إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..

    إخوتي الكرام، مشاهدي الفضلاء، أيها الحضور..

    حياكم الله جميعًا في هذا الدرس الأول من دروس التفسير في هذه الأكاديمية العلمية، وأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يُعيننا على الإخلاص والسداد في القول والعمل..

    مُقررنا إن شاء الله سيكون تفسير جزء عم، ابتداءً من سُورة عم التي تُسمى سورة النبأ، إلى نهاية القرآن الكريم، وهذا سيستغرق منا هذا الفصل الدراسي قريبًا من عشرين درسًا، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يتقبل منا فيها العمل وأن يرزقنا الصبر على طلبِ العلم، وأن يَنفعنا بما نعلمه وما نُعلمه.
    أحبتي الكرام، بادئ ذي بدء نُعطي نُبذة عن جزء عم..

    جزء عم هو الجزء الأخير من هذا المصحف العظيم، وفيه أكثر سور القرآن، وجزء عم يتضمن قسمين من أقسام الْمُفَصَّل، فالمفصل في القرآن الكريم هو الجزء الأخير من كتاب الله -عز وجل-؛ لأن القرآن مُقسم إلى أقسام معلومة عند العلماء وهي: السَّبع المثاني، ثم بعد ذلك الْمِئِين، ثم الْمَثَاني، ثم المفصل، فأقسام القرآن أربعة: السَّبع الطِّوال، ثم المئين، ثم المثاني، ثم المفصل.
    والمفصل يبدأ -على الصحيح من أقوال أهل العلم- من سورة ق، وينتهي بسورة الناس.
    وسُمي مفصلًا؛ لأنَّ فواصله كثيرة، أو لكثرة الفصل بين سوره بـ(بسم الله الرحمن الرحيم).
    وقد قسم العلماء هذا المفصل إلى أقسام ثلاثة، فقالوا: طوال المفصل، وأوساط المفصل، وقصار المفصل.
    أما طِوال المفصل فتبدأ من سورة ق إلى نهاية سورة المرسلات، وأما أوساط المفصل فتبدأ من سورة عم إلى نهاية سورة الليل، وأما قصار المفصل فتبدأ من سورة الضحى إلى آخر القرآن.
    فإن قلت: ما الفائدة من العلم بهذا المفصل، ومن العلم بطِواله وأوساطه وقصاره؟
    قيل: لهذا فوائد؛ أهمهما: ماذا يقرأ الإنسان في صلاته؟
    فنجد أنه في صلاة المغرب يُستحب له أن تكون قراءته من قِصار المفصل، ما قِصار المفصل؟ من الضحى إلى الناس.
    وأما في الظهر والعصر والعشاء، فيُستحب له أن يقرأ من أوساط المفصل، ما أوساط المفصل؟ من سورة النبأ -السورة التي معنا اليوم- إلى نِهاية سورة الليل، وفي صلاة الفجر يُستحب للإنسان أن يقرأ من طوال المفصل؛ أي من سورة ق إلى نهاية سورة المرسلات.
    وهذا المفصل غالبه مكي، كما أن سورة النبأ أو سورة عم هي سورة مكية، والمكي -أيها الأحبة- من كتاب الله -عز وجل- يتميز بأنه يركز على الجانب العقدي، فهو يبني العقيدة في نفس الإنسان.
    وبناء العقيدة في نفس الإنسان أمر ضروري، بحيث لا يمكن أن يعمل الإنسان في الحياة إلا عن عقيدة، فأنت الآن إذا اعتقدت شيئًا، ستعمل بناءً على تلك العقيدة، ولذلك جاء القرآن المكي يؤسس لهذه العقيدة في النفوس لتكون التصورات صحيحة، ثم ينطلق الإنسان في العمل.
    فمثلًا لو أن الإنسان اعتقد أن هذه الحياة هي نهاية الكون، وأنه لا حياة بعدها، ولا جزاء، ولا بعث، ولا نشور، ولا جنة، ولا نار، كيف ستكون تصرفاته في الدنيا؟ ستكون تصرفات إنسان يُريد أن يَعبَّ من الشهوات، وأن يأخذ بكل ما يُمليه عليه هواه، دونٍ نظر إلى شيء آخر، لماذا؟ لأنه يرى أن هذه الحياة هي نهاية اللذة، ونهاية الشهوة، وآخر ما في هذا الوجود بالنسبة للإنسان.
    أما إذا اعتقد الإنسان أن هذه الحياة مرحلة، مرحلة ابتلاء واختبار، وأنه مأمورٌ فيها بأن يكون عبدًا لله، وأن وراء هذه الحياة حياة أخرى أبدية سرمدية، فيها جزاء وفيها نشور، وأنك ستُحاسب على كل شيء تعمله، وتُجازَى على كل شيء تفعله، فهنا تختلف تصرفات الإنسان اختلافًا جذريًّا، بناء على هذه العقيدة.
    وهكذا المسلم يَبني تصوراته من خلال هذا الجزء العظيم، وهو جزء المفصل من كتاب الله -عز وجل-، ومن القرآن كله، لكن هذا الجزء من كتاب الله -وهو المفصل- ركز على الجانب الاعتقادي، وهو الإيمان بالله والإيمان بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، والإيمان باليوم الآخر.
    هذه المسائل الثلاثة، أو الإيمان بالله وتوحيده، والثانية الإيمان بالرسول وبالرسالة التي جاء بها وهي القرآن، والثالثة قضية اليوم الآخر، هذه القضايا الثلاث هي غالب ما في هذا الجزء العظيم من أجزاء القرآن العظيم.
    وسنطبق ذلك -إن شاء الله- في سورة عم، ونرى كيف أن هذه السورة العظيمة الكريمة جاءت لتبين لنا هذه التصورات التي يَبني عليها المسلم حياته الدنيا، ويستعد فيها للقاء الله -جل وعلا-.
    سورة عم سورة مكية، والمكي له تعريف عند العلماء، أتمنى لو أنَّ واحدًا منكم يعرف ما هو المكي؟
    {طالب: ثمة أقوال، بعض الأقوال... ما هو المكي وما هو مدني، لكن الذي أذكره من الأقوال الراجحة فيما رأيت، أن المكي هو ما نزل قبل الهجرة، والمدني طبعًا ما نزل بعد الهجرة}.
    وعليه: لو نزلت آية في مكة بعد الهجرة فهي مدنية، وهكذا لو نزلت آية قبل الهجرة في غير مكة، كالطائف أو غيرها، فتسمى عند العلماء مكية.
    إذن: هذا حد زمني لمصطلح مكاني، فالمصطلح مكاني (مكي ومدني) مصطلحات مكانية، ومع ذلك الفاصل فيها هو الزمان، الهجرة، قبل الهجرة وبعد الهجرة، طيب أحسنت، جزاك الله خيرًا.
    إذن: المكي بجملته يهتم بالاعتقاد وتأسيسه، ونلاحظ أنه يتميز أيضًا بقوة أسلوبه، وخطابه الواضح والصريح، وحواره للكفار والمشركين في عقائدهم، وما يتبنَّونه من أطروحاتٍ وعقائدَ فاسدةٍ، يناقشها نقاشًا قويًّا وصريحًا ومباشرًا.
    ومن ذلك ما سيأتي معنا في قضية الإيمان باليوم الآخر في هذه السورة.
    هناك مسألة يا إخوان قبل أن ندلف إلى السورة العظيمة وهي سورة النبأ، هناك قضية تُسمى موضوعات السورة، أو ما يُسمى بمقدمات أو علوم السورة.
    هذه العلوم يعني العلوم التي يعرفها الإنسان قبل أن يدخل إلى السورة، منها مثلًا: فضل السورة، ومنها نُزول السورة، نزلت في مكة أو في المدينة، ومنها مقصود السورة، ويُسمى عمود السورة أو محور السورة، ومنها أيضًا أسباب نزول السورة، إذا كان لها سبب نزول، ومنها مناسبة السورة لما قبلها، ومنها مناسبة أول السورة لآخرها، ومناسبة مقاطع السورة لبعضها.. وهكذا.
    طبعًا نحن لن نتوسع في هذه الأمور، لكن سنذكر ما يتيسر منها، إذا كان هناك مناسبة وسمح بذلك الوقت.
    سورة عم سورة مكية تهتم باليوم الآخر، ولعلنا الآن نحاول أن ننظر إلى موضوعات هذه السورة، سنَجد يا إخواني أن هذه السورة اهتمت اهتمامًا واضحًا باليوم الآخر، تأملوا معي يا إخواني هذه موضوعات سورة النبأ:
    الأول: أول مقطع فيها سيكون التساؤل عن النبأ العظيم، الذي قال الله فيه: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ﴿1 عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ﴿2 الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ﴿3 كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴿4 ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ هذه الآيات الخمس، سمينا هذا المقطع التساؤل عن النبأ العظيم.

    بعد ذلك يأتي الموضوع الثاني، وهو دلائل قدرة الله، لماذا؟ لأن الكفار أنكروا النبأ العظيم وهو يوم القيامة، أو القرآن الذي جاء بخبر يوم القيامة، فلما أنكروه كان من مقتضى الحديث أن يُتحدث عن قدرة الله -عز وجل-، وأن الله قادرٌ على كل شيء.
    فجاء قوله: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ﴿6 وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴿7 وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ﴿8 وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ﴿9 وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴿10 وَجَعَلْنَا النهَارَ مَعَاشًا ﴿11 وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ﴿12 وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴿13وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ﴿14لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنبَاتًا ﴿15 وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا هذه دلائل قدرة الله -عز وجل- وعظمته التي نأخذ منها أن الله سيبعث العباد، فلماذا أيها المشركون تستغربون وتُحيلون أن يبعث الله العباد بعد أن أماتهم؟! ما الشيء الغريب في هذا الأمر؟! لماذا استنكرتم هذا الأمر؟!

    ثم يأتي الموضوع الثالث من موضوعات هذه السورة الكريمة، وهو مشاهد الآخرة، قال: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا، من هنا بدأت مشاهد الآخرة، فيُحدثنا عن يوم القيامة وماذا يحدث فيه من الأهوال: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ﴿18وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ﴿19وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا وهنا ينتهي المقطع الثالث من مقاطع هذه السورة.
    يأتي بعد ذلك المقطع الرابع من مقاطع هذه السورة وهو قوله: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ﴿21لِلطَّاغِينَ مَآبًا ﴿22لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾ إلى قوله: ﴿فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا، وهو الحديث عن جزاء الكافرين، الكافرين بهذا القرآن، الكافرين بهذا اليوم العظيم، الكافرين بهذه الرسالة التي جاء بها رسول الله -صلوات ربي وسلامه عليه-.
    ثم بعد ذلك يأتي المقطع الأخير من مقاطع هذه السورة، وهو جزاء المؤمنين المتقين، الذين يخافون عذاب الله -عز وجل-.
    فأصبحت مقاطع السورة بناء على هذا التفصيل خمسة مقاطع، طبعًا هذه مقاطع تقريبية وليست تفصيلية دقيقة، ولكن تُعطينا تصورًا عامًّا عن هذه السورة الكريمة.
    نأخذ يا إخواني آيات هذه السورة خشية أن يداهمنا الوقت ونحن ما مررنا عليها.
    يقول الله -عز وجل-: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ؛ أي عن أي شيء يتساءل هؤلاء المشركون، إنهم يتساءلون عن شيء ينكرونه، ويُكذبون به، قال: ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، يتساءلون عن هذا النبأ الذي جئتَ به -يا محمد- وهو النبأ العظيم، والنبأ يقال للخبر المهم، ولذلك عندنا يقال نشرة الأنباء، أو وكالة الأنباء، يعني الأخبار المهمة التي تَشْرئِبُّ النفوس لسماعها.
    ثم وصفه بقوله: ﴿النَّبَإِ الْعَظِيمِ واختلف المفسرون ما هو النبأ العظيم؟ هل هو القرآن أو يوم القيامة؟ فمن العلماء من قال ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ: هو القرآن، واستدلوا على ذلك بقول الله -عز وجل- في سورة ص: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ﴿67 أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص: 67، 68].
    قالوا: ما دام الله وصف القرآن بأنه نبأ عظيم، إذن فنحمل هذه الآية على أن المراد بالنبأ العظيم هو القرآن.
    والقول الثاني: أن النبأ العظيم هو يوم القيامة، لماذا قالوا يوم القيامة؟ قالوا: لأن الحديث كله في السورة -كما شاهدنا- عن يوم القيامة، ولا شك أنَّ دليل السياق من الأدلة القوية التي نَستند إليها في ترجيح قول على قول.
    يبقى أنْ نخبركم بأنه لا مانعَ أن يكون النبأ العظيم هما جميعًا، ويمكن أن نصوغ هذين القولين بهذه الصياغة، نقول: النبأ العظيم هو القرآن الذي جاء بيومِ القيامة؛ لأنَّ من أعظم أخبار القرآن التي أنكرها المشركون، هو خبر يوم القيامة، وبهذا نقول: ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ عن القرآن الذي جاء بيوم القيامة.
    ﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ اختلفوا فيه، فمنهم من يظنه ظنًّا، ومنهم من يُكذب به، ومنهم من يُؤمن به، قال: ﴿كَلَّا﴾ "كلا" عندنا كلمة تأتي بمعنيين في القرآن:
    المعنى الأول: بمعنى الردع والزجر، لا صحةَ لما تقولون، ليس الأمر كما تقولون.
    والمعنى الثاني: كلا بمعنى حقًّا كما في قول الله -عز وجل-: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿1خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿2اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿3 الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿4 عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴿5 كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى [العلق: 1- 6]، ما معنى "كلا" هنا، حقًّا إن الإنسان ليطغى.
    فإن قلت كيف أفرق بين "كلا" بمعنى حقًا، و"كلا" بمعنى الردع والزجر، هل من أحد يجيب على هذا السؤال؟ ما الفرق بينهما؟

    {لعل الجملة التي بعدها تحدد ذلك}.

    أو بالعكس، الجملة التي قبلها، الجملة التي قبلها إن كانت تتضمن شيئًا منكرًا يُراد إنكاره؛ إذن: "كلا" للردع والزجر، وإن كانت لا تتضمن شيئًا من ذلك، فـ"كلا" تكون بمعنى "حقًّا"، ولذلك هنا ﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ؛ إذن: هذا شيء يُنكر، كلا؛ ليس الأمر كما تقولون، ﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ أن هذا حق، وأنه كائن بإذن الله -عز وجل-.
    ﴿ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَتأكيد لهذا الذي ذُكر في الآية الأولى، من باب التشديدِ عليهم، كيف تختلفون في أمر واضح الدلالة؟ لا يمكن أن يكون نهاية مصيرِنا أن نموت، ثم نصبح رميمًا، ثم ينتهي أمرنا تمامًا، وفينا الظالم والمظلوم، والمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والصادق والكاذب، ثم تستوي النهاية، هذا لا يمكن، فلا بد أن يلقى هؤلاء جزاءهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
    بهذا انتهت مقدمة هذه السورة الكريمة.
    قال الله -عز وجل-: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا هذه دلائلُ قدرة الله التي تدلُّ على أن الأمر الذي اختلفتم فيه وكذبتم به، ليس كما ذكرتم، بل هو أمر ميسور، وسهل على الله -عز وجل-، وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه، فأنتم إذا كنت تؤمنون بأن الذي بدأ خلقكم هو الله؛ إذن: ما الغريب أن يُعيد ربكم -سبحانه وتعالى- خلْقَكم مرةً أخرى؟! بل قال الله لهم: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر: 57]، فلماذا تكذبون بهذا؟! رأيتم يا إخواني، ولهذا جاءت هذه الدلائل.
    ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا، "ألم" هذا استفهام، ما نوع هذا الاستفهام؟ استفهام للتقرير، أي قد جعلنا الأرض مهادًا، أو للتعجيب، يعني ألا يتعجب منكم، فقد جعل الله -عز وجل- الأرض مهادًا.
    مهادا؛ أي ممهدة للسُّكنى عليها والعيش فوقها والسير على ظهرها.
    ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًاهذه الجبال العظيمة التي نراها في طول الأرض وعرضها، جعلها الله أوتادًا، ولاحظوا يا إخواني كيف أن القرآن سبق إلى تسميةِ الجبال أوتادًا.
    والوتد هو الطُّـنُب الذي تُثبت به الخيمة، يُضرب في الأرض، ثم يجر الحبل ويعلق بهذا الوتد فيثبت الخيمة، هذا يُسمى وتدًا.
    نفهم من هذا يا إخواني أنَّ الجبال مثل هذه الأوتاد، فهي تثبت الأرض، ولولا هذه الجبال؛ لما ثَبتت هذه الأرض ولصارت مضطربةً لا يستطيع أحد أن يسكن عليها، ولا نستطيع أن نسير فوق ظهرها، ولا نستطيع أن نبني عليها بناءً أو نقرَّ فوقها.
    وهذا التعبير مُعلِمٌ بشيء لم يكتشفه العالم من قبل، إنما عرفوه بعد أن جاءت الحفريات الجديدةُ، والعلم الجديد الذي استطاع أن يصلَ وأن يَسبُر أغوارَ الأرض، فوجدوا أنَّ كل جبلٍ في عُمقه في الأرض مثل ما فوق الأرض، يعني ثلثا الجبل في أسفل الأرض، والثلث الآخر هو البادي.
    وهكذا الوتد، نحن الآن عندما نضرب الوتد، هل نجعل طرفه القليل في الأرض، أو أكثر الوتد نجعله في الأرض، أكثر الوتد نجعله غائصا في الأرض، ونجعل الجزء الأعلى الثلث فأقل هو الخارج، حتى نربط به الحبل، وهذا الأمر لا يعرفه الناس من قبل، إنما عرفوه الآن، ولما رسموا الجبال وجدوا كل جبل ذروته هي في الوقت ذاته هي أقصى نقطة تصل إلى قاع الجبل في الأرض، وأن كل جبل أمامنا إذا كان طوله -مثلًا- مئة متر، فهناك مئتا متر داخل الأرض، وهذا يدلنا على أن هذا القرآن قد نزل من عند الله، ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14].
    قال: ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا خلقناكم أنتم أيها الناس على صفة الزوجية وهي أن تكونوا من ذكر وأنثى، فتتناسلوا ويبقى النوع البشري إلى أن يأذن الله -عز وجل- بالزوال.
    فخلقَنا الله على صفة الزوجية؛ ليأنس بعضنا ببعض، ويجعل بيننا مودة ورحمة، ونتعاون، وليظهر بذلك تفرُّده -سبحانه وتعالى- بأنه هو الواحد المستغنِي عن كلِّ شيء، وكل شيء لا يَستغني عن وجود نظير له، ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات: 49].
    فكل المخلوقاتِ تتكونُ من نوعين، حتى الكهرباء سالب وموجب، الماء تجد أن قطرة الماء تتكون من عنصرين، الهواء يتكون من عنصرين، وكل شيء في هذا الكون تجدُ أنه لا بدَّ أن يكون فيه عنصران حتى يحيى ويكون.
    إلا الله -سبحانه وتعالى- فهو الواحد الأحد، الغني الصمد، الذي ليس بحاجة إلى أحد، وكل أحد بحاجته -سبحانه وتعالى-.
    قال الله -عز وجل-: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ﴿6وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴿7وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ﴿8 وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًابعد أن ذكر الزوجية، ذكر نعمة النوم، وهذه النعمة من الله -سبحانه وتعالى-، وهي نعمة تكمل الإنسان وهي دليل على نقص الإنسان، لأنه يحتاج إلى الراحة، أما الله وحده فليس بحاجة إلى هذا لأنَّه -سبحانه وتعالى- لا يمسه نصب ولا يمسه لغوب -جل جلاله وعظمت قدرته-.
    قال: ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًاما معنى "سباتا"؟ سُباتا بمعنى راحة، جعلْنا نومكم قاطعًا لأعمالكم فترتاحون به، ومنه سُمي يوم السبت؛ لأن اليهود كانوا يَرتاحون فيه من العمل، ولهذا قال: ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا أي قاطعًا لأعمالِكم وأشغالكم فترتاح أبدانكم.
    قال الله -عز وجل-: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، هذا الليل يغشاكم فكأنكم تلبسونه.
    ولذلك إذا نزل الليل أو حل الليل اكتفينا بستره عن ستر الثياب، متى يَتجرد الناس من ثيابِهم، أو يتخلصون من هذه الألبسة التي عليهم، عندما يأتي الليل، ولذلك قال الله: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا يَستركم بظلامِه.
    ﴿وَجَعَلْنَا النهَارَ مَعَاشًا جعلنا الناس محلًّا لمعاشِكم، فأنتم تَطلبون الرزق وتضربون في الأرض وتبحثون عن المعاش في وقت النهار.
    ولذلك يقول العلماء: هذه سُنة الله ينبغي أن تُراعى، وهو أن يكون النهار للعمل، والليل للراحة والسكن، متى خالفنا هذه السُّنة، سيصيبنا من البلاء ويحصل فينا من الأدواء والضرر بِحَسَبِ مخالفتنا لهذه السُّنة.
    وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن أولئك الذين لا ينامون في الليل، وينامون في النهار، يصبح عندهم شيء من الأزمات بسببِ أنهم خالفوا هذه السنة التي خلق الله عليها الخليقة.
    قال الله -عز وجل-: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًاانتقل من العالم الأرضي السُّفليِّ إلى العالم العلويِّ، انتقال من الأدنى إلى الأعلى، قال: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا لم يذكر لنا ما هي السبع، هل هي سبع نجوم، ولا أفلاك، ما ذكرها، لكنها معلومة، ومعروفة في فطرة كل واحد منا، ما هي السبع الشداد؟

    {السموات السبع}.

    ولذلك ما ذكرها اكتفاء بالعلم بها، لأن كل إنسان يعلم ما هي هذه السبع.
    ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا﴾ ثم قال: ﴿شِدَادًايعني أنها شديدة ومتماسكة، ﴿هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ [الملك: 3]؛ أي من شقوق، وذكر الله -عز وجل- في سورة الذاريات: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات: 47]؛ أي بقوة، فالسماء محكمة عظيمة الإحكام وهي قبة واسعة، قد رفعها الله -عز وجل- من غير عمد، وهكذا نراها نحن من غير عمدٍ.
    قال الله -عز وجل-: ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا هذه أيضًا لم يذكر الله -عز وجل- ما هو السراج؟ أيضًا للعلم به، ما هو السراج؟ ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا.

    {القمر}.

    هل القمر وهاج؟!

    {الشمس}.

    أي نعم، لاحظ قال "سراجًا"؛ لأن السراج يجتمع فيه شيئان، الأول: الإضاءة، والثاني: الحرارة، وهكذا الشمس، ولذلك وصف القمر في القرآن بأنه نور، ووصفت الشمس بأنها سراج، لكي تتضمن الإضاءة أو الإنارة والحرارة، أما القمر فجُعل نورًا لأنه يقبس نوره من الشمس، وهو يعكس ضوء الشمس.
    قال الله -عز وجل-: ﴿وَهَّاجًا أي متوهجًا ومتوقدًا، وهكذا نرى الشمسَ، بحيثُ إنَّ الإنسانَ لا يَستطيع أن يركزَ فيها النظرَ أو يصمد لها خصوصًا في وقت الحرِّ، أو إذا قربت من رؤوس الناس.
    قال: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا، ما المعصرات؟

    {المعصرات هي السحاب}.

    طيب، أحسنت، صحيح، والقول الثاني: المعصرات هي الرياح، لكن ما ذكره الأخ رياض من أن المعصرات هي السحب هو الصحيح، لماذا؟ إبقاءً للجملة على تركيبها، لأننا إذا قلنا: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ﴾؛ أي من السحاب ﴿مَاءً ثَجَّاجًا؛ كان الكلام مستقيمًا، أما إذا قلنا: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ﴾؛ أي من الرياح؛ أي أنزلنا بالرياح ﴿مَاءً ثَجَّاجًاغيرنا "من" إلى "الباء"؛ إذن: المعصرات هي السحب، يُقال للمرأة التي قد دنا حيضها ولم تحِضْ: مُعصر، هذه قد قرُب الحيض منها ولم تحِضْ بعدُ، يُقال لها: مُعصر، وكذلك السَّحاب إذا اجتمعَ فيه الماءُ ولم يَنزلْ؛ يُقال له: مُعصر.
    قال: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا؛ أي ماءً كثيرًا سيالًا منصبًّا، قال الله -عز وجل-: ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ﴾؛ أي بهذا الماء ﴿حَبًّا وَنبَاتًا يُخرج الله ... النبات.
    أما الْحَبُّ فهي الحبوب التي يَقتات الناس ويتاجرون بها، مثل الأَرُزِّ والشعير والذرة والدُخن والفول والحمص، والعدس وغيرها من أنواع الحبوب والبقول التي يَقتات الناس بها.
    وأما النبات فهو ما سوى الحبوب؛ من الأشجار التي فيها الفواكه، ومن الأشجار التي فيها الخضروات، ومن أيضًا النباتات الأخرى والبقوليات التي يأكلها الناس ويأْتَدِمُون بها، فالله -عز وجل- يخرج لنا بالماء هذا وهذا.
    قدَّمَ الْحَبَّ لشدةِ الحاجةِ إليه؛ لأن الناس قد يَستغنون عن الخضروات، قد يستغنون عن الفواكه، لكن لا يستغنون عن الحبوب، فقدمها الله -عز وجل- ليبين عظيم مِنته علينا بهذه الحبوب والأقوات.
    قال الله -عز وجل-: ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾.. حبًّا ونباتًا ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾، هنا سؤال نحوي لا أدري إذا كان بالإمكان الإجابة عليه، يقول : ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنبَاتًا ﴿15 وَجَنَّاتٍلماذا قال "جنات" ولم يقل "جناتا"..

    {جمع مؤنث}.

    جنات: جمع مؤنث سالم، وجمع المؤنث السالم يُنصب وعلامة نصبه الكسرة، فتقول: جاء المسلماتُ ورأيت المسلماتِ، فجنات معطوفة على منصوب، فهي منصوبة مثله، لكنها منصوبة وعلامة نصبها الكسرة؛ لأنها جمع مؤنث سالم.
    قال: ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا؛ أي حدائق مُلتفَّة، هذه الحدائق من خَلَقَها؟ من كونها؟ من أنبتها؟ من أخرجها من داخل الأرض وباطنها؟ من الذي أنتجها من تلك الحبوب أو البذور الصغيرة، وجعلها أشجارًا عظيمةً وجعل فيها هذه الفواكه النضرة وهذه الألوان الجميلة؟ الله وحدَه.
    الله الذي خلق هذا كله، هل يُمكن أن يُوصف بأنه عاجزٌ عن إعادتكم بعد موتكم؟ وبأنه لا يَقدر على أن يُحييَ الناس بعد أن يموتوا، أين عقولكم يا أهل مكة؟ أين عقولكم يا مشركي العرب؟
    قال الله -عز وجل- بعد أن ذكر هذه الدلائل العظيمة الدالة على قدرته، وعظمته، ونعمته على عباده، والقاطعة والمانعة للتكذيب بيوم القيامة قال: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا الآن بدأ في المقصود وهو الحديث عن يوم القيامة، وعن إنكار ذلك اليوم وما سيحدث فيه من الأهوال.
    لماذا لما بدأ بيوم الفصل قال: ﴿إِنَّ﴾، ولم يقل: ﴿يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا لماذا جاء بـ ﴿إِنَّ﴾.

    {من باب التأكيد}.

    من باب التأكيد، لماذا التأكيد؟ ما الذي يدعو إلى التأكيد؟ الآن هل أنا بحاجة أن أقولَ: لك أقسم لك بالله أنَّ السماء فوق، هل أنا بحاجة إلى هذا؟ ما أنا بحاجة إلى هذا، تقول: لماذا تحلف؟! أليس كذلك؟
    إذن: متى يُؤكد الإنسان كلامه؟ يؤكد الإنسان كلامه عندما يكون الطرف الآخر مُنكرًا.
    هنا لَمَّا كان الحديثُ مع من ينكرون البعثَ؛ قال الله -عز وجل- "إن" لتأكيد وقوع هذا اليوم ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا.
    يوم الفصل ما هو؟

    {يوم القيامة}.
    يوم القيامة، طيب سؤال: لماذا سُمِّيَ يوم القيامة بيوم الفصل؟

    {فيها يُفصل بين الحقِّ والباطلِ}.

    يا سلام، وبين المؤمن والكافر، وبين الظالم والمظلوم، وبين الصادق والكاذب، وبين الحق والباطل كما ذكرت، أحسنت، يُفصل فيه بين الخلق، فسُمي يوم الفصل لذلك.
    ﴿كَانَ مِيقَاتًا﴾؛ أي موقتًا مُحددًا لا يتقدمُ ولا يتأخرُ عن ميعادِه الذي قد قدَّرَه الله -عز وجل-، ولا يَعلمه أحدٌ إلا هو، ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34]، علم الساعة عند الله، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ﴾ ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ، فهذا علم قدِ اختصَّ الله -سبحانه وتعالى- به فلم يطلع عليه نبي مرسلًا، ولا ملكًا مقربًا.
    قال الله -عز وجل-: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا؛ أي في ذلك اليوم ينفخ في الصُّورِ، من الذي ينفخ في الصور؟ ملك اسمه إسرافيل، طيب سؤال: لماذا لم يقلْ: يومَ يَنفخُ إسرافيلُ في الصور فتأتون أفواجًا؟ لماذا آثر صيغة المبني لغير المعلوم؟

    {أعتقد بأن في سياق بيان خطورة الموقف وليس ثمة حاجة لذكر أسماء، من هو القائم بذلك، وإنما هو لخطورة الموقف}

    نعم، للتركيز على أمر المعين، سأعطيكم مثالًا: لو أن إنسانًا جاء وسرق شيئًا، وتريد أن تخبر الناس من أجل أن يستيقظوا لهذه السرقة، فأنت لست بحاجة لأن تقول: سرق إنسان طويل -أو قصير أو عريض- المالَ من البيت، الناس يقولون: أَعِدْ لو سمحتَ إنسان طويل ولا أيش، عريض ولا... فينشغلون بماذا؟ بالمحدِث عن الحدث، لا.. أنت الآن تريد أن تنبههم على شيء محدد، وتلفت انتباههم إلى أمر معين، فتقول: سُرِقَ المال، الناس مباشرة يفزعون في إنقاذ المال من السرقة، أليس كذلك.
    هنا قال: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ولم يذكر لنا من هو النافخ، لماذا لم يذكر لنا من هو النافخ؟ لأجل أن يركز على الحدث الذي يُراد إثباته، بغضِّ النظر عن المحدِث أو النافخ وهو إسرافيل.
    ﴿فِي الصُّورِ الصور هو قَرْن عظيم جدًّا خَلَقَه الله -عز وجل- لينفخ فيه إسرافيل، فإسرافيل ينفخ فيه نفختين، النفخة الأولى نفخة للصعقِ، يموت من على وجهِ الأرض، والنفخة الثانية للبعثِ، كل من مات بالنفخة الأولى أو قبلها يحيى بالنفخة الثانية.
    فهما نفختان ينفخ فيهما إسرافيل عليه الصلاة والسلام، وإسرافيل الآن مستعد للنفخ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كيف أنعم؟»؛ يعني كيف أتنعمُ وأتلذذُ «وصاحب القرن قد التقم القرنَ ينتظرُ أن يُؤمر بالنفخِ، فينفخ»، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.
    فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يَتحيَّنُ الساعة، ويتوقع قيامها في وقته -عليه الصلاة والسلام-، فحريٌّ بنا نحن أن نستعدَّ، وعلى كلٍّ إن لم نُدرك تلك النفخة، فسنُدرك ما قبْلَها وهو الموت الذي هو قيامةُ كلِّ واحد منا.
    قال الله -عز وجل-: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا سؤال فيه شيءٌ من الذكاء: هل هذه النفخة هي النفخة الأولى أو الثانية؟

    {يظهر من السياق أنها النفخة الثانية}.

    نعم؛ لقوله: ..؟

    {﴿فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا}.

    ﴿فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا؛ يعني إذا نفخ جئتم أفواجًا إلى أرض المحشر والمنشر.
    قال الله -عز وجل-: ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا؛ أي صارت أبوابًا يخرجُ منها أهلُ السماء، ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ، طبعًا هناك قراءة ﴿وَفُتِّحَت﴾؛ لكثرةِ الأبوابِ فيها، التي يَنزلُ منها أهل السماءِ، وأهل السماء ليسوا قليلين، كثر.
    كان الصحابة يمشون مرةً مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسمعوا أطيطًا، فالأطيطُ هو صوتُ الشيءِ الذي أثقل بالحملِ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَطَّتِ السماءُ، وحُقَّ لها أن تَئِطَّ، ما فيها موضع شبر إلا وملك قائمٌ، أو ساجد يُصلِّي لله -عز وجل-»، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.
    قال: ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا؛ أي في ذلك اليوم، تسير الجبال، كيف تسير الجبال؟ هذا بأمر الله، هذه الجبال الراسية الضخمة الهائلة العظيمة، تدك وتصبح كثيبا مهيلًا، ثم تكون كالعهن المنفوش، ثم تسير ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ[النمل: 88]، ثم تصبح بعد ذلك ﴿قَاعًا صَفْصَفًا ﴿106لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا ولَا أَمْتًا[طه: 106، 107].
    فهنا ذكر مرحلة من مراحل تحول الجبال في يوم القيامة، ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا... انتهت مشاهد يوم القيامة التي تدل على هول ذلك اليوم، وعلى التغير العظيم الذي سيحدث في ذلك اليوم.
    قال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا أي هذا هو جزاء الكافرين، وبدأت بقوله: ﴿إِنَّ﴾ لماذا؟ للتأكيد، طيب، ولم التأكيد؟ لأن الذين يخاطبون في هذه السورة هم من المنكرين، والمنكر يحتاج إلى مؤكدات، بخلاف خالي الذهن الذي لا يحتاج لهذه المؤكدات.
    ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا جنهم اسم للنار، التي أعدها الله -عز وجل- للكفار، ﴿كَانَتْ مِرْصَادًا؛ أي راصدة ترصدهم، فهي ترقبهم وتبحث عنهم، كلما مرَّ واحد منهم أو من أهلها عبر الصراط الذي يضعه الله -عز وجل- أخذته النار، فيها كلاليب مثل شوك السعدان، تخدش هؤلاء وتتلقفهم.
    وسُميت مرصادًا؛ لأنها ترصد الناس في طريق عبورهم على ظهرها، وهذا يدل على شيء معروفٍ سيكون يوم القيامة وهو ما يُسمى بالصراط، الذي يعبرُ عليه الخلق، وهو أدقُّ من الشعر وأحدُّ من السيف، يَمشي عليه الناس جميعًا، فمنهم من يمشي كالبرقِ ومنهم كالريح، ومنهم كأجاودِ الخيلِ، ومنهم من يهرول، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم من يُكَرْدَسُ في جهنم فتخطفه بكلاليبها وتضعه في قعرها، نسأل الله العافية والسلامة.
    لمن هذه المرصاد؟ قال الله -عز وجل-: ﴿لِلطَّاغِينَ﴾ والطاغي هو الذي تجاوز الحد في المعصية، ﴿لِلطَّاغِينَ مَآبًا أي مقرًّا وموئلًا.
    ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا؛ أي ماكثين فيها دهورا طويلة، قد اختلف السلف في الحقب، ما هو؟ كم مدته؟ منهم من قال ثلاث مئة سنة، ومنهم من قال الحقب الواحد، المهم أقوال كثيرة مفادها: أنهم سيلبثون فيها مدة طويلة لا انتهاء لها.
    فإما أن تكون لا انتهاءَ لها، ويُراد بذلك مُددٌ غيرُ منتهيةٍ، فتكون مساوية لقولِه: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [النساء: 57]، وإما أن يراد بها أنها لمن طغوا وإن كانوا من غيرِ الشركِ، أو لمن كانوا من أهل التوحيد، وهذا قال به بعض العلماء.
    والظاهر والله أعلم أن هذه الآيات سِيقت في حق الكفار؛ بدليل أنه قال في آخر الآيات قال: ﴿فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا، طيب، ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا؛ أي: دهورًا طويلة ... مساوية لقوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.
    ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا ولَا شَرَابًا هذا... قالوا: ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ﴿23 لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا ولَا شَرَابًا طيب ثم بعد ذلك قال: يتغير العذاب، ولكن الظاهر هو ما ذكرناها والله أعلم.
    ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا ما هو البرد؟ اختلف العلماء فيه على قولين: منهم من قال: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا؛ أي نومًا، ومنهم من قال: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا أي هواءً باردًا يبرد أجسادهم.
    أحبتي عندنا قاعدة في التفسير مهمة جدًّا وهي: أنه عندما يحصل عندنا خلاف في الآية، فإننا نفسر الآية بالمشهور الظاهر المعروف المتبادِر للأذهان من كلام العرب، وندع القليل والنادر والمنكر والشاذ والمهجور، ولو كان صحيحًا ندعه، لو كان ثابتًا بأنَّ العرب يقولون هذا لهذا، لكنه قليل في كلامهم، فإننا لا نُفسره به، وإنما نأخذ بالظاهر المشهور المتبادر للأذهان من كلام العرب.
    قال: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا؛ أي هواءً يبردُ حرَّ جهنم. ﴿ولَا شَرَابًا؛ أي ماءً يُبرد حرَّ أجوافهم، فهم لا يذوقون البرد الخارجي والبرد الداخلي، نسأل الله السلامة.
    قال: ﴿إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا العلماء يقولون الواو تدل على على الاختلاف والمغايرة، وإلا كيف يَعطف شيئًا على نفْسِه.
    إذن: الحميم مختلف عن الغساق؛ فالحميم هو الماء الحار الذي قد بلغ الغاية في حرِّه، والغساق هو الشراب البارد الذي هو من صديد الكفار وعرقهم وما ينتج منهم من جراء عذابهم، فهو جامع بين النتن وبين البرودة الشديدة، فهم لا يستسيغونه.
    لكون الوقت قد أزف فأنا سأحاول المرور على الآيات مرورا سريعًا.
    قال: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا أي موافق لأعمالهم.
    ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا هذا هو سبب العذاب، والقرآن من عادته أنه إذا ذكر العذاب يبين السبب، وإذا ذكر النعيم يبين ما هو السبب؛ حتى نقتدي ونعمل، ونتقي أسباب العذاب.
    ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا؛ أي يكذبون بيوم القيامة.
    ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا؛ أي كذبوا بهذه الآيات التي نزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تكذيبًا من غير حجة ولا بينة.
    ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا قد أحصينا أعمالهم إحصاء دقيقًا، والإحصاء هو العد الدقيق، لم يفتنا من أعمالهم شيء، كما قال الله: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿7وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8].
    قال: ﴿فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا؛ أي ذوقوا هذا العذاب، فلن تجدوا بعده إلا عذابًا أزيد منه، وإن قال بعض العلماء هذه الآية أشد شيء في القرآن.
    لماذا؟
    لأن العادة أن من يسجن أو يعذب يبدأ بالعذاب.... ثم يخف عنه العذاب شيئًا فشيئًا فشيئًا حتى يُفرج عنه، أما في نار جهنم فإنه في كل يوم يُعطى لونا أزيد من اللون الذي قبله.
    نسأل الله العفو والسلامة.
    بعد أن ذكر عذاب هؤلاء، انتقل إلى نعيم المتقين، بعد أن ذكر الترهيب انتقل إلى الترغيب، من أجل أن النفوس إذا خافت عرفت ... في هذا المنجى والمكان الذي تُحبه النفوس وتحب أن تفوز به.
    قال: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًاولاحظ أنه علق هذا على وصف، قال: ﴿للمتقين﴾، فإذا كان الإنسان مُتقيًا؛ حصل هذا المكان.
    ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾ ﴿مَفَازًا إما أن تكون مكان فوز، أو فوزًا، والظاهر هو الأول، يعني إن للمتقين مكانًا يفوزون به، أو إن للمتقين فوزًا، قولان لأهل العلم، أظهره هو الأول؛ لأنه ذَكَرَ بعده ﴿حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ﴿32وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا. ما هي الكواعب؟ جمع كاعب، وهي الفتاة الشابة التي تَكَعَّبَ ثديها، يعني لا زال ثديها في بداية نُشوئه، وهذا أطيب ما يكون في الفتاة.
    ﴿أَتْرَابًا؛ أي في سنٍّ واحدة، ﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا الكأس يطلق عند العرب على الخمر، و﴿دِهَاقًا يعني ممتلئة، وقد وصفها بعض العلماء: قال ممتلئة ومتتابعة وصافية.
    ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا؛ أي في الجنة، التي فيها الحدائق والأعناب ﴿لَغْوًا أي كلامًا فارغًا، ﴿ولا كذابًا﴾.
    ﴿جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا؛ أي كافيًا.
    ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا؛ أي لا يتحدث أحد في ذلك اليوم إلا أن يأذن له الله -سبحانه وتعالى- من هول الموقف.
    ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّااُختلف في الروح على أقوال، أرجحها على أنه جبريل، لأنه ورد في القرآن في مواطن تسمية جبريل بالروح، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 193].
    ... وقوفا أمام الله -سبحانه وتعالى- لفصل ...
    ﴿لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا؛ أي قال: كلامًا حقًّا وأعظمه وأجله: لا إله إلا الله.
    ﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّالثابت الذي لا شكَّ فيه، ﴿فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا من شاء اتخذ طريقًا موصلا إلى الله بالعمل الصالح.
    قال الله -عز وجل- في ختام هذه السورة: ﴿إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا أي حذرناكم عذابًا قد أزف، فكل ما هو آت فهو قريب.
    ﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ينظر إلى عمله الذي قدمه لتلك الدار فإن كان محسنا فرح بإحسانه، وإن كان مسيئا استاء لما عمل، أو ما قدم من سوء.
    ﴿وَيقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا يعني لم أخلق أصلًا، أو ليتني بعد إذ حوسبت أكون ترابًا، كما يرى من البهائم عندما يقتص الله لبعضها من بعض، ثم يقول لها كوني ترابًا، فتكون ترابًا، فيتمنى الكافر أن يكون مثلها.

    إلى هنا أحبتي وصلنا نهاية درسنا في تفسير هذه السورة، وإن كنا اختصرنا في آخرها، لكن لعلنا في المرات القادمة نزن الوقت إن شاء الله، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. مشاهدي الكرام إلى لقاء في حلقة قادمة ودرس جديد مع سورة النازعات، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


  • #2
    رد: تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري


    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    مشاهدي الكرام، في هذا اليوم نأخذ
    الدرس الثاني من دروس التفسير في هذه الأكاديمية الإسلامية المفتوحة،
    نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يَنفعنا بالقرآن، وأن يجعلنا ممن يتعلمون العلْم يبتغون به وجه الله، وممن يُعلمونه يُريدون ما عند الله.


    في هذا اليوم -إن شاء الله- نأخذ سورة النازعات، وهي السورة الثانية من جزء عم.

    هذه السورة سورة مكية، وقلنا: إن المكي هو ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعد الهجرة، وهي بيِّنة بأنها مكية من خلال موضوعاتها وآياتها.
    أما الموضوع فهو الحديث عن القيامة،
    وأما الآيات فهي قصيرة وقوية، وذات دلالات واضحة، ومناقشات بيِّنة لهؤلاء الذين كذبوا بالدار الآخرة، وكذبوا بالبعث والجزاء والنشور.

    قد بيَّنا في المجلس الماضي أن غالب جزء عم يدور حول تأسيس الاعتقاد، الإيمان بالله وتوحيده، الإيمان بالرسول وبالرسالة التي جاء بها هذا الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي القرآن العظيم، الإيمان باليوم الآخر. هذه الأمور الثلاثة هي مُرتكَز هذه السور العظيمة سور جزء عم.
    يقول الله -عز وجل- في بداية هذه السورة:

    ﴿
    وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ﴿1 وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴿2 وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ﴿3 فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ﴿4 فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾، هذه خمسة أشياء أقسم الله -عز وجل- بها في مقدمة هذه السورة.

    فما النازعات؟
    كما يقول الله -عز وجل-: ﴿
    وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾. ما النازعات؟
    {المراد بالنازعات في الآية هم الملائكة، ملائكة الموت الذين ينزعون أرواح الكفار نزعًا شديدًا}.
    نعم؛ إذن: النازعات وقد عُطف عليها الناشطات، والسابحات، والسابقات، والمدبرات. اختلف فيها.

    لماذا اختُلِف فيها؟

    لاحظوا -يا أحبتي- أن من أسباب وقوع الخلاف بين المفسرين أن يكون الشيءُ صفةً لموصوفٍ، وهذا الموصوفُ لم يُذكر، فعندما تُذكر الصفةُ يُمكن أن تُركَّبَ على هذا وعلى هذا وعلى هذا، فكل واحد من السلفِ يَجتهد في أن يُبيِّن ما هو هذا الشيء الموصوف.
    فمثلًا قول الله -عز وجل-: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ[النور: 26]، ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ، هل المقصود بها الكلماتُ الخبيثات للخبيثين أو المقصود بها النساء الخبيثات، للخبيثين أي للرجال الخبيثين؟

    أقوالٌ لأهل العلم.

    سبب هذا الخلاف أنَّ الصفةَ ذُكرت ولم يُذكرِ الموصوف، والموصوف يَصلح أن يكون هذا، ويصلح أن يكون هذا، ويصلح أن يكون هذا، لكنْ لا شكَّ أن أحدَ هذه الأقوالِ قد يكون أليقَ بالسياقِ، أو أولى بالآية من بقية الأقوال.
    وهذه الآية من هذا المعنى أو من هذا القبيل.
    فقوله: ﴿النَّازِعَاتِ لم يقل لنا: "والملائكة النازعات غرقًا"، لو قال هذا؛ ما اختلف المفسرون في هذه الآية، لكن لما قال: ﴿وَالنَّازِعَاتِ، هذا الوصفُ يَصلح أن يكونَ للملائكة، ويصلح أن يكونَ لغيرها.
    وقد ذكر بعض السَّلف أن النازعات هي النجومُ، وبعضهم قال: النازعاتُ هو الموت.
    وذُكرت أقوالٌ أخرى، لكن أكثر المفسرين على أنَّ النازعات -كما أسلف الأخ رياض جزاه الله خيرًا- هي الملائكة تنزع أرواح الكفار نزعًا شديدًا مثلما يفعل الرامي إذا شَدَّ القوس من أجل أن يَرمي بالسهم.

    قال: ﴿غَرْقًا﴾، فهي تنزعها نزعًا شديدًا مثلما يجذب الرامي الوتر، أو الحبل المعلق بالقوس حتى يُلقي السهم أو يرمي بالسهم، فكذلك تُؤخذ أرواح الكفار، فهي تُؤخذ أخذًا شديدًا -نسأل الله العافية والسلامة-.
    لما ذَكَر هذا ذَكَر في المقابل أرواح المؤمنين،
    فماذا قال؟ ﴿
    وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾، يعني هذه الملائكة تأخذ أرواح المؤمنين أخذًا سهلًا رفيقًا كالأنشوطة، أو كالشعرة عندما تخرجها من العجينة، لاحظ الشعرة عندما تخرجها من العجينة، تَسُلُّها سلًّا رفيقًا، لا تسمع لها صوتًا ولا تأخذ حتى أثرًا من العجين.

    قال: ﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴿2 وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا، هذا أيضًا صفة لموصوف لا ندري ما هو، لكن الظاهر أنه موافق لما قبله، وهي الملائكة تسبح في هذا الكون لتنفذ أوامر الله -سبحانه وتعالى-.

    قال: ﴿
    فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا، أيضًا هذا وصف للملائكة في أنها سابقة، تسبق إلى أي شيء؟
    إما أن نقول: تسبق بأمر الله ولتنفيذ أوامره وطاعته -سبحانه وتعالى: ﴿لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6].
    وإما أن يكون قوله: ﴿فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا؛ أي إنها تسبقُ الشياطين إلى تلقِّي الوحي قبل أن يَسترِقَّها هؤلاء السمع.
    ولكنَّ الأَوَّلَ أَوْلَى -والعلم عند الله-.

    قال: ﴿
    فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾.
    العجيب -يا إخواني- مما حَمَلَنَا على ترجيحِ أن هذه الأوصاف كلها للملائكة قوله: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾؛ لأن السلف لم يختلفوا في أن المدبرات هي الملائكة، اختلفوا في النازعات والناشطات والسابحات والسابقات، اختلفوا فيها. أما المدبرات فلم يختلفوا فيها، فنحن نحتج بإجماعهم على تفسير المدبرات بأنها معطوفة على ما قبلها.
    إذن: فالنازعات والناشطات والسابحات والسابقات هي الملائكة -والله أعلم- وهذا عليه جمهور المفسرين.

    يأتي السؤالُ المهم جدًّا لنا في هذه السورةِ وهو: أين جواب القسم؟

    دائمًا إذا جاءنا قَسَم نبحث عن جوابِه، إذا جاءنا مبتدأ نبحث عن الخبرِ، إذا جاءنا فعل نبحثُ عن الفاعل، هذه لا بد منها.
    أين جواب القسم؟
    جواب القسم في القرآن وفي كلام العرب:
    - إما أن يكون مَذكورًا مُصرحًا به.
    - وإما أن يكون محذوفًا مُقدَّرًا.
    إذا صُرح به فالأمرُ واضح؛ فمثلًا: ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴿1 وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴿2 وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾ [البلد 1-3]، ماذا؟ ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد: 4]، هذا جواب القسم.

    إذا لم يُصرَّح به، لماذا لم يُصرَّح به؟
    لم يُصرح به لشدةِ العلم به، فلشدةِ العلم به لا يُصرح به، أو لكونِ النفسِ تسبحُ في هَيبةِ ذلك القسمِ، فهي تترقبُ ما الذي يُريد الله -سبحانه وتعالى- أن يُقسمَ عليه، فتصبح هناك هيبة، فكونه لا يذكر أولى من كونه يُذكر.

    مثل أنْ أقولَ لك: "لو أنك ذهبت معنا إلى الروضة الغنَّاء بالأمس!" ثم سكتُّ، طبعًا لم آتِ بجوابٍ، يعني "لَسَعدت، لشقيت" ما ندري، لكن لا شك أن الكلام يدل على ماذا؟ على أنك ستلقى شيئًا عجيبًا بهيجًا مهولًا، غايةً في النفاسة والجمال والروح والراحة.

    لاحظتم معي؟ فهذا من أساليب القرآن
    .

    مثلًا في قول الله -عز وجل-: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى[الرعد: 31]، ولم يأتِ بجواب، أي لكان هذا القرآن، يعني لو أن قرآنًا حصلت به هذه الأشياء لحصل بهذا القرآن العظيم.
    إذن: هنا حُذف القسم. طيب.. ما جوابه؟ ننظر إلى السورة تتكلم عن ماذا؟ إنها تتكلم عن الجزاء والبعث والنشور.
    إذن: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ﴿1 وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴿2 وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ﴿3 فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ﴿4 فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا، ماذا؟ لتُبْعَثُـنَّ ولَتُجَازُنَّ بأعمالكم.

    قال الله -عز وجل-: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، ما الراجفة؟ هي يوم القيامة، وهي الدلالة على النفخةِ الأولى التي إذا نَفخ فيها إسرافيلُ -كما بيَّنا في الدرس الماضي- لارتجفت الأرض، فمات الخلق.

