمل الصالح.
قال الله -عز وجل- في ختام هذه السورة: ﴿إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾ أي حذرناكم عذابًا قد أزف، فكل ما هو آت فهو قريب.
﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ ينظر إلى عمله الذي قدمه لتلك الدار فإن كان محسنا فرح بإحسانه، وإن كان مسيئا استاء لما عمل، أو ما قدم من سوء.
﴿وَيقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾ يعني لم أخلق أصلًا، أو ليتني بعد إذ حوسبت أكون ترابًا، كما يرى من البهائم عندما يقتص الله لبعضها من بعض، ثم يقول لها كوني ترابًا، فتكون ترابًا، فيتمنى الكافر أن يكون مثلها.
إلى هنا أحبتي وصلنا نهاية درسنا في تفسير هذه السورة، وإن كنا اختصرنا في آخرها، لكن لعلنا في المرات القادمة نزن الوقت إن شاء الله، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. مشاهدي الكرام إلى لقاء في حلقة قادمة ودرس جديد مع سورة النازعات، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تعليق