    قال: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، سُميت "رادفة"؛ لأنها تأتي رَديفةً للراجفةِ، وهي تابعة لها، وكم بينهما؟ ورد في الحديث الذي رواه أبو هريرة قال: «بينهما أربعون»، قيل: يومًا؟ قال: أبيت. قيل: شهرًا؟ قال: أبيت. قيل: عامًا؟ قال: أبيت، يعني أني أقف عند الذي سمعت، قال: «ما بين النفختين أربعون»، فأنا سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أربعون"، فلا أزيد على هذه الكلمة لا يومًا ولا شهرًا ولا عامًا.
    قال الله -عز وجل-: ﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ﴾، كأن المعنى: إذا بعثتم فرجفت الراجفة، وأتبعتها الرادفة؛ سيكون هناك قلوب في هذا اليوم واجفة.

    ما معنى واجفة؟

    الواجفة: مأخوذة من الوجيف وهو شدة الاضطراب، أي خائفة ومترقبة، وأصابها من الذهول والرعب الشيء العظيم.
    لماذا وصف القلوب بذلك؟ لأن الوجيف يكون أولًا في القلب، ثم يظهر أثره على سائر البدن، يعني هل البدن يمكن يرتعد من الخوف والقلب لم يحصل به خوف؟ لا يمكن ذلك.

    قال الله -عز وجل-: ﴿أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ، نسب الأبصار إلى القلوب؛ لأن الأبصار متعلقةٌ بها، فما يكون في القلب يظهر على البصر، ولذلك يُقال: "الإنسان عينه فَرَارُه"، يعني عينه تفرُّ عما في نفسه، فتُبدي له ما إذا كان الذي أمامها صديقًا أو عدوًّا، مواليًا أو معاديًا.
    والنفْسُ تعرفُ من عينيْ محدثها *** إن كان من حِزبها أو من أَعَادِيها
    العينين تنظر إليهما لأنهما تعبران عما في القلب.

    قال: ﴿أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ؛ أي ذليلة منكسرة. لماذا ذليلة؟ لأنها تعلم أن المصيرَ شديد، وأنها لم تستعدَّ لهذا اليوم، بل قد كَذَّبت به وقد جاءها البرهانُ والحجة، لكنها كذبت من غير حجة ولا برهان.

    قال الله -عز وجل-: ﴿أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ﴿9يَقُولُونَ، هذا استئناف يُبين اللهُ فيه ماذا كانوا يقولون في الدنيا، هذا هو الذي جَعَلَهم يخافونَ في الدارِ الآخرةِ، وَجَعَلَهم يَرهبون اللقاءَ ذلك اليوم؛ لأنهم كانوا في الدنيا يَقولون: ﴿يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ، يعني أإنا لراجعون إلى الحياة بعد أن متنا.

    أو: ﴿يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ﴾؛ أي مردودون في النار -كما يقول بعض المفسرين- والقول الأول أولى، يعني هل يمكن ويعقل أن نرجع أحياءً بعد أن مُتنا وأصبحنا عظامًا نخِرة.

    قال الله -عز وجل-: ﴿أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً، سنُرد في الحافرة، سنعود مرة أخرى إلى حياتِنا التي كُنا عليها؟! سنكون أحياءًا بعد الموت؟ هذا شيء عجيب! هذا شيء نُنكره، شيء نكذب به، لا يمكن أن نصدقه، هذا شيء لا نعقله.
    قال الله -عز وجل-: ﴿قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ، يعني إن رددنا في ذلك اليوم، فتلك الرجعة رجعة خاسرة.

    قال الله -عز وجل- مُبينًا أن الأمرَ أيسرُ ما يكون على الله -جل وعلا- وأن هذا الذي استصعبتموه واستثقلتموه وأنكرتموه سيحدث بلا شكٍّ، وأنه ليس شيئًا عزيزًا على الله -عز وجل-.
    قال ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ؛ أي صيحة واحدة يصيحها إسرافيل عندما ينفخ في القرن الذي جعله الله -عز وجل- بنفخة البعث.
    ﴿فَإِذَا هُم بالسَّاهِرَةِ، فإذا هم فوق الأرض التي جعلها الله أرضًا للمحشر والمنشر.
    والساهرة: هي الأرض، سُميت ساهرةً؛ لأن عليها سهر الناسِ ونومهم.

    قال: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، والزجرة هي: الصيحة العظيمة التي يكون فيها شيء من الغضب.

    وقد ذكر بعض السلف أنه ما مِن يومٍ يُرى فيه اللهُ -عز وجل- أشدَّ غضبًا من اليوم الذي يُبعث فيه العبادُ.

    قال ﴿فَإِذَا هُم بالسَّاهِرَةِ، فإذا هم قيامٌ يَنظرون -كما في الآية الأخرى- فوق هذه الأرضِ التي قد جعَلَها الله -عز وجل- مكانًا وموئلًا لحشْر الناسِ ونشْرهم.



    هنا انتهى المقطعُ الأول من السورة، يَنتقل بنا إلى مقطعٍ جديدٍ، قد يَستغرب الإنسان لماذا جاء هذا المقطع في ثنايا الحديث عن يومِ القيامة، ولكني أظنُّكم ستَكتشفون ذلك، وأريد منكم أن تسألوا أنفسَكم.

    قال الله -عز وجل-: ﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى﴾، الآن ترك الحديث عن الآخرة، وعن الجنة، وعن النار، وعن مآل المؤمنين، ومآل الكافرين والمكذبين بالبعث، إلى حديث آخر كأنه منقطع تمامًا.
    قال: ﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى، ﴿هَلْ هنا استفهام يراد به ماذا؟ يراد به التشويق. هل أتاك قصة موسى عندما دعا فرعون إلى الله -عز وجل-؟
    قال: ﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ﴿15﴾ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى، إذ كلمه الله -عز وجل- على صفة النداء، وقد أخذ العلماء -علماء أهل السنة- بأنَّ كلامَ الله -عز وجل- لموسى كلامٌ حقيقيٌّ، وأنه بصوتٍ يُسمع؛ لأنه ما وصفه بالنداء إلا لأنَّه يسمع.

    قال: ﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ، واختار وصفَ الربِّ دُون "إذ ناداه الله" ليُبين أنَّ هذا النداءَ كان رحمة، وكان نعمة، فالربوبية دائمًا ملازمة للرحمة والنعمة والعناية والحفظ والرعاية.
    ﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ، هذه إشارة إلى ماذا؟ إلى الوادي الذي كلم الله فيه موسى، وهو في جانب الطور الأيمن، في ذلك المكان نودي موسى -عليه الصلاة والسلام-.

    قال: ﴿طُوًى﴾، ﴿طُوًى﴾ هذا ما معناه؟ هذا اسم للوادي، ﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى، "طوى" اسم للوادي، فكأنه ماذا؟ بدل من قوله الوادي المقدس.
    والْمُقدَّس بمعنى: المطهر، ومنه روح القدس أي روح الطهر.

    قال: ﴿
    اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ﴾، هذا هو محتوى النداء.
    ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾؛ أي اذهب مُكلَّفًا من عندي برسالة إلى فرعون تبلغه بهذه الرسالة، وتأتيه بتلك الآية، وتقيم عليه الحجة.
    ﴿إِنَّهُ طَغَى
    ﴾؛ أي عَتَا وزادَ في الكفر، وهذا يدل -يا إخواني- على أن الكفار أنواع: منهم من هو كافر، لكنه لم يصل إلى المرحلة التي يتعدى بكفره حتى يدعي أنه هو الله، وأنه ربهم الأعلى، وأنه ما علم لهم من إله غيره، ولا يفعل تلك الأفاعيل العظيمة بالناس فيستحيي نساءهم، ويذبح أبناءهم من غير أن يكون هناك حجة أو برهان أو بينة على هذا العمل الذي يعمله.

    قال: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴿17فَقُلْ، الله -عز وجل- يُبين له طريق الدعوة، كيف تدعو مثل هؤلاء، وإذا كان هذا في حال الطاغية؛ فحال من دونه من بابٍ أولى، هذا الرجل الذي قال ما قال، وفعل ما فعل مما لم يفعله أحد قبله قل له هذه العبارات.

    في سورة طه بَيَّن الوصف، قال: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، يعني طبيعة النفس لا تحب أن يَقْصُرَهَا أحدٌ على الحقِّ، ولو كانت تعلمُ أنه حق، وهذا يدلنا على ما أعطيه الإنسان من حب لأن تُحترم ذاته وألا يُهانَ أو يشعر بأنه يُرغم على الحق إرغامًا.

    فقال الله -عز وجل-: ﴿فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى﴾، ﴿هَل لَّكَ﴾ هذه من باب ماذا؟ التودد والترغيب والتحفيز، ﴿هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى﴾، تُزكي نفسك وتطهرها من الذنوب ومن المعاصي ومن الأعمال السيئة وتسلك الطريق الزاكية التي توصلك إلى الله وإلى جنته وإلى رضوانه.
    ﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ﴾، أدلك إلى ربك الذي يربيك وينعم عليك ويعطيك، الذي يرعاك ويحفظ، ﴿فَتَخْشَى، يعني إذا هديتك إليه حصلت لك الخشية منه.

    قال: ﴿فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى﴾؛ أي جاء بالبينة الدالة على أنه صاحب رسالة، وهذا يدلنا على أن الداعية يجب أن يكون معه أدلة إذا دعا الناس إلى الله -عز وجل-، ولا يأتي مجرد أن يقول لهم: أنا أدلكم على كذا.
    طيب.. ما دليلك؟ كيف تجيب على قولهم أو على فعلهم أو على شُبهتم الفلانية؟ يقول: لا أدري، لا، بل ينبغي أن يكون متسلحًا بالحجج والبراهين.

    وقد كان من أعظم حجج الله التي يؤتيها للأنبياء هي المعجزات، المعجزات التي تكون براهين تدعوا هؤلاء إلى الله وتدلهم على أن هذه الدعوة الصادرة من الأنبياء ليست دعوة مجردة، لأن هذا الذي يأتون به لا يمكن لبشر بمثله.

    ماذا جاء به موسى؟ ما الآية التي جاء بها موسى؟ حكمت، ما الآيات التي جاء بها موسى؟


    {العصـا واليد}.
    العصا إذا ألقاها انقلبت إلى ثعبان يتحرك وكذا، ثم إذا أمسكها مرة أخرى عادت إلى كونها عصا، وهذه آية عظيمة.
    الثانية: اليد، كان يدخلها في درع جيبه ثم يخرجها فتكون بيضاء من غير سوء، عجيبة جدًّا، ثم يدخلها مرة أخرى فتعود إلى لونها الأول.
    قال: ﴿فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى؛ أي اليد والعصا.

    لأن الله قال له في الوادي المقدس: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ﴿17قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى[طه 17، 18].
    طيب.. موسى -عليه الصلاة والسلام- كان حصيفًا ذكيًّا، فهو قال:
    ﴿هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا، هذه أول مهمة للعصا، أن أتوكأ عليها عند المشي.

    ﴿
    وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي
    ، ما معنى ﴿وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي؟ يعني أحرك أو أسوق بها غنمي.
    لا، ليست بمعنى: أسوق بها غنمي؛ وإنما ﴿وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي؛ أي أضع عصاي على الشجرة فأهز الشجرة؛ لينزل الحشيش وهو ورق الشجر الذي يحتاجه الغنم، وهذا ما يفعله الرعاة عندما يسوقون الغنم، يأتون الأشجار فيهزونها بعصيهم حتى ينزل ورق الشجر فتأكله الغنم.
    قال الله -عز وجل-: ﴿فَكَذَّبَ وَعَصَى﴾، كذب بهذه الرسالة فلم يؤمن بها، وعصى فلم يطع موسى -عليه الصلاة والسلام- جمع بين التكذيب وبين العصيان.

    ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى، يعني تولى يعمل بنشاط وقوة في مقاومة دعوة موسى -عليه الصلاة والسلام- ومقاومة هذا الحق الذي جاء به نبي الله وكليمه موسى -عليه الصلاة والسلام-.
    ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى﴾، ماذا فعل؟ ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى﴾.

    لاحظوا.. الآن معنا ﴿
    يَسْعَى﴾ في سورة النازعات، وسيأتي معنا في سورة عبس أيضًا ﴿يَسْعَى، فهناك سعي في الباطل، وهناك سعي في الحق والخير، وعلى الإنسان إذا سلك طريق الخير والحق فليسعى فيه سعيًا ولا يكتفي بأن يمشي فيه مشيًا وئيدًا هيِّنًا متماوتًا؛ بل يكون صادقًا فيما يقوم به من الحق.

    قال الله -عز وجل-: ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ﴿22فَحَشَرَ فَنَادَى﴾، حشر الناس ونادى فيهم، ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾، يُقال: أنه قال هذه الكلمة بعد أن قال لهم أول مرة: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي[القصص: 38].

    وقال بعض السلف: إن بين الكلمة الأولى والثانية أربعين سنة.

    وهذا يدل على أن الطاغية يسلك مسالكَ في الطغيان يبدأ بكلمة صغيرة، ثم تكبر، ثم تكبر، حتى تصل إلى أن يقول لهم مثل هذه الكلمة التي هو أول من يعلم أنه كاذب فيها، ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾.

    قال الله -عز وجل- بعد أن وصل إلى هذه المرحلة العظيمة من الطغيان، قال: ﴿
    فَأَخَذَهُ اللَّهُ، وهذا يدل على أن عذاب الله ينزل بعد أن يشتد طغيان الناس، إذا اشتد الطغيان وظهر فإن الله -سبحانه وتعالى- يأتي بالعذاب المستأصل الذي لا يُبقي ولا يذر.
    قال: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، يعني عقوبة الآخرة أي الحياة الآخرة، وعقوبة الدنيا، أما الدنيا فهو أغرقه، وأراه نجاة عدوه وغرقه وذهاب ملكه، وأما الآخرة فله عذاب شديد سواء في قبره وفي آخرته ومنقلبه إذا بُعث يوم القيامة.

    قال الله -عز وجل-: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى﴾، الآخرة والأولى وصفان أيضًا لموصوف لم يذكر، ولذلك اختلف السلف، فقيل: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ﴾، الآخرة بمعنى الحياة الآخرة.
    أو ﴿نَكَالَ الْآخِرَةِ﴾؛ أي الكلمة الآخرة، لأنه قال في المرة الأولى: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي[القصص: 38]، وقال في الكلمة الأخيرة: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾.

    وعلى كلٍّ أكثر السلف على أن "الآخرة" مستعملة في معناها الذي يدور كثيرًا في القرآن، وهي الآخرة المعروفة التي هي بضد الدنيا.
    ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، ثم قال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾، إن في ذلك الذي حكيناه لكم وحدثناكم به من عقوبة الله العظيمة البالغة على هؤلاء لعبرة أي عظة لمن يخشى، من كان في قلبه خشية يتعظ.وهذه قضية مهمة جدًّا، وهي أن الموعظة لا تُغير ولا تُؤثر إلا فيمن كان في قلبه ماذا؟ خشية. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾.



    ثم قال في المقطع الثالث من مقاطع هذه السورة: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ.
    السؤال الآن: في أول السورة تحدث عن يوم القيامة، وعن المنكرين للبعث، ورد عليهم أبلغ الرد، وبيَّن أن ذلك سيكون ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ﴿13فَإِذَا هُم بالسَّاهِرَةِ، ثم جاءت قصة موسى مع فرعون، ثم عاد مرة أخرى ليستدل على البعث، فيقول:﴿ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾.

    سؤال: كيف جاءت قصة موسى متوسطة بين المقطع الأول والمقطع الثالث؟
    هل عندك جواب يا رياض؟

    {يبدو أن لدى قريش الآن يقدم في ذاكرتهم.. أن قريش كانوا يعرفون من أهل الكتاب قصة موسى مع فرعون، فطبعًا الله -عز وجل- أراد أن يذكرهم بأنه قادر، هو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فكما أغرق الله فرعون وعذبه في الحياة الدنيا، فهو قادر على أن يعيد الكرة، فالتاريخ يُعيد نفسه، فأنتم -يا قريش- أمامكم تاريخ يشهد بذلك وأنتم تعتقدون وعرفتم وسمعتم ذلك من أهل الكتاب، فإياكم إياكم}.

    أي نعم، إذن هذا تهديد من الله لهم، وتذكير بأنهم إن كذبوا بالدار الآخرة فعقوبتهم كعقوبة هؤلاء الذين كذبوا بما جاء به موسى -عليه الصلاة والسلام- عندما قال الله: ﴿فَكَذَّبَ وَعَصَى، الله -عز وجل- قال: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، احذروا أن يأخذكم الله يا من كذبتم بالدار الآخرة وكذبتم بما جاء به محمد أن يأخذكم الله نكال الآخرة والأولى.

    ولذلك جاء بعدها فبسط الحديث عن أدلة البعث، وأدلة القدرة فقال: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾، يعني عندما أنكرتم البعث ما الذي حملكم على الإنكار؟ هل لصعوبة هذا على الله -عز وجل-؟ تعالى الله عما تقولون علوًّا كبيرًا.
    ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾، السماء العظيمة التي خلقها الله، الكبيرة الواسعة البنيان، العظيمة القبة، هذه السماء الله -عز وجل- خلقها وخلقكم أيسر بكثير منها، سواء خلقكم ابتداء أو خلقكم على وجه الإعادة بعد الموت، فما الذي تستغربونه على الله؟ أو تستنكرونه من فعل الله -عز وجل-؟

    ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾، قال مبينًا ماذا حصل للسماء، قال: ﴿بَنَاهَا﴾، ثم بين ما هو البناء الذي حصل قال: ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾؛ أي رفع بناءها ومكانها، وسواها أي أحكمها حتى أصبحت بناءً مُحكمًا لا ترى فيها شيئًا من خلل أو عوج أو فطور أو شقوق أو نحو ذلك.

    قال: ﴿
    وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا؛ أي أظلم ليلها، جعله مظلمًا، ﴿وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا؛ أي جعل لها نهارًا يخرج من رحم الليل.
    ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا، والأرض العظيمة الضخمة الهائلة التي نحن نعيش فوقها، الله -عز وجل- هو الذي دحاها.
    ما معنى ﴿دَحَاهَا﴾؟ فُسِّرت بعد ذلك بقوله: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا، دحوها هو أن يكون فيها العمل الذي عمل عليها من شق الأنهار والجبال، ونبات الأشجار، وحصول المراعي، هذا هو دحوها، وهذا من تفسير القرآن بالقرآن.

    قال: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا،
    هنا يأتي سؤال -يا أحبائي- وهو: هل يفيد قوله: ﴿
    وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ أن الأرض خُلقت بعد السماء؟ أم الأرض خلقت قبل؟ ما الجواب؟ ما الذي خلق أولا؟

    يقول الله في سورة فصلت: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿9وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ ﴿10 ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا[فصلت 9-11].

    وقال في سورة البقرة: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ [البقرة: 29]، فدلت الآيات على أن خلق الأرض تقدم خلق السماء، ولكن ماذا حصل؟

    خلق الله الأرض، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض، فدحو الأرض جاء بعد خلق السماء، ولذلك قال هنا: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴿27رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴿28وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴿29 وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا، صار ضحو الأرض تاليًا لبناء السماء، أما خلق الأرض فهو سابق لبناء السماء.

    قال: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴿31وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾، ثم بيَّن حكمة ذلك فقال: ﴿مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ﴾؛ أي جعل الله لكم ذلك متاعًا تتمتعون به أنتم، وتتمتع به أنعامكم.

    ولاحظوا -يا إخواني- عندما ذكر الماء والمرعى وغيرها سوَّى بيننا وبين الأنعام ليبين أنكم إذا اكتفيتم بذلك فأنتم والأنعام سواء، لكن إن ترفعتم فآمنتم وأطعتم واستجبتم لأمر الله فلن تستووا مع هذه الأنعام.
    ولذلك قال: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴿31وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ﴿32﴾ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ، فلو اكتفى الإنسان بمجرد المتاع، الأكل والشرب والنكاح وما إلى ذلك فهو بمثابة الأنعام، لكن إن قبل رسالة الله واستجاب لأمر الله، وأطاع الله -جل وعلا- فيما أمره به فإنه يرتفع بذلك إلى الملأ الأعلى.

    قال الله -عز وجل-: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ، الآن يُبين جزاء هؤلاء وهؤلاء بعد البعث، قال: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى، ما الطامة؟ شيخ، ما الطامة؟ القيامة، الطامة هي القيامة.

    ولها أسماء في القرآن كثيرة: الصاخة، والطامة، والحاقة، والقيامة، وغيرها من الأسماء، وكلما كان الشيء عظيمًا كثرت أسماؤه.
    طيب.. من أين جاءت كلم الطامة؟ قالوا: لأنها تَطم ما سواها، أي تغطي على كل شيء سواها من شدة هولها، فلا يسمع لها حس ولا صوت ولا يُرى شيء إلا هي من شدة هولها وعظمتها.

    قال الله -عز وجل-: ﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى؛ أي في ذلك اليوم يتذكر كل واحد منا سعيه، إن كان خيرًا وإن كان شرًا.
    قال: ﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى ﴿35وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى﴾؛ أي في ذلك اليوم تتذكر سعيك إن كان عملًا صالحًا وإن كان سيئًا، وذلك لشدة الهول، فأنت تنسى ما كنت فيه من النعيم، ما فيه من الرزق، ما عندك من الأولاد، ما عندك من الزوجات، أهلك، أقرباءك، كل هذا يُنسى ولا يبقى إلا شيء واحد وهو سعيك، عملك الذي عملته وقدمته.

    قال الله -عز وجل-: ﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى ﴿35وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى﴾، برزت بمعنى -يا شيخ أحمد- أُظهِرت وأبينت، الجحيم تُرى.
    قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يُؤتى يومَ القيامة بجهنمَ لها سبعون ألف زمامٍ»؛ أي خطام وحبل تُشد به النارُ، «مع كل زمامٍ سبعون ألف ملكٍ يجرُّونها»؛ إذن عدد الملائكة الذين يجرون جهنم كم؟ من يعرف؟
    70 ألف × 70 ألف كم صاروا؟ يصبح 4 مليار و900 مليون ملَكٍ يجرون جهنم.

    قال: ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ؛ أي أُظهرت وأُبينت، ﴿لِمَن يَرَى﴾، فيعم الخوف أرجاء المكان، ويهاب الناس أن يحصل لهم هذا المصير، أو يكون لهم هذا المآل -نسأل الله العافية والسلامة-.

    قال: ﴿فَأَمَّا مَن طَغَى﴾، عاد مرة أخرى إلى ماذا؟ إلى موضوع الطغيان الذي ذكره في قصة فرعون ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾.
    قال: ﴿فَأَمَّا مَن طَغَى﴾؛ أي زاد في الكفران والعناد والعصيان والتكذيب، ﴿وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا؛ أي قدمها وقربها، وجعلها مؤثرة عنده، فلم يستعد للآخرة ولم يعمل لها، وإنما جعل المؤثر والمقدم والمقرب هو الدنيا.
    ﴿فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى؛ أي مأواه يوم القيامة ومآله إلى الجحيم، ولا مآل له سواه.

    وبدأ بالترهيب لماذا؟ لأن الواقع، أو لأن السورة تتحدث عن قوم مكذبين، فالأولى أن تذكر عقوبتهم كما في سورة عم لما ذكر يوم القيامة، وأنه النبأ العظيم الذي اختُلِفَ فيه، ذكر دلائل القدرة الإلهية، وذكر إن يوم الفصل كان ميقاتًا؛ قال: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ﴿21لِلطَّاغِينَ مَآبًا[النبأ 21، 22]، بدأ بهم لأنهم هم المكذبون بالدار الآخرة.

    ثم لما انتهى من عقوبة الكفار والمكذبين انتقل إلى جزاء المؤمنين، وهنا كذلك، قال: ﴿فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾، المأوى أي المآل والمثاب الذي يثوب إليه هؤلاء الكفار.
    قال: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، من خاف مقام الله أي صار عنده هيبة من الله -عز وجل- وخوف من لقاء الله -عز وجل- يخاف إذا لقي الله أن يلقاه مكذبًا، وأن يلقاه عاصيًا، وأن يلقاه ساعيًا في الباطل كما حصل من فرعون الذي أدبر يسعى وحشر فنادى من أجل أن يُجلِب على الحق بخيله ورجله.

    قال الله -عز وجل-: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾، ولاحظوا كيف يقدم هذه الصفة وهي صفة قلبية؛ لأن عمل القلب هو الذي يكون عليه المرتكز، كل أعمال الجوارح مصدرها ومنبعها من القلب، فمن خاف كفَّت يده عن الحرام، وكفَّ لسانه عن الحرام، وكفَّت عينه عن الحرام، لأنه كلما أراد أن يطلق عينه أو لسانه أو يده أو رجله في الحرام تذكر وقوفه بين يدي الله -عز وجل- فخاف من ذلك.

    قال: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، نهى نفسه عما تهواه، طبعًا الذي يهواه الإنسان شيئان:
    - إما أن يهوى شيئًا أباحه الله له.
    - وإما أن يهوى شيئًا قد حرمه الله عليه.

    الهوى ليس بذاته مذمومًا، ولكن لكونِ كثيرٍ من الهوى مذمومًا؛ صار إطلاق الهوى في القرآن غالبًا على هذا المذموم، وإلا أنا أهوى الطعام، أهوى المنام، أليس كذلك؟ هذا الهوى لا يلام الإنسان عليه، لأنه هوًى يوافق ما أباحه الله وما شرعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
    لكن المقصود هنا: ﴿وَنهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى؛ أي الهوى الذي يخالف أمر الله ويكون فيه معصية لله.

    وسمي الهوى -كما يقول بعض العلماء- سمي الهوى؛ لأنه يَهْوِي بصاحبه في دَرَكاتِ الشقاء والسفول والباء.
    قال: ﴿وَنهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴿40فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾.

    إذن: الجنة لها شرطان:

    - أن تخاف مقام الله، وإذا خفت مقام الله؛ فإنك لا يمكن أن تتأخر عن أمر أمرت به، ولا يمكن أن تبقى في مكان نُهيت عنه.
    - ﴿وَنهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ يعني لم يجعل ما يسوقه في أعماله هو هواه، وإنما الذي يسوقه هدى الله، المؤمن يتزوج، والزواج من الهوى، لكنه يفعل ذلك طاعة لله، وليس بناء على استجابته لهواه، وإنما لاستجابته لأمر الله.

    المؤمن يهوى الطعام ويهوى الشراب، لكن هل يشرب شيئًا قد حرمه الله عليه؟ لا.
    هل يأكل شيئًا قد حرمه الله عليه؟ لا.
    هل يأكل شيئًا في وقت حرمه الله عليه؟ لا، نحن في نهار رمضان في شدة الحر نريد أن نشرب الماء البارد؛ لكن نفق نقول: لا.
    نفوسنا تهوى الماء البارد لكن نحن نحجب هذه النفوس على هواها إيثارًا لمرضاة الله وخوفًا من مقامنا بين يدي الله -جل وعلا-.

    قال الله -عز وجل-: ﴿
    وَنهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴿40فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾؛ أي هي المقر والمآل والمآب، أسأل الله أن يجعل ذلك لي ولكم ولمن يسمعون ويشاهدون، إنه جواد كريم.



    ثم ختمت السورة بالسؤال أو بطرح مشكلة دائمًا يطرحها الكفار على النبي -عز وجل- عندما يذكرهم بالقيام وبالجزاء والبعث، يقولون له: متى الساعة؟ هل تخبرنا عن القيامة؟ متى الساعة؟ ويأتي الجواب صريحًا وواضحًا: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا، متى موعدها؟ متى تأتي؟

    قال الله -عز وجل-: ﴿
    فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا، ليس شأن الساعة وقيامها من شأنك، ﴿فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ﴿43إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا؛ أي مستقرها ومنتهى علمها إلى من؟ إلى الله؛ لأن الله قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَينَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان: 34]، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [الأعراف: 187]، والمقصود بالساعة إذا وردت في القرآن: أي وقت قيام الناس من قبورهم.

    قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ﴿42فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ﴿43إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا؛ أي علمها إلى الله -عز وجل- هو الذي يعلمها ويعلم متى تقوم.
    ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ، المهمة التي بعثناك بها، وأرسلناك لتحقيقها هي: النذارة.

    فإن قلت: لمَ لم يقل: إنما أنت منذر ومبشر؟ لأن الحديث هنا عمن؟ عن قوم يكذبون، وعن قوم قد عصوا وكذبوا ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقدم صفة النذارة وأفردها، وإلا فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- نذير وبشير.

    قال: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾، طيب هنا سؤال، وهو سؤال مهم جدًا: الرسول -صلى الله عليه وسلم- منذر لكل أحد، للثقلين الإنس والجن، المؤمن والكافر، فلماذا خصَّ من يخشاها؟ قال: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾؟
    {لكون الموعظة تنفع من يتذكر ويخشى الله -عز وجل- بخلاف من لا يتقي ولا يخشى فهو لا تنفعه النذارة ولا البشارة}.

    أي نعم، وهذا مثل قول الله -عز وجل- في سورة "ق" ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45]، مع العلم أن القرآن يذكَّر به الجميع، لكن الذي يخاف الوعيد هو الذي ينتفع، ولكونه ينتفع يُقال: ذكره بالقرآن، أو انذر بهذه القيامة من يخشى النار أو من يخشى الله -سبحانه وتعالى-.
    ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ﴿45كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا﴾، يُصور الله حالهم عندما يرون القيامة التي كذبوا بها، ويرون الساعة التي أنكروها، ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾.

    يقولون -وهم يتذكرون ما سلف من حالهم وحياتهم وغناهم وعيشهم الطويل في الدنيا-: والله ما لبثنا إلا سويعات، كأننا لبثنا جزءًا من النهار، أوله أو آخره؛ لأنَّ هذا الذي نمرُّ به يا إخواني كله يصبح شيئًا يسيرًا في عالم الماضي، أو في عالم المتذكر لما وقع منه في الدنيا.
    ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾.

    أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينفعني وإياكم بالقرآن، وأن يجعلني وإياكم جميعًا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
    نكون بهذا قد وصلنا إلى نهاية هذا الدرس الثاني من دروس التفسير في الأكاديمية الإسلامية المفتوحة، وإلى لقاء -إن شاء الله- قادم في الدرس الثالث من دروس التفسير، اسأل الله -عز وجل- لي ولكم التوفيق.
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    التعديل الأخير تم بواسطة بذور الزهور; الساعة 06-04-2014, 05:02 PM. سبب آخر: التنسيق

    تعليق


    • #3
      رد: تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري

      السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
      الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، مشاهدي الكرام، وإخواني الحضور، حياكم الله جميعًا، في درس جديد من دروس التفسير في هذه الأكاديمية الإسلامية المفتوحة.
      ومُقرر التفسير هو جزء عم، وقد أخذنا -بحمد الله- تفسير سورة النبأ وتفسير سورة النازعات، واليوم معنا تفسير سورة عبس.
      هذه السورة الكريمة، سورة مكية، يتضح لنا ذلك من خلال موضوعاتها، ويتضح لنا ذلك من خلال أسلوبها، وقِصر آياتها، ويتضح لنا ذلك أيضًا من خلال قصتها وسبب نزولها.
      هذه السورة مقدمتها له سبب نزول، فمن يعرف سبب النزول؟
      {يُروى أنها نزلت في ابن أم مكتوم، لما أراد أن يَسمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يُزكِّي به نفْسه، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يود لو أنه تأخر عن هذا الوقت، لانشغاله -صلى الله عليه وسلم- بأمر دعوة، رُوي أنه يدعو أبيَّ بن خلف، وقيل ثلاثة}.
      جميل، أحسنت، كما ذكر الأخ عبد الملك جزاه الله خيرًا، سبب نزول هذه السورة، أو مقدمة هذه السورة هو هذه القصة، وهو أن عبد الله بن أم مكتوم، كان ممن أسلم قديمًا، فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يُريد أن يتزكى، ويُريد أن يتعلمَ دينه، وجاء مُقبلًا وهو أعمى، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان مشغولًا بدعوة آخرين من كُفار مكة، سواء واحد أو ثلاثة.
      المهم.. في تلك اللحظة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو هؤلاء وهم معرضون عنه، وكان -عليه الصلاة والسلام- يتمنى لو أن عبد الله بن أم مكتوم لم يأتِ في ذلك الوقت لأنه -عليه الصلاة والسلام- لا يمكن أن يحقر أحدًا من المؤمنين، أو يتأخر عن إجابة طلبه، ولكن الموازنة كانت عند رسول الله في تلك اللحظة تقتضي بمقتضى ما عنده من الحِكمة، أن يقدم شأن هؤلاء الذين يرجو بدخولهم إلى الإسلام نفع الإسلام، وعز المسلمين، ولكن الله عاتبه وقال: يا محمد، إياك أن تُقبل على مَن أعرض عنك، وتدعَ من أقبل إليك.
      وهذا هو الدرس الذي يجب علينا أن نَفهمه من هذه القصة، وهي أن الإنسان لا يذهب لمن يعرض عنه في الوقت الذي يَترك فيه من يُقبل عليه، فالذي يُقبل هو الأحقُّ، ولا تنظر يا محمد إلى المقاييس البشرية الأرضيةِ، أن هؤلاء ذوو عزةٍ وأصحاب مكانة ورِفعة، هذا لا مكانة له عندنا، العز كله عند الله، ﴿وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: 8].
      كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد اجتهد، ولكن الله عاتبه على ذلك، ولما عاتبه؛ ربَّانا -سبحانه وتعالى- على ما هو مقام محمد -صلى الله عليه وسلم- عنده، فلمَّا عبر بالعبارات التي قد يُستوحش منها قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبَّر بعبارات لطيفة على قلبه، وخفيفة على نفسه. فماذا قال؟
      قال: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [عبس: 1]، الحديث هنا مع مَنْ؟ مع رسول الله، يعني الحديث هنا عن رسول الله.
      فـ﴿عَبَسَ﴾: أي قطَّب وجهه.
      و﴿وَتَوَلَّى﴾: أي أعرض عن هذا الذي جاءه يريد أن يسترشده ويسأله.
      عبَّر بضمير الغائب لماذا؟ لماذا لم يقل: "عبست وتوليت"؟ قال: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾؟ نعم يا عبد الملك.
      {لها احتمالان:
      إما أخذًا بالأسلوب العربي وهو الالتفات، والثاني: كأنه كما يُقال: ما كان ينبغي مثل هذا}.
      نعم؛ أحسنت.
      نقول: الجواب على هذا: هو أنه أراد ألا يُوحش صدره بالخطاب؛ لأنَّ الخطاب له هجوم على النفس، وأثر ثقيل عليها، فكأنه يتحدث عن شخص غائب فيقول: عبس هو، وتولى هو، أن جاءه الأعمى، فلما ذهبت هذه الوحشة بدأ بالخطاب، فقال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى﴾.
      طيب.. ﴿عَبَسَ﴾: أي قطَّب بوجهه، و﴿وَتَوَلَّى﴾: أي أعرض ببدنه؛ لأنه لما أقبل ابن أم مكتوم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ كره النبي -صلى الله عليه وسلم- مجيئه، ولما جاء يسألُ أو يُريد من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُرشده إلى ما أراده؛ أعرض عنه وانشغل بهؤلاء من صناديد قريش، فعاتبه الله -عز وجل-.
      ثم قال: ﴿أَن جَاءَهُ الأَعْمَى﴾ [عبس: 2]: أي بسبب أن جاءه الأعمى.
      طيب.. هنا سؤال: لماذا عبَّر عن هذا الرجل أو الصحابي بالأعمى؟ أليس في هذا تعييرًا لهذا الرجل؟ لماذا لم يقل: أن جاءه عبد الله بن أم مكتوم مثلًا؟ أو: أن جاءه ابن أم مكتوم؟
      الجواب؟ نعم يا رياض.
      {ربما لكون الناس ينتقصون أصحاب العيوب الخِلقية وغيرها، وليس المهم الاسم هنا في هذا المقام وفي هذا السياق، وإنما المراد في ضوء السياق أن يُبيِّن أن رجلًا ذا عاهة وعيب حضر؛ فالناس -في الغالبِ- ينتقصون هؤلاء، فكان المقام أولى بأن يُركَّز على العاهة، أو صاحب العاهة، وليس على الاسم}.
      جميل، أنت حولها تدندن.
      نقول: لأسباب؛ منها:
      أولًا: ليُبيِّن عذر هذا الرجل الذي جاء إلى رسول الله، هذا الرجل الذي جاء إليك يا محمد له عذر، وهو أنه أعمى، هو لا يدري أنت مشغول أو غير مشغول، وهو صاحب حاجةٍ، فكان يَنبغي لك أن تقضيَ حاجته وأن تعذره؛ لأنه لم يطلع على ما أنت مشغول به. هذا أولًا.
      ثانيًا: ليُرققَ قلبَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه وعلى نُظرائِه. وهذه الآية ممكن أن نجعلها حجة في التلطف مع ذوي الاحتياجات الخاصة، وإعطائهم من الرفق واللين والرحمة أكثر مما يُعطى غيرهم؛ بسبب ما هم فيه من البلاء، فصاحب البلاء يُرحم أكثر من صاحب العافية، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعافينا جميعًا.
      قال: ﴿أَن جَاءَهُ الأَعْمَى﴾، طيب هل هذا يعتبر تعييرًا؟ لا، ليس تعييرًا، ما دام يُراد بهذا الوصف معنًى لطيفٌ وجيدٌ، ولا يُراد به العيبُ والتعييرُ، فإنه لا يُعاب ذلك أبدًا. ومثل ذلك: لو أنك أردتَ أنْ تُميز بين رجلينِ باسمينِ مُتَّحدينِ، أحدهما عنده عاهةٌ مُعيَّنة يَتميز بها، والثاني ليس عِنده ذلك، فلا بأسَ أن تصفَ أحدَهما بتلك العاهةِ من أجل التمييزِ، وليس من أجل التعيير، لكن لو قلتَ لإنسانٍ وأنت تُعيره: يا أعمى، أو يا أعرج، أو يا أعور؛ فهذا مذمومٌ، ويأثم الإنسانُ عليه، ويُعتبر من الشتم الذي لا يَليق بالمسلمِ أن يَتلبَّس بشيءٍ منه.
      قال الله -عز وجل- مُعاتبًا رسولَه بعد أن كان بأسلوبٍ الْـغَـيبة جاء إلى أسلوب الخطاب، قال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾.
      طيب.. يا إخواني قبل أن نتجاوز هذا أحب أن أرجع مرة أخرى إلى قوله: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾، هذا التلطُّف من الرب -سبحانه وتعالى- مع الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- يُربينا فيه ربُّنا على مكانة رسول الله عند الله، وأن له منزلةً عالية، والله -عز وجل- يُبين لنا عِظم هذه المنزلة التي لرسول الله فيقول: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى﴾، لو قال له: عبست وتوليت ما ضرَّ ذلك ربنا -سبحانه وتعالى- ولكن الله أرادَ أن يُبين لنا كيف يكون الأدبُ مع الكبارِ، وذوي الشرف والمنزلة والمكانة، وذوي الفضل على أهل الإيمان، والفضل على الخلق، وما يَخفى عليكم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو أعظم الناس حقًّا علينا، ولا يصحُّ إيمان عبد حتى يؤمن به -عليه الصلاة والسلام- ويحبه أشدَّ من نفسه.
      ومن نظائر هذا الأسلوب في القرآن -وهي كثيرة بالمناسبة، أدعوكم لتتبعها، قول الله -عز وجل- في سورة التوبةِ: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 43]، من يعرف ما العجيب في هذه الآية؟ ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾، ما العجيب في هذه الآية؟
      نعم يا شيخ عبد الملك.
      {فهمي أنا: إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- كبشرٍ يجتهدُ ويصيبُ، ولكن رؤية المولى -سبحانه وتعالى- في كِلا الحالتين لبيانِ العذر في تلك القصة، وبيان العذر لابن أم مكتوم لأنه أعمى. على أن اجتهاد النبي -صلى الله عليه وسلم- على ظاهره صحيحٌ؛ لأن ابن أم مكتوم معذور لأنه أعمى لم يُدرك موازنةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- للمفاضلةِ بين الأمرينِ، فكان هذا مثل ذاك أو قريب منه}.
      طيب.. عندك جواب يا رياض؟
      {أعتقد أن الله -عز وجل- أراد طبعًا أن يتلطف إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيهيئ الأجواء، يهيئ نفسية النبي -صلى الله عليه وسلم- لتلقي العتاب عليه، فقدَّم العفو والمغفرة عنه ثم جاء بالعتاب}.
      السر هو: أنه قدَّم العفو قبل ذكر ما حصل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، العادة أن أقول: أنت يا فلان أخطأت، وهذا لا يليق بك، ولكن عفا الله عنك. هذا الأصل، أن تذكر الذنب أو الخطأ الذي وقع ممن تريد التصحيح له، ثم تذكر العفو.
      في الآية قدَّم العفو. لماذا قدم العفو؟ لئلا يستوحش قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويصيبه جائحة من الخوف؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- يُريد أن تكون الصلة بالله -عز وجل- أعظم صلة، ولا يرتاح -عليه الصلاة والسلام- أن يكون التأنيب نازلًا عليه من السماء، ولذلك طمأنه الله، ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ﴾، طيب عفا عن ماذا؟ ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ﴾، وهذا من الدلائل على مقام رسول الله عند ربه -صلوات ربي وسلامه عليه- لاحظتم؟ وأمثلة ذلك كثيرة جدًا، لو أردنا أن نأخذها لطال بنا المقام.
      قال الله -عز وجل-: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾: أي شيء يدرك لعل هذا الأعمى الذي جاءك يتزكى، وقوله (زكى) أدغمت التاء في الزاي فصارت ﴿يَزَّكَّى﴾، وأصلها: يتزكى.
      ﴿أَوْ يَذَّكَّرُ﴾ أو يتذكر ﴿فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى﴾ [عبس: 4]: هنا ذكر شيئين:
      الأول: يزَّكى، الثاني: يذَّكر.
      قال العلماء: إن هذا من باب تقديم التخلية على التحلية، فإما أن يتطهرَ من ذنوبه ﴿يَزَّكَّى﴾، وإما أن ينتفع بشيءٍ مما جئتَ به من الوحي والخيرِ والعلم النافع، إما أن يحصل له هذا أو يحصل له هذا، ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى﴾.
      قال الله -عز وجل-: ﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى﴾، أما هذا المستغني الذي لا يرغب في سماع ما عندك يا محمد، وليس عنده الرغبة في أن يُؤمن، ولا أن يتلقى، بل إنه راغب في فراقك، فما الذي يحملك على أن تَتصدى له؟ ﴿فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى﴾، أصله: تتصدى، حذفت التاء الأولى تخفيفًا، وهذا سائغ في لغة العرب، خصوصًا إذا كان فيها شيء من الثقل على اللسان.
      قال: ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى﴾: معناها يختلف باختلاف "ما"، دعونا ننظر إلى كلمة "ما" يا إخواني.
      "ما" هذه يمكن أن تكون ماذا وماذا ليتغير بها المعنى؟
      ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى﴾، "ما" ما معناها في اللغة؟ هذا يُبين لنا أهمية تعلم معاني الأدوات التي يَتغير بها المعنى.
      ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى﴾، يمكن أن تكون "ما" نافية، أي: ليس عليك شيء في ألا يزكى، في ألا يتزكى، يعني: إذا لم يتزكَّ يا محمد؛ فليس عليك شيء، لن ينالك من الله -عز وجل- لا عقوبة ولا عتاب؛ لأنك قد أديت ما عليك، وهو الذي أعرض بنفسه، فليس عليك شيء إذا لم يتزكَّ.
      المعنى الثاني: أن تكون "ما" ماذا؟ استفهامية.
      ماذا يكون المعنى؟ أي شيء عليك إذا لم يتزك، الآن "ما" جاءت نافية واستفهامية، ولكن المعنى في النهاية واحد، أي شيء عليك إذا لم يتزك؟ لا شيء عليك إذا لم يتزك.
      قال: ﴿وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى﴾، من هو الذي جاءك يسعى؟ عبد الله بن أم مكتوم.
      لاحظ كيف وصفه؟ وصفه بأنه قال: ﴿جَاءَكَ﴾، فجاء بنفسه. أما أولئك فأنت جئت إليهم، وذهبتَ إليهم، وتصديت لهم، هذا جاءك طالبًا للهُدى، فالحقُّ أن يُقبل على مَن أقبل، وألا يُؤبَهَ بمن أعرض، هذا هو الأصل، العدل أنك مَن أقبل عليك تُقبل عليه، ومن أعرض فلست مُحاسبًا لو أنه أعرض وتركته.
      قال: ﴿وَأَمَّا مَن جَاءَكَ﴾، هو جاءك، الثاني: ﴿يَسْعَى﴾ أيضًا هذا المجيء مجيء بإقبال ورغبة، ليس عبد الله بن أم مكتوم كان يمشي ثم سمع صوت النبيَّ قال: تذكرت، فيه سؤال يا رسول الله، لا جاء قاصدًا؛ لأن السعي هنا لا ينبغي حمله على سعي البدن، بمعنى الركض أو الشدة في الجري؛ لأن ابن أم مكتوم أعمى، ومثل هذا لا يتصور منه أن يمشي في الأسواق وفي الشوارع بماذا؟ بقوة أو بسرعة.
      إذن ما المعنى؟ ﴿جَاءَكَ يَسْعَى﴾؛ أي جاء مهتمًّا حريصًا مقبلًا.
      قال: ﴿وَأَمَّا مَن جَاءَكَ﴾، والسعي يا إخواني فضيلة ينبغي للمسلم أن يتصف بها، وهي أنه إذا شَرَع في أمر من الخير يُقبل عليه ويحرص عليه، ماذا وصف الله المنافقين في أمر الصلاة؟ قال: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ [النساء: 142]، ووصف المؤمنين في آية أخرى قال: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ [الإسراء: 19]، فحريٌّ بالمؤمن دائمًا إذا أقدم على عمل من الخير أن يُقدم عليه بهمَّة وبحرص وإرادة تامة دون تردد.
      قال الله -عز وجل-: ﴿وَهُوَ يَخْشَى﴾، هذه الصفة الثالثة، جاء ويسعى وأيضًا عنده خشية حَمَلتْه على أن يسأل، وليس سؤاله مجرد استعلام أو تزوُّد من العلم فقط، أو لمجردِ تزجية الوقت، أو لأجل الكلام مع رسولِ الله فقط، كما يفعل بعض المحبين لرسول الله، يريد أن يتحدث مع رسول الله بأي كلام، مثل ما يرى بعض الشباب العالم، فيأتي ليسلم عليه، كيف حالك يا شيخ؟ ما أحسن كتاب في التفسير؟ هو يسأل هذا السؤال من أجل أن يتلذذ بسماع صوت الشيخ وإجابته له، وإلا لا حاجةَ له بهذا السؤال، لا هذا حمله على السؤال خشيته من الله -عز وجل- يريد أن يعمل، ويريد أن ينفذ.
      فإن قلت: ما الفرق بين الخشية والخوف؟ أيها أشد؟ رياض، أيها أشد: الخوف أو الخشية؟
      {لستُ أدري}.
      لستَ تدري، نعم، عبد الملك.
      {الخشية عمل قلبي}.
      طيب والخوف؟
      {ما أدري}.
      ما تدري، خذ الميكرفون يا شيخ.
      {الخشية أعلى من الخوف}.
      طيب.. كيف؟
      {يعني الخوف من البشر}.
      طيب.. ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: 50]؟
      {يعني عام يا شيخ، الخوف أعم، أما الخشية ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]}.
      نعم، ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾، هل تستنبط منها معنًى في الفرق بين الخوف والخشية؟
      {أعتقد أن الخشية هي الخوف مع التعظيم}.
      يا سلام، هذه محاولة جميلة جدًّا.
      الخشية: خوف بعلم، الأخ عبَّر عنها بتعظيم، يعني التعظيم ما يكون إلا بعلم.
      أما الخوف فيكون خوفًا، يعني أن تخاف من شيء، عامةً أن تسمع صوتًا مفزعًا تخاف، ما تدري ما هذا الصوت، هل هو صوت رعد يأتي بعده المطر، أو صوت قنبلة أو تفجير، ما تدري.
      أما الخشية فتكون لمن علم؛ ولذلك جاء في الآية: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾.
      ومادة خشي (الخاء والشين والياء) في اللغة العربية دائمًا تدل على الشيء الأكثر، الأبلغ أو الأقوى في المعنى، مثلًا خذ تصاريفها: خشِي - وعندك "شيخ"، الشيخ من هو؟ إما أن يكون الكبير في السن أو الكبير في العلم، لو قلبتها مرة ثانية: خيش هو الكيس الذي يكون قويًّا، فتوضع فيه الحبوب والأشياء الثقيلة، وهكذا.
      طيب.. قال: ﴿يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾، كيف هذا؟ جاء ويسعى، وهو يخشى، ومع ذلك تلهيت عنه، وسمى إعراض النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه ماذا؟ تلهيًا؛ لأنك تركت ما يليق بك مع من أقبل عليك، وذهبت إلى من أعرض عنك، وليس مستمعًا لك، ولا منتفعًا بما عندك، فسمَّاه "تلهيًا".
      قال: ﴿فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾، و﴿تَلَهَّى﴾ هذه أصله: تتلهى، لكن حذفت التاء تخفيفًا.
      ما الدرس الذي نأخذه من هذا؟
      يا إخواني، في تقديمنا للدعوة، وبذلنا للعلم وللدين، ما ننظر إلى قضية مراتب الناس الأرضية، هذا فلان ابن أمير، ولا ابن غني، ولا ابن وزير، ولا ابن فقير؟ بل من أقبل على العلم، أقبل على الدعوة، جاء إلينا، يجب علينا أن نُقدم له هذه الدعوة، وأن نمدَّ له يد العون والمساعدة، وأن نهديه سبيل الرشاد، وألا ننظر إلى أصله أو فصله أو نسبه أو غناه، أو حاله أو جاهه أو سمعته، أو أي شيء من هذه الموازين الأرضية. هذه فائدة عظيمة جدًا ينبغي أن نستفيدها من هذه الآيات.
      {عندي سؤال}.
      تفضل، لكن بشرط ألا يكون طويلًا على أساس وقت البرنامج.
      {نلاحظ الآن أن الآيات تعذر النبي -صلى الله عليه وسلم- في اجتهاده من خلال وصف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ﴿تَلَهَّى﴾، فجانب صواب الأمر، وصف أو تمييز ابن أم مكتوم بأنه أعمى، كذلك وصف ابن أم مكتوم بصفات معينة قد لا يدركها النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سعى، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- علمه محدود بما هو محيط به، ويخشى أمر معين مبني على علم، أليس فيها عذر للنبي -صلى الله عليه وسلم- نفهم منه باجتهاده -صلى الله عليه وسلم- بمخاطبة أولئك القوم؟}.
      لا، يا عبد الملك نحن نقول: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما فعل الذي فعل عن هوى، هذا ما عندنا شك فيه -ولله الحمد-، بل الذي حمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن يُقبل على أولئك ويدع ابن أم مكتوم، أنه كان يريد مصلحة الدعوة، ولكن جاءه التصحيح من الله، يا محمد من أقبلَ عليك؛ فأقبلْ عليه، ومن أعرضَ عنك؛ فلست محاسَبًا ولا مسؤولًا عنه، وإياك أن تدع ذلك الذي أقبل في مقابل أن تذهب إلى ذلك الذي أعرض.
      وحال رسول الله أولًا كانت مزيد الحرص على الدعوة، ولذلك هو معذور فيما فعل -عليه الصلاة والسلام-، لكن الدرس يأتي لنا نحن هذه الأمة، ولرسول الله من بعد تلك الحادث، خلاص جاءك أصغر الناسِ وأقلُّهم وأحقرُهم في نظر الناس يُريد أن يسألَ؛ فقدِّمه، ولا تقل: احتمال يُسلم ذاك الرجلُ ويكون لها شأن في دعوة الإسلامِ ونصرة للدين، هذا الأمر ليس إليك، هذا إلينا نحن.
      قال الله -عز وجل-: ﴿كَلاَّ﴾، كلا هنا قلنا بالأمس أنها تأتي بمعنيين:
      - إما أن تكون بمعنى الردع والزجر.
      - وقد يعبر عنها بعض العلماء كابن جرير الطبري -رحمه الله-: (ليس الأمر كذلك)، كتعبير أخف من كلمة الردع والزجر.
      - وإما أن تكون بمعنى: حقًّا.
      قلنا: تكون بمعنى "حقًّا" إذا لم يسبقها كلام يُردُّ عليه، وتكون بمعنى الردع والزجر أو النفي إذا كان قبلها كلام يُنفى، أو كلام يُرد على صاحبه.
      فهنا قوله: ﴿كَلاَّ﴾ يُراد بها: رد هذا الأمر، يعني ليس الأمر كما فعلت، أو تحتمل أن تكون بمعنى "حقًّا" لتكون متصلة بما بعدها، حقًّا إنها تذكرة.
      طيب.. ﴿إِنَّهَا﴾ ما هي؟ يعود على الآيات السابقة أو القصة، هذه القصةُ تذكرةٌ وعظةٌ لك يا محمد ولأمتِك من بَعدِك.
      ﴿فَمَن شَاء ذَكَرَهُ﴾، إما أن يكون الضميرُ هنا عائدًا على الله، فمن شاء ذكر الله، وإما أن يكون عائدًا على القرآن الذي منه تلك القصة، أو منه تلك الآيات. وهذا أَوْلَى، أن يعود على القرآن؛ لأن الحديث بعد هذه الآية هو عن القرآن.
      قال الله -عز وجل-: ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ﴾، ما الذي في صحف مكرمة؟ هو الذي جاء في قوله: ﴿إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ﴾. أي هذا موضوع في صحف مكرمة قد أعلى الله شأنها وكرَّمها.
      ﴿مَّرْفُوعَةٍ﴾؛ أي قد رفعت رفعًا حسيًّا، ورفعًا معنويًّا، ولذلك يستفيد العلماء من هذا أن كتاب الله ينبغي أن يكون دائمًا مرفوعًا. عندما يكون مع الكتب يُرفَع، لما يكون في الأدراج، يوضع في الرف الأرفع تقديرًا له وتعظيمًا، كما أنه في اللوح المحفوظ -أيضًا- مرفوع فوق كل كلام، وكل شيء موجود في ذلك اللوح.
      ﴿مُّطَهَّرَةٍ﴾؛ أي لا يصيبها شيء من الدنس، ولا يصيبها شيء من الزيادة أو النقص أو التحريف أو التبديل أو التغيير.
      ثم ذكر مَن الذي يَلُونَ هذه الصحف المكرمة، قال: ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾، من السفرة هؤلاء؟ نعم يا شيخ عبد الملك.
      {الملائكة}.
      الملائكة، هذا قول جمهور المفسرين؛ لأن هذا الوصف قد جاء بهذه الصورة للملائكة في الحديث النبوي، قال: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران».
      وقال بعض العلماء: إن السفرة هم أصحاب رسول الله، أو كُـتَّاب الوحي.
      والظاهر: هو الأول، لمجيء هذا الحديث الذي يدل على ذلك، وأيضًا لأن المؤمنين إذا وصفوا في القرآن لا يوصفون بقوله: ﴿بَرَرَةٍ﴾، وإنما يوصفون بماذا؟ الأبرار. أما البررة فهي خاصة بالملائكة.
      طيب.. قال الله -عز وجل-: ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾، سُمي الملائكة سفرةً؛ لأنهم يقومون بالسفارة بين اللهِ وبين خَلْقه، فكل الأعمالِ تُوكَل إلى الملائكةِ حتى قبض الأرواحِ، والنزول بالوحيِ، الذي ينزل به الملائكة، ورفع الأعمال إلى الله -عز وجل-، الذي يرفعها ويقوم بذلك هم الملائكة، فسُموا من أجل ذلك "سَفَرَة".
      قال: ﴿كِرَامٍ﴾، سُموا كرامًا أو وصفوا بأنهم كِرامٌ؛ لأن الكريم في لغة العرب هو الشريف في جنسه؛ أي شيء شريف في جنسه يسمى كريمًا، حتى الأحجار منها كريمة وغير كريمة، إذا كانت شريفة في جنسها عالية القدر قيل: كرام، وقيل: هذه أحجار كريمة، كذلك بنت الرجل يقال: كريمة فلان. لماذا؟ لعلوِّها عنده، وحظوتها لديه، وحِرصه عليها، يُقال: كريمة فلان، والعين تُسمى كريمةً أيضًا لنفاسَتِها في بدن الإنسان.
      فالملائكة لكرمِهم، وعِظم منزلتِهم، ونفاستِهم في مخلوقاتِ ربهم -سبحانه وتعالى- قيل: كرام؛ لأنهم لا يَعصون الله ما أَمَرَهم ويفعلون ما يؤمرون.
      ﴿بَرَرَةٍ﴾؛ أي كثير البر والإحسان وفعل الخير، فالبر مأخوذ من السعة، ولذلك يُقال للبادية أو يقال لغير المدن: بر، لماذا؟ لأنها متسعة.
      وكذلك من يُكثر من فعل الخير يقال له: برٌّ، ويقال لهم: أبرار؛ لأنهم يتوسعون في فعل الخير.
      بعد أن انتهى من هذا بدأ في ذكر أمر وهو: كيف أن الإنسان يجحد هذا الخير، ويكفر به من دون حجة ولا برهان، فقال: {قُتِلَ الإِنسَانُ}، طبعًا الإنسان هنا لا يمكن أن يحمل على جنس الناس، وإنما يُراد به الكافر، ونستدل على ذلك بأن هذه الآيات آيات مكيَّة، وغالب ما يرد من وصف الإنسان في الآيات المكيَّة إنما يراد به الكافر، ﴿بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ [القيامة: 14]، ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ﴾ [الإنسان: 1]، وآيات كثيرة من هذا القبيل، إذا ذُكر الإنسان في الغالب يراد به: الإنسان الكافر، وليس هذا شيئًا لازمًا، ولكنه يختلف باختلاف السياق.
      قوله: ﴿قُتِلَ﴾، العلماء يقولون: ﴿قُتِلَ﴾ دعاء عليه بالقتلِ، وهي بمعنى: لُعن عند كثير من المفسرين.
      ﴿قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾، اليوم معنا أكثر من مثال لـ "ما" وما يتصل بها.
      طيب.. ﴿قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾، لاحظوا معي يا شباب.. ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾.. جميل؟
      "ما" هذه أي نوع منها؟ نحن هنا قلنا: إما أن تكون نافية أو تكون استفهامية.
      وهنا: ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾، "ما" ماذا؟ "قتل الإنسان الذي أكفره"؟
      {استفهامية}.
      استفهامية، أي شيء أكفره؟ قتل الإنسان أي شيء أكفره؟ نعم، تصح أن تكون استفهامية.
      ﴿قُتِلَ الإِنسَانُ﴾، ما الذي جعله يكفر؟ أي شيء جعله يكفر؟ قد قامت عليه الحجج، وأقام الله -عز وجل- له البينات، أرسل له الرسل، أنزل عليه الكتب، جعل له عينين، ولسانًا وشفتين، ما الذي جعله يكفر؟
      إذن: احتمال تكون استفهامية.
      {تعجبًا من حاله}.
      لا، صبرك، أنت الآن تخلط بين نوعين من "ما".
      الثانية يا شيخ ما هي؟ تعجبية.
      ﴿قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾، "ما" هنا تعجبية، يعني: عجبًا له كيف يكفر؟
      والتعجب هنا أليق بالسياق، ما أكفره يعني ما أشد كفره! وبالفعل، الإنسان إذا كفر لا شيء من المخلوقات يمكن أن يزيد عليه في الكفر.
      قال الله -عز وجل-: ﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾، يبين الله حقيقة هذا الإنسان الذي كفر، وأنه ضعيف، وأن إمكاناته محدودة، وأنه محتاج إلى الله، ومع ذلك يكفر ويستعلي ويكذب بالله وبرسله، ويرد آيات الله -سبحانه وتعالى-.
      قال: ﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾، ما هي مكونات هذا المخلوق الذي استعلى واستكبر وتجبر وبطر؟
      قال: ﴿مِن نُّطْفَةٍ﴾، هذا الإنسان مخلوق من نطفة، والنطفة هي: الماء القليل، وهو هذا الماء الذي خلق منه الإنسان، وهو ماء قليل، أيضًا ماذا؟ قذر، خُلق الإنسان منه، فما الذي جعله يتكبر!
      ﴿مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾، لاحظوا جاء بالفاء ليدل على أن النطفة من حين ما تقع في الرحم يبدأ عملية التقدير، الفاء هنا للدلالة على الترتيب والتعقيب.
      قال: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾، جاء بـ "ثم"؛ لأن بين التقدير وبين الخروج من بطن الأم فترةً زمنيةً تستحقُّ "ثم" الدالة على التراخي.
      طيب.. ما السبيل؟
      السبيل: اسم لأكثر من معنى، يمكن أن يكون طريق الخير والشر، ويمكن أن يكون طريق الخروج، ويمكن أن يكون الطريق العام، ولأجل ذلك اختلف العلماء في قوله: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾، هل معناها:
      يسر له طريق الخير والشر؟ فالإنسان يرى من نفسه الآن طريق الخير والشر أمامه مفتوحان يفعل ما يشاء.
      ويمكن أن يكون: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾، ثم طريق خروجه من بطن أمه يسره.
      أي المعنيين في نظركم؟ رياض ما المعنى الذي ترى أنه أصوب؟
      {يظهر من السياق أن الراجح من أقوال المفسرين أن الله -عز وجل- يسر طريق خروجه من بطن أمه}.
      لماذا؟
      {لأنه ذكر قبل ذلك النطفة}.
      جميل، هل هناك مانع من أن تحتمل الآية المعنيين؟
      {ليس ثمة أي مانع، ليس ثمة تعارض بينهما}.
      ولذلك نحن نقول: كِلا القولين مقبول، لكن أليقهما بالسياق، ولذلك نجد الشوكاني -رحمه الله- في تفسيره يعبر دائمًا بعبارة: والأول أَوْلَى.
      لماذا يقول: أولى؟ لأن القول الثاني لا يمكن نفيه، الآية تحتمله ويكن تستوعبه، فنحن نقول: هذا القول صحيح وهذا القول صحيح، لكن أليقهما بالسياق وبالدلائل التي تحف هذا المعنى هو القول الأول، ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ﴾؛ أي طريق خروجه من بطن أمه ﴿يَسَّرَهُ﴾.
      ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ﴾؛ لأن بين خروجه من بطن أمه وموته في العادة وقتًا طويلًا، عشرًا، أو عشرين، أو ثلاثين، أو ستين سنة.
      ﴿أَمَاتَهُ﴾؛ أي قدر عليه الموت.
      ﴿فَأَقْبَرَهُ﴾، لماذا عبر بعد الموت بالفاء، قال: ﴿فَأَقْبَرَهُ﴾؟
      لُيبين أن الإقبار يكون بعد الموت مباشرة، ولهذا ممكن نأخذ من هذه حكمًا شرعيًّا وهو استحباب الإسراع بدفن الميت وتجهيزه بعد موته، وعدم التأخر بذلك كما يفعل الناس في هذا الزمان.
      قال: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾، أقبره ما معناها يا إخواني؟ ليس معناها قَبَرَه؛ لأن الله لا يقبر الناس، وإنما أقبره: هيأ له مكانًا يُقبر فيه، ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾.
      قال: ﴿ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ﴾، لاحظ، لما كان ما بين القبر والنشر وقت طويل لا يعلمه إلا الله -سبحانه وتعالى- جاء بماذا؟ بـ " ثُمَّ "، وهذا يدلنا على أن القرآن لا يمكن أن يضع حرفًا أو كلمة إلا في مكانها، ومتى وجدت حرفًا أو كلمة لم تحملها على المعنى الذي يُريده الله -سبحانه وتعالى-، وسويت بينها وبين غيرها مما هو قريب منها؛ فأنت لم تفهم المراد.
      لاحظ هنا "فاء" "ثُمَّ" ما جاءت هكذا عبثًا، جاء كل واحد منها في مكانه، كان بالإمكان أن يسوِّي فيقول: "خلقه من نطفة ثم قدره ثم السبيل يسره ثم أماته ثم أقبره ثم إذا شاء أنشره"، ويكون المعنى المراد به التعاطف.
      لكن الآيات تأتي مرة بهذا، ومرة بهذا، ومرة بهذا، وفي الآية الواحدة قد تجد الاثنين، "ثم" و"الفاء"، لماذا؟ ليبين لك أن كل حرف استُعمل في مكانه، وهكذا سائر القرآن.
      قال الله -عز وجل-: ﴿كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾، ﴿كَلاَّ﴾ ردع لهذا الإنسان الكافر، ﴿لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾ يعني لم يفعل ما أمر به.
      قال مجاهد: "يعني ما من أحدٍ يمكن أن يفعلَ كل ما أُمرَ به، بل لا بد أن يُقصِّر الإنسان، وهذا من طبع الإنسان؛ «كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون»".
      قال الله -عز وجل-: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾، هنا بعدما انتهى من ذكر كفر الإنسان بالرسالة التي أوحيت إليه وأنزلت عليه، انتقل إلى ذكر دلائل القدرة، وأيضًا دلائل النعمة، نعمة الله على عبده التي تدعوه إلى أن يدع هذا الكفر، وأيضًا دلائل القدرة التي تدل الإنسان على أن الله قادر على الشيء الذي ينكره الإنسان، وهو البعث بعد الموت؛ لأن هذه قضية قلنا أنها من أهم قضايا جزء عمَّ.
      قال الله -عز وجل-: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾، يعني لينظر كل واحد منكم أيها الناس إلى هذا الطعام الذي بين يديه، من أين هو؟ ما دورك في هذا الطعام الذي عندك؟ الأرز الذي تأكله صباح مساء، ما دورك فيه؟ القمح، الفول، الجزر، الخس، إلى آخره.
      هل أنت صنعته وكوَّنته؟ هل أنت أخرجته وفعلت به هذه الصفة التي هو عليها؟ وضعت فيه هذا الطعْم الذي هو فيه؟ لا والله، إنما أنت فعلت شيئًا أمرك الله به، وليس هو في الحقيقة هو المؤثرَ، بل التأثير كله من قِبل الله.
      قال: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا﴾، نحن أنزلنا الماء مصبوبًا من السماء، ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا﴾، شققنا الأرض بالنبات، تكون البذرة داخل جوف الأرض، ثم ما تزال -بضعفها- تقاوم وتدخل تدخل حتى تخرج على ظهر الأرض، ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا﴾، بدأ بالحب كما في سورة عمَّ.
      ماذا قال في سورة عمَّ؟
      قال: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًا﴾ [النبأ 14، 15]، لماذا قلنا بدأ بالحَبِّ هناك؟
      {لشدة حاجة الناس للحَبِّ قبل النبات}.
      نعم؛ لشدة حاجةِ الناس إلى الحَبِّ؛ لأن به أقواتهم، فقوتنا نحن بهذا الحب، يعني تستطيع أن تستغنيَ عن الخس والكراث، والجزر، والبرتقال، والتفاح، لكن يشق عليك أن تستغني عن القمح، والأرز، والذرة، والدخن، وغيرها من الحبوب التي هي أقوات لبني آدم.
      قال: ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًا * وَعِنَبًا﴾، ذكر العنب، لماذا العنب يُثنِّي به؟ لأنه من أحسن الفواكه وأعظمها أثرًا على صحة الإنسان، وأكثرها لذة، وأكثرها أيضًا سهولة في جنيه وفي أكله، فكروم العنب عندما تأتي إليها تقطفها هكذا ثم تضعها في فمك مباشرة، وتجد حلاوتها من أيسر ما يكون، وطعمها من ألذِّ ما يكون، ومضغها واستساغتها من أيسر ما يكون.
      فالله -عز وجل- يُبين لك كيف أن الله يسر لك هذه النعمة، وهيَّأ لك هذا الطعام، فما الذي يدعوك إلى الكفر؟ ما الذي يجعلك تستكبر وتستعلي؟
      قال الله -عز وجل-: ﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا﴾، ﴿وَقَضْبًا﴾ ما معناها؟ ما معنى قضبًا، ﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا﴾.
      العلماء يقولون: القضْب هو ما يُقضَب يعني يُقطَع، فكل النباتات التي تُقطَع ثم تعود تسمى قضبًا، فمنه مثلًا: الخس، والكراث، والقت الذي يُوضع للبهائمِ يُسمى القت أيضًا، كله من القضب.
      كلمة "قضب" معروفة في العربية بمعنى القطع، «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يرى شيئًا فيه تصليب إلى قضبه». ما معنى قضبه؟ قطعه، يعني ما يرى مكانًا فيه صليب ظاهر إلا قطع ذلك الصليب؛ لأنه شعار النصارى.
      ﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا﴾، الزيتون معروف، سواء الزيتون في حَبِّه، أو الزيتون فيما يُعصَر منه ويخرج من زيت.
      ﴿وَنَخْلًا﴾، هذه النخلة المعروفة التي فيها هذه الثمرة العجيبة، التي تجمع بين خمسة أشياء: فهي حلوى، وغذاء، وقوت، وفاكهة، ودواء. وهذا قلَّ أن يجتمع في شيء من النبات، إما أن تجد النبات طعامًا مثلًا، وإما أن يكون دواء، وإما أن يكون غذاءً، وإما أن يكون قوتًا.
      أما التمرة أو ما يخرجُ من النخلة؛ فهو يجمع هذه الخمسة أشياء، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتحدث عن أثر هذه التمرة يقول: «بيت ليس فيه تمر أهله جياع»؛ لأن التمرة تغني عن كثير من حاجات الإنسان، أو عن كل حاجات الإنسان إلا ما ندر.
      قال: ﴿وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا﴾، الحدائق: جمع حديقة، والحديقة عند العرب هي ما يُحدق بالشيءِ، يَعني يطيف به ويُحوِّط عليه، فتُسمى حديقة، فالحديقةُ عن العرب هي: ما أُحدِقَ عليه بشجرٍ أو شيء يحوطه.
      ﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا﴾؛ أي وأشجار غُلب، يقول العلماء: الغُلب: هي ذات الجذوع العريضة، والأفنان الملتفة، تسمى غلب، يعني الأشجار العظيمة.
      ﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً﴾، هذا يدخل فيه جميع ما يَتفكَّه به الإنسان، برتقال، والموز، والتفاح، وغيرها.
      ﴿وَأَبًّا﴾ ، قال العلماء: الأبُّ هو ما تنبته الأرض من الكلأ مما ترعاه البهائم، وقد ورد عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "قد عرفنا الفاكهة، فما الأبُّ؟"، ثم قال: "إن هذا لهو التكلُّف يا عمر"، وثبت هذا عن عمر بإسناد صحيح. فعلى أي شيء نحمله؟
      قال العلماء: يحمل على أن عمرَ أراد أن يعرفَ أيَّ نوعٍ من الأبِّ، وإلا فمعنى الأب معروف عند العرب، لا يخفى على عربيٍّ أصلًا.
      فقال: "إنَّ هذا لهو التكلُّف" يعني يكفيك أن تفهم المعنى العام يا عمر وهو كلأ الأرض، دون أن تعرف شيئًا معيّنًا من هذا الكلأ.
      قال الله -عز وجل-: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًا﴾، أما ما رُويَ عن أبي بكر أنه لما سئل عن الأب، قال: "أي سماء تظلني، وأي أرض تُقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم"، فهذا إسناده ضعيف عن أبي بكر -رضي الله تعالى عنه-.
      بعد أن بيَّن هذه الدلائل انتقل إلى ذكر يوم القيامة الذي سيقت هذه الدلائل من أجل بيان أن ذلك اليوم ممكن وحاصل ولا مشقة فيه على الله -سبحانه وتعالى- الذي خلق كل شيء، وبيده كل شيء، وأمره ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس: 82].
      قال: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ﴾ ، ما هي الصاخة يا شيخ؟
      {من أسماء يوم القيامة}.
      أحسنت، الصاخة من أسماء يوم القيامة، وقد سُميَت في القرآن بالحاقة، والطامة، والصاخة، وغيرها من الأسماء.
      طيب.. ولماذا سميت بالصاخة؟ نعم رياض.
      {أليس معناه الصارخة؟}.
      نعم، بمعنى تصخ الآذان وتصمُّها من شدة صريرها وقوَّة صوتها.
      قال: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ﴾، في ذلك اليوم الذي يُسمع فيه صوت القيامة بشدة ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾، من شدة الهول يفر الإنسان من كل أحد حتى من أقرب الناس إليه.
      قال: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾، فهؤلاء هم أقرب الناس إلى الإنسان، أخوك، وأمك، وأبوك، وصاحبتك، وبنوك، فأنت تفر منهم.
      إذن فرارك من غيرهم من باب أولى؛ لأن هؤلاء أنت تُدلي عليهم، تقول: يا أخي، يا أبي، يا أمي، يا زوجتي، يا أولادي، نفعتكم، أعطيتكم، حبوتكم، ومع ذلك هو يفر منهم لئلا يطلبوا منه شيئًا، ولئلا يسألوه شيئًا.
      قال: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾؛ أي كل واحد منهم مشغول بنفسه قد اغتنى بما عنده من الحال، فهو مذهول، ولذلك لما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أهل القيامة يأتون حفاة عراة غرلًا، قالت عائشة وهي تتخوف على عورتها،؛ لأنها امرأة عفيفة طاهرة، قالت: "يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟!". قال: «يا عائشة، الأمر أعظم من ذلك». يعني كل واحد مشغول بنفسه، ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾.
      قال الله -عز وجل-: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ﴾ ، سأسأل سؤالًا: لماذا لم يذكر من حال المؤمنين وحال الكافرين إلا الوجوه؟
      {لعله؛ لأنه يظهر من الإنسان أكثر ما يظهر هو الوجه}.
      طيب لماذا اختار في هذه السورة الوجه، بينما اختار في سورة أخرى أحوال أخرى؟
      {ذكر الأول في النشأة، في الخِلقة}.
      لا، ليس في الخلقة؛ وإنما أول السورة كانت عن ماذا؟ عن الوجه، ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾، فناسب أن يذكر من أحوال الناس في يوم القيامة هذا الوجه الذي يعبر عن سرور الإنسان وفرحه ونعمته وابتهاجه ونضرته، وعن بؤسه وعذابه وألمه.
      قال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ﴾؛ أي مضيئة ضاحكة؛ لأنها مقبلة على خير، مستبشرة يعني قد استبشرت به بما بشرت به من فضل الله ونعمته، ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾، قد علتها هذه الغبرة التي أظلمت وجوهها.
      ﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾؛ أي ظلمة وكلوح، نسأل الله العافية والسلامة.
      ﴿أَوْلَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ﴾؛ أي هؤلاء أصحاب هذه الوجوه كفرة فجرة.
      والفرق بين الوصفين: أن الكفر قلبي، والفجور عملي.
      فجمع لهم بين الوصفين فقال: ﴿أَوْلَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ﴾.
      إلى هذا الحد انتهى درس هذا اليوم، نلقاكم -إن شاء الله- في درس قادم، ومع سورة أخرى، نسأل الله أن يجعلنا جميعًا من أهل القرآن، الذين هم أهل الله وخاصته، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

      التعديل الأخير تم بواسطة *أمة الرحيم*; الساعة 31-01-2014, 05:15 PM.

      تعليق


      • #4
        رد: تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري

        السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
        الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
        أما بعد..
        مشاهدي الكرام، وإخواني الحضور، حيَّاكم الله جميعًا في مجلس جديد ودرس جديد من دروس التفسير في هذه الأكاديمية الإسلامية المفتوحة.
        هذا المجلس هو المجلس الرابع، نسأل الله أن ينفعنا به، ونحن ما زلنا في جزء عمَّ، وقد وصلنا إلى سورة التكوير.
        هذه السورة سورة التكوير سورة مكيَّة، وهذا ظاهر من أسلوبها وموضوعاتها وقِصَر آياتها، ولم يختلف العلماء في كونها من السور المكية التي نزلت قبل الهجرة.
        هذه السورة ورد في فضيلتها حديث، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما روى الترمذي قال: «من أراد -أو من أحب- أن يرى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، و﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ، و﴿ إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ».
        يعني ثلاث سور من سور القرآن قد اهتمَّت وعُنيت بيوم القيامة، فمن قرأها كأنما يشاهد يوم القيامة، ويعلم ما يحدث فيه من الهول العظيم.
        هذه السورة سنلاحظ أنها في بدايتها تحدثت عن يوم القيامة، وفي ختامها تحدَّثت عن موضوع آخرَ، لكن له صلة.
        في أول هذه السورة كان الحديث عن يوم القيامة، وعن أحواله وأهواله، وما يحدث فيه، فلما كانت هذه أمورًا غيبيةً، لا طاقةَ للبشر بمعرفتها، ولا سبيلَ لهم إلى علمها، بيَّن لهم مَن هو الذي جاء بها، وأنها قد جاءتكم على وجهٍ حقيقيٍّ صادقٍ لا لَبْسَ فيه ولا غموضَ، وأن ما جاء لم يتعرَّض لأيِّ نوع من أنواع الشك، أو الخلل في الرواية؛ ولذلك أول السورة في ذكر يوم القيامة، وآخرها في ذكر القرآن وسنده. من أين جاءكم هذا القرآن؟
        ولذلك انظروا ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ، إلى أن قال: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ، ثم قال: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِي الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ، ماذا؟ ﴿ إِنَّهُ ؛ أي القرآن الذي جاءكم بهذه المغيبات وبهذه الأخبار ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، وهو جبريل، طيب مَن جبريل؟ ﴿ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ، انتهى منه.
        ﴿ وَمَا صَاحِبُكُم بمَجْنُونٍ ، هذا الآن الدرجة الثانية من درجات الإسناد التي عن الله -عز وجل-.
        ﴿ وَمَا صَاحِبُكُم بمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ، الإسناد متصل وليس مُنقطعًا، يعني مجرد أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رأى في المنام أو كذا، ولذلك ليس شيءٌ من كتاب الله قد تلقاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الرؤيا، كله قد تُلُقِّي بالإسناد المتصل إلى جبريل إلى رب العزة والجلال.
        قال: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ، يُزكي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه ليس ببخيل على الغيب، ولا مُتهم عليه، ﴿ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ، ما الذي يمنعكم من الإيمان بهذا الكتاب؟ لا حجة لكم في ذلك.
        ولذلك قال -مبينًا أن الإنسان إنما يذهب إلى الهدى أو يدع طريق الهداية بنفسه، هو الذي يختار ذلك، ليس لأنه لم تأته حجة من الله بالغة- ولذلك قال: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ .
        نبدأ السورة من أولها:
        يقول الله -عز وجل-: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، "إذا" تحتاج إلى جواب، وجوابها قد جاء بعد انتهاء "إذا" في اثني عشر موضعًا، يعني اثني عشر موضعًا جاء فيها: إذا، إذا، إذا، إذا، إذا، بعدها جاء الجواب: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ .
        فلو قلت لك: ما جواب ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ؟
        تقول: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ .
        ما جواب ﴿ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ؟
        ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ .
        قال الله مبينًا أمر الشمس، لماذا بدأ بالشمس؟
        لأنها من أجلِّ الآيات وأظهرها، وأعظمها أثرًا في حياة الناس، وعلى وجودِها ينبني الليل وينبني النهار، متى طلعت جاء النهار، ومتى غابت جاء الليل، وهي آية عظيمة، والله حقًّا عظيمة.
        يقول العلماء المعاصرون: إنها أكبر من الأرض بمليون مرة، وقد يزيدون في الرقم على هذا، ويقولون: إنها تبعد عن الكرة الأرضية مئة وخمسين مليون كيلو متر.
        إذن: هذا الضوء يأتينا من مسافة هائلة وبعيدة جدًّا، ومع ذلك يأتي هذا الضوء مع هذه النار الهائلة، بدليل أننا مع هذه الأضواء التي نراها في حياتنا في الليل، وهذا الكشَّافات العظيمة إذا طلع نور الشمس ما كأن شيئًا منها موجودًا. أليس كذلك؟ وهذا يدلك على عظمة هذه الآية.
        ﴿ إِذَا الشَّمْسُ هذه الشمس التي ترونها في يوم القيامة يتغير حالها، وتتبدل صفاتها.
        ﴿ كُوِّرَتْ . ما معنى﴿ كُوِّرَتْ ؟
        {لُفَّت}.
        نعم؛ أي لُفَّت، من تكوير العمامة أي لفُّها.
        قال بعض السلف: ﴿ كُوِّرَتْ هنا سنلاحظ فيها أمرًا -وهو مهم جدًّا لنا كطلاب في علم التفسير- سنلاحظ أن ﴿ كُوِّرَتْ -يا إخواني- الآن جاءت عند السلف بثلاثة معانٍ، ما المعاني الثلاثة؟ لاحظوا معي.
        المعنى الأول: ﴿ كُوِّرَتْ كما قال الشيخ رياض: لُفَّت.
        المعنى الثاني: ﴿ كُوِّرَتْ بمعنى: ذهب ضوؤها.
        المعنى الثالث: ألقيت في النار.
        ستلاحظون -يا إخواني- أن هذه المعاني الثلاثة يمكن أن تكون مختلفة، ولكن الحقيقة -وهذا ما يجب على طالب التفسير أن يفهمه وأن يتعلمه- وهو أن أقوال السلف وإن بدت أحيانًا مختلفة، إلا أنك تجد أنها ليست متضاربة، نعم هي مختلفة؛ لأن معنى لُفَّت ليس بمعنى ذهب ضوؤها، وذهب ضوؤها ليس بمعنى أُلقيت في النار.
        طيب.. إذن كيف نتعامل مع هذه الأقوال؟ هذا هو الذي يجب على طالب علم التفسير، كيف يتعامل مع الأقوال في الآية؟
        فنحن نقول دائمًا: إن الخلاف في التفسير أكثره ومعظمه هو اختلاف تنوع، وليس اختلاف تضاد.
        طيب.. دعونا نطبق.
        ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، لُفَّت.
        ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، ذهب ضوؤها واضمحلت، وانطفأت.
        ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، ألقيت في النار.
        هذه ثلاثة أقوال، هل هي متضادة؟ لا.
        ستلاحظون أن كل واحد من السلف قد أشار إلى شيء من هذا المعنى الذي يحصل للشمس يوم القيامة. فهي أولًا تُلف، فإذا لفَّت ذهب ضوؤها.
        ثم يأتي موضوع آخر قد يكون في الآية دليل عليه، وقد يكون مأخوذًا من شيء آخر، وهذا لا بد أن نفهمه في تفسير السلف، فإنهم قد يفسرون الآية بمعنى ليس من لفظ الآية؛ وإنما مما جاء في السنة أو جاء في آيات أخرى.
        فقولهم: أُلقيتْ في النار، يقولون: لأن الشيء إذا كُوِّر، فتكوَّر؛ تدحرج، فتذهب إلى النار، ولأنه ورد في السنة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الشمس والقمر ثوران مُكَوَّران في النار».
        إذن: هذه الأقوال الثلاثة هي الأقوال المذكورة في قوله: ﴿ كُوِّرَتْ ، وليس بينها تضاد نعم، وإن كانت مختلفة فهذا الاختلاف من باب اختلاف التنوع.
        وهكذا ينبغي -يا إخواني- أن نفهم أقوال السلف، فغالب خلافهم ليس كخلاف في الأحكام، غالب خلافهم في الأحكام هو اختلاف تضاد، هذا يقول: واجب. وهذا يقول: محرم. وهذا يقول: سُنة. وهذا يقول: مكروه، أما في التفسير فالغالب هو اختلاف التنوُّع وقليل منه ما يكون من اختلاف التضاد، وسيتبين لنا ذلك بأمثلة كثيرة جدًّا.
        وهذه الحقيقة أنا أؤكد عليها ليَفهمها -أيضًا- إخواني المشاهدون، ويعلموا أن ما يقرؤونه من كلام السلف في التفسير ليس هو متضاربًا، لكن عليك أيها القارئ أن تفهم المعنى من خلال أقوالهم، وتحيط بكل دلالات هذا المعنى من خلال ما يذكر السلف من الأقوال، فهي تعينك على مزيد من الفهم، وليست تشتتك أو تصرفك عن معنى الآية.
        قال الله -عز وجل-: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ، ما معنى: ﴿ انكَدَرَتْ ، طبعًا بعد ما انتهى من الشمس انتقل إلى ماذا؟ للنجوم، لأنها من أجلّ الآيات وأظهرها، فهي آيات عظيمة قد ملأت عنان السماء، يراها الناس ويرون أفقها البعيد وكثرتها، ماذا سيحصل لهذه النجوم؟ سيحدث لها شيء مهول. ما هو؟ الانكدار أو الكدرة.
        اختلف السلف في: ﴿ انكَدَرَتْ على قولين، ستلاحظون تطبيقًا آخر لنفس القاعدة.
        ﴿ انكَدَرَتْ بمعنى ماذا؟ إما أن تكون بمعنى ماذا؟
        {انطفأ ضوؤها}.
        انطفأ ضوؤها، إذن: ﴿ انكَدَرَتْ بمعنى: انطفأت، أحسنت.
        وإما أن تكون بمعنى: تساقطت.
        طيب.. دعونا ننظر يا إخواني إلى هذين المعنيين:
        ﴿ انكَدَرَتْ بمعنى تساقطت، طيب.. إذا تساقطت انطفأ ضوؤها، فكأن هذا من لازمها، علمًا بأننا في كلمة ﴿ انكَدَرَتْ نجد أنهم اختلفوا فيها بناءً على التصريف، هل أصلها من الانكدار أو من الكدرة؟
        فإن كانت من الانكدار، فهي بمعنى السقوط، وإن كانت من الكدرة، فهي بمعنى الانطفاء والظلمة، وهذا ما سيحصل للنجوم يوم القيامة، فإنها ستتساقط وينطفئ ضوؤها، هذه الثانية.
        الثالثة: ﴿ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ، يذكر أشياء موجودة أمام الناس جميعًا، في أوروبا، وفي السعودية، وفي شرق الأرض، وفي غربها، وفي كل مكان، وهي أمور ظاهرة، الشمس، النجوم، الجبال.
        قال: ﴿ وَإِذَا الْجِبَالُ ، هذه الجبال الضخمة الراسية التي لا نستطيع أن نشقها إلا بشق الأنفس في يوم القيامة تُسَـيَّـر.
        وقد بيَّنا في سورة عمَّ أن الله قال هناك ماذا؟ ﴿ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [النبأ: 20].
        وذلك أن الجبال في يوم القيامة تُدك، وتصبح كثيبًا مهيلًا، ثم تكون بعد ذلك كالعهن المنفوش، ثم تُسيَّر ﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88]، ثم تكون بعد ذلك كما قال -عز وجل-: ﴿ وَيسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ﴿105 فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ﴿106 لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا ولَا أَمْتًا [طه 105-107].
        فإن قلت: كيف نجد مرة وصف الجبال كذا، ووصف الجبال كذا في يوم القيامة؟
        نقول: هذا ذكر لمراحل هذه الجبال يختلف باختلاف الآيات، وليس بين هذه المراحل تعارض.
        قال: ﴿ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ، ما العِشار؟
        {الجمال التي كبرت في حملها}.
        نعم، الجمال، هي النوق التي بلغت الشهر العاشر فينتظر نتاجها، وذلك لأنها تعتبر في هذه اللحظة من أنفس أموال العرب، فالرجل ينتظر الآن أنها تنتج مثلها.
        هذه العشار في ذلك الوقت، العربي عادة أو مَن يرعى بهيمة الأنعام تجده يترقب ساعة ولادتها وينتبه لها، بل إنه أحيانًا يقدمها على أهل بيته من شدة محبته ورعايته لها، في ذلك اليوم يذهل صاحب العشار عنها ولا يلتفت إليها من شدة الهول الذي يصيب الناس في ذلك اليوم.
        قال: ﴿ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ، لم يلتفت إليها أصحابها.
        ﴿ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ، ما الوحوش؟
        الوحوش هي الحيوانات المفترسة، أو نقول: الحيوانات المتوحشة التي لا تأنس بالناس، لأن الحيوانات نوعان: مستأنس، ومتوحش، فالمستأنس: هو الذي يأنس بالناس ويعيش معهم، مثل الدجاج، ومثلًا البط، والغنم، والبقر، وغير ذلك، والمتوحش: هو الذي يفر من الناس ويستوحش منهم.
        هذه الحيوانات المتوحشة تحشر -أي تجمع- فتلتقي، وتلتقي حتى مع الناس؛ لأنه من شدة الهول الكل مذهول من بشر وغير البشر، حتى من الحيوانات.
        ﴿ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ؛ أي جُمعت، فأنت تمشي يوم القيامة من شدة الهول، ومن عظم الصدمة، ومن الصاخة والطامة، والأسد بجوارك، والنمر بجوارك، والحمار الوحشي بجوارك، ما تلتفت إلى شيء من ذلك.
        قال الله -عز وجل-: ﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ، هذا أيضًا مشهد من مشاهد يوم القيامة، وهو مشهد البحار.
        البحار ماذا سيحصل لها؟
        هذه البحار التي أخذت من الكرة الأرضية أكثر من الثلثين، أكثر من سبعين بالمئة من مساحة الكرة الأرضية هي بحار، هذه البحار -يا إخواني- في يوم القيامة تُسجر.
        ما معنى تُسجر؟ اختلف السلف فيها على أقوال:
        منهم مَن قال: إنها بمعنى﴿ سُجِّرَتْ بمعنى امتلأت.
        وقيل: ﴿ سُجِّرَتْ بمعنى فاضت.
        وقيل: ﴿ سُجِّرَتْ بمعنى احترقت والتهبت، واضطرمت نارًا.
        وقيل: بمعنى يبست.
        وأقرب هذه المعاني إلى المعنى الغوي الدقيق: أن ﴿ سُجِّرَتْ بمعنى ماذا؟ التهبت واضطرمت نارًا. هذا هو أقربها.
        لكن كل واحد من السلف أشار إلى شيء من المعنى، سواء من المدلول اللغوي، أو من الأحاديث الواردة فيما سيحصل للبحار يوم القيامة.
        ماذا سيحصل للبحار؟ الذي يظهر -والله أعلم- من مجموع كلامهم أن البحار ستمتلئ، فإذا امتلأت فاضت، والتقى بعضها مع بعض، ثم اضطرمت نارًا، ثم يبست.
        هذا البحر العظيم الذي نراه أمامنا مليئًا بالماء يحترق؟
        نعم يحترق، لماذا يحترق؟ لأن الله يريد أن يبين لنا -يا إخواني- أن هذا الكون على هذا النظام سيتغيَّر تمامًا، وأن الذي يُغيره هو الذي أوجده أول مرة، وأنه قادر على كل شيء، وأن كل شيء بيده.
        الشمس الآن أنت تراها مُضيئة، وتقوم بهذا الدور الهائل في هذه الحياة سيأتي عليها يوم تلف ويذهب ضوؤها ثم تُرمى في النار.
        هذه الجبال التي إذا أردنا أن نشق فيها طريقًا جلسنا سنة وسنتين وثلاثًا، سيأتي يوم تُدك فتصبح كثيبًا مهيلًا، وكالعهن المنفوش، ثم تراها تسير أمام عينيك تمر مرَّ السحاب، سبحان الله، إذن الأشياء كلها ستتغير؟ نعم، وهذا نموذج لما سيتغيَّر، هذا البحر الذي أمامك مليء بالماء لا تكاد تشعل فيه شعلة من نار سيكون محلًّا للنار، بضد ما هو عليه الآن، ثم إذا أوقدت فيه النار تبخر في مكانه، وبقيت هذه البحار عبارة عن ماذا؟ عن أماكنَ يابسة.
        بصنع مَن؟ بفعل مَن؟ بقدرة مَن؟
        بقُدرة الله الذي بيده كل شيء؛ ليُبين لك الله أن هذه الحياة قد انتهت بكل ما فيها، وستبدأ حياة أخرى مختلفة عنها تمامًا.
        ستلاحظون -يا إخواني- أننا بعد الآية السادسة يختلف الأمر، وهذا ما أشار إليه أُبي بن كعب -رضي الله تعالى عنه- فإنه بيَّن -رضي الله تعالى عنه- أن هذه الآيات، أو هذه المشاهد منقسمة إلى قسمين:
        - قسم قبل فناء العالم.
        - وقسم بعد بعث العالم.
        فالذي قبل فناء العالم هو قوله: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ، ستة أشياء.
        والتي بعد فناء العالم، يعني بعد بعث العالم هي قوله: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ.
        فستة قبل فناء العالم، وستة بعد بعث العالم.
        فإن قلت: من أين أخذ أُبي بن كعب هذا؟ ومن أين جاء به؟
        نقول: هذا شيء غيبي، لعلَّ أبيًّا إنما قال به؛ لأنه تلقاه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الصحابة في العادة لا يتكلمون في الغيبيات إلا بما تلقوه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم إن هذا هو الذي يظهر، لأن تسعير النار، وإزلاف الجنة، وتوزيع الصحف، هذا لا يكون إلا بعد البعث.
        فالذي يظهر -والله أعلم-: أن أبيَّ بن كعبٍ إنما تلقَّى ذلك من رسول الله، فلمثل هذا حكم الرفع -والعلم عند الله.
        طيب.. ما الآيات الستة الباقية؟
        قال: ﴿ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ، يعني إذا جُمع الناس يوم القيامة ستزوَّج النفوس. ما معنى تزويجها؟ نعم رياض.
        {الاجتماع}.
        اجتماعها، جُمعت، لكن ما المقصود بالنفوس هنا؟ عبد الملك.
        {الأرواح تعود إلى أجسادها}.
        هذا قول من أقوال المفسرين، أن النفوس بمعنى الأرواح تعود إلى أجسادها فيحيا الناس بعد موتهم.
        والقول الثاني: أن المقصود بها: كل جماعة من الناس كانوا مجتمعين على مذهب أو دين يلتقون، كما قال الله في سورة الصافات: ﴿ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴿22 مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات 22، 23]، لاحظتم..
        وهذا هو الأصوب -والعلم عند الله- وهو: أن كل جماعة من الناس على دينٍ أو عقيدةٍ أو نحوها يلتقون مع بعضهم، أهل الإيمان، أهل النفاق، اليهود، النصارى، المجوس، البوذيون، كل ناس يلتفون مع جماعتهم.
        وهذا يؤكد عليَّ وعليك وعلى كل واحد أن تكون دائمًا مع أهل الإيمان، مع أهل التقوى، حتى إذا جاء يوم القيامة توضع مع مَن كنت معهم في الدنيا، فتُقرن نفس المؤمن بنفوس المؤمنين، ونفس الكافر بنفوس الكافرين، ونفس المنافق بنفوس المنافقين، وهكذا.
        {ألا يدل ذلك قوله تعالى في سورة الإسراء: ﴿ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء: 71]؟}.
        بلى، ﴿ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا [الجاثية: 28]، فهذه كلها تدل على أن الأمم في يوم القيامة، أو أن الناس في يوم القيامة يكونون جماعات، كل إنسان يُقرن مع جماعة، أو يُزوَّج بالجماعة التي كان معها في الدنيا.
        قال الله -عز وجل-: ﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ، سؤال الموءودة يكون بعد البعث وليس قبل.
        وما الموءودة؟ الموءودة مَن هي؟
        البنت التي دُفنت وهي حيَّة، وهذا كان يفعله بعض العرب، بعض قبائل العرب، خلافًا لمن يقول: إن العرب كانوا يئدون بناتهم في الجاهلية. هذا غير صحيح؛ وإنما بعض قبائل العرب كان عندها هذا المذهب -وهو وأد البنات- لشيئين:
        - منهم من يأد خشية الفقر.
        - ومنهم مَن يأد خشية العار.
        وهذا الوأد ليس خاصًّا بهم؛ بل هو موجود إلى اليوم، فعمليات الإجهاض المنظمة في العالم، والتي تسعى الآن مؤتمرات المرأة العالمية لإقرارها وللضغط على الدول الإسلامية في تقنينها هي عمليات وأدٍ محرمة.
        يقال: دعوا الفتاة تفعل ما تشاء، تسرح، وتمرح، وتصادق، ويفترشها مَن يفترشها من الرجال، فإذا حملت يُخرج هذا الطفل، سواء كان في شهره الأول، أو في شهره السابع أو الثامن، حتى لا ترتبط بأطفال لا يُعرف آباؤهم.
        فهناك عمليات منظمة وضخمة جدًّا للوأد.
        إذن: الوأد العربي على ظلمه وعلى ما فيه من البغي والعدوان أهون من الوأد الجاهلي المعاصر. لماذا؟
        لأن هذا نتاج للعار، نتاج للخروج عن الفطرة، وأما ذاك خوف من العار، يعني أولئك كانوا يخافون من العار، أو يخافون من الفقر، طبعًا نحن لسنا هنا نُبرر لما يفعلون، كل ما فعلوه محرم وظلم، لكن الذي يفعله المعاصرون أسوأ من الذي فعله الأولون.
        قال الله -عز وجل-: ﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ، سؤال: في هذا الموقف، الأولى أن يُسأل الموءودة أو الوائد؟ من الذي يُسأل؟ الأولى أن يُسأل الوائد الظالم؟ أو الموءودة المظلومة؟
        الوائد. طيب لماذا تُسأل الموءودة؟
        تنبهوا -يا إخواني- تُسأل الموءودة:
        أولًا: لبيان هول ذلك اليوم، وأن كل أحد يُسأل، حتى الأنبياء يُسألون: ﴿ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ [الأحزاب: 8]، حتى الصادق يُسأل عن صدقه، فكيف بالكاذب؟!
        فهو لبيان هول ذلك اليوم.
        وثانيًا: لتبكيت ذلك الوائد، لأنه إذا عرف أن الموءودة سُئلت؛ فهو سيعلم أنه سيتعرض لمسألة أشد، قال: ﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ، وفي قراءة ﴿ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلْتِ﴾.
        ﴿ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ، صحف الأعمال تُنشر ذلك اليوم ﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 14].
        فهي في ذلك اليوم تُنشر، ويطلع كل إنسان على ما عمل من قليل أو كثير، من صغير أو كبير، فالمجرمون يقولون في ذلك اليوم: ﴿ مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً ولَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ولَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49].
        قال الله -عز وجل-: ﴿ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ، هذه السماء تكشط كما يكشط الجلد، يعني تُنزع وتُزال كما يزول الجلد.
        كما قال الله -عز وجل-:﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: 104]، وهذه السماء تتعرض لعمليات أيضًا متعددة، في سورة عمَّ مرَّ بنا أنها ماذا؟ تُفتَّح. قال: ﴿ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا [النبأ: 19]، وفي قراءة ﴿ وفتحت السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا .
        وفي هذه السورة قال: ﴿ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ؛ أي أزيلت كما يُزال جلد الذبيحة.
        قال: ﴿ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ، كأنه ماذا؟ يتنقل من مرحلة إلى مرحلة إلى أن يصل إلى المراحل النهائية، وهي إما الجحيم وإما الجنة.
        طيب.. ﴿ سُعِّرَتْ أي وُقدَت وألهبت.
        طيب.. أليست مسعرة قبل؟ نعم هي كانت تستعر، لكن إذا أُريد أن تُقدَّم لأصحابها وتُفتَح لأهلها فإنه يُزاد في تسعيرها وإيقادها وإلهابها.
        قال الله -عز وجل-: ﴿ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ، ما معنى الجنة أزلفت؟ قُرِّبت وأُدنيت إكرامًا لأهلها، فأهلها لا يُقال لهم: انظروا إلى الجنة إنها تبعد عنكم مثلًا ألف أو ألفي كيلو مترًا، اذهبوا إليها، لو قيل لأهل الجنة ذلك سيذهبون؟ سيذهبون، لأنهم سيعلمون أنه سيدخلون دارًا لا يمكن أن توصف بما فيها من اللذة والنعمة.
        ومع ذلك ربنا -سبحانه وتعالى- يُكرمهم، ويدني الجنة إليهم، حتى تنفتح أبوابها بين أيديهم.
        قال: ﴿ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ، طيب.. ما هو الجواب لـ "إذا" في هذه المواطن الاثني عشر؟ ما هو الجواب؟
        قال: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ، يعني أي نفس ستعلم علم يقين ماذا معها من العمل، وماذا قدمت لهذا اليوم إذا حصلت هذه الأهوال.
        فإن قلت: أليس الإنسان يعلم قبل ذلك؟
        قلنا: نعم، ولكن غالب الناس لا يصحو إلا عندما تقع الواقعة.
        الآن يا شيخ هذه بداية الدراسة، أليس كذلك؟ ومع ذلك نحن نعلم أنه بعد أربعة أشهر سيكون عندنا اختبارات، أليس كذلك؟
        متى ترتجف قلوبنا من الاختبارات؟ ومتى ننظر إلى ما خلَّفنا أو إلى ما تقدَّم من الفصل الدراسي؟ هل كنا مجتهدين؟ هل كنا عاملين؟ أو كنا مقصرين؟ متى نرى ذلك رؤية حقيقية؟ في ليلة الامتحان تجد الإنسان يضرب بيده على الطاولة، ويقول: ليت الفصل يبدأ من أوله لأعمل عملًا غير الذي عملت، ألست تعلم أن الاختبار سيكون في هذا اليوم؟ نعم. ولكنك كنت تقصر، وتسوف، وتحاول أن تتعامى عن ذلك اليوم.
        متى تعلم علم يقين أن الذي قدمته شيء جيد أو شيء رديء؟ إذا وقعت الواقعة، وهكذا كل الناس سيعلمون ماذا قدموا عندما تقع الواقعة، عندما تُكوَّر الشمس، تنكدر النجوم، تُسيَّر الجبال، تُنشر الصحف، تُسعَّر النار، تُزلَف الجنة.
        وقوله: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ ، "نفس" نكرة في سياق الإثبات، والعادة أن النكرة في سياق الإثبات لا تدل على العموم.
        لما تقول: جاء رجل، هذا لا يدل على العموم، لكن سياق الآية يدل على العموم؛ وإلا فالأصل أن النكرة إنما تدل على العموم في سياق ماذا؟ في سياق النفي أو الاستفهام، أو الشرط، أو غيرها من الأشياء التي ذكرها أهل اللغة.
        بعد أن انتهى من هذه المشاهد وبيَّن هول يوم القيامة، ماذا يحصل للشمس، وماذا يحصل للنجوم، ماذا يحصل للجبال، ماذا يحصل للسماء، ماذا يحصل للصحف، ماذا يحصل للموءودة، لما ذُكر ذلك كله أراد أن يبين لنا مَن الذي جاء بها، وهل هذا حق يمكن التصديق به؟ هل هذه المعلومات الغيبية التي ستحدث في آخر العالم هل هي حق؟ بدأ يُثبت لنا أنها حق، ولا يمكن أن يمتري فيها أحد.
        فقال: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِي الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، أقسم بكم؟ أقسم بالخنس، الجواري الكنس، والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس، ثلاثة أقسام. على ماذا؟ على أن هذا القول من عند الله -عز وجل-.
        طيب.. دعونا ننظر للقسم.
        قال: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ ، قوله: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ يا إخواني، هل هو نفي للقسم أو إثبات له؟
        {أسلوب من أساليب العرب في القسم}.
        أحسنت، "لا" تأتي عند العرب ويُراد بها التأكيد، مثل قول الله -عز وجل-: ﴿ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف: 12]، أصل الكلام: ﴿ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ أي: أن تسجد إذ أمرتك.
        كذلك في آخر سورة الحديد: ﴿ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ [الحديد: 29]، المعنى: ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله، فـ "لا" تُزاد للتأكيد.
        فمعنى: ﴿ لَا أُقْسِمُ يعني: أؤكد القسم، وعلى هذا جرى عامة السلف، وأنا من خلال تتبعي اليسير لم أجد من السلف مَن قال بخلاف هذا، وأما مَن جاء بعدهم من المفسرين فإن من المفسرين المتأخرين مَن قال: "لا" هنا نافية.
        طيب نافية لأي شيء؟ اختلفوا.
        فمنهم مَن قال: نافية للقسم؛ لأن الأمر لا يحتاج إلى قسم يقولون.
        ومنهم مَن قال: نافية لكلام متقدم أو مقدر، ثم جاء القسم.
        يعني: لا، ليس الأمر كما تزعمون، أقسم بالخنس.
        والذي يظهر -والله أعلم- وعليه جمهور السلف أو علي عامة السلف -حتى لا أكاد أجد منهم مَن خالف: أن أسلوب "لا أقسم" بمعنى: أقسم، بدليل، أحد يعرف دليلًا من القرآن على هذا؟
        بدليل قوله -عز وجل-: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴿75 وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة 75، 76]، فبيَّن أن هذا قسم وليس نفيًا للقسم.
        قال الله -عز وجل-: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِي الْكُنَّسِ ، الخنَّس، والجواري، والكنَّس، هذه صفات لموصوف، والعادة أنه إذا جاءت صفة لموصوف لم يُذكر، يقع الخلاف ما هو هذا الموصوف؟ وهذا من أسباب الخلاف السائغة.
        مثل قول الله -عز وجل-: ﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور: 26]، هذه صفة لموصوف لم يُذكر، ومثله -بالأمس درسنا أو الدرس الماضي- لما قلنا: ﴿ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا [النازعات: 1]، هذه صفة، لم يقل: "والملائكة النازعات". ولم يقل: "والرياح النازعات"، فلما لم يذكر الموصوف يقع الخلاف بين المفسرين، لأن هذه الصفة تصلح لهذا الموصوف، ولهذا الموصوف، ولهذا الموصوف.
        فاختلف السلف في الخنَّس على قولين مشهورين:
        القول الأول: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ، هي بقر الوحش، بقر الوحش أو الظباء تتميز بأنها تختفي عن الأعين، خُنَّس، معنى خنَّس أي مختفية، خَنَسَ الشيء؛ أي اختفى.
        الجواري: تجري للبحث عن رزقها، أو للهرب من عدوها.
        الكُنَّس: التي تأوي إلى خِناسها وهو بيتها التي تذهب إليه وتأوي إليه.
        واضح؟ إذن: هذا الوصف صالح لبقر الوحش، لأنه فيها هذه الصفات الثلاث.
        طيب.. قال بعض العلماء: الخنس، الجواري، الكنس، هي النجوم، لن هذا الوصف ينطبق عليها.
        طيب.. كيف يكون؟
        الخنس: النجوم مختفية لا نراها.
        الجواري: هي تجري في هذا الكون.
        الكنَّس: عندما يأتي النهار تأوي إلى كِنَاسها، أي إلى بيوتها، تشبيها لها بحال من يأوي إلى بيته؛ لأنها تغيب عن أنظارنا.
        فإذن قيل: هل هذا الخلاف من اختلاف التضاد أم اختلاف تنوع؟ ماذا نقول؟ ماذا نقول -يا إخواني؟ عبد الملك، هل هذا اختلاف تنوع أو اختلاف تضاد؟ تفضل يا رياض.
        {هذا من اختلاف التنوع، لأنه يمكن أن ينطبق على النجوم، ويمكن أن ينطبق على بقر الوحش}.
        لأنه قسم من الله -عز وجل- والقسم يصح بهذا، ويصح بهذا، ولا إشكال في ذلك، سواءً أقسم الله ببقر الوحش، فهذه الصفات منطبقة عليه، أو أقسم بالنجوم، فهذه الصفات منطبقة عليها، والقسم يتحقق بهذا وبهذا، فكلها من آيات الله ومخلوقاته. واضح؟
        لذلك نقول: هذا اختلاف تنوع، سواء حملناها على هذا، أو حملناها على هذا؛ لأن المعنى لا يتغيَّر، المعنى والمراد لا يتغيَّر.
        طيب.. أيهما أولى؟ الأولى فيما يظهر: أن المراد بـالخنس الجواري الكنس أنها النجوم، لأسباب. ما الأسباب؟ نعم يا شيخ.
        {ذكر﴿ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ، فهناك مناسبة}.
        جميل، لأنه قد ذُكر حالها، لكن ممكن يعترض عليك أحد، يقول: ﴿ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ، ﴿ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ .
        لكن ممكن نقول: أولًا: لأنه كثُرَ في القرآن القسم بها: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم: 1]، ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴿1 وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ﴿2 وَالنهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ﴿3 وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [الشمس 1-4]، فالقسم بالنجوم وما يتصل بها كثير في القرآن. هذا واحد.
        اثنين: لأنها ظاهر بارزة للأعيان، يدركها العربي، والهندي، والأعجمي، ومن في شمال الكرة الأرضية، ومَن في جنوب الكرة الأرضية، كلهم يدركونها على حدٍّ سواء، بخلاف البقر الوحشي، لا يراها على هذه الصفة إلا مَن يعيشون قريبًا من الغابات، أو يعيشون في أماكنَ فيها مثل هذا النوع من الحيوانات.
        طيب.. ثالثًا: لأنه ذُكر بعدها ما هو متصل بها -أي بالنجوم- وهو قوله: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ، والليل والصبح هما مكان جريان وكنوس وخنوس هذه النجوم، فلا أن يُقسَم بها أولى من أن يُقسَم بغيرها، ومع ذلك نعود مرة أخرى ونقول: الأمر فيه شيء من السعة.
        طيب.. ثم قال: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ، أقسم الله بالليل في حالة العسعسة.
        عسعس: فعل، وهو من الأفعال المشتركة المتضادة التي تدل على المعنى وضده؛ لأن في العربية كلمة تكون للمعنى ولضده، مثل كلمة جليل، تأتي للمعنى الكبير، وللمعنى الصغير، للشيء الكبير وللشيء الصغير
        ومثل: وراء، تأتي بمعنى أمام، وتأتي بمعنى خلف، ﴿ وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف: 79]، وراءهم أي أمامهم. أو وراءهم أي خلفهم، فهذا يسمى من المتضاد.
        كذلك "عسعس" تأتي في اللغة بمعنى أقبل، وتأتي في اللغة بمعنى أدبر.
        طيب.. أيهما أقسم الله به، إقبال الليل أم إدبار الليل؟
        نقول: هما قولان للمفسرين:
        - منهم من قال: بإقبال الليل.
        - ومنهم من قال: بإدباره.
        وهو من اختلاف التنوع، ونحن عندنا قاعدة -أتمنى منكم ومن إخواننا المشاهدين أن يفهموها جيدًا: كل كلمة مشتركة تصلح لأكثر من معنى يجوز حملها على معانيها إذا أمكن ذلك.
        ما دام ممكنًا أن نحمله على معانيها، أما إذا لم يمكن ذلك؛ فإننا لا نحملها إلا على معنًى واحد.
        مثال ما لا يمكن: القرء، قال: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228]، القرء: يُطلق على الحيض وعلى الطهر، هنا ما نقول: ﴿ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ يعني ثلاث أحياض وأطهار، لا يمكن، إما هذا، وإما هذا، فلما لم يُمكن؛ وجب أن نحمله على معنى واحد.
        فتجد من العلماء مَن يحمله على هذا، ومِن العلماء من يحمله على هذا.
        أماما سوى ذلك مما يُمكن حمل الآية فيه على معانيه، أو الكلمة فيها على معانيها المتعددة التي جاءت في اللغة، فلا بأس ما دام السياق والآية تحتمل ذلك، مثل قول الله -عز وجل-: ﴿ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ [المدثر: 51]، ﴿ قَسْوَرَةٍ تُطلق على الصائد، و﴿ قَسْوَرَةٍ تطلق على الأسد.
        فنقول: فرَّت من الأسد، وفرَّت من الصائد، ولا بأس بذلك.
        قال: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ، والليل إذا أقبل، والليل إذا أدبر.
        فإن قيل: أيهما أولى؟ قلنا: الإقسام باعتبار الليل أولى، لماذا؟ لأنه في الصبح أو في النهار أقسم بماذا؟ بإقبال النهار وتنفسه، فالأولى أن يُقسم بإقبال الليل، ولأن القسم بإقبال الليل كثير في القرآن.
        قال: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل: 1]، ﴿ وَالضُّحَى ﴿1 وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى 1، 2].
        فحمل الآية على ما تكرر في القرآن أولى؛ لأن مراعاة عادات القرآن مقدَّم على ترك ذلك.
        قال الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّهُ ، هذا جواب القسم.
        ﴿ إِنَّهُ أي القرآن، وهذا يعطينا قاعدة أيضًا في التفسير، وهي: أن كل ضمير لا يعود إلى مذكور قريب؛ فالغالب أنه يراد به القرآن.
        خذ مثلًا: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1]، ما هو؟ ما تقدمه شيء، ما هو الذي أنزلناه في ليلة القدر، لم يعد الضمير على مذكور، إذن: فليكن القرآن.
        وهنا: ﴿ إِنَّهُ ؛ أي القرآن، ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، من هو الرسول هنا؟ هو جبريل.
        من أين أخذنا أنه جبريل؟ من الأوصاف. لأنه قال بعدها: ﴿ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ -أي هناك- ﴿ أَمِينٍ ، ثم قال: ﴿ وَمَا صَاحِبُكُم بمَجْنُونٍ .
        أما في سورة الحاقة قال: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ [الحاقة 38-42]، فإن المراد به في سورة الحاقة هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكلاهما رسول، جبريل مرسل من عند الله إلى محمد، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- مرسل إلى البشر، فكلاهما رسول.
        وهنا يأتي سؤال مهم جدًا -وإن كان الوقت يزاحمنا: كيف يكون القرآن قولًا لجبريل، أو قولًا لمحمد؟
        نقول: القول يُنسب إلى مَن تكلم به، وينسب إلى من نقله، خصوصًا إذا وصف الذي نقله بأنه رسول، يعني يحمل رسالة، إذن هذا القول ليس من قوله، إنما من قول مَن أرسله.
        قال: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ؛ أي ذي منزلة عالية ومكانة رفيعة.
        ﴿ ذِي قُوَّةٍ ، صاحب قوة، قوة معنوية، وقوة مادية، وقد رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- على صفته التي خلقه الله عليها سادًّا الأفق، عنده ستمائة جناح.
        قال الله -عز وجل-: ﴿ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ ؛ أي عند الله صاحب العرش، ﴿ مَكِينٍ ؛ أي ذي مكانة عالية.
        ﴿ مُطَاعٍ ؛ أي يطيعه أهل السماء.
        ﴿ ثَمَّ ؛ أي هناك، مطاع في السماء.
        ﴿ أَمِينٍ ، لا يخون، ولا يغيِّر، ولا يبدل ما أعطي من الرسالة.
        إذن فاطمئنوا إلى أن هذا قد جاءكم من عند الله صافيًا لم يُشَب.
        قال الله -عز وجل-: ﴿ وَمَا صَاحِبُكُم بمَجْنُونٍ ، هذا طرف الإسناد الثاني، طرفه الأول عند جبريل، وطرفه الثاني عند مَن؟ عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكلاهما محل الأمانة والقوة والصدق والديانة.
        ﴿ وَمَا صَاحِبُكُم وصفه بأنه صاحبهم لماذا؟ ليُبيِّن أنهم هم أعرف الناس به، هذا صاحبكم الذي كنتم في الجاهلية تصفونه بأنه الصادق الأمين، يعني ليس إنسانًا أجنبيًّا عنكم لم تعرفوه من قبل إلا بعد أن ادَّعى النبوة، بل كنتم تعرفونه بكل خلق حسن وخصلة فاضلة.
        ﴿ وَمَا صَاحِبُكُم ، ما قال: وما محمد بمجنون، لا، قال: ﴿ وَمَا صَاحِبُكُم ، أنتم أدرى الناس به.
        ﴿ بمَجْنُونٍ ؛ أي ليس كما تزعمون بأنه قد أصابه شيء من الجنون؛ لأن مثل هذا الكلام لا يأتي به مجنون.
        قال الله -عز وجل-: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ، هنا جاء إلى اتصال السند، يعني ممكن محمد أمين وجبريل أمين، طيب كيف التقوا؟ كيف تلقى محمد عن جبريل؟
        قال: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ، رأى محمد جبريل بالأفق المبين عندما نزل عليه بالوحي.
        والأفق: هو نقطة التقاء السماء بالأرض، نقطة التقاء السماء بالأرض تسمى أفقًا، فرآه أمامه في الأفق سادًّا الأفق، ما يرى ولا يُبصر شيئًا غير جبريل -عليه الصلاة والسلام-، ولذلك أصابه الرعب منه، ونزل إلى أُمنا خديجة -رضي الله عنها- يقول: «زملوني زملوني، دثروني دثروني».
        قال الله -عز وجل-: ﴿ وَمَا هُوَ أي محمد -صلى الله عليه وسلم- ﴿ عَلَى الْغَيْبِ ؛ أي على الوحي الذي أوحي إليه، ﴿ بِضَنِينٍ ، ضنين هذه تقرأ بوجهين:
        ضنين "بالضاد"، وظنين "بالظاء"، وهاتان القراءتان مختلفتا المعنى، لكنهما يَزيدان المعنى ولا يتضادان.
        فمعنى﴿ بِضَنِينٍ : أي ببخيل.
        ومعنى﴿ بِظَنِينٍ : أي بمتهم.
        فليس هو ببخيل عن الوحي، وليس متهمًا على الوحي.
        ليس متهمًا في أن يزيد أو ينقص، وليس بخيلًا إذا جاءه هذا الوحي لا يعطيكم إياه ولا يمنحكم شيئًا منهم.
        قال الله -عز وجل-: ﴿ وَمَا هُوَ -أي القرآن- ﴿ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ، فإن الشياطين لا تأتي بالخير، ولا تأتي بلا رحمة، ولا تأتي بالفضل.
        قال: ﴿ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ، ما الذي يمنعكم من الإيمان ما دام القرآن بهذه الصفة، وقد جاء به هذا الأمين، ونقله إلى هذا الأمين، أمين السماء إلى أمين الأرض، وبهذا الاتصال التام بينهما، وبهذا الاكتمال أيضًا في موضوع القرآن وألفاظه، ما حجتكم في تكذيبه؟
        لا حجة لكم، قال الله -عز وجل-: ﴿ إِنْ هُوَ ، "إن" تأتي في القرآن كثيرًا بمعنى "ما".
        ﴿ إِنْ هُوَ -أي القرآن- ﴿إِلَّا ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ ، وقوله: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ ، العالمين هنا المقصود بهم: الإنس والجن.
        قال: ﴿ لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ، هذا فيه إثبات المشيئة للعباد، وأنهم يختارون الإيمان والكفر، وأن الله -عز وجل- قد جعل لهم الاختيار في الطريقين، ويذهب الواحد منا فيصلي أو يؤمن وهو يشعر بأنه مختار لذلك، كما أن الكافر يكفر وهو يشعر أنه مختار لذلك.
        لكن هذه المشيئة فوقها مشيئة إلهية ليس لنا بها علم ولا اطلاع، الله وحده هو المطلع عليها والعالِـم بها.
        ولذلك قال: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؛ أي لا مشيئة تنفذ في هذا الكون إلا بعد مشيئة الله.
        العالمين هنا في الآية الثانية بمعنى: رب كل شيء.
        العالم: كل من سوى الله.
        وهنا في قوله: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ ؛ أي الثقلين الإنس والجن، وهذا يبيِّن لنا أن الكلمة قد ترد في القرآن فتفسر بحسب السياق.
        والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وإلى لقاء في درس قادم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
        التعديل الأخير تم بواسطة *أمة الرحيم*; الساعة 18-03-2014, 07:27 PM.

        تعليق


        • #5
          رد: تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري



          السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
          الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
          مشاهدي الكرام، وإخواني الحضور في هذه القاعة المباركة، نحن اليوم في الدرس الخامس من دروس التفسير لجزء عم، وقد وصلنا إلى سورة الانفطار.
          هذه السورة العظيمة، التي جاءت في هذا الجزء؛ لتبين مجالًا من مجالات الاعتقاد العظيمة، وهو ما يتصل باليوم الآخر.
          لكن دعونا قبل ذلك نسأل هذه الأسئلة التي بين أيدينا، نفتتح بها السورة الكريمة.
          قبل ذلك نريد أن نبين أننا في هذا اليوم سنأخذ سورة الانفطار، ومقدمة سورة المطففين.
          تعرفون أن سور جزء عمّ، منها ما هو قصير -أي قليل الآيات- ومنها ما هو طويل، ولذلك قد نأخذ في الدرس أحيانًا سورتين، أو سورة ونصف سورة، بِحَسَبِ ما يتيسر.
          لكن في الغالب لن نزيد على صفحة واحدة؛ لأن عندنا -بحمد الله عز وجل- عشرين درسًا سنقدمها في جزء عمّ بعدد الصفحات إلا قليلًا.
          إخواني الكرام، هذه السورة وغيرها من السور، سنأخذ فيها ما يُسمى بعلوم السورة.
          علوم السورة: الحديث عن السورة عامة، اسمها، نزولها، عدد آياتها، موضوعها، مقاطعها، مناسبة أولها لآخرها، مناسبتها لما قبلها، هذا يُسمى عند العلماء علوم السورة.
          أيضًا من ضمن ذلك سبب نزولها، إن كان فيها سبب نزول، فضائلها، وهلُمَّ جرًّا.
          وهذه تُعين الإنسان على فهْم محتوى هذه السورة التي يريد أن يَقرأها، والتي يُريد أن يستفيد من عظاتها وعبرها.
          دعونا اليوم ننظر إلى سورة الانفطار، هل هي سورة مكية، أو مدنية؟
          ما رأيكم؟
          {هي سورة مكية}.
          كيف عرفت ذلك.
          {الارتباط مع السورة قبلها، والموضوع، يتكلم عن الأحوال يوم القيامة}.
          إذن: لأنها تتحدث في ضمن موضوعات وقضايا السور المكية، نحن عرفنا أنها سورة مكية، وبالفعل العلماء قالوا: هي سورة مكية بالإجماع، لم يقع فيها خلاف.
          ما اسم هذه السورة؟
          {سورة الانفطار}.
          ولا يُعرف لها اسم غير هذا، فالبخاري -رحمه الله- في صحيحه قال: «سورة إذا السماء انفطرت» بأول آية من آياتها.
          وبعضهم يقول: سورة الانفطار، وهناك من قال: سورة المنفطرة.
          وعلى كل هذا الاسم واشتقاقاته، هو الذي عُرفت به هذه السورة ولم تُعرف باسم آخر.
          هنا سؤال: ما موضوع هذه السورة؟
          هل بالإمكان لو قرأنا السورة، ونظرنا فيها أن نعرف ما موضوعها؟
          يقول الله -عز وجل-: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴿1﴾ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ﴿2﴾ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴿3﴾ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴿4﴾ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴿5﴾ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴿6﴾ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴿7﴾ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴿8﴾ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ﴿9﴾ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴿10﴾ كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴿11﴾ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴿12﴾ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴿13﴾ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴿14﴾ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ﴿15﴾ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ﴿16﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿17﴾ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿18﴾ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ ﴾ [سورة الانفطار].
          عندما قرأنا هذه السورة -في نظركم- ما موضوعها الذي تدور عليها آيات هذه السورة ومقاطعها؟
          {الذي يظهر من السورة، أنها تتحدث عن مشاهد يوم القيامة، ومشاهد حساب الإنسان}.
          جميل، أحسنت، إذن هي تتحدث عن مشاهد يوم القيامة، لكن ليس بالإطناب المذكور في سورة التكوير، وذلك لأن سورة التكوير تقدمت، فجاء فيها من المشاهد ما هو أكثر، وهنا انتقلت من جملة من المشاهد ذكرت في مقدمة السورة، إلى عتاب الإنسان، في تلك السورة، قال: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴿1﴾ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ﴿2﴾ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ...﴾ إلى آخره [التكوير: 1- 3]، ثم ختم تلك المشاهد بآية واحدة: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ﴾ [التكوير: 14].
          في هذه السورة لا، زاد في عتاب ابن آدم ومحاسبته وتبكيته على تفريطه في الاستعداد لذلك اليوم المهول، فقال الله -عز وجل-: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴿6﴾ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴿7﴾ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾.
          ثم بين أن الذي حمله على الاغترار بالدنيا، وعدم العمل للآخرة، هو كونه كذب بالدين، قال: ﴿ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾، ثم بين أنه كيف ينكر التكذيب بالدين، والله -سبحانه وتعالى- قد جعل لنا كرامًا كاتبين، يعلمون ما نفعل، لماذا هذا الإحصاء؟ ولماذا هذا التدقيق؟ ولماذا هذا الاستعداد التام؟
          إن لكم جزاءً سوف تلقونه عند ربكم -سبحانه وتعالى-.
          ولذلك بعدها جاء جزاء: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴿13﴾ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴿14﴾ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ﴿15﴾ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ﴿16﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿17﴾ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿18﴾ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ﴾.
          ويلاحظ في جو هذه السورة العظيمة أن المراد بها ذكر مشاهد يوم القيامة وتبكيت الإنسان على عدم الاستعداد لذلك اليوم، كيف أن التهديد كان أكثر حيزًا من الترغيب والوعد، يعني الوعيد أكثر.
          قال: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾، ثم قال: ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ ماذا؟ ﴿يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ﴿15﴾ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ﴿16﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿17﴾ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿18﴾ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ﴾.
          هل ورد في فضيلة هذه السورة شيء؟
          لعلكم تذكرون في سورة التكوير، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين، فليقرأ ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾ و ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴾، و﴿ إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴾»، فذكر ثلاث سور، تصور لك يوم القيامة تصويرًا بالغًا، وتبين لك مدى الهول الذي سيلقاه الناس، وستلقاه الخلائق في ذلك اليوم.
          إذن: هذا في فضيلة هذه السورة وبيان ما تتميز به عن بقية السور.
          وأيضًا ورد في فضيلتها: أن معاذ بن جبل حصلت له قصة، وهو أنه كان يطيل على الناس في صلاة العشاء، كان يصلي في قومه، فيطيل عليهم في صلاة العشاء، فحصل ذات يوم أن رجلًا من القوم لما أطال معاذ وكان يقرأ بهم سورة البقرة، كان شابًّا متحمسًا -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.. انفتل، صلى وحده، ثم ذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال له: يا رسول الله إن معاذا يأتي ويصلي معك، ثم يأتي إلينا ويصلي بنا فيطول، فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- غضبًا شديدًا، وقال لمعاذ وهو يخاطبه: «أفتان أنت يا معاذ؟ أفتان أنت يا معاذ؟» يعني أتفتن الناس في دينهم، وتبغض لهم شعائر الإسلام، ثم قال له: «اقرأ بهم بـ ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾ و ﴿ وَالضُّحَى ﴿1﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾» وفي رواية: «﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴾»، فذكر الانفطار، وهذا موجود في سنن النسائي، والحديث أصله في الصحيحين.
          ثم ما الرابط بين أول السورة وآخرها؟
          الحقيقة لفت أنظارنا سيد قطب -رحمه الله- إلى رابط عجيب جدًّا، فقال: "أولها: هولٌ وحراكٌ واضطرابٌ، وآخرها: صمتٌ ومهابةٌ وسكونٌ، وبينهما لومٌ وعتابٌ".
          فانظر، يُصور لك مشاهد ضخمة، حركة مضطربة، هول جارف في أول السورة، وفي آخرها: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿17﴾ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿18﴾ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ﴾، فهناك حركة واضطراب، وهنا سكون ومهابة، وهدوء وصمت مفزع، وبينهما: عتاب لهذا الإنسان، يُقال له: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴿6﴾ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴿7﴾ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾، إلى آخر ما هنالك من العتاب الذي يُعاتب به ابن آدم.
          ما ارتباط هذه السورة بما قبلها؟ مَن يمكن أن يحدثني عن الرابط بين هذه السورة والسورة التي قبلها؟
          {سورة التكوير كان موضوعها حول مشاهد يوم القيامة، فالرابط واضح وبيِّن؛ لأنه تتابع، موضوعات متتابعة ومتتالية ومتناسبة ومتناسقة فيما بينها، يبدو أنها طبعًا سور مكيَّة، طبعا قريش كانت تحتاج إلى مَن يُذكرهم ويرسخ الإيمان في قلوبهم بكثرة ترداد هذه المشاهد، من باب التخويف والترغيب}.
          جميل، جزاك الله خيرًا.
          إذن: في سورة التكوير حديث عن مشاهد يوم القيامة، في هذه السورة حديث عن مشاهد يوم القيامة، لكن في سورة التكوير كان الحديث عن مشاهد يوم القيامة مسهبًا طويلًا، والمشاهد كثيرة، في هذه السورة أقل، والانتقال منها إلى الغاية وهي تخويف الإنسان، عتابه، تحريك قلبه، لومه على تقصيره في حق ربه -سبحانه وتعالى-، لماذا لا تستعد لهذا اليوم؟ لماذا لا تأخذ أُهبتك من العمل الصالح؟ لماذا لا تكون من الأبرار؟ إياك أن كون من الفجار.
          طيب.. في العادة نحن لا نبحث عن ارتباط السورة بما بعدها؛ لأنه في كل سورة نحن نبحث عن ارتباط السورة بما قبلها، وبهذا تلتئم سور القرآن الكريم.
          طيب.. ننتقل بعد هذا يا إخواني إلى آيات هذه السورة الكريمة.
          يقول الله -عز وجل-: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴾، ما معنى انفطرت؟ السماء طبعًا معروفة لا يحتاج إلى أن نعرفها.
          ما معنى انفطرت؟ تفضل..
          {انفطرت: انشقت}.
          أي نعم، انفطرت: انشقت.
          الانفطار، يقول العلماء: هو أول الانشقاق، ينفطر الشيء، ثم ما يزال يزداد حتى يتضح الانشقاق، ولذلك جاء في هذه السورة ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴾، وجاء في سورة الانشقاق: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1]، وجاء في سورة التكوير: ﴿ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ﴾ [التكوير: 11].
          فالذي يظهر -والله أعلم- أن ترتيب هذه الآيات كالتالي: انفطار، فانشقاق، فكشط.
          والكشط: هو السلخ والذهاب أو الطي، كما قال الله -عز وجل-: ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ﴾ [الأنبياء: 104].
          هذا هو المشهد الأول. طيب لماذا بُدِئ بهذا المشهد؟ لأن السماء في نظرنا الآن هي أكبر المخلوقات، فنحن لا نرى من مخلوقات الله شيئًا أعظم من هذه السماء، وليس هذا حديثًا عن مخلوقات الله كلها، لكن في نظرنا نحن الآن لا نرى شيئًا أكبر من السماء التي هي قبَّة مشتملة على كل ما في هذا الكون المرئي المبصَر.
          قال الله بعدها: ﴿ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ﴾، انتقل من عالم علويٍّ إلى عالمٍ علويٍّ آخر ولكنه أدنى منه، وهو الكواكب، والمقصود بها نجوم السماء.
          قال: ﴿ انتَثَرَتْ ﴾، انتثرت بمعنى ماذا؟ تفضل يا شيخ.
          {انتثرت بمعنى: تتساقط}.
          نعم، تساقطت، وهذا ما جاء في سورة التكوير، قال: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴿1﴾ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ﴾ [التكوير 1، 2].
          قلنا "انكدرت" يمكن أن تكون بمعنى "انكدرت" : تساقطت وانتثرت، وتفسرها هذه الآية.
          وانكدرت: من الكدرة، أظلمت وانطفأت.
          وهي إذا تساقطت لا شك أنها سينتج من ذلك ويلزم منه أنها ستنطفئ.
          قال الله -عز وجل-: ﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴾، "فجرت" بمعنى: انفجر بعضها على بعض، بعض السلف عبَّر عن هذا بقوله: امتلأت، وبعضهم قال: انفجر بعضها على بعض.
          نلاحظ أن هذا يلزم من هذا، فإذا هي امتلأت انفجر بعضها على بعض، فهذه الحدود التي تحدُّ البحار في الكرة الأرضية ستتلاشى وتذهب.
          بعضهم قال: انفجرت بمعنى يبست، وهذا بعيد في اللغة، لكنه من حيث المآل صحيح؛ لأنها ستمتلئ فينفجر بعضها على بعض، ثم تسجَّر بنار عظيمة من تحتها فتيبس ولا يبقى لها وجود.
          قال الله -عز وجل-: ﴿ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴾، القبور التي هي مأوى الناس إذا ماتوا.
          ﴿ بُعْثِرَتْ ﴾ ما معناها؟
          بعثرت؛ أي أُثيرت وبُحثت، وأُخرج مَن فيها، فكل مَن في هذه القبور من الأجساد التي دخلت فيها ستخرج بهذه البعثرة.
          قال الله -عز وجل-: ﴿ عَلِمَتْ ﴾، هذا جواب "إذا"، يعني إذا السماء، وإذا الكواكب، وإذا البحار، وإذا القبور، في تلك اللحظة كل نفس تعلم ماذا معها من العمل؟ ماذا قدَّمت وماذا أخرت؟
          ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾، لعلنا نأتي إلى موطن الآية.
          ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾.
          وقوله: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ ﴾؛ أي نفس؟ نفس صالحة؟ نفس فاسدة؟ مؤمنة؟ كافرة؟ كل النفوس.
          ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾، طيب ما معنى ﴿ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾، هل المقصود ما قدمته في أول عمرها وما أخرته في آخر عمرها؟ يعني كل ذلك في حياتها، أو المقصود: علمت نفس ما قدمت في حياتها، وما أخرت بعد مماتها مما يكون من عملها؟
          لأن عمل الإنسان قسمان:
          - قسم يكون في حياة الإنسان.
          - وقسم يكون بعد موته، مثل الصدقة الجارية، والعلم الذي يُنتفع به. فهذا مما أخره الإنسان بعد موته.
          فالآية منتظمة لهذا، ومنتظمة لذاك، والمقصود منها: علم الإنسان بعمله كله، أوله وآخره، ما كان في حياته وما كان بعد موته.
          وهذه الآية نأخذ منها: أن الإنسان ينبغي كما يقدم عملًا صالحًا أن يؤخر أيضًا عملًا صالحًا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، نسأل الله -سبحانه وتعالى- بمنِّه وكرمه أن يجمعها لنا.
          قال الله -عز وجل-: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴿5﴾ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾، قوله: ﴿ الْإِنسَانُ ﴾ تحدَّثنا عنه في سورة عبس، ﴿ قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ﴾ [عبس: 17]، وأنها ترد كثيرًا في السور المكية ويُراد بها الإنسان الكافر.
          والسؤال هنا يُحدد أن المراد به الإنسان الكافر، لأن قوله: ﴿ مَا غَرَّكَ ﴾ جعلك تغتر، فتقصر في حق ربك، ولا تقوم بما هو واجب عليك من الإيمان والطاعة؛ هذا لا يليق إلا بالإنسان الكافر.
          ولذلك ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ﴾ ما الذي غرك بربك الكريم.
          قوله: ﴿ بِرَبِّكَ ﴾ لمزيد العتاب والذم لهذا الإنسان الذي اغتر بحياته وما أوتيه في الدنيا، وترك طاعة ربه والإيمان به وبآياته ورسله، وليست لإعطائه الحجة على الله -سبحانه وتعالى- كما يقول بعض المتأولين.
          فقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ﴾، الذي خلقك، ربَّاك، سوَّاك، أعطاك، أنعم عليك، حفَّك بربوبيته، أكرمك، ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70].
          هذا هو ربك الذي له النعمة الكاملة عليك، ولذلك ما قال: "ما غرك بالله" ما جاء بلفظ الألوهية، وإنما جاء بلفظ الربوبية ليُبيِّن كيف كان الرب رحيمًا، عطوفًا، كريمًا مع هذا الإنسان، لئلا يبقى له حجة على الله.
          ثم عطف عليه قوله: ﴿ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ وصفه بالكرم؛ لأنه قد أعطى ابن آدم عطاءً واسعًا وكثيرًا ومجزيًا، ولا يمكن للإنسان أن يكفر أو يُنكر هذه النعمة، ولكن الإنسان بطبعه الكفور الظلوم يجحد هذه النعم، ويستعمل ما آتاه الله من نعمه في معصيته، والعياذ بالله.
          ولذلك هذه جاءت "ربك" و"الكريم" لإقامة الحجة على الإنسان وإلجامه، كيف ربك أكرمك؟ هل قصَّر عليك؟ هل لم يُرسل لك الرسل؟ ولم يعطك الوسائل التي تتعرف بها على الحق من الباطل؟ هل هناك شيء تحتجّ به على الله؟ تقول: ما بان ليَ الحق، ما ظهر ليَ المراد، ما أرسلت ليَ الرسل، ما أنزلتَ عليَّ الكتب، ما أوضحت لي المراد، لم تجعل لي عينين، لم تجعل لي أذنين، لم تجعل لي لسانًا وشفتين؟ أبدًا، كل ذلك ليس من حقك أن تقوله لله -عز وجل-؛ لأنه ربَّاك وأكرمك. إذن فما حجَّتك؟
          قال الله -عز وجل-: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴿6﴾ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴾.
          خلقك بمعنى أنشأك وأوجدك من العدم.
          سوَّاك: جعلك مستويًا، يعني كل جزء من أجزائك يؤدي عملًا معيَّـنًا وباستواء.
          ﴿ فَعَدَلَكَ ﴾ أو ﴿ فَعَدَّلَكَ ﴾، قراءتان معتبرتان، لكن "عدَّلك" أكثر مبالغة من "عدَلك"، جعلك معتدلًا في كل شيء، تجد للإنسان عينين إحداهما في اليمين، والثانية في اليسار. يدين، إحداهما هنا، والثانية في نفس المكان من الشق الآخر. ولم يجعل مشوَّشًا بمعنى أن يدًا في الجنب، ويدًا في الظهر مثلًا، أو عينًا في الأمام، وعينًا في الجنب، أو رجلًا في الرأس، أو رأسًا في الرِّجل أو في القدم، أو في الركبة، لا، جعلك أيضًا معتدلَ الخِلقَة قائمًا مستويًا على خلاف ما هو حال مثلًا هذه البهائم التي سخرها الله لك، فإن الله لم يجعلها كذلك، لم يجعلها مستوية ولا معتدلة، وهذا كله من إقامة الحجة على ابن آدم.
          قال الله -عز وجل-: ﴿ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾؛ أي جعلك في صورة هو شاءها، هذه الصورة هي أجمل الصور وأحسنها، وليس لك من أمر صورتك شيء، يعني لستَ أنتَ الذي تصنع هذه الصورة، فلو وُكِلَ ابن آدم أن يصنع صورة لصنعها على وجه واحد، وصرنا لا نفرق بين محمد ولا سعيد، ولا رياض، ولا حكمت، ولا غيرهم، صاروا كلهم شيئًا واحدًا، فالله -عز وجل- من رحمته، ومن حكمته أن جعل التصوير إليه، ولم يجعله لأحد، ولذلك يخلقنا في أي صورة هو يشاؤها -سبحانه وتعالى-، مرة تشبه خالك، ومرة تشبه عمَّك، ومرة تشبه أباك، ومرة تشبه أمك، ومرة يكون الشبه إلى جنس أخوالك، أو جنس أعمامك، وهكذا.
          قال الله -عز وجل-: ﴿ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾، ثم لمَّا ذكَّر بالنعم، وعاتب الإنسان على معصيته، وعدم قيامه بطاعة ربه، واستعداده للقاء الله -عز وجل- قال: ﴿ كَلَّا ﴾.
          ﴿ كَلَّا ﴾ ردع وزجر لهذا الإنسان الذي اغتر وترك الاستعداد للقاء الله، والاستعداد لذلك اليوم المهول العظيم.
          ﴿ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ﴾، ما أشغلكم، ولا غرَّكم، ولا جعلكم تنسون لقاء الله؛ إلا تكذيبكم بيوم الدين، فلو أنكم صدقتم به وعرفتم أنكم ستلاقون الله لعلمتم حقًّا، أو لفعلتم حقًّا ما يجب عليكم فعله من الإيمان والطاعة.
          والدين: هو الجزاء والحساب.
          ﴿ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ﴾؛ أي تكذبون بالجزاء والحساب.
          ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴾، هنا يعود المقام إلى تذكير العبد بأنه تحت رقابة الله، وأن الله ما خلقه عبثًا، ولا جعله هملًا، ولم يتركه سدًى، بل خلقه في حالة تدل على أنه متابَع ومراقَب ليستعدَّ للقاء آخر يُجازَى على كل شيء، ويُحاسَب على كلِّ صغيرة وكبيرة.
          فقال: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴾، وأكَّد هذا الأمر لأنه يتحدث مع من ينكرونه، وهم الكفار -كفار مكة-، قال: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴾، لاحظ المؤكدات في هذه الآية ثلاثة:
          - الأولى: "إنَّ" مؤكدة.
          - ﴿ لَحَافِظِينَ ﴾: اللام الدَّالة على التوكيد.
          - وأيضًا الجملة الاسمية وهي أيضًا مما يُؤكَّدُ به اللام.
          من هم هؤلاء الحافظون؟ هم الملائكة، يحفظون على الإنسان كل عملٍ من أعماله، وليس المقصود بالحفظ هنا -بالمناسبة- هو الحفظ من وقوع المقدور، لماذا؟ لأن الآيات دالَّة هنا على معنًى في الحفظ غير المعنى المذكور في قول الله -عز وجل-: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11]، وقوله: ﴿ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ﴿1﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ﴿2﴾ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴿3﴾ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾ [الطارق 1-4 ].
          فالحفظ هنا في سورة الطارق، وفي سورة الرعد هو أن تحفظ الملائكةُ الإنسان من وقوع المكروه، أو وقع ما لم يُقدَّر عليه.
          أمَّا هنا فالمقصود بها حفظ الكتابة، فكل ما تقوم به من عمل، ما تلفظ به من قول، فهو مدوَّن ومسجَّل ومثبَت، تثبته هؤلاء الملائكة ولا يتركون منه شيئًا.
          كما قال الله -عز وجل-: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].
          قال هنا: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴾، الدليل على أن "الحافظين" بهذا المعنى قوله: ﴿ كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴾.
          ﴿ كِرَامًا ﴾: يعني ذوي منزلة عالية رفيعة عند الله، والكريم من كل شيء هو أعلاه في جنسه.
          ولذلك يُقال: أحجار كريمة، ومخلوق كريم، وكتاب كريم، يعني هو أعلى ما يكون في جنس ذلك الشيء.
          قال: ﴿ كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴾، يكتبون أعمال الإنسان، لا يدعون منها شيئًا.
          قال الله -عز وجل-: ﴿ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾، فكل ما يفعله الإنسان ويقوم به تعلمه هذه الملائكة وتدوِّنه، لا تترك منه شيئًا.
          ثم بيَّن الله بعد ذلك الجزاء والحساب.
          السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
          نعتذر إليكم مشاهدينا الكرام عن الخطأ الفني، أو الخلل الذي حصل، ونستأنف شرح الآيات.
          وصلنا إلى قول الله -عز وجل-: ﴿ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ﴾.
          "كلا" ردع وزجر، وقد قلنا مرارًا أن "كلا" يمكن أن تأتي بمعنى حقًا، ويمكن أن تأتي بمعنى الردع والزجر، ويُحدد ذلك السياق:
          - فإن كان ما قبلها شيء يُراد إنكاره، فإنها للردع والزجر، كما في هذا المقام.
          - وإن كان ما قبلها ليس شيئًا يُراد إنكاره كما في سورة اقرأ في قول الله -عز وجل-: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿1﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿2﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿3﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿4﴾ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق 1- 5]، قال الله بعدها ماذا؟ ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى ﴾ [العلق:6 ]، فليس قبلها كلام يُراد إنكاره، ولذلك في معناها: حقًّا، فيكون معناها في هذه الآية: حقًّا إن الإنسان ليطغى.
          ويكون معناها في الآية التي معنا: الردع والزجر لهؤلاء الذي اغترُّوا بما هم فيه من النعمة، وكذَّبوا بيوم الدين، ولم يستعدوا للقاء ربَّ العالمين، قال الله لهم: ﴿ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ﴿9﴾ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴿10﴾ كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴿11﴾ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾.
          بيَّنَّا فيما تقدَّم أن الله -عز وجل- يبيِّن لهؤلاء كيف تُتركون هملًا والله قد جعل كرامًا من الملائكة يكتبون عليكم، أو يكتبون كل شيء من أعمالكم ويحصونه بكل دقة؟
          قال الله -عز وجل-: ﴿ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾؛ أي ما تفعلونه من خير أو شر فإنهم يعلمونه فيكتبون، وقد بيَّنَّا قبل قليل أن الحفظ في هذه الآية أو في هذه السورة المقصود به حفظ الأعمال وتدوينها، وليس هو المقصود بقول الله -عز وجل- في سورة الطارق: ﴿ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ﴿1﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ﴿2﴾ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴿3﴾ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾ [الطارق 1-4 ].. وكذلك في سورة الرعد: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11].
          قال الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴿13﴾ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾، بعدما ذكر هذا العتاب وبيَّن أن كل عمل ابن آدم محسوب، انتقل إلى الجزاء فقال: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾، وجاء به مؤكَّدًا مرتين أو ثلاثة:
          - المؤكِّد الأول: "إنَّ".
          - والثاني: ﴿ لَفِي ﴾.
          - والثالث: أن الجملة اسمية، وهذا من المؤكدات. لماذا؟
          لأنه يُخاطب قومًا منكرين، والعادة في كلام العرب أنه إذا خوطب المنكِر يؤكَّد الكلام له بأكثر من مؤكد بحسب إنكاره، وإذا كان خالي الذهن فإن الكلام يؤكَّد له، يعني لو قلت لإنسان كلامًا وهو خالي الذهن ولا تتوقع إنكاره، فإنك لا تحتاج إلى أن تحلف له، ولا أن تؤكِّد كلامك بمؤكدات عدَّة.
          قال: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ ﴾، والأبرار: جمع برّ، والبر هو المتوسع في فعل الطاعات، يُقال لمادة "بَرَّ" في اللغة العربية تدل على السعة.
          فلما كان البر متوسعًا في فعل الطاعة، يتصدق، يصوم، يحج، يذكر الله، يقرأ القرآن، يقوم الليل، يبر الوالدين، يصل الرحم، يحسن إلى الخلق، يُكرم الضيف، إلى آخر أعمال البر، يسعى فيها ويُنوِّع بينها سُمِّيَ برًّا، وجمعه: أبرار، جعلني الله وإياكم منهم.
          قال: ﴿ لَفِي نَعِيمٍ ﴾، نعيم، المقصود به -بالدرجة الأولى: نعيم الآخرة، لأن الحديث عن الآخرة، ولكن ذلك لا يمنع أن يأخذ الإنسان من النعيم بقدره في دنياه وفي قبره؛ لأن النعيم هنا جاء مطلقًا غير مقيد.
          ما قال: "لفي نعيم في الجنة أو في الآخرة"، فدلَّ ذلك على أن البارَّ يُدرك من النعيم في الدنيا، وفي قبره، وفي الآخرة، كل واحد من هذه الدور الثلاثة بحسبها، وهذا ما أثبته ابن القيم -رحمه الله- في تعليقه على هذه الآية، بأنها جاءت مطلقة.
          وهذا يلاحظه الأبرار، فإنهم يُدركون من لذة الطاعة والإيمان، وعمل البر وفعل الخير، ما تنشرح به صدورهم، وتأنس به نفوسهم، ويدركون به لذَّة عظيمة من لذائذ الحياة، حتى إنه يقول بعضهم: "إنه لتمرُّ بي ساعات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم طيب".
          وهذا من جزاء المؤمن المُعجَّل، يُعجِّل الله له أثر برِّه وطاعته، ونحن نقول لكل إنسان يجد ضيقًا، وكدرًا في نفسه، يجد همومًا وأحزانًا، اعلم أن هذا بسبب تقصيرك في حق الله، فالله -سبحانه وتعالى- شكور، ومن كونه شكورًا أنه يُعجل لعبده بالثواب وإن لم يكن هو الثواب الأعظم الذي يُدَّخر للعبد يوم القيامة.
          قال الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴿13﴾ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾، الفجار: هم الذين فجروا من جهتين:
          - من جهة فجور القلب بالتكذيب.
          - وفجور الجوارح بالعاصي.
          أي خرجوا عن الطاعة، قال: ﴿لَفِي جَحِيمٍ ﴿14﴾ يَصْلَوْنَهَا ﴾؛ أي يصلون تلك الجحيم يوم الدين، أي يوم الجزاء والحساب.
          والدين يأتي بمعنى الجزاء والحساب، كما تقول العرب:كما تدين تدان.
          وكما في الأثر: "الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَن أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني".
          قال: ﴿ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ﴾، عن ماذا؟ أي عن الجحيم.
          ﴿ بِغَائِبِينَ ﴾؛ أي مخلدون فيها لا يخرجون منها، فالمقصود بها ذكر خلودهم وبقائهم في النار -نسأل الله العافية والسلامة.
          ثم عظَّم الله يوم الدين في قوله -بهذا الأسلوب الذي سيتكرر معنا كثيرًا في جزء عم: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴾، إنه يوم عظيم، يوم مهول، استعدوا له، وانتبهوا له، واستيقظوا لعظمته، وكونوا على حذر منه، وخذوا الأهبة التامة لهوله، فإنه فوق ما تتخيلون، وأعظم مما تصورون.
          قال: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿17﴾ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴾، هذا من باب التأكيد على هول ذلك اليوم.
          ثم أجاب بهذا الجواب الفخيم، الرهيب، المهول، الساكن، الذي يملأ النفس عظمة وهيبة: ﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ﴾، ليس هناك نفس -مهما كانت- تملك لنفس -مهما كانت- شيئًا، إلا أن يأذن الله بشيء من ذلك ويرضاه، فلا أحد في ذلك اليوم يتصرف أو يقدم خيرًا، أو يدفع ضرًّا، أو ينصر أحدًا، إلا أن يأذن الله به.
          ثم ختم الله هذه السورة بقوله: ﴿ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ﴾، الأمر كله لله، لا لملك مقرَّب، ولا لنبي مرسل، حتى إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا طُلبت منه الشفاعة يذهب ويسجد عند العرش، ويحمد الله بمحامدَ لم يُفتح عليه بمثلها من قبل، ويُكثر من الحمد لله -عز وجل- حتى يُقال له: «ارفع رأسك، وسل تعط، واسمع تُجَب»، أو كما قال الحديث.
          وبهذا تكون هذه السورة العظيمة المهيبة قد أثَّرت في نفوسنا أننا نستعد للقاء الله -عز وجل-، ونستعد لذلك اليوم بالعمل الصالح، فنكون من الأبرار الذين توسَّعوا في فعل البر، وصار لهم النعيم المقيم، ونحذَر أن نكون من الفجار الذي لم يستعدوا لذلك اليوم، ولم يتأهبوا له بالزاد الذي ينبغي أن يتزود لمثله به -اسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذلك.
          ننتقل بعد ذلك إلى سورة المطففين، ونتحدَّث عن علوم السورة.
          سورة المطففين تسمى عند العلماء: سورة المطففين، سمَّاها البخاري في صحيحه: سورة: ﴿ وَيلٌ لّلْمُطَفِّفِينَ ﴾، وهذا تسمية بأول آية من آيات السورة.
          وبعض المفسرين سمَّاها: سورة التطفيف. ولا يُعرف لها غير هذا من الأسماء، فكلها تدور حول هذا الاسم: المطففين.
          هذه السورة اختُلف فيها، هل هي مكيَّة أو مدنية؟ على ثلاثة أقوال:
          - من العلماء من قال: إنها مكية، نزلت في آخر العهد المكي، وذلك لأن جوها وحديثها يتحدث عن موضوعات يوم القيامة، وذُكر فيه قول الله -عز وجل-: ﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾، وهذا إنما قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة.
          وأيضًا جاء فيها قول الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ﴿29﴾ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾، فهذه آيات تتحدث عن مشاهد كانت تقع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة.
          - وآخرون من أهل العلم، ومنهم حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- يرون: أنها نزلت في مَقْدَم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وذلك بسبب سبب النزول، فإن سبب النزول ورد في هذه السورة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاء إلى المدينة وجد أهلها من أخبث الناس كيلًا، فأنزل الله هذه السورة لتعظهم وتحذرهم من مغبة ظلم العباد في هذا الشيء الطفيف الذي يؤخذ من حقوقهم، وهذا قال به جماعة من المفسرين، وعليه كثير من الجمهور والمفسرين على أن السور مدنية.
          وابن عباس يرى أن السورة مدنية إلا الآيات الأخيرة في قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ﴿29﴾ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾، إلى آخر السورة.
          - وآخرون من أهل العلم يرون أن السورة نزلت في مهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- بين مكة والمدينة، وإلى هذا مال الطاهر بن عاشور في تفسيره المعروف "التحرير والتنوير"، قال: وهذا يعني هو اللائق بهذه السورة، فإن جوها جو السور المكية، ومضمونها مضمون السور المكية، وسبب نزولها يدل على أن لها ارتباطًا بالمدينة، فلعلها نزلت قبل أن يصل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة؛ لأن أهل المدينة كانوا متلبسين لهذا الأمر، وهو التطفيف في المكاييل والموازين، فأراد الله أن يطهر المدينة من عمل سيء لا يليق بمجيء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
          وعلى كلٍّ: الخَطب في هذا يسير؛ لأن كونها مكيَّة أو مدنيَّة لا يترتب عليه نسخ، لأنه ليس في الآيات ما يُنسخ، وكل ما في الآيات محكم -ولله الحمد والمنَّة- ولكن من باب زيادة العلم، هل هي مكية أو مدنية؟ وليس هناك مانع من أن تكون هذه السورة نزلت في أواخر العهد المكي، وأوائل العهد المدني، وجُمعت بعد ذلك.
          والعجيب أني وجدت عددًا من السور تجد أن فيها نَفَس السور المكيَّة والسورة المدينة كسورة الحج، وسورة الحديد، وسورة المطففين، تجد أن فيها شيء من هذا وهذا، والعلم عند الله.
          هذه السورة مناسبة لسورة الانفطار، لن سورة الانفطار جاء فيها الحديث عن الأبرار والفجار مقتضبًا: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴿13﴾ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾، وهذه السورة أسهبت في جزاء الأبرار، وفي جزاء الفجار، وذكر ذلك بشيء مطوَّل، كما سنأتي إليه إن شاء الله في الدرس القادم.
          وبهذا تكون هذه السورة مناسبة تمامًا لسورة الانفطار.
          ففي سورة التكوير مشاهد القيامة، وفي سورة الانفطار مشاهد القيامة بشكل مختصر، وذكر للجزاء بشكل أيضًا مختصر، كأنها مقدمة لذكر الجزاء، وفي سورة المطففين بدأ بذنب وبيَّن جزاءه، ثم انتقل إلى جزاء الفجار وجزاء الأبرار بشكل مفصَّل، وهذا من دقائق الترتيب والتنظيم في سور القرآن العظيم.
          هذه السورة -يا إخواني- افتُتحت بقوله: ﴿ وَيلٌ لّلْمُطَفِّفِينَ ﴿1﴾ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴾، ﴿ وَيلٌ ﴾، ما ويل؟ تفضل يا رياض.
          {كملة هلاك ووعيد، وقيل: وادٍ في جهنم}.
          وقيل: وادٍ في جهنم، إذن قولان للمفسرين:
          - منهم مَن قال أنه وادٍ في جهنم، وهذا يستند إلى آثار، وهذه الآثار في النفس منها شيء، لكن الأشهر في استعمالها عند العرب أنها -كما ذكر الأخ رياض- كلمة تهديد ووعيد، يُقال: ويلٌ لك، وويلٌ لفلان، وويلٌ لهؤلاء القوم، يُقصد بها التهديد والوعيد لهم من شرٍّ يحيق بهم ويلحقهم.
          قال: ﴿ وَيلٌ لّلْمُطَفِّفِينَ ﴾، وأنا أرى أن بقاءها تهديدًا مفتوحًا أكثر هيبة في النفوس من أن يكون تهديدًا بشيء معيَّن، لماذا؟ لأن المُهدِّد هنا مَن هو؟ هو الله -سبحانه وتعالى-، وكون النفس لا تدري بما هددت به، وما الجزاء الذي ينتظرها؛ قد يكون أبلغ في ردع النفس عن التمادي في باطلها الذي تتهاون فيه.
          فالله يقول: ﴿ وَيلٌ ﴾ لمَن يا رب؟ ﴿ لّلْمُطَفِّفِينَ ﴾.
          المطففون: مأخوذ من التطفيف، والتطفيف هو أخذ الشيء الطفيف، يعني أخذ الشيء القليل، وذلك عندما يكيل الإنسان أو يزن شيئًا فإنه ينقص شيئًا يسيرًا إذا كان يبيع للناس، وإذا كان يشتري لنفسه فإنه لا يأخذ الحق الواجب له، وإنما يزيد عليه شيئًا طفيفًا، فهو يظلم هنا وهنا، يظلم عندما يشتري، ويظلم عندما يبيع.
          قال الله -عز وجل-: ﴿ وَيلٌ لّلْمُطَفِّفِينَ ﴾.
          مَن المطففون؟ فسَّرهم وبيَّنهم، وبيَّن أن المقصود بهم أولئك الذي يتهاونون في هذا الشيء الطفيف في المكاييل والموازين عندما يبيعون أو يشترون.
          قال: ﴿ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴾، ﴿ اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ ﴾: يأخذون حقهم وافيًا، ويزيدون عليه.
          ﴿ وَإِذَا كَالُوهُمْ ﴾؛ أي كالوا للناس، ﴿ أَو وَّزَنُوهُمْ ﴾؛ أي وزنوا للناس، ﴿ يُخْسِرُونَ ﴾ أي ينقصون.
          فهم عند الشراء يأخذون حقهم وافيًا وقد يزيدون، وعند البيع ينقصون من حق المشترين فلا يؤدونهم الحق الكامل.
          قال: ﴿ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾.
          وهل معنى قوله ﴿ كَالُوهُمْ ﴾ و﴿ وَّزَنُوهُمْ ﴾ أي كالوا هم، ووزنوا هم، فـ "هم" تأكيد لواو الجماعة؟ أو أن المعنى "وإذا كالوا هم" أي كالوا لهم، "هم" هنا ضمير منصوب، الواو واو الجماعة في محل رفع فاعل، و"هم" ضمير منصوب، يعني في محل مفعول به، أي كالوا للناس، أو وزنوا للناس، هذا قولان لأهل العلم، قال فيهما ابن كثير: "وكلاهما متقارب".
          والظاهر هو الثاني: وإذا كالوا للناس، أو وزنوا للناس، و"هم" هنا ضمير منصوب، أو في محل نصب. لماذا؟ لأنها لما كتبت كتبت بهذا الشكل: ﴿ كَالُوهُمْ ﴾، لاحظوا معي في القرآن مكتوبة بهذا الشكل ﴿ كَالُوهُمْ ﴾، طيب.. ماذا يعني هذا؟ "هم" هنا ليست ضميرًا مؤكدًا، "كالوا هم" لا، "كالوهم" كالوا للناس، لو كان ضميرًا مؤكدًا لكانت منفصلة عن الكلمة، ولكتبت في القرآن بهذا الشكل "كالوا هم"، فتصبح هنا "هم" مؤكدة لقوله "كالوا". واضح؟
          إذن: هذا مما نستدل به، أو مما نستعين به في الرسم لمعرفة القول الصحيح، فالرسم هنا -رسم المصحف- بيَّن لنا القول الصحيح في هذه الآية، وهي أن "هم" ضمير منصوب، كالوا للناس، "كالوهم" أي كالوا للناس.
          طيب.. يأتي السؤال هنا: ﴿ كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ ﴾، ما الفرق بين الكيل والوزن؟ نعم رياض.
          {المراد بالكيل طبعًا هو قياس الحجم، بينما المراد بالوزن هو قياس الثقل}.
          المراد بالكيل: قياس الحجم. جميل.
          والمراد بالوزن: قياس ماذا؟ الثِّقل.
          وبهذا مثلًا: اللتر مكيال أو ميزان؟
          {ميزان}.
          لا، اللتر مكيال؛ لأنه يوضع فيه اللبن، والعسل، والرصاص، والماء، وميزانه مختلف، بخلاف مثلًا الميزان الذي يظهر له علامات، أو الذي فيه هذه المثاقيل المعروفة، هذا ميزان، أو ميزان الذهب والفضة، هذا ميزان
          الكيس وهو ما نسميه نحن بـ "القطمة"، أو "الخيشة"، هذه ما هي؟ هل هي مكيال أو ميزان؟ مكيال.
          كرتون البرتقال أو الموز، هل مكيال أو ميزان؟ مكيال.
          إذن ما يراد به معرفة الحجم مكيال، وما يُراد به قياس الثقل ميزان.
          ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن أن المكيال مكيال أهل المدينة لأنهم أهل زروع. وأن الميزان ميزان أهل مكة، لأنهم أهل تجارة، وذهب، وفضة.
          قال الله -عز وجل-: ﴿ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾؛ أي يُنقصون.
          ولما كان هذا الأمر معلوم أنه أمر سيء وخبيث، وأن العقول السليمة والفِطَر السليمة تنكره، لم يتحدَّث عن تحريمه؛ وإنما تحدَّث مباشرة عن جزائه، ولم يتحدَّث عن الدلائل على وجه كونه محرَّمًا؛ لأن هذا الأمر تعرف النفوس كلها أنه من الباطل، فأنت لا ترضى -ولو لم تعلم الشرع- لا ترضى أني إذا كلْتُ لك أو وزنْتُ لك أنِّي أنْقص في حقك، فكل النفوس تأبى ذلك وتراه من الظلم.
          ولذلك جاء هنا إلى الموعظة مباشرة، وهذا ما ينبغي، عندما ترى صاحبك يعلم الحق ويعرفه، لا يحتاج أن تقول له: هذا من الحق، ودليله كذا، دليله كذا، ودليله كذا؛ لأن هذا مضيعة للوقت، إنما تبدأ بالموعظة التي تجعله ينساق للحق ويترك الباطل.
          ولذلك قال هنا: ﴿ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ ﴿4﴾ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿5﴾ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، فوعظهم بالموقف الذي يكون بين يدي الله، وفيه توزن الأعمال، وفيه يخاف الإنسان، وفيه يرجع الإنسان إلى ما قدَّم ويتأكد مما عمل.
          لعلنا نقف عند هذا الحد، ونأخذ الأسئلة من إخواننا المشاهدين.
          ... طيب.. بهذا -يا إخواني- نصل إلى نهاية هذا الدرس.
          اسأل الله -سبحانه وتعالى- لي ولكم التوفيق والسداد، وأن ينفعنا الله -عز وجل- بما تعلمنا من علوم هاتين السورتين، ومن مواعظ هذه الآيات الكريمة، وأن يجعلني الله وإياكم حقًّا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
          اللهم إنَّا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدلٌ فينا قضاؤك، نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدرونا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، ودليلنا وسائقنا إليك وإلى جناتك جنات النعيم.
          وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

          تعليق


          • #6
            رد: تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري

            السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
            الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
            حياكم الله مشاهدي الكرام، وحيى الله الإخوة الحضور معنا في الاستوديو، وجزاكم الله عنا كل خير.
            اليوم معنا درس جديد في التفسير، وقد كنا وصلنا بالأمس -بحمد الله وتوفيقه- إلى بداية تفسير سورة المطففين.
            بالأمس -ولله الحمد والمنة- تحدثنا عن سورة الانفطار، وبينا ما فيها من المعاني، والأحكام، والحكم، والدروس، والعبر، والتفسير، ثم انتقلنا بعد ذلك إلى سورة المطففين، وبينا ما يسمى بعلوم السورة، اسم السورة، ونزول السورة، وسبب نزولها -أيضًا-، ثم ذكرنا بعد ذلك مناسبتها لما قبلها من السور وهي سورة الانفطار.
            وذكرنا أن هذه السورة فيها تفصيل لما أُجمل في سورة الانفطار.
            ففي سورة الانفطار قال الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴿13﴾ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار: 13].
            وفي هذه السورة بين الله ما للفُجار وما ينتظرهم من العذاب والوعيد، وما للأبرار وما ينتظرهم من النعيم والوعد الكريم.
            وافتتحت هذه السورة بقوله -سبحانه تعالى-: ﴿وَيلٌ لّلْمُطَفِّفِينَ ﴿1﴾ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴿2﴾ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴿3﴾ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ ﴿4﴾ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿5﴾ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وقد أخذنا معاني هذه الآيات، لكن بقي معنا فيها وقفات.
            الوقفة الأولى في هذا المقطع الذي ينتهي بقوله: ﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، بيان التطفيف وضرره، وأن الله عذَّب به أمة من الأمم.
            ما الأمة التي عُذبت بسبب تطفيفها في المكاييل والموازين؟ رياض، هل تعرف الأمة التي عذبت بسبب هذا؟
            {أذكر بأنهم قوم هود}.
            قوم...
            {قوم شعيب}.
            نعم، أحسنت، قوم شعيب كانوا يطففون ويخسرون في المكيال والميزان، وأنزل الله -عز وجل- فيهم آيات في سور معدودة، منها سورة هود، ومنها ما في سورة الشعراء، وغيرها من سور القرآن، وبين الله سبب عذابهم، فهم قوم قد كذبوا نبي الله، وأشركوا مع الله، وكان من أعظم المشكلات التي وقعوا فيها أنهم كاو يطففون في المكاييل والموازين.
            وهذه آفة توجد في بعض الأمم، وتتقيها أمم أخرى، ولذلك على المسلمين أن يسارعوا إلى مكافحة هذه الآفة.
            هذه الوقفة الأولى، الوقفة الثانية: في أن هذا التطفيف الذي يكون في المكاييل والموازين يكون له صور كثيرة جدًّا، فعندما تقول لكثير من الناس: ما التطفيف؟ يقول: أن تزيد أو تنقص في المكيال والميزان عندما تزن للناس، حسب ما هو موجود في الموازين المعروفة لدى كثير من الناس.
            لكن الحقيقة أن التطفيف ينتظم صورًا كثيرة لا حصر لها.
            مثل الآن أن تباع سلعة يقال إن وزنها كذا، وعندما تزنها في الميزان، أو تُفرغها من العبوة الموجودة فيها تجد أنها أقل مما هو عليه.
            الآن مثلا أكياس الأرز التي تُباع في الأسواق، كثير منها مكتوب عليها خمسة وأربعين كيلو، اذهب وزنه ستجد أنه وصل إلى ثمانية وثلاثين كيلو، سبعة كيلو أين ذهبت؟ طبعا الذي وضع في الكيس شيئًا وضعه وهو بحالة رطبة، ثم يجف، مع الأيام يجف، فيخف وزنه، وإذا خف وزنه وصل إلى هذه الحالة فينقص سبعة كيلو.
            لكن السؤال: لماذا يضعه أصلًا وهو في حالة رطوبة، ثم يقول إن وزنه خمسة وأربعون كيلو، وهو يعلم أنه بعد ثلاثة أو أربعة أو خمسة أشهر عندما يصل إلى المستهلك سيكون وزنه ثمانية وثلاثين كيلو؟
            هذه صورة من صور التطفيف، وعلى منوالها قس، فصور التطفيف في المجتمعات كثيرة جدًّا، ونحن نقول لكل مسلم ومسلمة: اتق الله، كل زيادة على المستهلك، أو أخذ لماله بغير حق وإن كانت قليلة فإنها من الظلم، وهي من التطفيف.
            الأمر الثالث من الوقفات: التطفيف إذا كان في القليل يحاسب الله العباد عليه ويحذرهم منه، إذن فما بالك بمن يأخذ الكثير؟ ما بالك بمن يَعتدي على أموال الناس ويسلبها منهم؟ سواء كانت هذه الأموال شيئًا في جيوبهم وتملكوه وحازوه، أو شيئا من بيت مال المسلمين.
            فهؤلاء العمال والموظفون والمسؤولون الذين يتهاونون في بيت المال فيأخذون ما لا يحل لهم هم أشد حالًا، وأعظم سوء من هؤلاء الذين توعدهم الله بقوله: ﴿وَيلٌ لّلْمُطَفِّفِينَ﴾.
            إذا كان الله يحاسب على الشيء القليل واليسير، ويتوعد بالويل عليه، فما بالك بمن يأخذ المال الكثير؟! ومن يأخذه من أفواه الفقراء ليضعه في جيوب الأغنياء؟! أليس هذا متوعدًا بالويل؟!
            النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما وقف في يوم عرفة، قال مُعلنًا أمام الناس: «إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا».
            وعندما وقف مع المسلمين في يوم النحر، أو في يوم القَرّ قال لهم مثل ذلك، وأكده عليهم تأكيدًا شديدًا، ليُبين أن هذا من أعظم الذنوب عند الله -سبحانه وتعالى- وهو أن يعتدي الإنسان على أموال الناس، أو دمائهم، أو أعراضهم.
            الوقفة الرابعة: يظن بعض الناس أن التطفيف يقتصر على القضايا المالية، والحقيقة أن القضايا المالية يقع فيها التطفيف ويعلمه كل الناس، لكن التطفيف -أيضًا- يقع في أمور أخرى، مثل الحكم على الناس، فعندما تحكم على صاحبك الذي تحبه تزيد في مدحه، وتغض الطرف عن مثالبه، وما عنده من نقص، هذا تطفيف؛ لأنك زدت عن الحد المطلوب، وعندما تتحدث عن ذاك الذي لا يحترمك، أو لا تحبه، أو بينك وبينه إشكال، أو يعني -كما يقول العامة عندنا وقفة نفس- فإنك ماذا؟ تنقص من حسناته وتزيد في سيئاته.
            عندما تذكر هذه المؤسسة التي تنتمي إليها، لا تذكر إلا إيجابياتها، وعندما تذكر تلك المؤسسة أو الجمعية، أو الجماعة التي لا تنتمي إليها، فإنك لا تذكر إلا سلبياتها، أو تزيد في السلبيات وتنقص من الحسنات، هذا ماذا يُسمى؟ تطفيفًا، وهو داخل في هذا المعنى.
            أيضًا، عندما يطلب منك أن تُقيِّمَ شيئا ما، ولك فيه هوى، فتزيد في التقييم، أو تَنقص لأغراض شخصية، يعتبر ذلك من التطفيف.
            وقد قال بعض العلماء المعاصرين: "هذه الآية تدل على تحريم قليل الربا، وأنه لا يجوز للإنسان أن يتهاون في الربا، لا قليله ولا كثيره".
            وفي إحدى الشركات مرة لما أكثر الناس على مسؤول الشركة في إزالة الربا منها، قال: يا جماعة، أزعجتمونا، هي كلها 2.5% نسبة الربا الموجودة في هذه الشركة، فلماذا كبرتم هذا الأمر وضخمتموه؟
            فقالوا: سبحان الله! إذا كان 2.5% لماذا أنت أفسدت هذا الحلال كله بهذا الـ 2.5، أزله والحمد لله لم نخسر شيئا، فأحرج وأسقط في يده، لأنه ظن أنه إذا قال: 2.5% أن هذا الأمر سيمشي عليهم، فقالوا له: بالعكس، لو قلت لنا إن الربا 30% قلنا كيف سيزيله ويصعب عليه، لكن 2.5 أَزِلْه وننتهي منه، ونبقى في ساحة هذا المباح الذي أحله الله -سبحانه وتعالى- لنا.
            هذه جملة من الوقفات التي أحببنا أن نذكرها في هذا المقطع الذي أخذناه بالأمس، وننتقل إلى مقطع اليوم.
            يقول الله -عز وجل-: ﴿ كَلَّا ﴾، نحن ذكرنا قاعدة في "كلا"، وهي أن "كلا" إذا ذُكر قبلها كلامٌ يُنكر تكون بمعنى الردع والزجر والنفي، وإذا ذكر قبلها كلام ليس فيه ما ينكر؛ فإنها تكون بمعنى حقًّا.
            وبما أن "كلا" هنا لم يسبقها كلام ينكر، لأنها وعيد للمطففين، فتكون هنا بمعنى حقا، وهذا ما اختاره ابن كثير -رحمه الله تعالى-.
            يقول الله -عز وجل-: ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ﴾، بدأ بكتاب الفجار لأن المقام مقام وعيد، ولأن سور الانفطار انتهت بالحديث عن الفجار، فافتتحت هذه السورة أيضا بالحديث عنهم، ليكون الكلام متسقًا ومتصلًا.
            قال: ﴿ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ ﴾ أي مآلهم، ومصيرهم، وكتاب أعمالهم، وهؤلاء الفجار بما أنه جاء الاسم مستقلا ولوحده، فإنه يشمل الفجور في الاعتقاد، والفجور في العمل.
            في سورة عبس قال الله -عز وجل-: ﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ﴿40﴾ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ﴿41﴾ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ﴾ [عبس 40 - 42]، لما ذكر الكفر والفجور قلنا: أن الكفر كفر الاعتقاد، والفجور فجور العمل، ميزنا بينهما.
            لكن عندما يذكر الفجور وحده فإنه يشمل الاثنين:
            - فجور الاعتقاد بتكذيب الرسل، تكذيب الآيات، الشرك بالله -عز وجل-.
            - وفجور العمل بمثل ما ورد في أول السورة: ﴿ وَيلٌ لّلْمُطَفِّفِينَ ﴿1﴾ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾، ومثل ارتكاب المحرمات والولوغ في الموبقات، والوقوع في الكبائر وغيرها.
            قال: ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ﴾، سجين، صيغة فِعِّيل هذه مأخوذة في الأصل من السجن، فالكتاب في مكان يتسم بأنه سجن، وهذا ينتظم وصفين:
            الأول: السفول، أن يكون سافلًا.
            والثاني: الضيق، فهو في مكان ضيق وسافل.
            وهكذا كتاب الفجار، كما ورد في حديث البراء بن عازب وغيره: «أنه يكون في الأرض السابعة». ولا نعلم نحن أين هذه الأرض السابعة، لكن الله -سبحانه وتعالى- يعلمها، ونعلم أنها مكان سيئ وضيق، وأنه مكان سافل، لا يليق إلا بهؤلاء الفجار.
            ثم قال على طريقة القرآن -وهذا الأسلوب سيمر بنا كثيرا في جزء عم: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ﴾، "ما أدراك ما سجين" ليس سؤالًا عن السجين بقدر ما هو تهويل وتعظيم للسجين.
            كما يقول مثلا: ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴿11﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴾ [البلد: 11]، ﴿ الْقَارِعَةُ ﴿1﴾ مَا الْقَارِعَةُ ﴿2﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾ [القارعة 1-3]، يعني أي شيء هذه القارعة؟ إنها شيء عظيم، فظيع، مهول، ينبغي لمن يسمع أن يتألم وأن يخاف وأن يرهب.
            فالله -عز وجل- يعظم هذا الكتاب، وهذا المآل، فيقول: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ﴾، لكي تَسبح بفكرك في هول هذا المكان الذي سيكون مآلًا لهؤلاء الفجار ولكتابهم.
            قال: ﴿ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ﴾، أي مكتوب مرقوم بخط لا يُمحى، فلا يُزاد فيه، ولا يُنقص منه، لا تتصور أيها الفاجر، أو أيها الكافر أنَّ اسمك سيَسقط من بين الأسماء، كما يحصل عندما تكتب بالقلم، أو عندما تكتب في الكمبيوتر سهوًا يذهب أحد الأسماء، لا، أسماؤكم وأعمالكم مُدونة في هذا الكتاب، هذا الكتاب الذي يتسم بأن ما كُتب فيه مرقوم، أي مكتوب كتابة لا يمكن أن تزول أو تحول.
            قال: ﴿ وَيلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾، قلنا في "ويل" أن فيها ماذا؟ قولين:
            الأول: "ويل" واد في جهنم -كما ذكرت يا رياض بالأمس.
            والثاني: "ويل" كلمة تهديد ووعيد، وهذا هو الظاهر من استعمالها في اللغة، خصوصًا وأن الأحاديث الواردة في بيان أن الويل وادٍ في جهنم لا ترقى إلى درجة الصحة.
            قال: ﴿ وَيلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ أي في ذلك اليوم ويل لمن كذب. كذب بماذا؟ كذب بالله، وبآياته، وبرسله، كذب بهذا القرآن الذي أُوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من دون بينة ومن دون أن يكون معه حجة وسلطان، ﴿ وَيلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾.
            ثم بين هذا التكذيب ما هو، قال: ﴿ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴾، والتكذيب بيوم الدين فرع عن التكذيب بالله رب العالمين، وبرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبآيات الله الموحاة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
            وكما رأينا نحن في جزء عم التركيز الكامل على يوم الدين، وهو يوم الجزاء والحساب.
            وقلنا إن كلمة "الدين" يا إخواني تأتي بمعان متعددة:
            - منها: الدين بمعنى الملة.
            - ومنها: الدين بمعنى الجزاء والحساب، كما تقول العرب: "كما تدين تدان"، وكما في الأثر: " الكيس من دان نفسه" أي حاسبها وجازاها.
            قال: ﴿ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿11﴾ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ ﴾، ما يكذب بيوم الدين ﴿ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ ﴾ هذا هو الوصف الأول، و﴿ أَثِيمٍ ﴾.
            ما معنى "معتد"؟ المعتدي هو الذي يتعدَّى الحد:
            - إن كان في الاعتقاد: بالشرك بالله -عز وجل- أو تعظيم مخلوق وجعل مقامه كمقام الله، أو الاعتداء على الله بأن يجعل محله كمحل المخلوقين، ونحو ذلك.
            - أو في الأعمال: كأن يعتدي على أموال الناس بالظلم، والتطفيف، والربا، والسرقة، والاغتصاب، أو يعتدي على أعراضهم بالزنا واللواط، وغيرها من الأفعال المذمومة، وكبائر الذنوب وغيرها.
            ﴿ أَثِيمٍ ﴾، أي آثم في نفسه.
            فهناك الذنوب قسمان:
            - قسم يكون فيه اعتداء.
            - وقسم يكون مقتصرًا على النفس.
            يعني كون الإنسان مثلا يُسيء الظن بالمسلمين، هذا إثم، كون الإنسان ينظر إلى شيء محرم، هذا ظلم منه لنفسه، فهم إثم، أما كونه يأخذ أموال الناس؛ فهذا اعتداء.
            فهذا هو الفرق بين قوله ﴿ مُعْتَدٍ ﴾ و﴿ أَثِيمٍ ﴾.
            وبعض العلماء، أو بعض المفسرين يقول: "﴿ مُعْتَدٍ ﴾ أي في أفعاله، ﴿ أَثِيمٍ ﴾ في أقواله".
            وهذا الحقيقة أعني التقييد للفظ العام بما يحصر معناه من دون مبرر، بل ينبغي إطلاق ذلك، لكن يقول: الاعتداء تجاوز الحد في الطغيان والإثم، سواء الاعتقادي، أو القولي، أو الفعلي.
            والإثم: أن تنتهك المحرم وتأتي به من غير أن يكون في ذلك اعتداء على الغير، أو تعد على الحد.
            قال الله -عز وجل-: ﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ﴾، إذا تليت عليه آيات القرآن، وهنا الآيات ليس المقصود بها آيات الله -عز وجل- التي في الكون، لأنه قال قبلها ماذا؟ ﴿ تُتْلَى ﴾، فكلمة ﴿ تُتْلَى ﴾ تبين لنا معنى "الآيات"، وأن المقصود بـ "الآيات" هنا الآيات الموحى بها؛ لأن آيات الله آيات منظورة، أو آيات كونية، وآيات شرعية.
            - الآيات الشرعية: هي هذا الوحي الذي أوحاه الله -سبحانه وتعالى- إلى رسوله.
            - والآيات الكونية: هي الشمس، والقمر، والسماء، والأرض، وغيرها.
            قال -من اعتدائه وإثمه: ﴿ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾، أي يرد هذه الآيات ببغي وعدوان، ومن دون حجة وبرهان، فيقول: هذه أساطير الأولين.
            الأساطير معروف أنها مختلقة، وأنها تفتقد إلى المصداقية والصحة، وأنها في الغالب تكون أقرب إلى الخرافة، يعني الشيء غير المعقول.
            أما هذه الآيات هل حدثكم الله، أو أوحى إليكم بشيء تقول عقولكم إنه لا يمكن أو لا يكون؟
            كل الذي في هذا الكتاب حق، ليس فيه شيء من الافتراء، ﴿ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾.
            قال الله -عز وجل-: ﴿ كَلَّا ﴾، ما معنى "كلا" هنا؟ حكمت، هل هي بمعنى حقا، أم للردع والزجر؟ ما رأيك؟
            {للردع والزجر}.
            لماذا؟
            {تناسبا مع السياق الذي قبلها}.
            نعم، "كلا" هنا بمعنى الردع والزجر، لأن السياق الذي سبق فيه شيء يرد؛ لأنهم قالوا: أساطير الأولين.
            قال الله: كلا، ليس الأمر كما تقولون، ثم قال: ﴿ بَلْ ﴾، هذه ﴿ بَلْ ﴾ للإضراب، والإضراب عندنا نوعان:
            - إضراب إبطالي.
            - وإضراب انتقالي.
            نضرب له مثال بالكلام المعتاد -وسيأتينا أمثلة -إن شاء الله- في سورة البروج وغيرها: لما تقول: ما جاء محمد بل علي، هذا إضراب، لكن إبطالي و انتقالي؟ إبطالي، لأنك نفيت الأول وأثبت الثاني.
            أما إذا قلت: جاء محمد وسعد بل جاء علي أيضًا، فهذا إضراب، لكنه ماذا؟ انتقالي، يعني تنتقل من جملة إلى جملة.
            هنا قال: ﴿ كَلَّا بَلْ ﴾ هذا إضراب، لكنه إبطالي، لإبطال كلامهم الذي تقدم.
            ﴿ بَلْ رَانَ ﴾، ما معنى ﴿ رَانَ ﴾، الران: مأخوذ من الرين، وهو الغطاء، أي غطى على قلوبهم ما كانوا يكسبون، الذي كانوا يكسبونه غطى على قلوبهم، فعملهم السيئ قد غطى على قلوبهم فهم لا يعقلون، ﴿ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101]، هكذا عادت هؤلاء الكفار أو هؤلاء الضلال، أنهم بسبب ذنوبهم ومعاصيهم يغطي الله قلوبهم، ويحجبها عن سماع الحق وعن قبوله.
            ولذلك نقول دائما لأهل المعاصي والذنوب، ومن يقارفون الخطايا والموبقات: انتبهوا، انتبهوا لئلا يجعل الله من عقوبة ما أنتم تفعلونه أن يُغَطَّى على قلوبكم فلا تعون، ولا تسمعون، كما قال الله عن المنافقين: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ [البقرة: 18]، كما قال عن الكفار: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 171].
            قال: ﴿ بَلْ رَانَ ﴾، ﴿ رَانَ ﴾ أي غطى.
            والعلماء يقولون: الذي يغطي على القلب ثلاثة أشياء:
            - الغين.
            - الران.
            قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة»، ما معنى «ليغان على قلبي»؟ يعني يصيبه شيء لطيف جدا من الحجاب بسبب مكابدة الدنيا، وما يتصل بأعمال الإنسان وحياته، فهذا الغشاء الرقيق جدا الذي لا يكاد يرى يسبب النبي -صلى الله عليه وسلم- بشيء من الضيق فيستغفر الله -سبحانه وتعالى- منه، وهو في الغالب ليس من الذنوب، ولكن ما يصيب الإنسان من غفلة يسيرة يراها المقربون شيئًا عظيمًا في مقام علاقتهم بالله -سبحانه وتعالى-، ولذلك يبادرون إلى محوه، واستغفار الله -عز وجل- منه.
            أما الران: فهو الحجاب الكثيف الذي يمنع وصول الحق والاستماع إليه والاستجابة له.
            قال الله -عز وجل-: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبهِم ﴾، والرين يكون على القلب، وليس على الأذن، ولا على البصر، ولا على اللسان.
            ﴿ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿14﴾ كَلَّا ﴾، هذا أيضا ردع وزجر له لتأكيد هذا الردع والزجر لشدة ما قالوا؛ لأنهم قالوا في كلام الله قولًا عظيمًا، قالوا: ﴿ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾.
            ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ﴾، أي في يوم القيامة سيحجبون عن رؤية الله، لماذا يحجبون عن رؤية الله؟ لأنهم ما فتحوا أعينهم لرؤية آياته في الدنيا، فيجازون على ذلك بأنهم يوم القيامة يحجبون عن رؤية ربهم -سبحانه وتعالى-.
            وهذه الآية استدل بها الإمام الشافعي على أمر يُعتبر من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، فما هو؟ نعم رياض.
            {استدل بها الإمام الشافعي على رؤية وجه الله في الآخرة}.
            على رؤية وجه الله -عز وجل- في الآخرة للمؤمنين، صحيح.
            قال: إذا كان هؤلاء قد تُوعِّدوا على ما فعلوا بأنهم سيحجبون عن الله، دل ذلك على أن هناك قومًا وهم المؤمنون سيرون الله -سبحانه وتعالى- وسيكون ذلك من صميم نعيمهم.
            وقد جاء بمنطوق هذا المفهوم آيات في القرآن، منها قول الله -عز وجل-: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴿22﴾ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة 22، 23].
            قال الله -عز وجل-: ﴿ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ﴾، أي بعد حجبهم عن الله في يوم الموقف يصلون الجحيم.
            ومعنى كلمة "صالوا" أي يُدخَلون النار فيصلون بحرها، ويقاسون عذابها.
            إذن يجمع لهم في كلمة "صالوا" من الوصول والصلي، فهم يدخلون النار ويصلون بها، ﴿ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ﴾.
            ﴿ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بهِ تُكَذِّبُونَ ﴾، إذا أدخلوا النار قيل لهم: ﴿ هَذَا الَّذِي كُنتُم بهِ تُكَذِّبُونَ ﴾، هذا الذي كنتم تكذبون بحصوله وتحققه، انظروا إليه، وهذا يقال لهم على وجه ماذا؟ على وجه التبكيت والاستهزاء بهم، جزاء ما استهزؤوا بآيات الله -عز وجل-.
            بهذا نكون انتهينا من هذا المقطع، وننتقل إلى المقطع الذي يليه.
            قال الله -عز وجل-: ﴿ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بهِ تُكَذِّبُونَ ﴿17﴾ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴾، هنا -يا إخواني- "كلا" جاءت وليس قبلها كلام ينفى أو يرد عليه، ولذلك تكون بمعنى ماذا؟ بمعنى حقًا، هنا "كلا" بمعنى حقًا.
            قال الله -عز وجل-: ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ ﴾، أي كتاب أعمالهم، ومآلهم، ومصيرهم ﴿ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴾.
            وجاء بمؤكدات:
            - "إن".
            - و"لفي".
            - وكونه جملة اسمية، ثلاث مؤكدات، لأنه يخاطب قوما منكرين.
            والأبرار: جمع بر، والبر: هو من يتوسع في فعل الخير، فعنده صلاة، وصوم، زكاة، حج، عمرة، ذكر، قراءة قرآن، بر والدين، صلة رحم، متوسع في أفعال الخير، سواء في أجناسها، أو سواء في كل واحد منها يتوسع فيه، فهو في صلة الرحم لا يقتصر على إخوانه وأخواته فقط، بل على أبناء عمه، وأبناء خاله، وعلى أقاربه، ومن حوله.
            وفي بره مثلا لوالديه لا يقتصر على أبيه وأمه، بل على جده أبي أبيه، وجده أبي أمه، وجدته أم أبيه، وجدته أم أمه، ومن فوقهم يدعو لهم، يصلهم، يعطيهم، يقضي حاجاتهم، فهو متوسع في فعل الخير أفقيًّا وعموديًّا.
            في الصلاة لا يكتفي بالصلوات الخمس، بل إنه يصلي الصلوات الخمس، ويأتي بالنوافل، نوافل قبلية لكل صلاة، نوافل بعدية، والنوافل التي لها مواسم وأوقات معينة كقيام الليل، وصلاة الضحى، وغيرها.
            قال الله -عز وجل-: ﴿ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴾، أي لفي علو، وهذه الكلمة اختلف فيها السلف:
            - فمنهم من قال: ﴿ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴾ أي في السماء السابعة.
            - ومنهم من قال: عند قائمة العرش اليمنى.
            - ومنهم من قال: عند سدرة المنتهى.
            - ومنهم من قال: في السماء.
            والصحيح: أن ﴿ عِلِّيِّينَ ﴾ مأخوذة من العلو، أي في علو عند الله -سبحانه وتعالى-، وقد جاء في حديث البراء الطويل، قال: «اكتبوا -أو ضعوا- كتاب عبدي في عليين في السماء السابعة»، فهذا يدل على أن عليين في السماء السابعة، والعلم عند الله.
            كتابهم: أي مآلهم وكتاب أعمالهم، ولذلك قال بعده ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ﴾، هذا ليس على وجه الاستفهام المجرد الذي يراد به الجواب، وإنما يراد به التفخيم، والتعظيم، ولفت الانتباه، وشد الذهن إلى معرفة الأمر الفخيم العظيم.
            أي شيء عليون؟ هكذا يريد أن تفهم، وأن تعقل، وأن تنتبه.
            قال: ﴿ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ﴾، أي هؤلاء كُتبت أسماؤهم وأعمالهم كتابة لا تُمحى ولا يُزاد فيها ولا ينقص، مرقومة رقما كما يكتب وينقش على الحجارة.
            قال الله -عز وجل-: ﴿ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾، أي يحضره من كل سماء مقربوها، يحضره من أهل كل سماء من؟ مقربوها.
            والمقربون: هم ملائكة الله -سبحانه وتعالى- الذي يقربهم الله ويدنيهم. يحضرونه لماذا؟ يحضرونه ليباركوه، ليشهدوا عليه، وليحصل للمؤمن بشهود هؤلاء السعادة والسرور، أنت عندما تستلم مكافأة أو شهادتك الجامعية، أو الماجستير أو الدكتوراه، فتعطى إياها على وجه الخفاء، لا تشعر بلذتها ولا بأنك حققت فيها شيئًا ذا بال.
            أما إذا سلمت إياها بمحضر من الوزراء، أو الأساتذة، أو مدير الجامعة، أو غيره، شعرت بأن هذا شيء يفخر به، قال: ﴿ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾.
            ثم ننتقل بعد ذلك إلى المقطع الذي يليه، وهو قول الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾، هذه على طريقة القرآن في كونه إذا ذكر الترهيب، يذكر بعده الترهيب، وإذا ذكر الوعد، يذكر بعده الوعد، وهكذا العكس، إذا ذكر الوعد، ذكر بعده الوعيد، إذا ذكر الجنة، ذكره بعده النار، إذا ذكر الترغيب، ذكر بعده الترهيب، لأن القرآن مثاني.
            ما معنى مثاني؟ يعني تثنى فيه الأخبار، والوعد والوعيد، والأحكام، والقصص، وتكرر وتعاد، ويؤتى بها على صفة لا تحمل الإنسان على القنوط ولا على الرجاء الذي يخرجه عن الخوف، فهو دائما بين جناحين: جناح الخوف وجناح الرجاء.
            قال: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ ﴾، وقد تقدم تفسيرها.
            ﴿ لَفِي نَعِيمٍ ﴾، وقد جاء بمؤكدين:
            - الأول: "إن".
            - والثاني: "لفي".
            - والثالث: الجملة الاسمية، لأنه يتحدث مع قوم منكرين.
            ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾، هذا النعيم أين هو؟ هل هو نعيم الجنة؟
            نقول: نعم، هو نعيم الجنة، لكن لا يمنع أن نبقي الآية على إطلاقها، فنقول: إذا كان هذا نعيمهم في الجنة، فلهم نعيم قبله يعتبر تقدمة له، وهو نعيمهم في الدنيا، نعيم الإيمان، وطيب النفس، واليقين.
            ونعيم في القبر، عندما يدخل المؤمن في قبره، ويفسح له مد بصره، ويفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وريحانها.
            قال الله -عز وجل-: ﴿ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ﴾ ما هي الأرائك؟ بشير، أنت معنا؟ ما الأرائك؟
            {السرر}.
            الأرائك: يقول بشير: السرر. طيب لماذا لم يقل: "على سرر"؟ لماذا عبر بالأرائك؟ لا بد أن هناك فرقًا بين السرر والأرائك.
            {الأريكة: هي التي يتكأ عليها أهل الجنة}.
            طيب.. رياض، ما عندك؟ ما في جديد؟
            {ما في جديد}.
            طيب.. إذن الأرائك -كما قال الأخ بشير- هي: السرر، لكنها سرر مزينة ومزخرفة، ليست سريرا فقط؛ بل عليها ستور مرخاة، وفيها من أنواع الجمال والحبور واللذة وطيب المنظر، ما يجعلها مختلفة عن بقية السرر، فلا تسمى أريكة إلا إذا كانت في الحجلة، والحجلة مثل سرير العروس، يوضع فوقها ستور مرخاة، وأشياء تجملها وتجعلها في غاية البهاء والجمال.
            قال: ﴿ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ﴾، ينظرون إلى ماذا؟ هل ينظرون إلى نعيمهم؟ أو ينظرون إلى بعضهم؟ أو ينظرون إلى ربهم؟ أو ينظرون إلى الكفار وهم في نار جهنم يكتوون بنارها؟
            نقول: ما دام اللفظ مطلقا في القرآن فنبقيه على إطلاقه.
            ولذلك من قال: ينظرون إلى نعيمهم؛ فهو صحيح.
            ومن قال: ينظرون إلى بعضهم كما قال الله: ﴿ عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر: 47]، قلنا صحيح.
            ومن قال: ينظرون إلى ربهم؛ قلنا صحيح؛ لأن في الآيات المتقدمة واللاحقة ما يدل على ذلك.
            ومن قال: ينظرون إلى إخوانهم الذين كانوا في الدنيا معهم، وكانوا على غير دينهم، ينظرون إليهم وهم في النار يصرخون من عذابها، فهو صحيح، لأنه ورد في سورة الصافات ما يدل على ذلك.
            قال الله -عز وجل-: ﴿ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ﴾، يعني ترى على وجوههم أثر النعمة، وأثر السرور والحبور، ويعرف دائما سرور الإنسان وحبوره، والتذاذه النفسي، وطيب قلبه، بما يرى على وجهه.
            يقول عثمان بن عفان: "وما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحة وجهه وفلتات لسانه".
            ففي وجوههم تعرف نضرة النعيم، كيف أنهم في مطعم طيب، وفراش طيب، ومسكن طيب، وأهل طيبين، ومكان منعم، كل ذلك يرى على صفحات وجوههم.
            ﴿ يُسْقَوْنَ ﴾، بدأ الآن في تفصيل النعيم، ﴿ يُسْقَوْنَ ﴾، قال: ﴿ يُسْقَوْنَ ﴾، ولم يقل: "يستقون"، لماذا؟
            لأنهم يطوف عليهم غلمان مخلدون، يطوف عليهم غلمان يأتونهم بالماء، يأتونهم بالطعام، لأن الجنة دار لا عناء فيها ولا تعب.
            قال: ﴿ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ ﴾، الرحيق هو: الخمر، رحيق الجنة خمرها.
            ﴿ مَّخْتُومٍ ﴾: هذه الكلمة -يا إخواني- وقع فيها خلاف بين السلف على ثلاثة أقوال، دعونا نفصلها هنا ونذكرها لكم.
            مختوم، قال بعض العلماء: أي خاتمته مسك. هذا قول.
            وقيل: مختوم أي ممزوج، هذا قول آخر أيضا، يعني ممزوج ﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ ﴾ أي ممزوج بالمسك.
            وقيل: مختوم أي عليه طابع وخاتم من مسك، أي ما طبع عليه وختم عليه من المسك.
            هذه ثلاثة أقوال، وهي قريب من اختلاف التنوع، لكن عند التأمل سنجد أن أحدها هو الأولى بالمعنى.
            فنحن إذا قلنا: ممزوج، فإننا نجد أن في الآيات تكرارًا، لأنه قال: ﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ ﴾، يعني ممزوج بالمسك، ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴿26﴾ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ ﴾، فنقول: كيف يقول ممزوج بالمسك، ممزوج بالتسنيم؟ ما يصلح هذا.
            إذن هذا المعنى ليس صحيحا.
            طيب.. إذا قلنا: ما طبع عليه، وختم عليه. الذي نعلمه نحن أن أهل الجنة يستقون من الأنهار، ويشربون منها شيئًا طازجًا، يعني حاضرًا، وليس في الدنان أو في الجرار أو غيرها، وهذا ينفي أن يكون المعنى، ما طبع عليه، وإن كان ورد في بعض الأحاديث أن من خمر الجنة ما يكون في الدنان.
            طيب.. الثالث: خاتمته مسك، يعني آخر شيء فيه مسك، فالمؤمن عندما يشرب من خمر الجنة يجده بخلاف خمر الدنيا، فخمر الدنيا:
            - أولا منتنة.
            - ثانيا مؤذية.
            - ثالثا: يكون غالب ما فيها من الحثالة تكون في أسفلها.
            أما خمر الجنة فإنها طيبة الريح، وأطيب ما فيها يكون في آخرها، إذا وصل المؤمن لآخرها فاحت عليه رائحة المسك، فأضافها أو شربها بشغف، وقال: زيدوني. وطلب الكأس الثاني، والثالث، وهذه الكؤوس تأتي كل واحد منها له طعم ولذة مختلفة عن طعم الأول، كما قال الله: ﴿ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ﴾ [البقرة: 25].
            قال: ﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ ﴾. إذن هذه ثلاثة أقوال هي أقرب ما تكون لاختلاف التنوع، لكن أولاها بالمعنى هو قوله: خاتمته مسك، أي آخر ما فيه المسك.
            قال الله -عز وجل- حاثا عباده على السعي لهذا النعيم بالإيمان، والعمل الصالح، واتقاء مظالم العباد: ﴿ وَفِي ذَلِكَ ﴾، أي في مثل هذا النعيم ﴿ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾، ليتسابق أهل السباق، ولا تنتظر أنك تقول: والله الحمد لله أنا أصلي، أنا لست مثل فلان، فلان ما يصلي في السنة إلا مرة، ولا ما يحضر إلا جمعة، أنا أحسن منه حالا، أصلي كل يوم مرتين ثلاث. هذه ليست حال المنافس.
            حال المنافس التي أمر الله أن نكون عليها، هو ذلك الرجل الذي لا يكاد يبصر أحدا تقدم عليها إلا سعى بجهده في أن يسبقه، وألا يكون خلفه، هذا هو المنافس.
            فإذا رأيت أخاك يقوم من الليل نصف ساعة، تقول: لأنافسنه، تقوم أنت نصف ساعة وزيادة، ثم رأيت الثاني يقوم ساعة، تقول: لأنافسنه، فتزيد على الساعة، رأيت الآخر يتصدق من راتبه بثلثه، تتصدق بأكثر، رأيت الثالث يبر والديه بأنواع من البر، تزيد عليه في البر. لأنك ماذا؟ تنافس، ولكن في بضاعة الآخرة التي ليست نافقة، ليست خاسرة أو كاسدة، بل هي البضاعة الحقيقية.
            قال الله: ﴿ وَمِزَاجُهُ ﴾ أي خلطه، مخلوط بماذا؟ بالتسنيم.
            هذا التسنيم هو أعلى أشربة الجنة، ومنه سمي تسنيمًا، لأن السنام هو العالي من الشيء، كما هو سنام البعير، فسمي أعلى أشربة الجنة بالتسنيم.
            قال الله -عز وجل-: ﴿ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ ﴾، أي من شراب عال في الجنة، يخلط مع الرحيق الذي ذكره الله -عز وجل- في هذه الآية.
            قال: ﴿ عَيْنًا ﴾، ما ﴿ عَيْنًا ﴾؟ التسنيم، التسنيم هذا عين.
            ﴿ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ﴾، فالمقربون يشربون صرفا غير ممزوج من التسنيم، أما الأبرار فإنهم يشربون من ماذا؟ الأبرار يشربون من الرحيق المختوم ممزوجا بالتسنيم؛ لأن منصبهم ومقامهم في الجنة دون منصب المقربين.
            وهذه الآيات على اختصارها وإجمالها قد جمعت لنا أصناف المؤمنين في الجنة، فهناك المقربون، وهم المذكورون في سورة الواقعة: ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ﴿10﴾ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [الواقعة 10، 11]، وهناك أصحاب اليمين الذي هم الأبرار، وهذا هو الفرق في منازلهم في الجنة، وفي أعطياتهم، ونعيمهم.
            إذن التسنيم عين، قال هنا: ﴿ يَشْرَبُ بِهَا ﴾، العادة نحن -يا رياض، ويا بشير، ويا حكمت- نقول: نشرب منها، أليس كذلك؟ تشرب من العين ولا بالعين؟ من العين، لكنه قال: ﴿ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ﴾، فما السر في ذلك؟ أو ماذا يسمى عند العرب مثل هذا الأسلوب؟
            {هو طبعا ضمن معنى الالتذاذ بذلك}.
            إذن هذا أسلوب يُسمى أسلوب...؟
            {التضمن}.
            التضمين، جميل، أحسنت -بارك الله فيك-.
            يقول أخي رياض -من كوسوفا جزاه الله خيرا- هذه تسمى: التضمين، وهو أن تضمن فعلا معنى فعل آخر، يعني يكون الظاهر فعل، ووراءه فعل آخر، كيف نعرفه؟ نعرفه بحرف الجر الذي يناسب الفعل الآخر.
            فبدل أن يقول: "يشرب منها"، إذا قال: "يشرب منها" لا تدل إلا على الشرب، فقال "يشرب منها" دلت على الشرب وعلى شيء آخر استدللنا عليه بورود "من" والجر، وهو ما ذكره أخونا رياض.
            قال: ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ﴾، يشرب ملتذا بها، لماذا؟ لأن المقربين في الجنة لا يحتاجون إلى الشرب لسد العطش، ليس عندهم أصلا في الجنة عطش، وليسوا بحاجة إلى ماء أو خمر يرويهم من العطش، ولكنهم يشربون ليتلذذوا، ويأكلون لا ليسدوا الجوع، وإنما ليتلذذوا.
            قال: ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا ﴾، أي ملتذا أو يلتذ بها المقربون.
            بعد ذلك ننتقل إلى المقطع الأخير في هذه السورة، وهو مقطع يعود بنا إلى سياق الترهيب والترعيب، وجو السورة الذي جاءت به، سياق التهديد والوعيد لأولئك الذين أجرموا، فالسورة افتتحت به ﴿ وَيلٌ لّلْمُطَفِّفِينَ ﴾.
            بعدما ذكر هذا النعيم، وذكر هذا العذاب، وأين كتاب الفجار، وأين كتاب الأبرار، ذكر لنا حال أولئك الذي كانوا يؤذون المؤمنين ويكذبون بكتاب الله -عز وجل-، وبرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ما هي حالهم في النار؟ ما هي حالهم يوم القيامة؟ سيأتيكم حالهم، سيذكر حالهم في الدنيا ماذا يفعلون بالمؤمنين، وحالهم في الآخرة.
            قال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا ﴾ أي في الدنيا، ﴿ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ ماذا؟ ﴿ يَضْحَكُونَ ﴾، يستهزؤون ويسخرون، ويؤسفني من بعض المسلمين -على أنه مسلم ويشهد ألا إله إلا الله- إذا مر به مسلم أحسن حالا منه بدأ يضحك منه، يقول: انظر يا فلان، ثوبه قصير، لحيته طويلة، أو مثلا يسبح، أو يصلي، أو أزعجنا بتلاوته، أو غير ذلك من أنواع الاستهزاء والسخرية التي لا تليق بمن فيه قلبه مثقال ذرة من إيمان، المفترض إذا كنت مقصرًا في طاعة الله، ورأيت من هو خير منك؛ إما أن تتمنى أن تكون كحاله، أو تتركه وحاله.
            قال الله -عز وجل-: ﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ ﴾ ماذا؟ ﴿ يَتَغَامَزُونَ ﴾، يشيرون بالأيدي، بالشفاه، بالأعين، للاستهزاء والسخرية والانتقاص من أولئك المؤمنين.
            ﴿ وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ ﴾، إذا رجعوا إلى أهلهم، ﴿ انقَلَبُوا فَكِهِينَ ﴾، أي متعجبين، أو مستهزئين ساخرين بأولئك الذين رأوهم من المؤمنين، فلا شغل لهم في ليلهم ونهارهم إلا هؤلاء، وهذا نراه اليوم من كثير من الكفار وأذنابهم، ومن الغربيين وأتباعهم، وممن يسيرون على منهاجهم وهديهم، في بلاد المسلمين نجدهم لا هم لهم في ليلهم ولا نهارهم إلا السخرية بالدعاة، والصالحين، والمصلحين، والأئمة، والعلماء، لا ندري ماذا يتركون المجال الواسع الرحب في الحديث وفي الحياة ليقتصروا على ذلك، لكنه من فتنة الله لهم، واستدراجه لهم.
            قال: ﴿ وَإِذَا رَأَوْهُمْ ﴾، رأوهم في المجالس، أو في الأماكن، أو في وسائل الإعلام، ﴿ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ﴾، بأي صورة من صور الضلال، كأن يقولوا: هؤلاء رجعيون، هؤلاء إرهابيون، هؤلاء متزمتون، هؤلاء... إلى آخره من العبارات التي هي بمعنى كلمة ﴿ لَضَالُّونَ ﴾، لأن المقصود المعنى، وليس المقصود اللفظ.
            قال: ﴿ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ﴾، لم يجعل الله هؤلاء حافظين لأعمال هؤلاء، انشغلوا بأنفسكم، صححوا أوضاعكم، انظروا إلى أعمالكم، تركتم الحق، وسخرتم بالمؤمنين.
            قال الله -عز وجل-: ﴿ فَالْيَوْمَ ﴾ الذي هو يوم القيام، يوم يكون الناس فيه أبرارا وفجارا، هؤلاء في الجحيم وهؤلاء في النعيم.
            ﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾، كان هؤلاء في الدنيا يضحكون، إذن تنقلب الآية في الآخرة، فيضحك المؤمنون من الكفار كما ضحك الكفار في الدنيا من المؤمنين، جزاء وفاقا.
            ثم قال: ﴿ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ﴾، يعني: والمؤمنون جالسون على الأرائك وهم ينظرون إلى الكفار فيضحكون منهم.
            قال الله -عز وجل-: ﴿ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾، استفهام للتقرير، يعني هل جوزي، "ثوب" بمعنى: جوزي ﴿ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾، نعم لقد جوزي الكفار ما كانوا يفعلون، وأخذوا حظهم من العذاب جزاءً وفاقًا، لم يظلمهم الله -سبحانه وتعالى- شيئًا من أعمالهم.
            ننظر إذا كان هناك أسئلة، لا يوجد أسئلة من إخواننا المستمعين.
            نكون بهذا قد وصلنا إلى ختام هذه السورة العظيمة -سورة المطففين- نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينفعنا بها.
            ويلاحظ إخواننا المشاهدون أننا أقرب إلى التفسير الإجمالي، والإشارة إلى المعاني؛ لأن الوقت لا يتسع لأن نقول كل ما تستحقه هذه الآيات من معاني وعبارات؛ ولا أن نصل إلى ما فيها من فهوم وعلوم، لكن يكفي -كما يقول العلماء- من القلادة ما أحاط بالعنق.
            ونرجو أن يكون هذا مقدمة للتعرف على أسرار هذه السورة، وما فيها من الحكم والأحكام، والعظات، والدروس، والعبر.
            إن شاء الله نلتقي بكم في مجلس قادم، وإلى اللقاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

            التعديل الأخير تم بواسطة *أمة الرحيم*; الساعة 18-03-2014, 07:47 PM.

            تعليق


            • #7
              رد: تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري

              السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
              الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومَن والاه.
              مُشاهديّ الكرام وإخواني الحضور -في هذه القاعة- حيّاكم الله في درس جديد من دروس مادة التفسير في هذه الأكاديمية الإسلامية المفتوحة.
              واليوم معنا سورة الانشقاق، وسورة الانشقاق إحدى السورة التي تضمنها جزء عم، وهي سورة مكيّة بلا إشكال؛ لأن موضوعاتها وأسلوبها هو أسلوب السور المكيّة.
              وقد ورد في فضلها الحديث الذي ذكرناه في سورة التكوير، وفي سورة الانفطار، حينما قال النبي -صلى الله عليه وآله سلم-: «مَن سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين، فليقرأ ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾، و﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ﴾، و﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ﴾».
              هذه السورة مكية كما ذكرنا، وهي خاصة أو تتحدث عن يوم القيامة، وما فيه من الأحداث والأهوال، وما فيه من العظات التي تحمل الناس على أخذ الأُهْبَة والاستعداد لذلك اليوم.
              افتُتحت هذه السورة بقوله: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴿1﴾ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾، بدأ بالسماء لماذا؟ لأنَّ السماء آية كبرى يراها كل احد، مَن كان في شمال الكرة الأرضية، ومَن كان في جنوبها، ومَن كان على خط الاستواء، وهي آية يُبصرها الصغير والكبير، والناس يرونها أضخم الآيات التي يرونها بأعينهم، ولذلك يبيِّن الله أن هذه السماء على عِظَمها وكِبَر جرمها إلا أنها ستتشقق، وسيحدث لها تغيُّر.
              فإذا كانت السماء التي هي أصل في الثبات وعدم التغيُّر -فيما نرى نحن- والتماسك والاستواء وحُسنِ الخلْق، فغيرها من بابٍ أولى.
              ففي يوم القيامة يتغيَّر كل شيء، ولذلك يعبِّر بعض المعاصرين عن ذلك التغير الذي سيحدث يوم القيامة بأن يقول: هو الانقلاب الكوني، يكون كل شيء يَنقلب على ضد ما كان عليه، إذا كانتِ النجومُ في السماء فإنها ستَهبط، وإذا كانت مُنيرة فإنها ستنطفئ، وهذه الشمس إذا كانت مستديرة فإنها ستُلف، وإذا كانت مضيئة فإنه ستنطفئ وتُلقى في النار، وهذه الجبال التي هي أصل في الرسوِّ والثبات والرسوخَ ستتفتت وتكون كثيبًا مهيلًا، ثم يجعلها الله كالعهن المنفوش، ثم تُسيَّر ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: 88].
              إذن: افتتح بالسماء؛ لأن السماء آية عظيمة، بل هي أعظم الآيات التي نَراها بأبصارنا، فيقول: هذه السماء التي ترونها ما لها من فطور، وما فيها من شُقوق، إذا جاء ذلك اليوم كان من أبرز معالمه أنها تتشقق.
              وقد بَيَّنَّا أنها تمر بمراحلَ، فهي أولًا: تنفطر، وهو الانفطار أولُ الانشقاق، ثم تنشق، ثم تُفتَّح، كما قال الله في سورة عم: ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾ [النبأ: 19]، في قراءة ﴿وَفُتِّحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾.
              قال: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴿1﴾ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾، كلمة ﴿وَأَذِنَتْ﴾ ما معناها؟ مَن يعرف معنى ﴿أَذِنَتْ لِرَبِّهَا﴾؟
              {استمعت لربها وانقادت}.
              أحسنت، استمعت، وهذا الاستماع يدعوها إلى الانقياد، يعني استمعت استماع المنقاد.
              وكلمة "أَذِنَ" تأتي في اللغة العربية بمعنى الاستماع، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيٍّ حَسَنِ الصوت يَقرأ القرآن يترنم به»، يعني ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبيٍّ حسنِ الصوت يقرأ القرآن يترنم به.
              إذن: ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا﴾، استمعت له مع ضخامتها وعظمها وكِبَر جرمها، فإنها تستمع لله، وتطيع وتذعن لله.
              ﴿وَحُقَّتْ﴾؛ أي حُقَّ لها أن تسمع وتطيع، فلا يسعها شيء غير ذلك. وهذا فيه ماذا؟ فيه الذم لأولئك الذين يسمعون كلام الله ولا يستجيبون ولا يطيعون.
              إذا كانت هذه السماء على ضخامتها وعظمها تستمع لربها وتطيعه، ولا يليق بها شيء غير ذلك، فما بالكم أنتم تستكبرون؟! ولكن هذا طبع الإنسان ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات: 6]، أي جحود كفور، ﴿قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ [عبس: 17]، وقال: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72]، هذه من طبيعة الإنسان التي يجب أن يتغلب عليها بانقياده لأمر الله، واستماعه لوحي الله، واستجابته لأمر الله.
              قال الله -عز وجل-: ﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ﴾، هذه الآية المقابلة، بعد أن ذكر السماء جاء إلى الأرض التي نراها نحن، آية عظيمة ضخمة، نمشي على متنها، ونبني على ظهرها، ونسير على طرقها، هذه الأرض التي تبدو في الصورة وتبدو أيضًا للناظر من بعيد أنها ليست ممدودة، وإنما هي كُرَيَّة.
              قد أجمع العلماء سلفًا وخلفًا على أن الأرض كروية، هذه الأرض يوم القيامة لا تبقى كروية، وإنما تمدُّ مدَّ الأديم -أي مدَّ الجلد- فتبقى مستوية حتى تستوعب جميع الخلائق ممن خُلِقوا على ظهرها من الإنس والجن والحيوانات؛ لأن الحيوانات يوم القيامة أيضًا تُحشَر ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ [التكوير: 5].
              قال: ﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ﴿3﴾ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ﴾، الأرض في جوفها ثروات هائلة جدًا، وفي جوفها أشياء وضعها الناس، منها أبناء آدم الذي إذا ماتوا دُفنوا في الأرض، ومنها ما يوضع فيها من الكنوز، وما فيها من الخيرات، وما خلق الله في جوفها من الثروات؛ كل ذلك يوم القيام تلقيه الأرض وتؤديه، فهي أمينة وهي مطيعة، ويمر الناس بها ويتأسفون، يقولون: على هذا -الذي لا نلتفت إليه اليوم- كنا نختلف ونتقاتل ويبغي بعضنا على بعض، ويأكل القويُّ منا الضعيفَ، تبًّا لهذا الذي ألقته الأرض، ونحن اليوم نتعفف عنه ولا نلقي له بالًا.
              قال: ﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ﴾، تخلت عنه وتركته.
              قال الله -عز وجل-: ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا﴾؛ أي استمعت لربها، ﴿وَحُقَّتْ﴾، يعني وحُقَّ لها أن تستمع.
              هذا الآن كله كلام عن أهوال يوم القيامة ليدخل منه إلى شيء آخر من أحوالها التي يجب علينا أن نستعدَّ لها.
              قال الله -عز وجل- مبينًا ماذا يكون للإنسان، قال: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ﴾ هنا ليست بمعنى الإنسان الكافر، بل هي بمعنى الإنسان أي: جنس الإنسان، المؤمن والكافر، بدليل قوله بعدها: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴿7﴾ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴿8﴾ وَينقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴿9﴾ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ﴿10﴾ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ﴿11﴾ وَيصْلَى سَعِيرًا ﴿12﴾ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾.
              يقول الله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ﴾ خطاب لبني الإنسان جميعًا.
              ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ﴾، ما معنى "كادح"؟
              {كادح جاء بمعنى: جاهد وساع إلى لقاء الله}.
              جميل، الكدح بمعنى: بَذل الجهد والسعي والعمل المجهِد، هذا هو الكدح.
              وهذا يدلنا على أن جميع بني الإنسان سيكدحون في الدنيا، الأغنياء والفقراء، الأمراء والضعفاء، الكبار والصغار، الذكور والإناث؛ لا بد أن تأخذ حظك من الكدح.
              بعض الناس يقول: الأغنياء مرتاحون، ليسوا مرتاحين، قد يرتاح بدنه، لكن ينشغل قلبه، أنت الآن تنام في أي مكان مرتاحًا لا تفكر إلا في هذه الدريهمات التي في جيبك، وهو لا يكاد يأتيه النوم في الليل؛ لأنه يفكر في الباخرة التي تمشي في عرض البحر، والطائرة التي تسير في جو السماء، فالكل يأخذ نصيبه من الكدح.
              هنا يقول الله -عز وجل-: ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا﴾، وأبهمه هنا ولم يبيِّنه لاختلاف الكدح، فمن الكدح كدحٌ صالح، ومن الكدح كدحٌ فاسد، من الكدح كدحٌ طيب، ومن الكدح كدحٌ خبيث.
              ﴿فَمُلَاقِيهِ﴾، هل قوله: ﴿فَمُلَاقِيهِ﴾ هذه تعود إلى قوله: ﴿كَدْحًا﴾ أو تعود إلى قوله: ﴿رَبِّكَ﴾؟ لأن الضمير هنا يصلح أن يعود إلى هذا، ويصلح أن يعود إلى هذا، ماذا ترون؟ ماذا ترون يا شباب؟
              {الذي يظهر أنه يرجع إلى الكدح، أقرب ما يكون}.
              يقول: يرجع إلى الكدح لأنه أقرب ما يكون، هذا قول لبعض أهل العلم، وهو أن قوله: ﴿فَمُلَاقِيهِ﴾؛ أي فملاقٍ كدحك.
              والقول آخر: ﴿فَمُلَاقِيهِ﴾ فملاقٍ ربَّك.
              وعندنا قاعدة: "أنه إذا صلح أن يعود الضمير إلى هذين؛ فلا مانع"، ونحن نقول: كادحٌ إلى ربِك كدحًا فملاقٍ ربَّك بكدحك.
              فأنت لا بد ملاقيه، ستلاقي عملك. طيب، عند مَن؟ عند ربك، ولذلك ما تعمل من خير إلا وستلقاه، وما تعمل من شر إلا وستلقاه، وستلقاه عند ربك الذي سألك عن القليل والكثير، وعن الصالح والسيئ، وعن الطيب والخبيث، والذي لا يغادر من عملك شيئًا. قال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾.
              قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾، الآن جاء يفصل الكدح، فمنه كدح طيب وبدأ بهم، ومنهم كدح خبيث وثنَّى بهم.
              قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾، هذا إشعار بأنهم عملوا عملًا صالحًا؛ لأنهم يؤتون كتابهم يوم القيامة بأيمانهم -نسأل الله أن يجعلنا كذلك يا إخواني- وهذا موقف من أصعب المواقف وأعظمها وأشدها هولًا على من يحضرون موقفَ يوم القيامة؛ لأن الإنسان لا يَدري، هو ينتظر هل يُعطى كتابه باليمين؟ أو يُعطى كتابه بشماله من وراء ظهره؟
              قال الله -عز وجل-: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴿7﴾ فَسَوْفَ﴾، سوف هذه للتنفيس.
              ﴿يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾، ﴿يُحَاسَبُ﴾ هنا ليس بمعنى يُناقش على الحساب، وإنما بمعنى يُعرض عليه عمله؛ لأن من نوقش الحساب عُذِّب.
              قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَن نُوقش الحسابَ؛ عُذِّب»، يعني من فُتّش معه ودُقّق عليه سيُعذّب، لأنه يُراد إقامة الحجة عليه.
              قالت أمنا عائشة -رضي الله تعالى عنها-: "أليس الله -عز وجل- يقول: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴿7﴾ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾؟"، يعني أثبت أنه يُحاسب. قال: «ليس ذلك الحساب، وإنما هو العرض»، يعني المؤمن يُعرَض، يُقرَّر بذنوبه. ألم تفعل كذا؟ ألم تفعل كذا؟ ألم تفعل كذا؟ فيقول: بلى يا رب، بلى يا رب، بلى يا رب، حتى إذا قرَّره بذنوبه وظن أنه قد هلك قال له الله -سبحانه وتعالى: «إني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم»، اسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعاملنا بلطفه وفضله وعفوه وكرمه، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.
              قال: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾، إذن الحساب اليسير بنصِّ السنة النبوية هو ماذا؟ هو العرض، وليس مناقشة الحساب.
              قال: ﴿وَينقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾، يرجع إلى أهله في الجنة مسرورًا بما لقي من فضل الله وعفوه ورحمته، وإيتائه كتابَه بيمينه، وفي سورة الحاقة قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ﴿19﴾ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ﴿20﴾ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ [الحاقة: 19-21]، يرفع الكتاب فرحًا مسرورًا بهذه النتيجة التي حصل عليها بعد ستين أو سبعين سنة عاشها في الدنيا، وهو يسعى لتحصيل ذلك الكتاب أو يكون بيمينه، جعلني الله وإياكم ووالدينا والمسلمين منهم.
              قال الله -عز وجل-: ﴿وَينقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾، نعم في الدنيا كان خائفًا، كان دائمًا يبكي من خشية الله، كان يخاف أن يُرد عليه عمله، أن يُؤاخذ بذنوبه، ألا يُتقبل منه الصالح من أعماله، إلى آخره مما يحصل للمؤمن، ويموت والخوف يخلع قلبه، لكنه يبدَّل هذا الخوف يوم القيامة أمنًا وفرحًا وسرورًا، فهو في يوم القيامة يبقى مسرورًا ويُبعث على ذلك السرور.
              قال الله -عز وجل-: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾، في هذه السورة قال: ﴿وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾، في سورة الحاقة قال: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ﴾ [الحاقة: 25]، فهل هما صنفان أو صنف واحد؟
              من العلماء من يقول: إنهما صنفان، صنف يأخذ كتابه بشماله، وصنف يأخذ كتابه من وراء ظهره.
              والذي يظهر -والله أعلم- من التصنيف في السورتين أنهما شيء واحد، فهذا الصنف المذكور في سورة الانشقاق هو الصنف المذكور في سورة الحاقة.
              طيب، هل بين الوصفين في أخذ الكتاب تعارض؟ الذي يظهر أنه لا تعارض؛ لأنه يمكن اجتماع الوصفين، فهو يأخذ كتبه بشماله من وراء ظهره -نسأل الله العافية والسلامة-، وهذا فيه من الإزراء عليه، والتقبيح له، والتشهير به في موقف القيامة عندما يأخذ كتابه، وكتابه وراء ظهره.
              الأول يقول: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾، بيمينه.
              والثاني: لا يجرؤ على شيء من ذلك، ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ﴿25﴾ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ﴿26﴾ يَا‎ لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ﴿27﴾ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ﴿28﴾ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ [الحاقة: 25 - 29].
              يُقال عند ذلك :﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ﴿30﴾ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ﴿31﴾ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ﴾ [الحاقة: 30-32]، لماذا؟ ﴿إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴿33﴾ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [الحاقة 33، 34]. إلى آخر الآيات.
              قال الله -عز وجل-: ﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا﴾؛ أي في ذلك اليوم سيدعو على نفسه بالهلاك والويل والثبور، واثبوراه، واخساراه، واهلاكاه، واويلاه.
              لكن هل ينفع؟ ينفعك أن تقول هذا الكلام في هذا اليوم؟ ألم يأتكَ نذير من الله؟ ألم يُنزل الله عليكَ كتابًا؟ ألم يرسل الله لك رسول رسولًا؟ ألم يجعل الله لك عقلًا وعينين ولسانًا وشفتين، ويهديك النجدين، ويُريك الحق، ويُريك الباطل، ويفرق بينهما بالفطرة، وبالعقل، وبالرسالة، وبالدعوة، وغير ذلك مما يقيمه الله عليك من الحجج؟ فما الذي صرفك؟ ما لك حجة! ما لك حجة تحتج بها على الله، فإن الله -سبحانه وتعالى- قد أغلق عليك أبواب الحجج؛ لأنه قد أعذر إليك.
              ﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا﴾؛ أي هلاكًا.
              ﴿وَيصْلَى سَعِيرًا﴾، كما قال: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ﴿30﴾ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾ [الحاقة: 30، 31]، "يَصلَى" و"يُصلَّى" قراءتان.
              يصلى سعيرًا هو بنفسه، ويُصلَّى على وَجه المبالغة ﴿سَعِيرًا﴾؛ أي يُدخل النار فيُصلَى ويُشوَى بحرها.
              ﴿سَعِيرًا﴾ تتسعر به وتحرقه وتتلهَّب على جسده.
              قال: ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي هذا الذي يأخذ كتابه بشماله، وراء ظهره.
              ﴿إِنَّهُ كَانَ﴾؛ أي في الدنيا ﴿فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾، منتشٍ، فرحان، لا يبالي، يشرب الخمر، ويعاقر الزنى، ويفعل الموبقات، وكل ما بيده حلال له، ليس هناك حدود، حرية مطلقة، افعل ما شئتَ فأنت الإله، وأنت كل شيء في هذا الكون.
              ﴿كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾، بعض الناس يعرض لنا صور هؤلاء الكفار وهم مبتهجون في حياتهم، وهم يتلذذون بها، وهم مسرورون بما هم فيه من النعمة ومن الخير، ويقول: انظروا إلى هؤلاء الكفار. نقول: نعم، لهم سرور، وتدركهم سعادة، لكنها سعادة مؤقتة قليلة، من بعدها حسرة وندامة طويلة.
              قال: ﴿كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾، ولكن هذا السرور سينقلب ويتغيّر.
              ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ﴾ ما معنى "ظن" يا شباب؟
              {اعتقد}.
              أي تيقن. ظن بمعنى؟
              {اعتقد، ظنا غالبًا}.
              أي نعم، الظن هنا بمعنى اليقين، ويأتي الظن في القرآن في مواطن بمعنى اليقين. مَن يأتي بمثال على ذلك؟
              في الآيات التي تلوناها قبل قليل، قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ﴿19﴾ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: 19، 20]، هل المؤمن يظن أنه يلاقي الحساب، أم يعتقد ذلك ويجزم به؟
              إذن الظن في القرآن يأتي بمعنى الاعتقاد الجازم -كما ذكر الأخ- وبمعنى اليقين، ويأتي أيضًا بمعنى غلبة الأمر على الإنسان، أنه شيء غالب، كما في قوله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ﴾ [الحجرات: 12]، ﴿إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا﴾ [الجاثية: 32]. أي نعم.
              قال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ﴾، ما معنى "يحور"؟ تفضل يا شيخ، ما معنى يحور؟
              {ألا يرجع}.
              نعم، حَارَ بمعنى رجع.
              "نعوذ بالله من الحور بعد الكور"، يعني من الرجوع بعد التَّمام والاكتمال.
              قال: إنه ظن أن لن يرجع إلى الدنيا، إذا مات انتهى، ولذلك هؤلاء الكفار هذا موجود في عقيدتهم، ما الذي يجعل الكفار الآن يبذلون كل ما في وسعهم لتمتيع أنفسهم في الدنيا؟ تجد الواحد منهم، حتى يُذكر هذا عن بعض الغربيين في بعض الدول كما في دولة فرنسا، يقال أنه يعمل ستة أشهر ويأخذ إجازة ستة أشهر ليتمتع بهذا الذي قد حصله في الأشهر الأولى، لماذا؟ لأنه لا يرى شيئًا آخر غير هذه الدنيا ومتاعها.
              ولذلك لا يدخر شيئًا، كله يأكله ويتنعم به في الدنيا؛ لأنه لا يتوقع مصيرًا آخر، ولا يرجو دارًا أخرى يستعد لها ويضع لها شيئًا من عمله الصالح، أو فضل كماله أو غير ذلك.
              ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ﴾، قال الله -عز وجل-: ﴿بَلَى﴾، يعني سيحور ويرجع، ولا بد له من ذلك، ولا يليق بحكمة الله إلا ذلك، كيف يخلقنا ويخالف بيننا، فمنَّا المؤمن والكافر، ومنَّا البرُّ والفاجر، ومنَّا الظالم والمظلوم، ومنَّا الصالح والطالح، وفي النهاية نموت ميتة واحدة ولا فرق بيننا؟ لا يمكن ذلك، بل لا بد من البعث ولا بد من الجزاء، ولا يسوِّي الله -عز وجل- بين هؤلاء وهؤلاء.
              قال: ﴿بَلَى إِنَّ رَبَّهُ﴾ الذي خلقه ورباه، ﴿كَانَ بِهِ بَصِيرًا﴾؛ أي يراه ويسمع ويعلم عنه، ولا يخفى عليه من أمر عبد خافية، مطلع عليه، قد دوَّن كل شيء عليه.
              ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47].
              بعد هذا المقطع جاء إلى مقطع آخر، فقال -جلَّ من قائل: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ﴾، هذا قسَم.
              ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾ هذا القسم الثاني.
              ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾ هذا قسم ثالث.
              ثلاثة أقسام، أين جواب القسم؟
              ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ﴾.
              طيب، أولًا نبدأ بالقسم.
              قوله: ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾، هذا الأسلوب في القرآن يدل على ماذا؟ على القسم أو نفي القسم؟
              {يدل على القسم}.
              نعم، واحد يقول: لا أقسم.
              {بعض المفسرين قالوا بأنها مزيدة، ولكن الراجح أنها أسلوب من أساليب العرب في القسم، وليست مزيدة}.
              إذن: "لا" هنا مؤكدة للقسم، وتأتي "لا" في الكلام لتأكيده كقوله -عز وجل-: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: 12].
              أصل الكلام: ما منعك أن تسجد، فقوله: ﴿أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ "لا" مزيدة هنا للتأكيد.
              ولذلك يُقال: "زائدة زائدة"، زائدة في اللفظ، زائدة للمعنى، جاءت لزيادة المعنى وتوكيده والعناية به.
              ومثله في سورة الحديد ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الحديد: 29]، أصلها: ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله، وأن الفضل بيد الله جميعًا.
              إذن: "فلا أقسم" هذا أسلوب من أساليب القسم، وهذا هو الذي عليه جمهور السلف، بل أكاد أجزم أنه لا يعرف عن السلف غيره، وإن كان اشتهر عند بعض المتأخرين أن "لا أقسم" هذه يمكن أن تكون نفيًا للقسم.
              فيقول "لا أقسم"؛ لأن الأمر لا يحتاج إلى قسم.
              أو: لا -ليس الأمر كما تزعمون- أقسم بالشفق.
              فنقول: الأفضل والأولى والأليق ما جاءت عليه عادة القرآن من أن "لا" تأتي مؤكدة، فلا أقسم بمعنى أقسم.
              ومما يدل على أنها أسلوب قسم وهو صريح في كتاب الله -عز وجل- في سورة الواقعة عندما قال الله -عز وجل-: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴿75﴾ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ [الواقعة: 75، 76]، فهو يقول: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾يعني أقسم، بدليل أنه قال: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴿76﴾ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾.
              قال: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ﴾، ما هو الشفق؟
              {الشفق: الحمرة في الأفق بعد الغروب}.
              نعم، أحسنت، تعبير دقيق، الحمرة التي تكون في السماء بعد غروب الشمس، وقد اختلف هل هي الحمرة، أو البياض؟ لكن جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر وقت المغرب قال: «ما لم يغِب الشفق»، فدلَّ ذلك على أن وقت العشاء هو وقت مغيب الشفق.
              إذن: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ﴾ الذي هو أول الليل.
              ومَن فسَّر الشفق بأنه النهار كمجاهد فهذا تفسير غير صحيح، بل الشفق هو الشفق المعروف في الفقه، والمعروف في الحديث النبوي، والذي تعرفه العرب، وهو الحمرة التي تكون بعد مغيب الشمس.
              ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ﴿16﴾ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾، الليل هو الليل طبعًا، لا يُعرَّف المُعرَّف، فالليل هو هذا الظلام الذي يأتي بعد ذهاب النهار.
              ﴿وَمَا وَسَقَ﴾ يعني وما جمع، كيف جمع؟ ماذا يجمع الليل؟ سؤال..
              {ما كان قد بان في النهار فإن الليل يضمه ويجمعه في جنباته بحيث لا تظهر بالليل}.
              لا، أنت كأنك أبعدت في الجمع، لكن جمع، الناس متى تجتمع؟ أليس بالليل؟ لأنهم في النهار يتفرقون لطلب الأرزاق والمعايش وحرث الأرض وغيرها، الحيوانات أيضًا في النهار عند شروق الشمس تذهب إلى مراعيها وفي الليل تؤوب إلى حظائرها، حتى الوحوش والبهائم والحشرات والحيوانات وغيرها كلها تجتمع، يعني الليل يجمع. سبحان الله!
              قال: ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾؛ أي جمع.
              ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾، القمر أيضًا أقسم الله به؛ لأنه آية من الآيات العظيمة، ولهذا أن القسم لا يكون إلا بشيء ماذا؟ ظاهر معروف، ليحصل بالقسم به الفائدة، يعني كيف أقسم بشيء لا يراه الناس؟ أو أقسم بشيء لا يعلمه الناس؟ لا يمكن هذا.
              قال: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾، ما معنى اتسق؟
              {اجتمع وتكامل نوره}.
              نعم، اجتمع وتكامل نوره، أو استدار وأبدر واكتمل نوره وذلك في الليالي الوسطى من الشهر، ليلة ثلاثة عشر، وليلة أربعة عشر، وليلة خمسة عشر.
              قال: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾، والغريب أن "اتسق" و"وسق" من مادة واحدة.
              بعضهم يقول: والقمر إذا انتظم، لا، انتظم هذه مأخوذة من تناسق، تناسق الشيء أي انتظم. أما اتسق الشيء أي اكتمل واستدار واجتمع واستنار، هذه كلها بمعنى اتسق.
              فالله يقسم بهذه الأمور الثلاثة، على ماذا؟
              قال: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ﴾، هذا قسم عجيب جدًّا في القرآن، يُقسم الله به على حالٍ أو على شيء يمرُّ بالإنسان، وهو أن الإنسان كائن غير مستقر، ولا يمكن أن يلبث على حالة واحدة.
              هل لاحظتم الجبل الذي في بلدكم؟ الجبل الذي في شمال البلد عندكم، هل لاحظته؟ عندما كان في عهد أجدادك كيف كان؟ على ما هو عليه، والآن؟ على ما هو عليه. ما يتغيَّر.
              أما نحن بنو الإنسان نتغيَّر، ليس في السنوات، ولكن حتى في اللحظات، ما نبقى على حالة واحدة، ليل ونهار، طفولة ثم شباب ثم كهولة ثم هرم، حياة ثم موت، حتى في حال ما كنا أجنة في بطون أمهاتنا أيضًا، نبدأ نطفة ثم مضغة ثم علقة ثم نكبر حتى نخرج، وهكذا عندما نخرج لا نعرف شيئًا، ثم نبدأ نتحرك، ثم نبدأ نفهم، ثم نبدأ نعلم، ثم نحبو، إلى آخره.
              أيضًا في الجوانب النفسية، أنت الآن يا أخ رياض على حالة واحدة نفسية في جميع ساعاتك وأيامك ولياليك؟
              {كلا}.
              طيب، في علمك يا أخي، أنت على حالة واحدة مستقرة لا تتغير؟ لا أبدًا، تأتيك حالات تكون فيها في اكتمال علم، وتأتيك حالات تكون في اكتمال سهو أو جهل، وتأتيك حالات من بعد علمك واكتماله واكتمال عقلك تهرم وتخرف وتبدأ تهذي بالشيء الذي لا يُعقل ولا يُقبل. لاحظتم؟
              إذن: الإنسان كله ذو مراحل.
              طيب، ماذا يعني ذلك؟ يعني أنك مخلوق مسير من قِبَل الله، وأنك لا تملك من أمر نفسك شيئًا، أنا أتمنى أن أكون طوال عمري شابًا نشيطًا قويًّا مسرورًا غنيًّا، لكن هذا لا يمكن أن يكون؛ لأن الأمر ليس إليك وإنما إلى الله.
              فأنا لا أصنع نفسي ولا أخلقها، ولكن الله يخلقها ويتصرف فيها، ويفعل فيها ما يشاء ويريد -سبحانه وتعالى.
              إذن أنتم -أيها العباد- لن تمكثوا على حال، فاستعدوا للحال التي أنتم مقبلون عليها، وإياكم أن تعاندوا، فلا تقبلوا لأنكم تقولون: نحن نتصرف ونفعل ما نشاء، لا، أنتم يفعل الله بكم ما يشاء، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29].
              هذا على قراءة ﴿لَتَرْكَبُنَّ﴾ أنتم أيها الناس.
              فيه قراءة أخرى: ﴿لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ﴾، واختلف المفسرون، هل هي "لتركبن يا محمد" أو "لتركبن أيها السماء" أي لتركبن السماء طبقًا عن طبق؟
              الذين قالوا إنها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- اختلفوا أيضًا:
              - لتركبن طبقًا عن طبق: أي لتركبن يا محمد حالًا بعد حال، فأنت كنت ضعيفًا، ودعوتك كانت سرية ثم انتقلت إلى الجهرية، ثم انتقلت إلى المواجهة، ثم الهجرة، ثم الجهاد وقتال مَن يقاتلك، ثم قتال مَن لا يُقاتلك ولكنه يكفر بك، إلى أو صلت إلى قول الله -عز وجل-: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ [التوبة: 5].
              وأنت كنت في أول أمرك شابًّا قويًّا جَلدًا، ثم انتقلت من حال إلى حال حتى ضعف جسمك وهرمت -عليه الصلاة والسلام-، ثم جاءك الموت الذي جاء مَن قبلك، ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30].
              "لتركبن يا محمد طبقًا عن طبق" أي حالًا بعد حال.
              - أو "لتركبن يا محمد طبقًا عن طبق"، قالوا هذا فيها إشارة إلى موضوع ماذا؟ المعراج، أي تصعد إلى السماء فتنتقل من طبقة إلى طبقة في معارج السماء حتى تصل إلى الحد الذي أمر الله -سبحانه وتعالى- أن تصل إليه.
              قال الله -عز وجل-: ﴿لَتَرْكَبُنَّ﴾، أو ﴿لَتَرْكَبَنَّ﴾.
              - ﴿لَتَرْكَبُنَّ﴾ أنتم أيها الناس.
              - ﴿لَتَرْكَبَنَّ﴾ إما أن:
              - تعود إلى رسول الله.
              - أو إلى السماء.
              إذا عادت إلى رسول الله:
              - إما أن يكون معناها معنى جميع الناس، يعني تنتقل من حال إلى حال.
              - وإما أن يكون معناها إشارة إلى المعراج الذي حصل للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
              قال: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ﴾، ثم قال: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، لاحظوا هذا المعنى المهم، يعني بعدما أقسم بأنه سيتغير أحوالهم، إذن ما الذي يجعلهم وهم يرون أنفسهم تتحول من حالٍ إلى حال، ويرون أن الله يفعل بهم ما يشاء؛ إذن ما الذي يدعوهم إلى أن يتصلبوا ويأبوا أن ينقادوا لأمر الله وهم يرون الله -سبحانه وتعالى- يفعل بهم ما يشاء، ولذلك قال: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿20﴾ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ﴾.
              طبعًا هذه عندنا علامة السجدة، إذا جاءتك هذه، فهذا موطن السجود أو سبب السجود، وهنا مكان السجود، يعني عند نهاية هذه الآية، يعني أحيانًا هذه العلامة تأتي في الآية التي بعدها كما في سورة الإسراء، فالآية التي وُضع فوقها الخط تجدها في آية، والتي وضعت عندها العلامة في آية أخرى، إذن لا تسجد إلا عندما تصل إلى هذا المحراب.
              طيب، وهذه من آيات السجود في القرآن، والسجدات في القرآن قيل إنها إحدى عشرة، وقيل ثلاثة عشرة، وقيل أربعة عشر، وقيل خمسة عشرة، ولعل هذا هو أرجح الأقوال، أنها خمسة عشرة سجدة في القرآن الكريم، وهذه هي السجدة قبل الأخيرة.
              وإذا أراد الإنسان أن يسجد: يكبر ويسجد، ثم يقول: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لما نزل قول الله تعالى ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: 1]، قال: «اجعلوها في سجودكم»، فهي مشروعة في كل سجود، صلاة الفريضة والنافلة والليل والنعال، وأيضًا سجود الشكر، وسجود التلاوة، وسجود السهو.
              ثم يقول بعدها: «سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، فتبارك الله أحسن الخالقين»، ثم إن شاء زاد أيضًا ما ورد في حديث آخر، وهو قوله: «اللهم اكتب لي بها أجرًا، وضع عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك زخرًا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داوود» -عليه الصلاة والسلام- ثم يرفع رأسه بلا تكبير ولا سلام.
              وهل يشترط لها ما يشترط للصلاة؟
              اختلف العلماء:
              - فمنهم من يعاملها معاملة الصلاة، فيشترط لها القبلة، وستر العورة، والطهارة.
              - ومنهم مَن يقول: إنها ليست صلاة، وإذا كانت ليست صلاة فيجوز أن يسجد الإنسان من دون أن يكون على طهارة، ومن دون أن يكون إلى قبله. وهذا هو الأظهر، لكن الأليق بالإنسان أن يراعي شروط الصلاة، فيستر عورته، ويستقبل القبلة، ويكن على طهارة؛ لأنه هذه هي الحالة اللائقة بالإنسان عندما يقرأ القرآن ويسجد للرحمن.
              أما إن كان في الصلاة فإنه ماذا؟ يكبر عند الخفض، ويكبر عند الرفع، لماذا؟ لحديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «كان يكبر في كل خفضٍ ورفع».
              إذن السجود خارج الصلاة يختلف عن السجود داخل الصلاة.
              قال: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، ما الذي يجعلهم لا يؤمنون، والله هو المتصرف فيهم وهو الآمر والناهي وبيده كل شيء.
              ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ﴾، إذا تُليَ عليهم القرآن، وهذا يدلنا على أنه من أعظم وسائل الإنذار وتبليغ الدعوة هو قراءة القرآن.
              ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ﴾، خضوعًا لله ولعظمته، وإذعانًا لهذا الكلام المهيب العظيم البليغ.
              قال الله -جل وعلا-: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ﴾، "بل" هنا نسميها "بل" للإضراب، لكن هو إضراب إبطالي أو انتقالي؟ إبطالي، إبطال لهؤلاء الذي لا يسجدون ولا يؤمنون.
              قال: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ﴾، يعني ما يحملهم على عدم الإيمان إلا مجرد التكذيب فقط، ولذلك سيأتينا في سورة البروج ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ﴾ [البروج: 19]، كأنهم داخل التكذيب.
              قال: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾، الله أعلم بما يضمرون وما في نفوسهم، وأن الذي يحملهم على عدم الإيمان ليس هو عدم ظهور الحق أو آيات الحق ليس قوية ولا مبينة للحق، بل لشهوات في أنفسهم، كبر، حسد، غفلة، متابعة للآباء، استجابة لطلبات الناس والأصدقاء، ونحو ذلك.
              قال: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾؛ أي بما يجمعون في صدورهم ويخفونه عن سائر الناس.
              قال الله -عز وجل-: ﴿فَبَشِّرْهُم بعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾؛ أي بلغهم بأنهم سيعذبون عذابًا أليمًا.
              والبشارة تُقال في الأمر السَّار، وإن كانت في أصل اللغة: الخبـر؛ لأن أثر الخبر يظهر على البشرة، فغلب استعماله على ما يسر، لأن البشرة ماذا؟ يظهر فيها السرور، وهنا تكون من باب التهكم.
              ﴿فَبَشِّرْهُم﴾؛ أي بلغهم بلاغًا يدلُّ على أنهم سيكونون في النار، من باب التهكم بهم؛ لأن البشارة غلب استعمالها على الخبر السَّار.
              قال: ﴿فَبَشِّرْهُم بعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿24﴾ إِلَّا﴾ مَن تحقق فيه وصفان:
              الأول: الإيمان.
              والثاني: العلم الصالح.
              قال الله -عز وجل-: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾، هؤلاء الذين آمنوا صدَّقوا، وخالفوا هؤلاء الذين كفروا وكذبوا، وأيضًا عملوا عملًا صالحًا يوافق إيمانهم، ويصدِّق إيمانهم.
              ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ﴾، ونكَّر "الأجر".
              آسف، أحسنت.. ﴿فَلَهُمْ﴾ ستأتينا في سورة التين، قال: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴿1﴾ وَطُورِ سِينِينَ ﴿2﴾ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴿3﴾ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴿4﴾ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴿5﴾ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ﴾ [التين: 1- 6].
              وهنا ﴿لَهُمْ﴾، وكذلك في سورة البروج ﴿لَهُمْ﴾.
              طيب، ﴿لَهُمْ أَجْرٌ﴾، "لهم" هذه للتمليك، مِلك لهم يملكونه ويتصرفون فيه كيف يشاء، وهذا من سعادة هؤلاء المؤمنين، يعني ليس عارية، تفضل ادخل معنا ساعة، ساعتين تمتع بهذه المتع والنعيم كما يدخل الإنسان في مطعم مثلًا أو غيره، لا، لك، ثابتة لك، مستقرة عندك، لا تزول ولا تحول، كما أنك أنت خالد في الجنة لا تزول ولا تحول.
              قال: ﴿لَهُمْ أَجْرٌ﴾، نكَّر الأجر.
              أولًا ليدل على عظمه؛ لأن التنكير يكون للتهويل والتعظيم.
              وأيضًا ليدل على كثرته، فهو كثير لا حدود له، بل إنهم يزدادون في كل يوم خيرًا، وفي كل جمعة، وهو يوم الزيادة تتغير عليهم كل الأشياء، تغيير إلى الأفضل، إذا ذهبوا إلى يوم الجمعة ورجعوا قال أهلهم: «والله لقد ازددتم بعدنا حُسنًا وجمالًا، فيقولون هم لأهلهم: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حُسنًا وجمالًا».
              قال: ﴿لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾، ما معنى ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾؟
              {غير مقطوع}.
              غير مقطوع، ممنون بمعنى مقطوع.
              وقيل: ممنون: منقوص.
              وقيل أيضًا: ممنون: غير مقطوع ولا منقوص ولا -فيه لفظة أخرى ذكرها السلف- غير مقطوع ولا منقوص ولا محسوب، أيضًا غير محسوب، بغير حساب، والله يرزق من يشاء بغير حساب، غير معدود، لا ينتهي ولا ينقضي -نسأل الله الكريم من فضله.
              هناك مجموعة من الأسئلة في الدرس الماضي لم نجب عليها، ولعلنا الآن.
              هذا الأخ عبد محمد عبد الله عقيلي من السعودية يقول: هل التأخر عن الدوام يعتبر من التطفيف؟
              ما رأيكم يا شباب؟ ما رأيكم؟ لما قلنا ﴿وَيلٌ لّلْمُطَفِّفِينَ﴾ [المطففين: 1]، قلنا: إن التطفيف هو أخذ الشيء الطفيف، صحيح أنه ورد في المكاييل والموازين، لكن يُقاس عليه غيره.
              وقلنا: من التطفيف: التطفيف في المدح والذم، وفي الكلام عن الناس، يعني يزيد الإنسان فيمن يحب، وينقص عن من لم يحب. هذا من التطفيف.
              طيب، هنا يقول: هل التأخر عن الدوام إذا كنت في شركة أو مؤسسة، أو مؤسسة حكومية أو غيرها، هل التأخر عن الدوام يعتبر من التطفيف؟ ما رأيك رياض؟
              {بلى، وهذا يدخل من باب أولى في التطفيف}.
              نعم التطفيف حقيقة هو: اخذ الشيء الطفيف، فإذا كان الدوام يبدأ الساعة مثلًا السابعة والنصف، وحضرت الساعة السابعة وخمسة وأربعين دقيقة، أخذت ربع ساعة من الوقت الذي يجب عليك أن كون فيه مؤديًا للعمل، هذا تطفيف.
              وكذلك في آخر الدوام، عندما يكون الواجب عليك الخروج بعد الساعة الثانية، فخرجت قبل الثانية بعشر دقائق، هذا من التطفيف، وكثير من الناس يتهاون في هذا مع الأسف، وخصوصًا في هذا العصر الذي قلَّ فيه الإيمان، وقلَّت فيه المراقبة.
              فنقول: اتقِ الله يا عبد الله، وإياك أن تطعم نفسك حرامًا، وأن تأكل سُحتًا، فكل جسدٍ نبت من السحت فالنار أولى به -نسأل الله العافية والسلامة.
              طيب، السؤال الثاني: قال عبد: لماذا قال الله ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا﴾ [المطففين: 28]، ولم يقل "منها"؟
              هذه أجبنا عنها في الدرس الماضي، لماذا قال: "بها" ولم يقل: "منها"، وكأنك أجبتَ عنها يا رياض، تفضل أعِد الجواب لأخينا عبده.
              {لأن حرف الباء هنا ضمن معنى "من"}.
              لا، لا تقل: ضُمِّن حرف معنى "من"، وإنما قل: ضُمِّنَ الفعل "يشرب" معنى يلتذّ، يشرب ملتذًّا بها؛ لأنه في الجنة ليس المقصود الشرب للرِّي أو للعطش، ولكن المقصود الالتذاذ، فلما كان المقصود الالتذاذ أشار إلى اللذة بقوله "بها" ولم يقل: "منها"، فلو قال: "منها" ما دلَّت كلمة الشرب إلى على الشرب، فلما قال: "بها" دلَّت كلمة الشرب على الشرب وعلى معنًى قد ضُمِّنَت إياه وهو الالتذاذ والارتواء، يشرب مرتويًا وملتذًا بها المقربون.
              الأخت هدى المقيرحي من ليبيا تقول: السلام عليكم، جزاك الله عنا خير الجزاء، ونفع بعلمكم.
              اللهم آمين، وأنتِ كذلك.
              سؤال: نرجو من شيخنا أن تعطينا عنوان الكتاب التي تفسر منه هذه الدروس والمؤلف -بارك الله فيكم.
              الحقيقة نحن نأخذ من مجموعة كتب، لكني أوصيكم -يا إخواني المشاهدين- بهذا الكتاب، وهو تفسير جزء عم لأخينا الدكتور مساعد بن سليمان الطيار، فهو كتاب نفيس في بابه وسهل، ومن مزايا هذا الكتاب أنه يذكر في المتن أو في الأصل التفسير الميسر تفسيرًا سهلًا إجماليًّا، ويذكر التفاصيل في الأسفل، وهذه الحقيقة ميزة للكتاب، وقد جمع فيه قواعد مهمة جدًّا.
              لعلنا نختم بهذا السؤال الذي طرحته الأخت من ليبيا، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا جميعًا من أهل القرآن.
              والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

              التعديل الأخير تم بواسطة *أمة الرحيم*; الساعة 18-03-2014, 07:44 PM.

              تعليق


              • #8
                رد: تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري

                السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
                الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومَن والاه.
                مشاهديَّ الكرام وإخواني الحضور، مرحبًا بكم في درس جديد من دروس مادة التفسير في هذه الأكاديمية الإسلامية العلمية المفتوحة.
                اليوم معنا -بإذن الله عز وجل- سورة جديدة من سورة جزء عم، وهي سورة البروج.
                هذه السورة -بلا شك وقد أجمع العلماء على ذلك- أنها مكية، وهذا ظاهر من موضوعاتها، ومن أسلوبها، وطريقة خطابها.
                هذه السورة الكريمة -سورة البروج- تتحدث عن أولئك الذي يؤذون المؤمنين بغير حق، ما يؤذونهم إلا لأنهم آمنوا بالله فتهددهم وتتوعدهم من مصيرهم السيئ الذي سيلاقونه، وأن الله -عز وجل- لا يضيع من عملهم شيئًا، وأنه يمهلهم لكن لا يهملهم.
                هذه السورة افتتحت بأربعة أقسام، قال الله -عز وجل- فيها: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴿1﴾ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ﴿2﴾ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾، هذه أربعة أقسام، ولم يُذكر المُقسَم عليه، وهذا كثير في القرآن، أن يؤتى بالقسم ولا يُذكر جواب القسم.
                لماذا؟ لأن الجواب يكون معروفًا من القسم، أو معروفًا من السياق، وقد يكون هذا في بعض الأحيان أهْيَبُ للجواب، يعني كأن تقول لعدوك الذي تخاصمه: والله، ثم والله، وتسكت، أي: لأقتلنك، أو لأقبضنَّ عليك، أو لأوذينَّك، أو شيئًا من هذا القبيل.
                وكذلك يُحذف الجواب في أشياء أخرى مثل ما مر بنا قبل قليل في قول الله -عز وجل-: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴿1﴾ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴿2﴾ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ﴿3﴾ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ﴿4﴾ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾ [الانشقاق: 1-5]، ولم يأتِ الجواب -جواب "إذا"-.
                الجواب معناه مذكور في الآيات التي تَليها، وهو أن الله -سبحانه وتعالى- يَعني يقول لعباده: ستعلمون جزاء عملِكم، وستدركون ما كنتم تعملون، كما قال في سورة الانفطار: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾ [الانفطار: 5]، وقال في سورة التكوير: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ﴾ [التكوير: 14].
                إذن: في سورة البروج لم يُذكر جواب القسم، فما جواب القسم؟ قال العلماء: يُؤخذ من معنى القسم، فلما قال: ﴿واليوم الموعود﴾، عرفنا أنه يُريد به القسَم على البعث، فيكون المعنى: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴿1﴾ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ﴿2﴾ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ لتبعثن ثم لتجازن بأعمالكم، والعلم عند الله.
                طيب، ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ ما البروج؟ تفضل يا شيخ.
                {البروج: ذات المنازل المعروفة للكواكب}.
                نعم، إذن أخونا يقول: ذات المنازل المعروفة للكواكب؛ لأن الشمس والقمر تجريان في منازلَ معروفة، ولها أسماء معروفة عند أهل الفلك، فتُسمى هذه بروجًا.
                أو يُقال: إن البروج هي النجوم التي نَراها نحن في السماء، ولذلك اختلف السلف فيها:
                - فقيل: ذات القصور، ذات البروج بمعنى القصور.
                - وقيل: ذات النجوم.
                والثاني هذا أظهر، وإن كان لا يتعارض مع الأول، لأنه إذا قيل: النجوم، أو قيل: القصور أو المنازل التي ذكرها الأخ، فإنها أيضًا تعبّر عن ذات المعنى، فالله يُقسم بهذه السماء وما فيها من الآيات العظيمة وهي هذه النجوم الهائلة التي تدلّ على الله -سبحانه وتعالى- وعلى قدرته وعظمته.
                ثم قال بعد ذلك: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴿1﴾ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾، أجمع المفسرون على أن اليوم الموعود هو يوم القيامة بلا شك.
                ولماذا ذكروا الإجماع هنا؟ مَن يعرف؟ قالوا: أجمع المفسرون على أن المراد باليوم الموعود هو يوم القيامة.
                {يوجد مخالف لهم}.
                لوجود مخالف أو خلاف قويّ وكثير في قوله: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾، فقالوا: اليوم الموعود هو يوم القيامة بالإجماع، وأما الشاهد والمشهود فقد وقع الخلاف فيها على قريب من أربعين قولًا.
                طيب.. يقرأ أحدكم في كتب التفسير فيرى هذه الأقوال الكثيرة في الشاهد والمشهود، فيتعجب ويقول: كيف نفهم القرآن بهذه الطريقة؟!
                نقول: لا، ينبغي لك أن تفهم كلام المفسرين وطريقتهم في التعبير عن المعنى، فإنه ليس كلّ خلاف ورد في التفسير هو من قبيل الاختلاف التضاد، لأن الخلاف عندنا نوعان:
                - خلاف تنوع.
                - وخلاف تضاد.
                خلاف التضاد هو: إما أن تقول بهذا أو بهذا.
                خلاف التنوع هو: أن يمكن تجتمع الأقوال في معنى الآية، ويكون كلّ واحد من المفسرين أشار إلى مثال، أو أشار إلى جهة من جهات المعنى، وهذا كثير في تفسير السلف.
                لأن حقيقة التفسير هي: اجتهاد في إيضاح المعنى. يعني الآن لما أقول لك: صِفْ لي الطالب المجتهد؟ تقول: الطالب المجتهد هو الذي يحضر من أول الدرس، ويدوّن كلام الأستاذ. هذا صحيح في وصف الطالب المجتهد أم غير صحيح؟ صحيح.
                طيب، صِفْ لي يا أخي أنت الطالب المجتهد؟ تقول: الطالب المجتهد: الذي يفهم الدرس ويُحسن جوابه في الامتحان. صحيح أم غير صحيح؟ طيب.
                هذا تفسير وهذا تفسير، هل هذان التفسيران عندما جاءا كانا متضادين؟ لا، بل متعاضدين، ولذلك يمكن نقول: صحيح جوابك عن الطالب المجتهد، وأنت صحيح جوابك عن الطالب المجتهد، علمًا بأنك أشرتَ إلى أشياء لم يُشر لها صاحبك، وهو أشار إلى أشياء لم تُشِر لها أنت.
                وبهذا نعرف أن الخلاف الذي يرد بين السلف كثير منه ليس ضارًّا في بيان المعنى، بل هو مفيد لأنه يوسّع المعنى ويدلنا على جهاته وأمثلته حتى يتضح لنا في صورة كاملة.
                فقوله: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾، منهم مَن قال: الشاهد: يوم الجمعة. والمشهود: يوم عرفة.
                ومنهم من قال: الشاهد: يوم عرفة. والمشهود : يوم النحر.
                ومنهم مَن قال: الشاهد: الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمشهود: أمته.
                ومنهم مَن قال: الشاهد: أمة محمد. والمشهود: هي الأمم السابقة.
                وأقوال كثيرة، يعني كل ما ورد في القرآن مما وُصِفَ بأنه شاهد أو وُصِف بأنه مشهود قد ذُكر في تفسير هذه الآية إلا نادرًا.
                وعليه: فنحن نقول: الشاهد: هو قسَم بكل شيء شاهد.
                والمشهود: قسم بكل شيء مشهود.
                بهذا يكون هذا التفسير أعمَّ التفاسير، وما ورد عن السلف إنما ورد من باب المثال، وليس يُراد به الحصر.
                وهذه قاعد مهمة لنا في التفسير خصوصًا إذا قرأنا في مثل تفسير ابن كثير، أو في تفسير الطبري، أو البغوي، أو زاد المسير، نرى أقوالًا كثيرة فنظن أنها تشتتنا، لا، هي لا تشتتنا، بل توسع المعنى لنا، وتزيدنا بصيرة بحقيقة معنى الآية.
                وها هنا فرق كبير بين اختلاف المفسرين واختلاف الفقهاء.
                فالفقهاء لا يختلفون إلا اختلاف تضاد، هذا يقول: حرام، وهذا يقول: مكروه، هذا يقول: مكروه، وهذا يقول: مستحب، هذا يقول: مستحب، وهذا يقول: واجب، وواجب مختلف عن مستحب، ومستحب مختلف عن مكروه، ومكروه مختلف عن محرَّم.
                ولذلك نقول: هذا اختلاف تضاد، وقلَّ أن تجد بينهم اختلاف تنوع.
                أما المفسرون فغالب اختلافهم من باب اختلاف التنوع.
                أطلتُ أنا في هذه القضية لأجل أن نضع لإخواننا الذين يشاهدوننا قاعدة في اختلاف السلف في التفسير، فأكثره من باب اختلاف التنوع، وقليل منه في اختلاف التضاد.
                طيب.. يقول الله -عز وجل-: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴿1﴾ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ﴿2﴾ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾.
                لاحظوا يا إخواني: كل واحد مُقسَم به في هذه الأقسام الأربعة لا بد أن يكون له ارتباط بهذه السورة؛ لأن الله لا يُقسِم بالشيء منفصلًا عما سيأتي بعده، بل لا بد أن يكون متناسبًا معه.
                مثلاً كلمة ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ ستلاحظون مثلًا قول: ﴿وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ ماذا؟ ﴿شُهُودٌ﴾، مناسَبة، شاهد ومشهود وماذا؟ ﴿وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾.
                طيب.. ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، إذن ما جاءت شاهد ومشهود إلا لتدل على الشهود في السورة، وهو أن هناك شهادة وشاهدًا، ومشهودًا، وتحذيرًا، وإنذارًا من الله لقومٍ قد حضروا شيئًا يُغضب الله، فالله يهددهم بشهادته عليهم، وباطلاعه على فعله؛ فليحذروا، وليخافوا.
                طيب، ما جواب القسم؟ قال العلماء: مقدَّر بقوله: لتبعثنَّ ثم لتجازنَّ على أعمالكم.
                قال سبحانه: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾، بعض المفسرين يرى أن كلمة ﴿قُتِلَ﴾ هي جواب القسم، ولكن يعني هذا قول فيه نظر -والعلم عند الله- لأن مثل هذه الصياغة لا تكون جوابًا للقسم في لغة العرب.
                قال: ﴿قُتِلَ﴾، ﴿قُتِلَ﴾ دعاء بالقتل، واللعن، والطرد، والإبعاد عن رحمة الله.
                ﴿أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾؛ أي أصحاب الشق الذي في الأرض، لأن الخد هو الشق، والأخدود هو الأرض المشقوقة أو الشق في الأرض.
                الحقيقة أن الآيات أشارت إلى أصحاب الأخدود ولم تبيِّن لنا مَن هم، هل كانوا في زمن مضى؟ هل كانوا في زمن نبيّ من الأنبياء؟ ما أشارت إلى شيء، لكن قالت: ﴿أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾.
                ومن هنا اختلف المفسرون في المراد بأصحاب الأخدود مَن هم، هل هم قصة وقعت في اليمن؟ أو في نجران؟ أو في بلاد الشام؟ أو العراق؟ أو في صقع من الأرض آخر؟ ذكروا أقوالًا، ولا مانع من أن تكون الآية شاملة لكل أولئك؛ لأنه ليس في الآية ما يدل على أن المراد به قوم معينين، هذه لا بد أن نعرفها.
                حتى الحديث الذي ورد فيه قصة أصحاب الأخدود في صحيح مسلم لم يُشِر فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الآيات من السورة لنقول إن هذا تفسير من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للسورة، بل إنه ذكر قصة أصحاب الأخدود ولم يقرأ آية من آيات سورة البروج.
                ومن هنا مَن حمل تلك القصة على أنها تفسير لهذه السورة فهذا اجتهاد منه، ومَن قال: لا، شيء آخر، فهذا أيضًا اجتهاد منه، ولا مانع منه.
                ولكن الأليق ما جاء في السنة النبوية، ولا مانع أن يكون غيره داخلًا فيه؛ لأن الآيات تحتمل هذا كله، تحتمل هذا كله.
                قال: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾، نسبهم إلى الأخدود؛ لأنهم عملوه ليضطهدوا به المؤمنين، فهم شقُّوا في الأرض شقًّا عظيمًا، ثم أضرموا فيه نارًا هائلة كبيرة، ثم ألقوا فيها مَن آمن، كما جاء في آيات السورة.
                قال: ﴿النَّارِ﴾، ﴿النَّارِ﴾ هنا مجرورة بأي شيء يا إخواني؟ ما الذي جعلها "النارِ"، ولم تكن "النارُ"؟
                {معطوفة على الأخدود}.
                أين حرف العطف؟
                {معطوفة على المضاف إليه}.
                أين حرف العطف؟
                {﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴿4﴾ النَّارِ﴾}.
                تفضل يا شيخ.
                {لعل هذا -والله أعلم- أنها تفسير للأخدود}.
                ما معنى التفسير عندنا في اللغة.
                {يعني كأنه يقول: ما الأخدود؟ النار ذات الوقود}.
                هذا مصطلح جديد من عندك.
                {لا، النار ذات الوقود التي أوقدت في هذا الأخدود}.
                هذا ماذا يسمى عند النحويين؟
                {بيان}.
                نعم، يقال له: بدل اشتمال، لأن الأخدود اشتمل على النار، تقول: أعجبني محمد علمه، علمه هذه بدل من محمد، يسمى هذا بدلًا، البدل عندنا:
                - بدل كل من كل.
                - وبدل بعض من كل.
                - وبدل اشتمال.
                لما تقول: جاء أبو حفص الفاروق مثلًا- أو جاء الفاروق عمر. هذا بدل كل من كل.
                وممكن يكون بدل بعض من كل: أن تشير إلى الشيء ثم إلى بعضه.
                ويمكن أن يكون بدل اشتمال: الشيء وما اشتمل عليه، فهنا: ﴿النَّارِ﴾ هذه مجرورة بالبدلية من ﴿الْأُخْدُودِ﴾؛ لأن الأخدود مشتمل على النار.
                ﴿النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ﴾، صاحبة الوقود.
                والوقود يعني: الحطب الذي أوقدت به تلك النار، يعني عندنا فرق بين الوَقود والوُقود.
                فالوَقود: ما يُوقَد به، وهو تلك الحطب.
                قال الله -عز وجل-: ﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ﴾، جالسون عليها، هذا من شدة ماذا؟ طغيانهم وظلمهم، يعني جالسون حول النار يتلذذون بتعذيب المؤمنين، من شدة ما هم فيه من البغي والعدوان والظلم لهؤلاء المؤمنين الذين ما كان لهم من ذنب يستحقون عليه العذاب إلا أنهم قالوا ربنا الله.
                ﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ﴿6﴾ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾؛ أي شاهدون وحاضرون على ما يفعلونه بالمؤمنين، وهذا للدلالة على قسوة قلوبهم، وعلى قصدهم لما فعلوا، وأن ما فُعل لم يجرِ في الخفاء، أو يجري من وراء ظهورهم، أو بغير رضاهم، أو بغير أمرهم؛ بل كان ذلك بأمرهم، وكانوا مسرورين بفعلهم، وكانوا يظنون أنهم قادرون على كل شيء.
                قال: ﴿وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾، وأشرنا قبل قليل إلى أن هذا الشهود قد كان له مناسبة في قوله: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾.
                قال: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ﴾، ما الذي جعلهم ينقمون من المؤمنين؟
                قال: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾، ما نقموا منهم؛ لأنهم كانوا مشاغبين، أو كانوا إرهابيين، أو غير ذلك مما يحاولون أن يحتجوا به، لا، إنما نقموا من أجل أنهم كانوا مؤمنين.
                وهذه من العجائب يا إخوان، كيف أن الإنسان يعاقب على الحق، وعلى التزامه به، وهذه إحدى السنن العظيمة في الصراع بين الحق والباطل، وهي أن الإنسان الملتزم يجد عداوة ممن لا يلتزم بالحق، ولذلك مثلًا المرأة العاهرة تعادي المرأة العفيفة، تعاديها لأي شيء؟ لعفتها، سبحان الله، كان المفترض أن تكون العفة سببًا لمحبتها وإكرامها وإجلالها، فإذا بها تعاديها.
                انظر إلى قوم لوط، ماذا قالوا في لوط؟ ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ﴾ [النمل: 56]، طيب، لما أخرجوهم؟ هل لأنهم كانوا يؤذون الناس؟ هل لأنهم كانوا بخلاء أو كانوا مُسيئين للمجتمع؟ لا، ﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [النمل: 56]. فيخرجون لأجل التطهر.
                الالتزام بالحق هو سبب موجب للعقوبة والعذاب والإبعاد عند أهل الباطل، وهذه العداوة ليست مقصورة على الكفار مع المؤمنين؛ بل حتى داخل أهل القبلة تجد أهل البدعة يكرهون أهل السنة لالتزامهم بالسنة، تجد الرافضة يكرهون أهل السنة؛ لأن أهل السنة يحبون الصحابة، ويحبون آل البيت، وهؤلاء يكرهونهم لحبهم لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
                تجد المعتزلة يكرهون أهل السنة من أهل الإثبات الذين يثبتون لله -عز وجل- الأسماء الحسنى، وهلمَّ جرا.
                اليوم نحن نرى هؤلاء الذي يريدون من المجتمع المسلم أن يتغرب عن دينه، ويريدون أن يُغرِّبوا المرأة المسلمة، ويُخرجوها إلى الشوارع؛ لتكون هناك حرية ليس للمرأة، وإنما حرية في الوصول إلى المرأة، هذا هو في النهاية ما يراد؛ لأنهم دائمًا لا يتحدثون إلا عن كيف نخرج هذه المرأة؟ وكيف نصل إليها؟ وهذا هو المعنى المقصود.
                طيب، هؤلاء لماذا يُبغضون الصالحين؟ لأنهم يدعون إلى أن تُحشَم المرأة، وأن تُكرَم، وأن تُخدَم، وألا تُؤذَى، وألا يُوصَل إليها بسوء، فهم يكرهونهم لأجل ذلك كراهية شديدة، فيسجنونهم، ويؤذونهم، ويشوهون سمعتهم، ويقولون لهم أنتم رجعيون، وأنتم ظلاميون، وأنتم مبطلون، وغير ذلك مما يستعملونه من الألقاب والألفاظ في حق أولئك الذين يريدون للمرأة أن تكون عفيفة، طاهرة، مخدومة، محشومة، تقوم بأدوارها التي خلقها الله -عز وجل- لأن تقوم بها.
                انظروا يا إخواني كيف يُكره صاحب الحق لأجل الحق، لا لشيء آخر.
                الآن مثلًا إذا قام بعض ملوك العدل، تجد أن ملوك الباطل والظلم والجور يكرهونهم أشد الكره، ويتمنون زوال ملكهم، لماذا؟ لأنهم يرونهم يقومون بالعدل، يريدون أن يكون الناس كلهم مثلهم -نسأل الله العافية والسلامة.
                ولذلك قال: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ﴾، ثم قال: ﴿الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾، ختم الآية باسمين من أسمائه الحسنى.
                العزيز: مأخوذ من العزة، والعزة عندنا عزة الله -عز وجل- التي نثبتها لله هي ثلاثة أنواع:
                - عزة قدر.
                - وعزة قهر.
                - وعزة امتناع.
                عزة القدْر: أن يكون الله -عز وجل- عزيزًا، يعني فلا يُنال بسوء، فهو ذو العزة في قدره -سبحانه وتعالى-.
                وعزة القهْر: أن يكون قاهرًا على غيره، والله -عز وجل- قد قهر كل شيء ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعام: 18].
                وعزة الامتناع: أن يكون الله ممتنعًا عمن يريده بشيء من السوء، يعني مهما حاولوا أن يسيؤوا إلى ربهم -سبحانه وتعالى- فإنهم لن ينالوا من الله شيئًا، فالله عزيز.
                ومنه سميت الأرض عزازًا، عزاز بمعنى: قوية ممتنعة، لا تسمح بالأرض أو للرِجل أو للقدم بأن تغوص فيها.
                إذن: نحن نثبت في اسم الله العزيز ثلاثة معاني:
                - عزة القدر.
                - وعزة القهر.
                - وعزة الامتناع.
                والله -عز وجل- له أكمل ما في هذه المعاني من الأوصاف.
                ثم قال: ﴿الْحَمِيدِ﴾؛ أي المحمود، فعيل بمعنى: مفعول، يُحمد على أفعاله كلها.
                طيب.. لماذا جيء بالعزيز والحميد في قوله: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ﴾، من يحاول أن يتلمَّس؟ لأنه لا يمكن يأتي اسم من أسماء الله تُختَم به آية من الآيات إلا ولهذا الاسم علاقة بتلك الآية، حكمت عندك جواب؟ أحد عنده جواب؟ نعم رياض.
                {لأن اسم العزيز يناسب السياق، حيث إن الله -عز وجل- سوف ينتقم من هؤلاء الظلمة، وهو طبعا انتقام صادر من عزته -سبحانه- بمعنى أنه سيقهرهم، وهو طبعا ممتنع أن ينالوه بسوء،
                كما أن اسم الحميد: هو سبحانه بانتقامه منهم محمود على كل حال}.
                جميل -ما شاء الله عليك- أحسنت، يقول: إن مناسبة العزة: كأنها تهديد لهم، وأيضًا بشارة للمؤمنين، يعني: أيها المؤمنون سينتقم الله من هؤلاء الذي آذوكم وفعلوا بكم ما فعلوا.
                الحميد: المحمود على كل أفعاله، فلا تظنوا أنه -سبحانه وتعالى- عندما يُمكِّن هؤلاء الظالمين من رقاب هؤلاء المؤمنين أن ذلك شر للمؤمنين، لا، هو خير لهؤلاء المؤمنين، إنه يُعجِّل بهم إليه ليُكرمهم، ويُعظم منازلهم.
                ولذلك عندما كانوا يلقون المؤمنين في النار كانت الملائكة تسبق إلى هؤلاء المؤمنين فتأخذ أرواحهم قبل أن تصل أجسادهم إلى النار.
                إذن ماذا نالهم؟ ما نالهم شيء، فهو -سبحانه وتعالى- العزيز الذي له القوة والقهر والقدرة على هؤلاء، فهذا تهديد لهم، وبشارة للمؤمنين، والحميد على كل أفعاله، فلا تظنوا أيها الناس أنه قد خذل المؤمنين، أو أنه ترك عباده المؤمنين دون نصرة، بل هو -سبحانه وتعالى- الناصر لكل مؤمن.
                قال الله -عز وجل-: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وهذا من عزته، فهو القادر على كل شيء، الذي بيده ملكوت كل شيء، ولذلك ملك السماوات والأرض له سبحانه، فإذا كان له وهؤلاء في ملكه -هؤلاء الذين فعلوا ما فعلوا في ملكه- إذن لا خوف؛ لأنهم لن يفلتوا من قبضته، ولن يخرجوا عن ملكه، وسيجازيهم، وسينتقم منهم، وهكذا -سبحانه وتعالى- فإنه لا يقوم أحد من هؤلاء المبطلين بشيء يفعله للمؤمنين إلا والله -عز وجل- له بالمرصاد ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر: 14]، لا يفوت على الله أحد، ولا يفلت من ملكه وقبضته أحد -مهما كان.
                قال: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، الله -سبحانه وتعالى- على كل شيء، لا يخرج من هذا شيء، وهذا من الألفاظ العامة التي تستوعب كل شيء.
                ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، ﴿شَهِيدٌ﴾ بمعنى حاضر ومطلع وعالم مبصر، لا يخفى عليه من أمر العباد شيء -جل جلاله وتقدست أسماؤه-.
                إذن: فاطمئنوا أيها المؤمنون، إياكم أن تظنوا أن ما يفعله أعداؤكم بكم قد فات على الله، أو أن الله لم يطلع عليه؛ لا، لا، لا، الله مطلع على كل شيء، وسيعطي كل أحد جزاءه، إن صالحًا وإن سيئًا.
                قال الله -عز وجل- بعد ذلك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾، الآن جاء دور ماذا؟ بعد قوله: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ جاء دور الجزاء والعقوبة.
                ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا﴾ ما معنى فتنوا؟ نعم.
                {أحرقوا وعذبوا المؤمنين}.
                نعم، فتنوا هنا بمعنى أحرقوا، ونحن نفسرها بما يدل عليه السياق؛ لأن السياق في هذا المعنى، قال: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴿4﴾ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ﴿5﴾ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ﴿6﴾ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾.
                إذن: فتنوا هنا ليست بمعنى ابتلوا ابتلاءً عامًّا، بل فتنوا بمعنى أحرقوا، وأصل الفتنة في اللغة بمعنى الإحراق، ومنه سُمِّيَ الذهب والفضة: الفتين، لماذا؟ لأن حجارتهما توضع على النار حتى يُخلَّص الذهب أو المعدن من غيره من الشوائب ويكون مستقلًّا أو مُستغلًّا ومفروزًا.
                ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا﴾ أي: أحرقوا.
                ﴿الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾، وهذه عادة القرآن، إذا ذُكِر الرجال والنساء قُدِّم الرجال على النساء.
                ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ ...﴾ [الأحزاب: 35]، إلى آخر الآية.
                خلافًا لما تسمعه في نشرات الأخبار: سيداتي سادتي. فهذه عادة غربية لا صلة لها بمنهج القرآن، بل دائمًا يكون النساء بعد الرجال.
                قال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾، سبحان الله، فعلوا هذا الفعل العظيم البشع المنكر وهو الإحراق الذي هو أبلغ أنواع العذاب التي تنزل بالإنسان من أخيه الإنسان، ومع ذلك يقول: هؤلاء الذين فعلوا ما فعلوا إذا لم يتوبوا سأفعل بهم كذا وكذا.
                سبحان الله، أي فضل من الله على عباده أعظم من هذا؟ وأي إطماع بالتوبة أبلغ من هذا الإطماع؟ هذا يدل على ماذا؟ على سعة رحمة الله، وأن الإنسان مهما فعل من كفر، وجحود، وبغي، وعدوان، وظلم، فإن الله -سبحانه وتعالى- يفتح له باب التوبة، «إن الله ليبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل»، وقد ورد في الحديث: «إن الإسلام يَـجُبُّ ما قبله».
                قال: ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾، فهذه من أرجى آيات القرآن، كيف يفعلون هذا الفعل؟ وبمَن؟ بكل المؤمنين والمؤمنات، الصغار والكبار، ثم يقال لهم: ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾، يعني لو تابوا لمحا الله كل ذلك عنهم.
                ولذلك يتعجب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويتعجب الرب -سبحانه وتعالى- من اثنين يقتل أحدهما صاحبه، ثم يكونان في الجنة، قالوا: كيف؟ قال: يقتل هذا ذاك وهو كافر، ثم يسلم، فذاك يُكتب شهيدًا، ثم هذا يسلم فيموت على الإسلام فيدخلان الجنة.
                قال: ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾؛ أي العذاب الذي يكون في النار.
                ﴿وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾، طيب، أليس عذاب جهنم هو عذاب الحريق؟
                نقول: نعم ولا. عذاب جنهم أوسع من عذاب الحريق؛ لأن من عذاب جهنم الزمهرير الذي هو شدة البرودة.
                طيب، لماذا نصَّ على الحريق؟ نعم يا رياض.
                {ليتناسب مع فعلتهم بالمؤمنين، وانتقامًا منهم من جنس العمل}.
                يعني جزاؤهم يكون من جنس عملهم، وهذه من كمال عدل الله -عز وجل- أن يُجازيَ العبد جزاءً من جنس عمله.
                وإذا تتبعت هذا وجدته مطردًا في كل جزاء، يعني مثلًا تلاحظ: اليد عندما تسرق تُقطع، انظر.. الجزاء من جنس العمل، كما كانت السرقة باليد أيضًا يكون القطع لتلك اليد.
                ودائمًا نلاحظ مثلًا: بروا آباؤكم تبركم أبناؤكم. الجزاء من جنس العمل، وهذا كثير في كتاب الله وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
                وهنا إنما ذُكر الحريق تذكيرًا بالحريق، فكما أحرقوا المؤمنين وهم شاهدون على ما يفعلون؛ فكذلك هم في جهنم يحرقون جزاءً وفاقًا.
                قال الله -عز وجل- مبينًا بعد أن بيَّن عقوبة هؤلاء الذين فعلوا بالمؤمنين ما فعلوا وآذوا المؤمنين، وهذه سورة يا إخواني نزلت من باب التهديد للكفار الذين كانوا يؤذون النبي -صلى الله عليه وسلم- ويؤذون أصحابه ويبالغون في عداوتهم وإيصال الأذى إليهم- قال مبشرًا أولئك المؤمنين الصابرين الذين بذلوا مهجهم وأرواحهم من أجل دينهم، قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.
                نلاحظ كثيرًا في القرآن القرن بين الإيمان والعمل الصالح لئلا يدعيَ إنسان أن مجرد إيمانه بالله وتصديقه القلبي المجرد كافٍ في وصوله إلى الفوز والنجاة، لا، لا بد أن تصدق هذا الإيمان بعمل، ولذلك جعل أهل السنة من حقيقة الإيمان العمل، فقالوا: الإيمان اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، لا بد أن يكون عملٌ يُصدّق ذلك الإيمان الباطل.
                أما إيمان باطل لا يصدّقه لا قول ولا عمل بالأركان؛ هذا إيمان غير صحيح، ولذلك يأتي هنا عندنا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.
                وبأي شيء يكون العمل صالحًا؟ يكون العمل صالحًا بأي شيء؟
                {بموافقته للسنة، وأن يكون خالصًا}.
                بشرطين، أي عمل لا يمكن أن يسمى صالحًا حتى يكتمل فيه شرطان -كما قال أخونا حكمت- وهو أن يكون العمل خالصًا لله لا يُراد به إلا وجهه، وأن يكون موافقًا لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
                فإذا جاء الإنسان وعمل عملًا صالحًا وخالصًا، ولكنه غير موافق لسنة رسول الله فإن الله لا يقبله؛ لأنه لماذا بُعث رسول الله؟ ما بُعث رسول الله إلا لنعبد الله بما شرعه لنا رسول الله.
                قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»، فلا يجوز لك أن تتعبد الله بشيء لم يشرعه لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
                وقد قال العلماء: إن اتباع السنة يكون باجتماع أمور ستة:
                الموافقة في: الزمان والمكان والكم، والكيف، والسبب، والجنس، ستة أشياء.
                فالزمان مثلًا: لو أراد إنسان أن يحج في ذي القعدة، أو يحج في محرم، هل يصح؟! يصوم في ربيع، أو في مثلًا شهر من شهور السنة غير رمضان، ما يمكن!
                المكان: هل يجوز تعتكف في غير المسجد؟ أو تطوف على غير الكعبة؟ أو تسعى في مكان غير الصفا والمروة؟ أو ترمي الجمار في غير المكان الذي حُدِّد لهذا المكان؟ أو تقف يوم عرفة في غير المكان المُحدّد شرعًا؟ لا يصح.
                طيب، الكمّ: كمية الأشياء، الصلاة محددة بأربع ركعات -صلاة الظهر، صلاة العصر- ما تقول اليوم أنا مرتاح وأبغي أزيد، أجعلها ثماني ركعات، لو زدت نصف ركعة بطلت الصلاة كلها ولم تُقبل، هذا الكم.
                كيف: كيفية الصلاة، تؤدي الصلاة بالطريقة المعروفة، قيام فركوع فرفع فسجود ثم جلسة ثم سجود ثم قيام مرة أخرى، كيفية، لا بد أن تراعي الكيفية.
                كذلك الحج: لو أن إنسانًا حجَّ بطريقة هو يريدها، ولم يوافق فيها الحجة التي قال فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها: «خذوا عني مناسككم»، هل يُقبل منه ذلك؟ لا يُقبل منه ذلك.
                طيب، هذه أربعة، بقي عندنا السبب والجنس.
                الجنس: أن توافق السنة في جنس المشروع، مثلًا: شُرِع لنا أن نضحي، لكن بأي شيء نضحي؟ بجنس معين وهو بهيمة الأنعام، فلو أن إنسانًا قال: أنا سأضحي بشيء غالٍ جدًّا، بنعامة، وإلا بفرس قيمتها مئة ألف.
                نقول: لا تقبل أضحيتك؛ لأن الأضحية لا تكون إلا من بهيمة الأنعام، لا بد أن توافق السنة في جنس الشيء التي تتقرب به إلى ربك -سبحانه وتعالى-.
                السبب: ألا تجعل سبب العبادة شيئًا إلا أن يكون مشروعًا، فمثلًا قول لا إله إلا الله مشروعة، لكن عندما تجعل لها سبب لم يجعله رسول الله؛ فإن هذا يجعل العمل غير صالح.
                لو قال واحد: ينبغي للإنسان إذا شرب شيئًا لذيذًا أن يقول بعد شربه: لا إله إلا الله.
                جعلت لـ "لا إله إلا الله"، أو لقول "لا إله إلا الله" سببًا لم يجعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
                نقول: هذا مخالف للسنة، هذا السبب لم يأتِ به رسول الله.
                فمن وافق السنة في هذه الأشياء الستة -الزمان، المكان، الكم، الكيف، الجنس، السبب، فقد وافق السنة، ومَن خالف في واحدٍ فقد خالف السنة.
                قال الله -عز وجل-: ﴿لَهُمْ﴾ تمليك، ليشعر بأنه يملكون هذا الذي سيؤتونه في الجنة، ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ﴾ وليست جنة، والجنة بمعنى البستان المليء بالأشجار، واللذائذ، والطيبات، والثمار والمأكولات والمشروبات، جنات، وكل جنة تختلف عن الجنة الأخرى.
                قال الله -عز وجل- في سورة الرحمن: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴿46﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿47﴾ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ﴾ [الرحمن: 46-48]، ثم قال بعدها: ﴿وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ﴿62﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿63﴾ مُدْهَامَّتَانِ﴾ [الرحمن: 62-64]، أي سوداوان من خضرتهما.
                قال: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، الأنهار تجري من تحت تلك الجنات، وهذا من ألذّ ما يكون في الراحة والنعمة واليسر، لأن النهر يجري من تحتك، فأنت تراه، تتلذذ بمرآه، وتسر بأنك فوقه، وأيضًا إذا أردت شيئًا وإذا هو قريب، فضلًا عن أن الغلمان يطوفون عليك بأكواب وأباريق وكأس من معين -نسأل الله الكريم من فضله.
                طيب، ما هذه الأنهار؟ منوَّعة، ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى﴾ [محمد: 15]، لاحظوا يا إخواني من كل نوع من هذه الأنواع الأربعة أنهار، فالماء يأتيك بمذاقات وطعوم، واللبن بمذاقات وطعوم، والخمر يأتيك بمذاقات وطعوم، والعسل يأتيك مذاقات وطعوم.
                ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: 25]، في كل مرة يؤتى لك بكأس من اللبن تقول: هذا مثل الذي قبله، فإذا ذقت وإذا الطعم مختلف واللذة مختلفة تمامًا عمَّا كانت.
                يا إخواني، نحن مقبلون على دارٍ عظيمة، لا يمكن لنا -يا رياض- لو أردنا أن نتخيل وأن نتصور، أن نتصور ما نحن مقبلون عليه، نسأل الله الكريم من فضله، ونسأل الله أن يجعلنا من أهل تلك الجنة، وألا يكلنا إلى أنفسنا أو أعملنا أو إلى شيء من خلقه.
                قال: ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾، هذا الفوز الذي سيحققه هو الذي حقق الفوز الحقيقي، ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾.
                ثم قال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾، هذا تهديد لهؤلاء الذي يفعلون بالمؤمنين ما يفعلون سواء كانوا من المعاصرين، أو من المتقدمين، لا يغرّنكم إمهال الله -عز وجل- وأنه -سبحانه وتعالى- ترككم تفعلون بالمؤمنين ما تفعلون، فإن هذه الدنيا ليست محلًّا في الأصل للجزاء، لأنها أحقر من أن تكون محلًّا للجزاء، «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة؛ ما سقى كافرًا منها شربة ماء».
                فإذا فات على المؤمن أن يتنعم فيها أو يبقى فيها، أو يأخذ حقه ونصيبه فيها، فإنه ما فاته شيء أصلًا، ما فاته شيء، يعني لو أنك ما ملكت فيها قصرًا ولا بيتًا ولا زوجة ولا دارًا ولا مالًا، ما فات شيء -يا رياض- ما فاتك شيء لأن الدنيا ليست بشيء، لا تزن عند الله جناح بعوضة.
                ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يبين لنا مقياس ما بين الدنيا والآخرة، قال: «مثل ما في الجنة بالنسبة للدنيا مثل ما يضع أحدكم أصبعه في اليمِّ فلينظر بمَ يرجع»، يعني هذه نسبة ما بين الدنيا والآخرة، واحد وضع أصبعه في البحر، هذا البلل ماذا نقص من البحر؟ كذلك نسبة الدنيا بالنسبة للآخرة -لا إله إلا الله- شيء مهول.
                ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
                قال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴿12﴾ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيعِيدُ﴾.
                ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ﴾، البطش هو: الأخذ بشدة وقوَّة.
                ﴿لَشَدِيدٌ﴾: لقوي عنيف، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ قوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102] ».
                ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾.
                ﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيعِيدُ﴾، اختُلف في هذه الآية على قولين:
                ﴿يُبْدِئُ﴾ من إبداء الإنسان، أي خلقه أول مرة، وإعادته بعد موته، وهذا معنًى يرد في القرآن الكريم كثيرًا.
                والثاني: إنه يُبدئ العذاب ثم يعيده، وهذا أنسب للسياق وإن كان المعنى الأول صحيح؛ لأن الله يُبدِئ الخلق ثم يعيدهم، أي يبعثهم بعد موتهم.
                لكن اللائق بالسياق هو الثاني، فكأنه يقول: سيعجل العقوبة لهؤلاء الظالمين الذين أحرقوا المؤمنين بالنار، يعجل لهم العقوبة في الدنيا، ثم يعيدها عليهم في الآخرة؛ لأنه قال: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴿12﴾ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيعِيدُ﴾.
                ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾، سبحان الله! هذا من كون القرآن ماذا؟ مثاني. يأتي بالمعنى ثم مرة أخرى يعيده لكن من وجه آخر، أو يأتي بالرجاء ثم الخوف، أو بالترغيب ثم بالترهيب، أو بالمؤمنين ثم الكافرين، أو بالجنة ثم النار، هذا من كون القرآن مثاني، تستوعب المعنى من جميع جهاته، تبقى متزنًا في فهم الحقائق.
                قال: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ يُطمع هؤلاء بالتوبة، فهو غفور إذا استغفرتموه غفر لكم ومحا عنكم ذنوبكم.
                والغَفَر عندنا نبغي أن تفهم فيه أمرين:
                الغفَر بمعنى الستر.
                والغفْر بمعنى التجاوز.
                فإذا قيل: غفور، يعني الذي يستر الذنوب ويتجاوز عن عقوبتها ومجازاة أصحابها، ومنه المغفر الذي يضعه المقاتل على رأسه ليتقيَ به ضرب السيوف.
                طيب، ثم عقبه بقوله ماذا؟ ﴿الْوَدُودُ﴾، لماذا جاء ﴿الْوَدُودُ﴾ بعد ﴿الْغَفُورُ﴾؟ ترتيب الأسماء الحسنى في القرآن أيضًا له حكمة، ولا يمكن أن يوضع اسمٌ إلا في مكانه، يعني في هذا المكان لا يليق "وهو الودود الغفور" أبدًا لا يليق.
                {لأن الله -سبحانه وتعالى- يحب التوبة، و"ودود" بعد الغفران}.
                انظر.. المودة تكون من الله بعد الغفران، وهنا يأتي السؤال: ما معنى ﴿الْوَدُودُ﴾؟ ﴿الْوَدُودُ﴾ هنا ما معناها؟
                لها معنيان، تفضل يا شيخ.
                {هو الذي يتودد إلى عباده أو أحبابه}.
                جميل، بمعنى: الوادُّ لأحبابه.
                {وقد تأتي بمعنى: الذي يوده أحبابه}.
                والمعنيان -كما ترون- متلازمان؛ لأنه يتحبب إليهم فيحبونه ويحبهم، فهو الوادُّ لهم المودود منهم -سبحانه وتعالى-.
                إذن هو الودود بمعنى: الحبيب الذي يتحبب لأوليائه، فإذا تحبب إليهم ودُّوه وأحبوه -سبحانه وتعالى- ولكن هذا لا يأتي إلا بعد المغفرة.
                وجاء في سورة أخرى: ﴿إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾ [هود: 90]، يعني جاءت ﴿وَدُودٌ﴾ بعد قوله: ﴿رَحِيمٌ﴾، لأن المودة منزلة عالية، لا تكون إلا لمَن غفر الله له ورحمه.
                قال: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾، إذن هذه إطماع من الله لهؤلاء الذين انحرفوا عن المسار الصحيح، وأحرقوا المؤمنين وفتنوهم.
                ثم قال واصفًا نفسه ومعظمًا ذاته: ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ﴾؛ أي صاحب العرش، وإنما ذكر العرش دونما سواه لأنه أعظم المخلوقات، وهو المخلوق الذي جعله الله -عز وجل- محلًّا للاستواء ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، أي علا واستقرَّ -سبحانه وتعالى- وليس بحاجة إلى شيء من خلقه -جل جلاله-.
                والعرش هو أعظم المخلوقات وهو سقفها، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- من صفة العرش قوله: «أُذِن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش»، الذين قال الله فيهم ماذا؟ ﴿وَيحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ [الحاقة: 17]، قال: «ما بين شحمة منكبه إلى شحمة أذنه خفقان الطير سبع مئة عام»، هذا فقط المسافة، سبع مئة عام والطير يخفق بأقصى سرعته، لا يصل إلى ما بين هذين المكانين.
                إذن كم بين أعلى منطقة في ذلك الملك إلى أسفل منطقة؟ وكم بين جنبه إلى جنبه؟ هذا شيء لا يقدر قدره إلا الله -سبحانه وتعالى- هذا واحد، فكيف بالثمانية؟ وكم بينهما؟ وكم هو العرش الذي فوقهم جميعًا؟ لا إله إلا الله!
                قال: ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ﴾، إذن "المجيد" هنا صفة لـ "ذو"، "ذو" مرفوعة، و"المجيد" مرفوع مثله وعلامة رفعه الضمة.
                إذن: ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ﴾، المجيد هو الله "ذو"، والمجيد مأخوذ من المجد هو الكرم والعظمة، العظيم الكريم الذي هو واسع في قوته وعظمته وكرمه -سبحانه وتعالى-.
                وفي قراءة أخرى يا رياض ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ﴾ مجرورة، فتكون صفة لماذا؟ للعرش.
                طيب، قراءتان، نأخذ بهذه أو بهذه؟
                {بكليهما}.
                لأنه لا تعارض، فالله مجيد وعرشه مجيد، لكن المجد الذي وصف به العرش مجد يليق بالمخلوق، والمجد الذي وصف به الرب مجد يليق بالله -سبحانه وتعالى-.
                ثم وصف نفسه قال: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾، وهذا من باب التهديد، فهو -سبحانه وتعالى- يفعل كل شيء يريد، بخلافنا نحن نفعل أشياء لا نريدها، ونريد أشياء ولا نفعلها.
                ثم قال -عز وجل- استدراكًا للوقت: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ﴾، هذا بعد أن هدد في قصة أصحاب الخدود، هدد في قصص الأقوام الآخرين.
                مَن هم؟
                قال: ﴿فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ﴾ ماذا فعل الله بهم؟ وهذا تهديد لكم يا أهل مكة، يا مَن تفعلون برسول الله ما فعلتم.
                ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ﴾، "بل" هنا للإضراب، الذين كفروا في تكذيب، يعني كأنهم من كثرة تكذيبهم لما يأتيهم من الآيات والبينات كأنهم في وسط التكذيب.
                قال: ﴿وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِم مُّحِيطٌ﴾؛ أي قد أحاط بهم من جميع الجهات، فكيف يظنون أنهم يفلتون من قبضة الله؟ وكيف يفعلون ما يفعلون برسول الله وبالمؤمنين معه؟ ﴿وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِم مُّحِيطٌ﴾.
                قال: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ﴾؛ أي هذا القرآن الذي نزل على رسول الله قرآن مجيد كريم وعظيم، ولا يستطيع أحد أن يصل إليه بسوء.
                قال: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ ﴿21﴾ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾؛ أي هو مكتوب في اللوح المحفوظ.
                وقد قُرأت محفوظ بقراءتين:
                - ﴿فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾، إذن مَن هو؟ "محفوظ" هذه صفة لماذا؟ للوح.
                - وقُرأت ﴿فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٌ﴾، تكون صفة لماذا؟ للقرآن، بل هو قرآن مجيد محفوظٌ في لوحٍ.
                بأي القراءتين نأخذ؟ بكليهما، وهذا من فوائد القراءات -يا إخواني- أنها تبرز لنا معاني إضافية من دون أن يكون في ذلك أدنى تعارض.
                بهذا ننتهي ونصل إلى نهاية تفسير هذه السورة الكريمة التي فيها معانٍ عظيمة -نسأل الله أن ينفعنا بها.
                وإلى لقاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
                التعديل الأخير تم بواسطة *أمة الرحيم*; الساعة 18-03-2014, 07:41 PM.

                تعليق


                • #9
                  رد: تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري

                  السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
                  الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
                  مشاهديَّ الكرام، هذا درسٌ جديد ومجلس من مجالس التفسير في هذه الأكاديمية الإسلامية المباركة.
                  أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يهديني وإياكم سبيل الرشاد، ويجعلني وإياكم من أهل القرآن، الذين هم أهل الله وخاصته.
                  مشاهديَّ الكرام، ما زلنا نفسر سور جزء عم سورةً سورةً، وقد وصلنا في هذا المجلس إلى سورة الطارق.
                  فسنأخذ -إن شاء الله- سورتي الطارق والأعلى، وأسأل الله -سبحانه وتعالى- الإعانة والهداية والتوفيق والسداد.
                  حيَّاكم الله جميعًا، وحيَّى الله الإخوة الحضور في هذا المجلس المبارك، اسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقني وإياكم لطاعته، وأن يأجركم على حضوركم ويجزيكم خير الجزاء.
                  معنا اليوم سورة الطارق.
                  هذه السورة مكيَّة، ونأتي الآن إلى ذكر الأسئلة التي نقدمها دائمًا بين يدي السور التي نفسرها، وهي ما يسمى بعلوم السورة.
                  طبعًا لا نأخذها جميعًا؛ لأن هذا سيأخذ علينا وقتًا طويلًا، والوقت المحدد لتفسير السور قصير، فنأخذ بعض المعلومات عن كل سورة في مقدمتها، وهو ما يسمى بعلوم السورة، هذا سنأخذه الآن في هذه الأمور التالية.
                  أول سؤال: اسم السورة.
                  لم يختلف الناس في تسميتها سورة الطارق، وفي بعض الكتب يقال: "والسماء والطارق" وهذا قريب أيضًا، وليس اسمًا مغايرًا، وهذا مأخوذ من اللفظ في الآية الأولى ﴿ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ﴿1﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ﴿2﴾ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴾.
                  إذن لم يُختلف في كون اسمها الطارق.
                  الثاني: أين نزلت؟
                  أيضًا لم يختلف العلماء في أنها نزلت في مكة، وأنها مكيَّة بإجماع.
                  والسور على ثلاثة أقسام:
                  - منها ما هو مكي بالإجماع.
                  - ومنها ما هو مدني بالإجماع.
                  - ومنها ما هو مختلف فيه.
                  مثل ما ذكرنا في سورة المطففين، فمنهم مَن يقول إنها مكيَّة، ومنهم من يقول إنها مدنية، وهذا اختلف فيه العلماء بِحَسَبِ أسباب النزول، وأحيانًا التصريح بأنها نزلت في مكة، وأحيانًا بالنظر إلى أُسلوبها وآياتها، وموضوعاتها، ومضامينها، إلى آخره.
                  عدد آياتها: اختُلف في عدِّ الآي في هذه السورة، فقيل: إنها ست عشرة آية، وذلك بأن تكون كالتالي: ﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا ﴾ آية واحدة، فتكون بذلك ست عشرة آية.
                  وإذا قلنا: ﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا﴾ هذه آية، ﴿ وَأَكِيدُ كَيْدًا ﴾ هذه آية أخرى، تصبح سبع عشرة آية.
                  ولذلك إذا جاءنا الخلاف في عدِّ الآي فليس معنى ذلك أن هناك عالمًا أو إمامًا أو جماعةً من علماء المسلمين يَزيدون آية والآخرون ينفونها، بل كل العلماء متفقون على أنه لا زيادة في ألفاظ وحروف القرآن، ولكن يختلفون في تقسيم بعض الآيات، فبعضهم يقسمها إلى آيتين، فتزيد الآيات عندهم، وبعضهم يجعلها آية واحدة فتنقص أعداد الآيات عندهم.
                  هذا معنى اختلاف العد، والعد له مصطلحات وعلم يُدرس في كليات القرآن، وله منظومات وكتب مشهورة ومعروفة.
                  والحقيقة أن هذا العلم يُعلمنا كم كانت عناية المسلمين بكتاب الله -عز وجل-، فقد أحصوا فيه كلَّ شيء، وضبطوه ضبطًا عاليًا متقنًا، بحيث لا يمكن أن يدعيَ مدعٍ أن القرآن طاله شيء من التحريف أو النقص أو الزيادة، أو التغيير والتبديل، وهذه قضية يبتهج بها المسلم ويفرح، ويمتلئ صدره انشراحًا؛ لأنَّ كتاب الله -عز وجل- قد لقيَ هذه العناية الفائقة، التي لم يلقها كتاب وُجد على ظهر الأرض، وهذا حق، فلو نظرت إلى كمية المؤلفات التي أُلفت في خدمة هذا القرآن لوجدتها بعشرات الألوف، وهذا ما طُبع منها، وأما ما كان طيَّ المكتبات أو في المخطوطات، أو في عالم النسيان، أو ذُكر لنا ولم يصل إلينا؛ فهذا شيء لا يُقادر قدره، ولا يعلم مداه إلا الله -سبحانه وتعالى-.
                  طيب، ثم ننتقل بعد ذلك إلى محور هذه السورة، ما هو موضوعها ومضمونها؟
                  الحقيقة عند التأمل فيها قد يبدو لك أكثر من محور، لكن هذه السورة تبدو مبينة لعناية الله -عز وجل- بالإنسان، وبيان آيات قدرته التي تُرهِّب من جنابه.
                  فانتبه أيها الإنسان، لقد اعتنى بك ربك، وأراك من آياته ما يدلك على قدرته، فاحذر من سطوته، احذر أن تخالفه، أن تكذِّب بكتابه، أن تستهزئ بكلامه، وألا تأخذه مأخذ الجد، أن تكيد للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولأصحابه، أو تكيد للمؤمنين القائمين بهذا الكتاب، فإن كنت تَكيد كيدًا، فإن الله يَكيد كيدًا، وكيد الله أعظم من كيد الخلق كلهم.
                  هذا هو المحور الذي يبدو لنا من هذه السورة الكريمة العزيمة.
                  وأما المناسبة بين هذه السورة وسورة البروج فظاهر، ففي سورة البروج جاءت قصة أصحاب الأخدود الذين كادوا المؤمنين وآذوهم أذًى شديدًا، حتى إنهم خدُّوا لهم في الأرض أخاديد وأحرقوهم فيها.
                  فالله -عز وجل- يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البروج: 10]، ثم يعد المؤمنين بقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴾ [البروج: 11].
                  ثم يقول مهددًا هؤلاء الذين فعلوا بالمؤمنين ما فعلوا: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴿12﴾ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيعِيدُ ﴿13﴾ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ﴿14﴾ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴿15﴾ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴿16﴾ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ﴿17﴾ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ﴿18﴾ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ﴿19﴾ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ﴿20﴾ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ ﴿21﴾ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾ [البروج 12-22].
                  تأمل هذا جيدًا، هذا تهديد لهم، يا أيها الذين تفعلون بالمؤمنين ما تفعلون، وتستضعفونهم وتؤذونهم اعلموا أن بطش الرب شديد، وأنه فعَّال لما يريد، وهل أتاكم حديث الجنود فرعون وثمود؟ فإن الله -سبحانه وتعالى- بكم محيط.
                  وهنا يقول أيضًا مهددًا: ﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ﴿15﴾ وَأَكِيدُ كَيْدًا ﴿16﴾ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيدًا ﴾، فبانَ لنا عظيم المناسبة بين سورة البروج وسورة الطارق.
                  أما مناسبة أول هذه السورة بآخر تلك السورة فظاهرة أيضًا، ففي تلك السورة، قال: ﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ﴿19﴾ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ﴿20﴾ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ ﴿21﴾ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾ [البروج 19 – 22].
                  يبين أن هذا القرآن في لوح محفوظ، وأن كلَّ شيءٍ مُحصى ومُدقَّق، ولا يفوت على الله من أمر العباد، وأمر الخلق، وأمر الكون كله شيء.
                  وفي هذه السورة يبيِّن شيئًا من هذا الحفظ، فيقول: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ﴿2﴾ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴿3﴾ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾، فهذا الكون العظيم، الضخم، الهائل، الذي لا يمكن لأحد أن يقوم به إلا الله -سبحانه وتعالى-، قد حفظه الله وضبطه وأتقنه، وتمكَّن منه -سبحانه وتعالى-، ومكَّن ملائكته من القيام بأدوارهم، وكل ذلك بأمره -جل جلاله-.
                  بعد هذه الأسئلة التي نسميها علوم السورة دائمًا ننتقل إلى تفسير آياتها.
                  يقول الله -عز وجل-: ﴿ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ﴿1﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ﴿2﴾ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴿3﴾ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾.
                  أقسم الله بالسماء، ما هي السماء؟
                  {السماء هي: تلكم الجرم العظيم الذي يعلو جميع الخلائق، وأعظم مخلوقات الله}.
                  جميل، السماء هي هذا الجرم الذي نراه -كما عبَّر الأخ رياض- صحيح، وهي معروفة في اللغة، ومعروفة عند الناس جميعًا، وهي آية عظيمة من آيات الله -عز وجل-.
                  لكن قول أخينا "أنها أعظم مخلوقات الله" فيه نظر؛ لأن أعظم المخلوقات هو العرش، وهو أكبرها، وهو سقف الخليقة، لكن لا شك أن هذه السماء عظيمة جدًّا، ولذلك قال الله -عز وجل-: ﴿ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ﴾ [النازعات: 27] والجواب: السماء بلا شك.
                  وقال -عز وجل-: ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ﴾ [غافر: 57]، فإذا كنتم استغربتم أن يعيد الله الإنسان مرة أخرى؛ فما بالكم تقرُّون بأن الذي خلق السماوات والأرض هو الله؟ هذا تناقض، إذا كان الله هو القادر على أن يخلق السماوات ويخلق الأرض، فكيف تستغربون عليه أن يعيد إنسانًا مرةً أخرى بعد أن أفناه أو أماته؟ هذا شيء عجيب!
                  طيب، إذن السماء معروفة.
                  وقد تأتي السماء في اللغة ويُراد بها كلُّ ما علاكَ، يُراد بها كلُّ ما هو فوقك، ﴿ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ﴾ [الحج: 15]، يعني فليمدد بحبل إلى السقف، فكلُّ ما علاكَ وأظلكَ فهو سماء.
                  ولذلك يُقال للسحاب سماء، ولكنها هنا المراد بها هذا الجرم -الذي ذكر الأخ رياض-، نراه بأبصارنا، وإن كنَّا نراه على حالٍ ليست هي الحال التي خلقه الله عليها لأنها بعيدة جدًّا عنَّا، فنحن نرى شيئًا يدلُّ عليها، وإلا فهذا الكون -كما يقولون- مظلم أشد ظلمة، الذي يبدو لنا هذا الغلاف الجوي يبدو لأبصارنا، ونرى شيئًا من أثر هذه السماء.
                  قال: ﴿ وَالطَّارِقِ ﴾، هذا قسم بالطارق، ما هو الطارق؟
                  {الطارق جاء تفسيره في الآية الثالثة هو النجم}.
                  أحسنت، هذا من تفسير القرآن بالقرآن، وأعجبني أن الأخ حكيم ما قال الطارق هو النجم، قال: جاء تفسيره في الآية، ليشير بذلك إلى أن القرآن فيه ما يفسره، وهذا نوع من أقوى أنواع التفسير وأصحه وأثبته، وهو تفسير القرآن بالقرآن.
                  وتفسير القرآن بالقرآن نوعان:
                  - تفسير للقرآن بالقرآن صريح وقطعي، وهو أن يأتي في الآيات ما يدل على التفسير صراحة.
                  مثل قوله: ﴿ وَيلٌ لّلْمُطَفِّفِينَ ﴾ [المطففين: 1].
                  مَن هم المطففون؟
                  ﴿ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴿2﴾ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾ [المطففين: 2، 3].
                  ومثل قوله: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [يونس: 62].
                  مَن أولياء الله؟
                  ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 63].
                  ومثل قوله: ﴿ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ﴿1﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ﴾.
                  الجواب: ﴿ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴾، انتهى كل كلام بعد هذا الكلام؛ لأنه لا أحدَ أعلم بكلام الله من الله -سبحانه وتعالى-.
                  قال الله -عز وجل-: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ﴾ هذا على سبيل التفخيم والتشويق، أي شيء هذا الطارق؟ فيشتاق الناس لمعرفة ما هو.
                  فيقول الله -عز وجل-: ﴿ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴾.
                  والإقسام بالطارق له دلالة، كما أن الإقسام بالسماء له دلالة.
                  فأما السماء فالذي أقسم بها أراد أن يُبيِّن لنا عَظَمة خَلْقه، الدالة على هيبته -جل وعلا-، وأنه يجب علينا أن نخاف منه، وأن نحذره.
                  والطارق فيها الدلالة على ماذا؟ على أن هذه النجوم التي تثقب الليل بضوئها يُشبهها هذا القرآن الذي يَثقب ظلامَ الكفرِ والجهل والظلم الذي يَعُمُّ الأرض فينير للناس الطريق؛ لأنه قد جاء في قوله: ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ﴿11﴾ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴿12﴾ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴿13﴾ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ﴾.
                  فهناك مناسبة بين ما يقسم الله به وما يذكر في السورة،كما بيّنا في سورة البروج في قوله: ﴿ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾ [البروج: 3]، أقسم الله بالشاهد وأقسم بالمشهود، وهذا فيه مناسبة مع ما ذُكر في السورة من مثل قول الله -عز وجل-: ﴿ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴾ [البروج: 7]، ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [البروج: 9]، هذا يدل على التناسب، وهذا من حكمة الله -عز وجل- في هذا الكتاب العظيم.
                  طيب.. قال: ﴿ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴾ أي النجم الذي يثقب الظلام بضيائه.
                  ثم بيَّن المقسَم عليه فقال: ﴿ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾، "لما" تُقرأ بقراءتين: "لمَّا"، و"لمَا".
                  و"إن" تأتي كثيرًا في القرآن بمعنى "ما"، أي: "ما كل نفسٍ إلا عليها حافظ". "لمَّا" بمعنى "إلا"، و"إن" بمعنى "ما".
                  ﴿ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ﴾ [المجادلة: 2]، أي: ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم.
                  و"إن" تأتي في القرآن كثيرًا بمعنى "ما"، ﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ [الشورى: 48]، معناها: ما عليك إلا البلاغ.
                  قال: ﴿ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾، أي: ما كلُّ نفسٍ إلا عليها حافظ من الملائكة يحفظها، ويكتب أعمالها، ويدوِّن كل صغير وكبير عليه، ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴿10﴾ كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴿11﴾ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10- 12].
                  قال: ﴿ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾، هذه دعوة للإنسان، بعد أن انتهى من العوالم العلوية السماء، والطارق النجم الثاقب؛ انتقل إلى ذات الإنسان تذكيرًا له.
                  ﴿ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾، حتى لا يتكبر، وحتى يعلم دقة تدبير الله وتقديره.
                  ﴿ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾، من أي شيء خلق؟
                  قال الله -عز وجل-: ﴿ خُلِقَ ﴾ أي الإنسان ﴿ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ﴾.
                  وآثر المبني لغير لمعلوم من أجل التركيز على الحدث، وإلا أصل الكلام: "خلقه الله من ماء دافق"، فلما أراد أن يركِّز على الحدث دون أن ينشغل الإنسان بشيء آخر، قال: ﴿ خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ﴾، ﴿ خُلِقَ ﴾ فالله -عز وجل- هو الذي خلق، أي أو جده وأنشأه وأخرجه ﴿ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ﴾.
                  وابن آدم -كما نعلم- مخلوق من الماء، وهذا الماء من صفته أنه دافق، يعني يخرج باندفاع وقوة.
                  ﴿ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾، هذا الماء الدافق يخرج من بين الصلب والترائب.
                  الصلب: هو أسفل الظهر، أسفل العموم الفِقري يُسمى صلبًّا.
                  والترائب: هي عظام الصدر، أو عظام الصدر العلوية؛ لأن الناس عبروا عن هذا بقولهم: ما تحت القلادة من صدر المرأة، ما تحت القلادة من صدر المرأة: هذا هو الموطن.
                  فالله -عز وجل- يقول: ﴿ خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ﴾ هذا الماء الدافق ﴿ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ ﴾ يعني من أسفل الظهر إلى هذه الترائب، يعني هذه منطقة التكوين لهذا الماء.
                  وهل المقصود أن هذا التكوين للماء للرجل وحده أو للرجل والمرأة؟ ليس في الآيات ما يدل صراحة على أنه للرجل وحده، ولا للرجل والمرأة.
                  وبالنظر إلى الآيات نجد أن فيها إشارة أن هذا من الرجل؛ لقوله: ﴿ خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ﴾، والدفق هو من صفة ماء الرجل.
                  إذن فما معنى قوله: ﴿ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾. معناه: يخرج من الموطن الذي بين صلب الرجل وترائبه هو.
                  فإن قيل: إن المفسرين قالوا: إن الترائب هي موضع القلادة من صدر المرأة.
                  قلنا: هذا لتفسيره في اللغة، ولا يقصدون بذلك أنه موضع الصدر من المرأة، وإنما يقصدون المكانة، الإشارة إلى المكان، أين هو؟ فهم مكان الصدر من المرأة، يعني أن هذا المكان لكي تعرفه هو الذي تضع فيه المرأة قلادتها، لكنه من الرجل وليس من المرأة.
                  ويُمكن أن يُقال: ﴿ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ ﴾ أي صلب الرجل، ﴿ وَالتَّرَائِبِ ﴾ ترائب المرأة.
                  ولو كان هذا المعنى هو المراد لقال: "يخرج من الصلب والترائب"، ولكن قال ﴿ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾، فهذا يؤكد -والله أعلم- أنه يخرج من الرجل من المنطقة التي تكون بين صلبه وترائبه، يعني في هذه المنطقة، هذه منطقة الإنتاج لهذا الماء الدافق.
                  ومن المفسرين من السلف مَن قال: الترائب: هي أطراف الرجل يداه ورجلاه، أطراف الرجل: يداه ورجلاه وعيناه، والعلم في ذلك عند الله -سبحانه وتعالى-.
                  لكن لا شك أن هذه الآيات قد بيَّنت من أين يخرج أو من أين يتولد هذا الماء، والعلم الحديث أثبت هذه الحقيقة، وهي أن الماء يُنتج في هذه المواطن.
                  قال: ﴿ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾، ثم قال الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ﴾، "إنه" أي: الله -بلا شك.
                  ﴿ عَلَى رَجْعِهِ ﴾ اختُلف فيها، هل هي على رجع الإنسان، أو على رجع الماء الدافق؟
                  إذن العلماء -رحمهم الله- عندهم خلاف في هذا على قولين:
                  - ﴿ عَلَى رَجْعِهِ ﴾ رجع الإنسان.
                  - أو في هذه الآية ﴿ عَلَى رَجْعِهِ ﴾ على رجع الماء.
                  أما إن قيل أنها على رجع الماء، فاختُلف فيه أيضًا:
                  - إنه على رجع الماء إلى الصلب، يعني أن الله لقادر على أن يرد الماء إلى الصلب.
                  - وقيل: ﴿ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ ﴾ أي رجع الماء إلى الإحليل الذي هو الذَّكر.
                  - وقيل: ﴿ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ ﴾، رجعه: بمعنى ردِّه، أي ردِّ الماء فلا يخرج.
                  وهذا معنًى غريب لكلمة الرجع.
                  هذا هو القول الأول: أن الرجع هن عائد على الماء، ثم هم اختلفوا هل هو رجع الماء إلى الإحليل، رجع الماء إلى الصلب، رجعه بمعنى ردِّه، ردِّ الماء فلا يخرج.
                  القول الثاني: ﴿ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ ﴾ أي الإنسان ﴿ لَقَادِرٌ ﴾.
                  وهذا القول يدل له قول الله -عز وجل-: ﴿ فَمَا لَهُ ﴾ "ما له" مَن هو؟ الماء أو الإنسان؟
                  {الإنسان}.
                  فما دام هذا الضمير يعود إلى الإنسان، إذن الضمير الذي يسبقه يعود إلى نفس المرجع، فيكون: إنه على رجع الإنسان لقادر، فما للإنسان من قوة ولا ناصر، واضح؟ هذا أمر.
                  ومما يؤكد هذا: أن الآية جاءت لتستدل على أمر جاء القرآن به كثيرًا، وهو من قضايا الخصومة بين النبي -صلى الله عليه وسلم- والمشركين.
                  إذا قلنا: "إنه على رجع الإنسان لقادر" ما معنى ذلك؟ القضية التي اختصم فيها النبي مع المشركين ما هي؟ قضية هل فيه يوم آخر أو ليس هناك يوم آخر.
                  أما هل الله يقدر على أن يرد الماء أو لا يرده، لم يختصم فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع المشركين، فبانَ لنا بذلك أن القضية التي جاءت الآيات لتقريرها هي القضية التي وقعت فيها الخصومة بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين، وهي قضية البعث، هل سيكون أو لا يكون، وهل الله قادر عليه أو غير قادر -تعالى الله عما يقول المشركون علوًّا كبيرًا- واضح هذا المعنى؟
                  ولذلك نحن نقول: من عادة القرآن الاستدلال على البعث والاعتناء بأمر البعث، ومتى جاءت الآية مختلفًا فيها بين أن يكون جاريًا على العادة أو مخالفًا لها، قلنا: لا؛ لأن يجري على العادة القرآنية أولى.
                  وبهذا نقول: ﴿ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ ﴾ أي الإنسان، ﴿ لَقَادِرٌ ﴾، قادر سبحانه أن يرجعه.
                  طيب.. ومما يؤكد ذلك ويدل عليه: السياق، وهو عندنا من أهم الأدلة التي نستدل بها على ترجيح قولٍ على قول، وعلى فهم الآية وفهم المعنى.
                  فالسياق في الآيات يدلُّ على أن المراد اليومَ الآخر.
                  مَن يُبيِّن لي كيف ذلك؟
                  {رجوع الضمير على الإنسان}.
                  رجوع الضمير على الإنسان، وأن المراد ﴿ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ ﴾ أي بعثه بعد موته لقادر.
                  {لأن الآيات سيقت مساق محاجَّة الإنسان على عناده؛ لأن الإنسان كافر}.
                  طيب.. لو قيل: من أين ذلك؟
                  {من الآية رقم (5) قوله تعالى: ﴿ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾}.
                  لا، حكيم؟ تفضل يا حكمت، عندنا حكيم وحكمت.
                  {﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ﴾ هي التي تأتي بعد}.
                  لا، حكيم؟
                  {قول الله تعالى ﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾}.
                  ﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾، الحديث هنا ﴿ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ﴾، إذا نظرت للتي بعدها عرفت أن الحديث عن اليوم الآخر، قوله: ﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴿9﴾ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ ولَا نَاصِرٍ ﴾، فكيف يقول: ﴿ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ﴾ أي رجع الماء لقادر يوم تبلى السرائر؟! هذا بعيد جدًّا.
                  ولذلك نحن نقول: السياق يدل على أن المراد ﴿ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ ﴾ أي رجع الإنسان بعد موته ﴿ لَقَادِرٌ ﴿8﴾ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴿9﴾ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ ولَا نَاصِرٍ ﴾، واضح؟ أي نعم.
                  وهذا يُبيِّن لنا يا إخواني أن الخلاف الذي يكون بين المفسرين هناك دلائل وقرائن يستبين لها القول الصحيح.
                  فهنا عندنا الآن قرابة خمسة أقوال في الآية، ومع ذلك عند النظر والتدقيق والبحث نجد أن في الآيات ما يُسعف ويدل على أحد هذه المعاني، ويُبطل أو يُضعِف الأقوال الأخرى.
                  قال: ﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾، ما معنى ﴿ تُبْلَى ﴾؟ حكيم.
                  {تُكشف وتُظهر}.
                  نعم، تُختبَر ويُنظَر إليها كما قال الله -عز وجل- في سورة العاديات: ﴿ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ﴾ [العاديات: 10]، أُخرِجَ وحُصِّلَ وفُحِصَ، ففي ذلك اليوم تُبلَى السرائر.
                  ما معنى ﴿ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾؟ أي تُكشَف وتُختبَر ويُنظَر إليها، ويُميَّز بين ما هو في صالح الإنسان وما هو ضده، ما هو خير وما هو شر، ما هو إيمانٌ وما هو كفر، ما هو صدقٌ وما هو كذب، إلى آخره، ﴿ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾.
                  وهذه الآية ينبغي للمؤمن أن يخاف منها.
                  وأذكر مرة أني صليت في المسجد النبوي، فالتفتَ إليَّ أحد المصلين وقال: لقد قرأ الإمام في صلاة الفجر آية كأني أول مرة أسمعها.
                  قلت: وما هي؟
                  قال: قول الله -عز وجل-: ﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾.
                  يعني سيأتي علينا يوم تُختبَر فيه سرائرنا، تُختبَر فيه نيَّاتنا وما في قلوبنا، هذا شيء مهول، هذا شيء عظيم ينبغي علينا جميعًا أن ننتبه له.
                  ولذلك على المسلم أن يلزم طريق الصدق، يلزم طريق الصدق والوضوح وعدم النفاق والمواربة، وأن يقول بلسانه شيئًا لا يعتقده بقلبه، إلى آخره.
                  ﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴿9﴾ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ ولَا نَاصِرٍ ﴾، أي في ذلك اليوم ليس له من قوة يدفع بها عذاب الله -عز وجل-، ولا ناصرٌ من غيره يدفع عنه ما حلَّ به من البلاء، وهذا في غاية التهديد لبني الإنسان.
                  قال الله -عز وجل-: ﴿ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ ولَا نَاصِرٍ ﴿10﴾ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ﴿11﴾ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴾، هذا الآن قسمٌ جديدٌ.
                  الأول: ﴿ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ﴾.
                  وهذا: ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ﴾، السماء معروفة، لكن ﴿ ذَاتِ الرَّجْعِ ﴾ ما معناها؟
                  {يمكن يكون المعنى: المطر، أو السحاب}.
                  نعم، ﴿ ذَاتِ الرَّجْعِ ﴾ ذات المطر، المطر سُمِّيَ رجعًا؛ لأنه يرجع مرةً بعد أخرى، المطر ما نزل مرَّة واحدة وانتهى، بل إنه يعود إلى الناس، ويعود بصفة الرجوع، هو ينزل إلى الأرض، ويجري في مجاريها، يعني ينزل من جبالها وعلوها إلى سُفليها، ثم يجتمع، ثم يأوي إلى هذه البحيرات أو البحار، ثم تتسلط عليه الشمس فيصعد مرة أخرى، ثم يعيده الله -عز وجل- إلى العباد في دورة لا تنتهي حتى يأذن الله -عز وجل- بانتهائها، فالسماء ذات الرجع.
                  ﴿ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴾، هذا قسمٌ آخر بالأرض ذات الصدع؛ أي ذات التشقق، إذا نزل عليها المطر تشققت بالنبات؛ لأن النبات يكون مغروسًا في جوفها، فإذا نزلت عليه قطرات المطر شقَّ الأرض حتى خرج فوق ظهر الأرض.
                  طيب.. هذا القسم ما مناسبته؟ هنا قسمٌ على القرآن، وهو مناسب للقسم بماذا؟ بالسماء والأرض.
                  فالقرآن ينزل من السماء كنزول المطر من السماء، وينزل على القلوب التي في أجواف العباد، فمن القلوب ما ينتفع بهذا القرآن ويتشقق بالنبات، يعني ويتشقق بالمنفعة، فيتذكر ويتعظ ويخشى.
                  ومن القلوب ما هو صلدٌ لا يعرف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا، ولا يأبه لشيء، كما قال الله -عز وجل-: ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 21]، يعني فقلوب هؤلاء العباد قاسية كالحجارة أو أشد قسوة.
                  فهذا مثلٌ للقرآن، ولهذا جاء بالقرآن هنا فقال: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴾، وهنا يأتي سؤال: "إنه" ضمير، وليس قبل هذا الضمير مفسِّر له يدلُّ عليه، ومع ذلك لم يختلف الناس في أن المراد به القرآن؟
                  قلنا: هذه عادة قرآنية، وهي أن الضمير إذا لم يوجد له مفسر، فإنه غالبًا يعود إلى القرآن.
                  مثلما قلنا في سورة القدر ماذا؟ ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ﴾ أنزلنا ماذا؟ ما جاء قبلها شيء يدل على أنه هو القرآن، ومع ذلك لم يختلف الناس في أن المراد به هو القرآن.
                  قال الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّهُ ﴾ أي القرآن ﴿ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴾، قولٌ يفصل بين الحق والباطل، فالقرآن من أوله إلى آخره جاء للفصل لبيان الحق، حتى فيما اختلف فيه بنو إسرائيل من كتابهم وأخبارهم جاء القرآن ليفصل بينهم، ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [النمل: 76].
                  فهو كتاب فاصل، وما معنى فاصل؟ أي إنه جاء بالحق الذي لا ريبَ فيه، فإذا قال كلمة في شيء وجب أن يعود الناس إليه، ولن تجد الحق في غيره.
                  يعني عندما يذكر الله -عز وجل- أن الإنسان خُلق من ماء دافق وجب أن تصدق بهذا، ولا تشك فيه لحظة.
                  وهذه الآية يا إخواني ترد على أولئك الذين يجعلون سبيل العلم هو الشك، يقولون: العلم هو الشك، تشك في كل شيء ثم تبحث عن الدلائل.
                  نقول: لا، القرآن قد جاءنا بحقائقَ لا تقبل الشك، بل مَن شكَّ في حقيقة من الحقائق التي جاء القرآن بها فقد كفر.
                  عندما يقول الرب -سبحانه وتعالى- عن نفسه إنه على كل شيء قدير، وكان بكل شيء عليمًا، وبكل شيء بصيرًا، وغفورًا رحيمًا، هذه حقائق لا يجوز لأحد أن يُشك فيها.
                  إذا قال الله: ﴿ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ﴾، ﴿ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ﴾ [العلق: 8]، هذه حقيقة يجب أن تؤمن بها، مجرد حدوث أدنى شك فيها هو تكذيب بهذه الآية.
                  ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴾، فهو قول يفصل بين الحق والباطل، يفصل بين الكفر والإيمان، يفصل بين الصدق والكذب، يفصل بين الشك واليقين، ويدلك على الحق الذي لا مرية فيه.
                  وبهذا نعلم أي ضلالٍ وقع فيه بعض المسلمين وخصوصًا في هذا العصر عندما ذهبوا يبحثون عن زُبَالات الأفكار وحُثَالات الأذهان من كلام مفكري الغرب ومُنظِّريه، يبحثون عن الحق في ثنايا كلامهم، ويبحثون عن الهدى، مساكين هؤلاء.
                  ما هناك كلام في الكون فصل كله إلا هذا الكلام.
                  ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴿13﴾ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ﴾ أيضًا ليس فيه شيء جيء به للترفيه والحكايات والأحاجي والألغاز والتسلية، كل ما فيه ليس هزلًا، بل جدٌّ كما قال الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ [المزمل: 5]، فهذا القرآن كله جد، جاء بالحق الذي لا هزلَ فيه، ولا مِريةَ فيه، ولا لعب فيه، ولا لهو فيه، ولا شك فيه، من أوله إلى آخره، ما من كلمة وُضِعت ولا آية أُنزلت إلا وقد جاءت بالحق البيِّن الذي لا مرية فيه -نسأل الله سبحانه وتعالى أن يملأ قلبي وقلوبكم بهذا اليقين.
                  قال: ﴿ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ﴾، ثم هدَّد هؤلاء المكذبين الذين يقولون أن محمدًا جاء بقرآن هو أساطير الأولين، وبدأوا يصفون النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بأنه ساحر، وبأنه كاهن، وبأنه شاعر، وبدأوا يشككون في الحقائق التي جاء بها ﴿ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴾ [الجاثية: 32]، ما ندري يكون بعث أو لا يكون؟
                  قال: ﴿ إِنَّهُمْ ﴾ أي: هؤلاء الكفَّار ﴿ يَكِيدُونَ كَيْدًا ﴾ أي كيدًا عظيمًا، لكن الله يردُّ على كيهم بكيده، فيقول: ﴿ وَأَكِيدُ كَيْدًا ﴾، ونكَّره ليعظِّمه، وكيد الله خيرٌ من كيدهم، ﴿ وَيمْكُرُونَ وَيمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
                  وهل نثبت صفة الكيد لله؟
                  نقول: صفة الكيد تكون مرادًا بها المدح، ومرادًا الذم.
                  فيراد بها المدح عندما يكون في مقابلة كيدٍ، يكون ممدوحًا مَن يكيد لمَن يكيد.
                  أما إن كانت صفة إثبات مطلق في كل وقت، فهذه ليست مدحًا؛ ولذلك ما جاءت في القرآن إلا على وجه المقابلة، الاستهزاء، الخداع، المكر، الكيد، هذه الصفات جاءت في القرآن على وجه المقابلة.
                  ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ [النساء: 142]، ﴿ وَيمْكُرُونَ وَيمْكُرُ اللَّهُ ﴾ [الأنفال: 30]، ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴿14﴾ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [البقرة14، 15]، ﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ [الأعراف: 183].
                  فإن كانوا يكيدون كيدًا تجد أن كيدهم فيه خروم وثقوب، وفيه ثغرات ومشاكل، أما كيد الله فمُتْقَن، ودائمًا ما يكيد هؤلاء الكفار كيدًا فيعود كيدهم عليهم مرةً أخرى.
                  قال الله -عز وجل-: ﴿ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيدًا ﴾، لا تستعجل عليهم -يا محمد- فإن الله -سبحانه وتعالى- ما يقدر ما يقدر، وما يجعل هؤلاء يفعلون ما يفعلون إلا لأمر يريده، فعليك بالصبر والتريث وعدم الاستعجال، لا تستعجل لهم، مهّلهم، فسيأتي أمر الله -عز وجل- فيهم، أمر الله القدري بأن ينزل فيهم عقوبته وبأسه، وأمر الله الشرعي عندما يأذن لك بقتالهم، فتستأصلهم ولا تبقي منهم.
                  ﴿ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيدًا ﴾، وقد أمهلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استجابةً لأمر الله، حتى إذا أذن الله له بالهجرة قال الله له: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [الحج: 39]. وقال ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ [البقرة: 190]، أي نعم.
                  بهذا نكون قد انتهينا من هذه السورة وننتقل إلى السورة التي تليها وهي سورة الأعلى.
                  قال الله -عز وجل- بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾.
                  ما اسم هذه السورة؟
                  هذه السورة تسمى سورة الأعلى، وسورة سبِّح.
                  يعني لها اسمان: سورة الأعلى، وسورة سبِّح، يُقال هذا الاسم وهذا الاسم.
                  وكلاهما مأخوذ من الآية الأولى من آيات هذه السورة، سبِّح، والأعلى.
                  أين نزلت؟
                  جمهور المفسرين على أنها نزلت بمكة، ويدل على ذلك حديث البراء بن عازب أنه قال: "أول مَن قدم علينا مصعب بن عمير في جماعة، ثم قدم فلان وفلان وفلان، ثم قدم عمر في عشرين، ثم قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- فما فرح الناس بشيء فرحهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعندما جاء كنت قد حفظتُ سورة سبِّح في سِوَرٍ مثلها".
                  هذا يدل على ماذا؟ على أن سورة سبِّح قد نزلت وجاء بها الصحابة إلى المدينة قبل أن يهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة.
                  ومن معناها ومضمونها نستدل على أنها كانت سورة مكية.
                  أما بعض العلماء ذكرهم السيوطي في كتابه الإتقان في علوم القرآن، قال: "ومن الناس مَن قال إنها سورة مدنية، وأخذوا ذلك من معنى أو قول أحد المفسرين في تفسير آية من آياتها، وهي قول الله -عز وجل-: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴿14﴾ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾.
                  قال: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾ هي زكاة الفطر.
                  ﴿ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾ أي صلاة العيد.
                  قالوا: زكاة الفطر وصلاة العيد ما نزلت إلا في المدينة، فأخذوا من هذا أنها نازلة في المدينة".
                  فنقول: هذا غير صحيح؛ لأن هذا التفسير من هؤلاء الأئمة إنما أُريدَ به ماذا؟ إنما أريد به المثال، وإلا قوله: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴾ يُراد بها ما هو أعم من زكاة الفطر، وأعم من زكاة المال، من جميع الأعمال الصالحة.
                  وهذا هو القول الصحيح أنها سورة مكيَّة كما هو قول جمهور المفسرين.
                  عدد آياتها -كما نشاهد- لم يختلف العلماء في أنها تسع عشرة آية، هذه السورة لم يختلفوا فيها بخلاف سورة الطارق فوقع الخلاف هل هي ست عشرة آية أو سبع عشرة آية.
                  إذن عدد آياتها تسع عشرة آية.
                  محورها: على أي شيء تدور هذه السورة؟
                  الحقيقة أيضًا يُشكِل ما هو محور السورة، فيمكن أن يُقال: إن محور السورة هو التسبيح ومسبباته، ومَن يستجيب، ومَن لا يستجيب.
                  ويمكن أن يُقال: إن محور السورة: ذكر دلائل القدرة الإلهية، ﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ﴿2﴾ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴿3﴾ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ﴿4﴾ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ﴾، ومن يؤمن بهذا ومَن لا يؤمن.
                  ويمكن أن يُقال أيضًا: أن محورها هو التزكي؛ لأن الله قال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴿14﴾ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴿15﴾ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿16﴾ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴿17﴾ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ﴿18﴾ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾.
                  وأما مناسبتها لسورة الطارق: فسورة الطارق قلنا إنها في بيان دلائل القدرة والعناية بهذا الإنسان، والتخويف من عاقبة التكذيب، وتهديد هؤلاء الكفار الذين كذَّبوا.
                  وهذه السورة أيضًا جاء فيها شيءٌ من ذلك، عندما قال الله -عز وجل-: ﴿ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ﴿9﴾ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى ﴿10﴾ وَيتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ﴿11﴾ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ﴿12﴾ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا ولَا يَحْيَا ﴾.
                  وبهذا نكون انتهينا من هذه المقدمات التي تسمى علوم السورة، ونأتي بعد ذلك إلى آياتها.
                  يقول الله -عز وجل-: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾، قوله " سَبِّحِ " هذا خطاب لمن؟
                  أو قبل ذلك نسينا أن نذكر فضل هذه السورة.
                  هذه السورة فيها فضائل:
                  فمن فضائلها... مَن يُجيب؟
                  {تقرأ في صلاة الوتر}.
                  تُقرأ في صلاة الوتر، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾، و﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾، و﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ في ركعات الوتر الثلاث التي يختم بها قيام الليل.
                  نحن نرى الأئمة في التراويح في رمضان يختمون صلاة التراويح بثلاث ركعات، يقرؤون في الأولى سبح، وفي الثانية ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾، وفي الثالثة ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾. وهذه فضيلة لهذه السورة أن تُختار؛ لأن تكون مقروءة في هذا المكان الذي يقرأه الإنسان كل ليلة.
                  وأنا هنا أحثُّ إخواني المشاهدين على الحرص على الوتر، فإنه أفضل الصلوات النافلة، أفضل نافلة الصلوات هو الوتر بالإجماع، وينبغي للمسلم أن يحرص عليه.
                  قال الإمام أحمد: "لا يتركه إلا رجل سوء"
                  كيف يزهد إنسان في الوتر على ما فيه من الفضل وهو ركعة واحدة؟!
                  أقلُّه ركعة، وأقل الكمال فيه ثلاث ركعات، وأما أكثره فلا حدَّ له، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم بإحدى عشرة، تقول عائشة في صفتها: "كان يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يوتر بثلاث" -عليه الصلاة والسلام.
                  طيب، وأيضًا تُقرأ في صلاة الجمعة، وفي صلاة العيدين مع سورة الغاشية، هذه فضيلة لهذه السورة العظيمة، وهي أنها تُقرأ في مجمَع عظيم وهو صلاة الجمعة وصلاة العيدين.
                  وقد حاولت أن أتلمَّس لماذا اختيرت لصلاة العيد ولصلاة الجمعة؟
                  والله أعلم، أن ما أقوله اجتهادًا منِّي لا أقوله لأني وجدت شيئًا يسند ذلك أو قال به أحد فأنسب هذا القول إليه، أنه ورد في هاتين السورتين -سورة الأعلى وسورة الغاشية- ما يدل على التذكير، ففي هذه السورة قال ﴿ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾، وفي سورة الغاشية قال الله -عز وجل-: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ﴾ [الغاشية: 21].
                  وفي الجمعة يكون هناك تذكير بالخطبة، وفي العيد يكون هناك تذكير بالخطبة، فتأتي هاتان السورتان لتبيِّن أنك إنما أنت مذكر، فمن الناس مَن ينتفع بتذكيرك، ومنهم مَن لا ينتفع بتذكيرك -والله أعلم.
                  وبهذا نكون وصلنا إلى نهاية لقائنا هذه الليلة.
                  أسأل لله -سبحانه وتعالى- أن يفقهنا جميعًا في كتابه، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن يتذكرون بهذا الكتاب العظيم، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وإلى لقاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

                  تعليق


                  • #10
                    رد: تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري

                    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
                    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
                    حياكم الله مشاهديَّ الكرام، وحيى الله الإخوة الحضور معنا في هذا المكان الطيب المبارك.
                    وهذا مجلس من مجالس التفسير في هذه الأكاديمية الإسلامية المباركة، وقد وصلنا بالأمس إلى سورة الأعلى، وأخذنا مقدماتها، وبينا أن الصحيح فيها أنها سورة مكية، وأن مَن قال إنها مدنيَّة لم يُصِب في ذلك.
                    واليوم ندلف إلى السورة ونبيِّن معانيها، خصوصًا أن معنا اليوم -بإذن الله عز وجل- سورتين كريمتين يُجمع بينهما في التفسير، أو يُجمع بينهما في التلاوة، فيُقرآن في صلاة الجمعة، ويُقرآن في صلاة العيد، وتُقرأ سورة الأعلى في صلاة الوتر دون سورة الغاشية.
                    اليوم معنا سورة الأعلى تفسيرًا، ثم معنا سورة الغاشية تفسيرًا وبيانًا لأهم المعلومات عن هذه السورة، أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد.
                    يقول الله -عز وجل-: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، هذا أمر بالتسبيح، والتسبيح ما معناه؟
                    التسبيح، يُقال: سبِّح، وسبحان، ويُسبِّح. ما معناه يا حكيم؟
                    {التسبيح: التنزيه}.
                    التسبيح هو التنزيه، فمعنى سبِّح: أي نزِّه.
                    وسبحان: هذا تنزيه لله -عز وجل-.
                    وقد جاء التسبيح مفتتحًا به سبع سور في القرآن الكريم.
                    ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [الإسراء: 1].
                    وعندنا سور المسبحات، وهي: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ الحديد، و﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ الحشر، و﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ الصف، و﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾ الجمعة، و﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾ التغابن، و﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ هذا في سورة الأعلى.
                    أما سور المسبحات التي يُطلق عليها كمجموعة "المسبحات" فهي خمس، الحديد، والحشر، والصف، والجمعة، والتغابن.
                    وقد افتُتِحَت سبع سور من القرآن الكريم بلفظ التسبيح وانتظمت جميع التصرفات.
                    فالمصدر: سبحان.
                    والفعل الماضي: سبَّح.
                    الفعل المضارع: يسبح.
                    الفعل الأمر:سبِّح اسم ربك الأعلى.
                    وهذا يدلنا على عظم التسبيح وأهمية منزلته، ولذلك جُعِلَ جزءًا من الأذكار التي يقولها المسلم في اليوم والليلة، في الصباح والمساء، وفي كل وقت، ويقوله أيضًا في الركوع وفي السجود كما جاء في هذه الآية عندما نزلت، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اجعلوها في سُجودكم».
                    ولذلك تُشرع في سجود الصلاة المفروضة والنافلة، وفي سجود التلاوة، وفي سجود الشكر، وفي سجود السهو؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال مُطلِقًا: «اجعلوها في سجودكم».
                    ﴿سَبِّحِ﴾، هل هذا خطاب لرسول الله أو لكل مَن يقرأ هذه الآية؟ يصلح أن يُقال هذا، ويصلح أن يُقال هذا، ولا إشكال في ذلك -إن شاء الله-.
                    ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، هل المُسبَّح الاسم أو الرب؟ الحقيقة أن المسبَّح هو الرب، المنزه هو الرب -سبحانه وتعالى-، وإنما جيء بالاسم ليبيِّن أن التسبيح لا بد أن يكون مذكورًا فيه الاسم، وليس المقصود تسبيح القلب، بل المقصود تسبيح القلب مع تسبيح اللسان.
                    فأنت تقول: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾؛ أي سبِّح ربَّك ذاكرًا اسمَه، وهذه فائدة نفيسة، وهي أن التسبيح لا ينبغي أن يقتصر أمره على القلب، بل لا بد من نطق اللسان، ولذلك جاء قوله: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾.
                    وجاء بوصف "الأعلى" ليدلَّ على أن لله -عز وجل- العلو كله، العلو الكامل، ولم يقيِّده بعلو معين ليدل على أن له العلو بجميع أنواعه، علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر، وهذه ثلاث أنواع للعلو.
                    علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر.
                    علو الذات: وهو أن الله -سبحانه وتعالى- مستوٍ على عرشه فوق سماواته، بائنٌ من خلقه، يُشار إليه بجهة العلو، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للجارية: «أين الله؟». قالت: في السماء. قال لصاحبها أو سيدها: «أعتقها؛ فإنها مؤمنة».
                    وقد ثبت هذا العلو -وهو علو الذات- بأدلة كثيرة، أدلة من الكتاب، ومن السنة، ومن إجماع السلف الصالح، ومن العقل، ومن الفطرة.
                    وهذه الأدلة قلَّما تجتمع في شيءٍ محدد، وهي أدلة كثيرة جدًّا ذكرها أهل العلم واستوعبوا كثيرًا من ألفاظها؛ لأنه قد وقع فيها الخلاف بين الطوائف الإسلامية، بخلاف علو القدر وعلو القهر فإنه لم يقع فيهما خلاف بين الطوائف الإسلامية.
                    فأنت إذا قلت "الأعلى" تثبت لله العلو من جوانبه الثلاثة:
                    - علو القدر.
                    - وعلو القهر: وهو أنه مستعلٍ على خلقه، قاهر لهم.
                    - وعلو الذات: وهو أنه فوق السماوات -سبحانه وتعالى-.
                    ويقول المسلم هذه الكلمة عند السجود لأنه يهوي بأعلى ما فيه إلى الأرض، فيتذكر بذلك علو الله -سبحانه وتعالى- الذي له العلو الكامل من جميع النواحي.
                    قال واصفًا نفسه: ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾؛ أي خلق كل شيء.
                    ﴿فَسَوَّى﴾؛ أي جعله مناسبًا لما خُلق له.
                    يعني مثلًا: خلق العينين وجعلهما في الرأس من أجل أن تبصر الأشياء، لو جعل العينين مثلًا في الرجلين لكان الأمر فيه مشقة، وكذلك جعل العظام القويَّة في الأسفل لتحمل البدن، هذا من التسوية، جعل كل شيءٍ معتدلًا مناسبًا لما خُلِقَ له.
                    ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾، قدَّر كل شيء فهداه لما يُصلحه، فأنت ترى السخلة تخرج من بطن أمها، وفي دقائقَ تَهتدي إلى ثدي أمها، علمًا بأن أمها لا تلقمها ثديها، وأنها تهتدي إلى الثدي، وتعرف مكان اللبن، دون أن يكون ذلك بتعليم من الأم.
                    بل انظر إلى الجنين عندما يخرج من بطن أمه، من حين ما تلقمه الأم الثدي يبدأ بالمصِّ، مَن الذي علمه أن يمصّ؟ لماذا لا يوضع الطعام أو الشراب في فمه فيبتلعه؟ لا، يمصُّه مصًّا قويًّا. مَن الذي هداه لذلك؟
                    بل انظر إلى هذه الحيوانات الكثيرة جدًّا كيف تهتدي إلى أرزاقها؟
                    وسيأتينا ذلك في سورة الغاشية عندما يقول الله -عز وجل-: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية: 17].
                    انظر إلى القط -وهذا نراه نحن دائمًا في بيوتنا وفي شوارعنا- كيف يصيد ويصل إلى صيده؟ تجده يختفي، ويحاول أن يضع الحبائل للصيد حتى يستطيع الإمساك به.
                    هذا كله من هداية الله -عز وجل- لكل مخلوق لما يصلحه وما يناسبه.
                    البارحة كنت أشاهد فيلمًا قصيرًا عن نوعٍ من السمك يسمى "قذَّاف الماء"، هذا النوع من السمك يأتي قريبًا -وهو في النهر- قريبًا من الأشجار، فإذا رأى صرصارًا أو شيئًا من الحشرات في الشجرة قذف إليه الماء، فضربه بالماء على بعد مترين، فتسقط هذه الحشرة فيصيدها.
                    والعجيب أنه ماهرٌ جدًّا في قذف الماء؛ لأنه يقذفه بدرجة ميلان معينة يستطيع أن يصل بها إلى هذا الصرصار أو تلك الحشرة، وهذا والله من العجائب.
                    لما رأيت الفيلم قلت: سبحان الله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى!
                    قال الله -عز وجل-: ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾، هذا في جميع المخلوقات، وفي ابن آدم هداه لسبيل الخير وسبيل الشر، ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان: 3]، ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 10].
                    قال الله -جل وعلا: ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾، هذا من عطف الصفات -كما يقولون- ليس في الذوات، بل تُعطَف صفة على صفة، جاء محمد الكاتب والشاعر، و.. إلى آخره. هذا من عطف الصفات.
                    قال: ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾؛ أي النبات والكلأ الذي يكون في البراري والبوادي.
                    قال: ﴿فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾، جعل هذا المرعى الأخضر، ﴿غُثَاءً﴾؛ أي يابسًا، ﴿أَحْوَى﴾، قد اسودَّ من اليُبسِ.
                    وهذا فيه تذكير بماذا؟ تذكير بأمر البعث، لأن أمر البعث يكون كما يكون حال هذا النبات في البراري، يصل إلى حالة اليُبس، ثم ينزل عليه المطر في الموسم القادم فيعود أخضر، كذلك أنتم يا بني آدم، تموتون فتبلون فيبعثكم الله -سبحانه وتعالى- فتعودون كما كنتم.
                    وقد قال بعض العلماء: "والذي أخرج المرعى أحوى، فجعله غثاءً"، فجعلوا كلمة "أحوى" من وصف المرعى.
                    وهذا القول يُخالف ترتيب الآية ونسقها، وما دام كذلك، فإننا لا نقول به إلا إذا اضطررنا إليه. وهذه قاعدة من قواعد التفسير، وهي أننا لا نخالف الترتيب في الآية ونظم الآية، ونُقدم فيها المؤخر ونُؤخر فيها المقدم إلا إذا لم يكن للآية وجه إلا أن تُحمل على ذلك.
                    أما إذا كان لها وجه بأن تُحمل على نظمها المذكور في كتاب الله -عز وجل-، فإن الأولى أو فإن الراجح هو أن تبقى على نظمها، وتكون كلمة "أحوى" من وصف "غثاء"، وليست من وصف "المرعى".
                    "أحوى" من وصف "غثاء"، أي: فجعله يابسًا مسودًّا من طولِ اليُبس.
                    وليس كما يقول بعضهم: "والذي أخرج المرعى أحوى" أي مسودًّا من خضرته، "فجعله الله غثاءً" أي يابسًا بعد أن كان أخضر شديد الخضرة، فهذا قولٌ يُخالف الترتيب، وهذه قاعدة من قواعد الترجيح.
                    قال الله -سبحانه وتعالى: ﴿فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾.
                    بعد ذلك انتقل إلى وعدين كريمين لرسولنا -صلى الله عليه وسلم- قال فيهما: ﴿سَنُقْرِئُكَ فلَا تَنسَى﴾، يا محمد هذا وعدٌ منَّا أننا نُنزل عليك هذا الكتاب الذي لا عهد لك به، فتقرأه فلا تنسى منه شيئًا، سنقرئك يا محمد فلا تنسى شيئًا من هذا القرآن الذي اقرأناكَ إيَّاه، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعالج من التنزيل شدَّة، وكان يقرأ وجبريل يوحي إليه هذا القرآن، فأنزل الله -عز وجل- عليه قوله: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴿16﴾ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴿17﴾ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة16-18]، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُنصِت وجبريل يُلقِي عليه الوحي، فإذا فصم عنه الوحي، إذا به قد استوعبَ الآيات وحفظها لم يخرم منها شيئًا -عليه الصلاة والسلام-.
                    قوله: ﴿سَنُقْرِئُكَ فلَا تَنسَى﴾، "لا" هنا اختُلفَ فيها هل هي "لا" نافية أو ناهية؟ ما تقولون أنتم؟ هل هي نافية أو ناهية؟
                    {"لا" نافية}.
                    "لا" نافية، لماذا لا تقول: "لا" الناهية؟
                    {بدليل وجود الياء في الأخير؛ لأنه لو كانت ناهية لكانت مجزومة بالنهي}.
                    نعم، أحسنت، وهذا من المرجحات، وهو الاستدلال بالرسم على صحة أحد القولين.
                    فمن قال: إنها ناهية، نقول له: لو كانت ناهية -كما قال أخونا رياض- لو كانت ناهية لجاءت من دون ألفٍ مقصورة، لكان "فلا تنس"، فلما جاءت ﴿فلَا تَنسَى﴾ عرفنا أنها "لا" النافية، و"لا" النافية لا تجزم الفعل المضارع.
                    ولذلك من قواعد الترجيح: الاحتكام إلى رسم المصحف.
                    وقد مرَّ بنا مثالٌ في سورة المطففين: ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين: 3].
                    قال الله -عز وجل-: ﴿سَنُقْرِئُكَ فلَا تَنسَى﴾، ما معنى هذه الآية؟ أي سنقرئك ما نوحي إليك يا محمد فلا تنسى شيئًا منه، ثم استثنى فقال: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾، يعني إلا ما شاء الله أن تنساه.
                    وهذا قد جاء تأويله في سورة البقرة في قول الله -عز وجل-: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة: 106].
                    فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يوحى إليه بالآيات، ثم يشاء الله -عز وجل- أن ينسخ هذه الآيات ويرفعها بعد أن أُنزلَت بحكمة يعلمها -سبحانه وتعالى-، فتُنزَع ولا يبقى منها شيءٌ بعد أن كانت أُنزلَت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
                    ولا مانع أيضًا من أن يدخل في حكم الآية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد يوحى إليه بالآيات فيقرأها على أصحابه فيحفظونها، ثم ينساها في لحظة من اللحظات بحكم البشرية؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر، وقد قال: «إنما أنا بشرٌ أُنسَّى -أو أنسَى- كما تنسون، فإذا نسيتُ فذكروني»، وقد فتح عليه بعض الصحابة في صلاته، أو أُرتِجَ في صلاته -عليه الصلاة والسلام- فلم يرد عليه أو لم يفتح عليه أحد من الصحابة، فلما سلَّم قال: «أين فلان؟ لمَ لمْ تفتح عليّ؟»، يعني لِمَ لمْ تذكرني بما فات عليَّ من الآيات؟
                    لا مانع أن يدخل هذا المعنى في قوله: ﴿سَنُقْرِئُكَ فلَا تَنسَى ﴿6﴾ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾.
                    ولما ذكر النسيان ذكر علم الله لمناسبته في هذا الموطن، فإن الله -سبحانه وتعالى- لا ينسى ولا يليق به أن ينسى، كما أنه لا ينام ولا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم -سبحانه وتعالى-.
                    قال: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾، فهو -سبحانه وتعالى- الذي يعلم ما نجهر به وما نخفيه.
                    هنا يأتي السؤال: إذا كان الله يعلم ما نخفيه فهو قطعًا يعلم ما نجهر به، فما الذي جعله يقول: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾؟ لماذا لم يكتفِ بقوله: "إنه يعلم ما يُخفى" مثلًا، لماذا قرَن بينهما؟
                    الجواب -احترامًا للوقت فقط لأن ما معنا وقت طويل- الجواب هو: ليبين لك الله أن علمه بالجهر وبما يُخفى على قدر سواء، نحن يختلف عندنا ما يُخفى عما يُجهر، أما الله -سبحانه وتعالى- ما تخفيه وما تسره في نفسك وما تعلنه، كلها بالنسبة له سواء -سبحانه وتعالى-.
                    الوعد الثاني لرسولنا -صلى الله عليه وسلم- قوله: ﴿وَنيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾، هذا وعدٌ كريم لرسولنا -صلى الله عليه وسلم-، وهو أن الله سيهيِّئ له أسباب اليُسر، الأسباب الموصلة إلى الجنة بيسر، وأسباب الحياة الكريمة بيسر أيضًا، ومن ذلك يُسر دينه -عليه الصلاة والسلام-، فدين محمد يسير وسهل وسمح.
                    وأنا أذكر أننا إذا أحيانًا حضرنا بعض الجالس التي يريد فيها النصارى أن يدخلوا في الإسلام، يقولون: كيف ندخل في الإسلام؟
                    فنقول: تقول: "أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله".
                    يقولون: وماذا بعد ذلك؟
                    نقول: ما في شيء، يدخل الإنسان بهاتين الكلمتين.
                    يقولون: لكن نحن عندنا في النصرانية هناك شيء يُسمى التعميد، وأشياء وتراتيب كثيرة جدًّا تفعلها من أجل أن تدخل في النصرانية.
                    قلنا: لا، في الإسلام الأمر ميسور جدًّا، بمجرد أن تنطق بهاتين الكلمتين مع يقينك بهما دخلت في الإسلام، ولو متَّ بعد أن نطقتَ بهما فأنت مسلم ولك أحكام المسلمين.
                    وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ميسرًا في كل شؤونه، في نومه، في طعامه، وشرابه، في مركوبه، في حياته الزوجية، في بيته، مع إخوانه وأهله، مع أصحابه، في كلِّ حالٍ من أحواله؛ لأن الله قد يسر له حياته، وجعله ميسرًا لليسرى؛ لأنه هو -عليه الصلاة والسلام- يحب اليسر، ما خُيِّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا.
                    فكان -عليه الصلاة والسلام- ينام حتى إنه ينام على الحصير فيؤثر في جنبه، وما قُدِّم له شيءٌ إلا: إن اشتهاه أكله وإلا تركه، وما عاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طعامًا قط.
                    وقد قيل في وصفه -عليه الصلاة والسلام: إنه لا يردُّ موجودًا ولا يتكلَّف مفقودًا.
                    يعني لا يقول: اصنعوا لي كذا وكذا وكذا، ولا يرد شيئًا بين يديه في الحضر، إلا أن يكون شيئًا تعافه نفسه -عليه الصلاة والسلام- كما عاف الضب عندما قُدِّم له -عليه الصلاة والسلام- قال: «إني لا أجده بأرض قومي، فأجدني أعافه»، فأخذه خالد بن الوليد وأكله.
                    قال: ﴿وَنيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ﴿8﴾ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾، أمره الله -عز وجل- أن يُذكر، بعد الوعيد أمره بهذا الأمر، وهو أن يذكر.
                    والتذكير هو أن يقول أو يأمر بالشيء ويذكر الناس به، ويُعلمهم إياه مرة بعد أخرى، التذكير يكون بتعليم الشيء الذي يجهل الناس، ويكون أيضًا بتكرار الشيء الذي قد عُلموه، كل ذلك يُسمَّى تذكيرًا، فذكر.
                    ثم قال: ﴿إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾، هل هذا معناه: أنها إن لم تنفع فلا تذكر؟
                    من العلماء مَن يقول بذلك، وهو أنه متى رجوتَ أن الذكرى تنفع فذكر، ومتى ظننت أن الذكرى لا تنفع فلا تفعل.
                    وقد قال به جماعة من العلماء، وهو أنهم أعملوا هذا الشرط، وقالوا: متى كانت الذكرى نافعة أو غلب على ظنِّ الإنسان أنها نافعة وجب عليه أن يذكر، ومتى غلب على ظنه أنها غير نافعة فإنه يُعفى عنه أنه لا يُذكر.
                    مثل أن تجد إنسانًا غاضبًا ويزمجر ويتكلم، فترى أنك لو ذكرته أو تكلمت معه لازداد غضبًا، فأنت ترجئ التذكير إلى وقتٍ آخر.
                    ومثلما يكون أحيانًا عندما تدخل مجلسًا من مجالس الملوك مهيبًا، وترى أنك لو تكلمت بكلمةِ حقٍ أمام هذا الملك، أو هذا الرئيس، أو هذا السلطان، أو الطاغوت أو غيره لبطش بك وآذاك؛ فتؤجل التذكير حتى يخلو بنفسه، أو حتى تخلو به، أو تكتب له كتابًا، أو تجلس معه على انفراد، هذا قول لبعض أهل العلم.
                    وبعض أهل العلم يرى أن المعنى: فذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع؛ لأن الذكرى نافعة في كل حال.
                    قولوا: ويدل لذلك ما يأتي من الآيات، لأن الله قال: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى ﴿10﴾ وَيتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾، فقوله: ﴿وَيتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾ يدل على أن هناك من الناس مَن يُذكَّر ونحن نعلم أنه لا يتذكر، وهذا قولٌ لبعض أهل العلم، وهو أنهم يرون أن الآية إنما نصَّت على التذكير في موطن النفع، ولكنها لم تنه عن التذكير في غير موطن النفع، يعني ما قالت: "فذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع فلا تذكر"، وإنما قالت: ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾، والآيات تدل على أن الذكرى نافعة بكل حال؛ لأنها تكون على الذي يخشى تنفع بالاتباع، والذي لم يخشَ تنفع بإقامة الحجة وبراءة الذمة.
                    قال الله -عز وجل-: ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ﴿9﴾ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾، هذا وصفٌ لمَن يتذكر وهو أنه يخشى، فكل مَن وقعت الخشية في قلبه والخوف من الله -عز وجل- والعلم بالله؛ لأن الخشية تختلف عن الخوف من جهة أن الخشية خوف بعلم، وأما الخوف فلا يلزم فيه أن يكون بعلم.
                    قال: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾، مَن يخشى الله -سبحانه وتعالى- سيتذكر وينتفع بما يسمع من الموعظة والأمر والنهي والعلم.
                    ﴿وَيتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾؛ أي يبتعد عنها ويجانبها فلا يقبلها ولا يستمع إليها.
                    ﴿الْأَشْقَى﴾: الذي كتب الله عليه الشِّقوَة.
                    قال: ﴿الَّذِي يَصْلَى﴾؛ أي يدخل ويقاسي حرَّ النار.
                    ﴿يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى﴾، وهي نار جهنم، نسأل الله العافية والسلامة.
                    وهل قوله: ﴿الْكُبْرَى﴾ يدل على أن هناك نارًا قبلها؟ وهي النار التي تنال الإنسان في قبره؛ لأن مَن يُعذَّب في قبره يُفتَح له بابٌ إلى النار، فيأتيه من سُمومها وحرها فيقول: يا رب لا تقم الساعة، لا تقم الساعة، لِما يعلم من أن عذابه إذا بُعثَ أشد من عذابه وهو فيقبره.
                    قال الله -عز وجل-: ﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا ولَا يَحْيَا﴾، طيب، سؤال: إذا كان لا يموت ولا يحيى، إذن ما حاله؟ لا هو ميت ولا هو حي، وكل الموجودات إما أن توصف بالموت أو توصف بالحياة، وليس لها وصف ثالث، فما معنى هذه الآية؟
                    {المعنى: أنه في شدة من العذاب، فلا هو يموت فيستريح، ولا هو يحيى حياة مستقرة فينتفع بها، وإنما هو بينهما حتى يدل على شدة حاله في أهوال العذاب}.
                    صحيح، يعني لا هو ميتٌ فيستريح، ولا هو حيٌّ فيتنعم ويتلذذ بحياته، فلا هو من هؤلاء، ولا هو من هؤلاء.
                    قال الله -عز وجل- بعد ذلك: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾، هذا هو المقطع الأخير في هذه السورة الكريمة، وقد افتتح بقوله "قد".
                    "قد" هذه يا إخواني تدل على التحقيق، يعني تحقق، فهي من أدوات التأكيد.
                    ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾، والفلاح هو الفوز والظفر بالمطلوب، ومنه سميَ "الفلاح" يفلح الأرض لأنه ماذا؟ يفوز بالثمرة والزرع والغرس، ونحو ذلك.
                    ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾؛ أي فاز وظفر بالمطلوب.
                    ﴿مَن تَزَكَّى﴾؛ أي مَن زكَّى نفسه وطهرها.
                    والتزكِّي مبني على أمرين:
                    - تخلية.
                    - وتحلية.
                    مثل تمامًا النبات، لا يمكن أن ينبت والغرس لا يمكن أن يحيى إلا بشيئين:
                    - الأول: أن تنظف الأرض من الشوائب ومن الحشرات التي تقتل وتؤذي النبات.
                    - والثاني: أن تسقي الأرض بالماء الطيب، وفي الوقت ذاته تضع المواد التي تُعين هذا النبات على الحياة.
                    وهكذا القلب يحتاج إلى شيئين: تخلية وتحلية.
                    تخليه من الشرك، من البدعة، من المعصية.
                    وتحليه بالتوحيد والإيمان، وبالسنة، وبالطاعة والأعمال الصالحة، ولا بد لك من ذلك، وإلا فلا تزكية.
                    وكلمة التزكية في اللغة تأتي بمعنيين لا بد من مراعاتهما لمن أراد أن يتزكى:
                    - الأول: الزكاء بمعنى الطهارة، يقال: نفس زاكية أي طاهرة.
                    - الثاني: والزكاء بمعنى النماء، يقال زكى الشيء أي نما وزاد.
                    ومنه زكاة المال سُميت بذلك لأنها تطهر المال من الخبث الذي دخل فيه وتنميه أي تزيده، فما أحد زكَّى ماله إلا زاد الله ماله، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما نقصت صدقة من مال».
                    قال: ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾، طهر نفسه من الذنوب والمعاصي، وزكَّى نفسه بالإيمان والتوحيد والطاعة.
                    ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ﴾؛ أي أكثر من ذكر اسم الله -عز وجل-.
                    ﴿فَصَلَّى﴾، جعل الصلاة مبنية على ذكر اسم الله ليبين لنا -يا إخواني- أن الذي يذكر الله ويعظم الله في نفسه، ويكثر من ذكره بلسانه يدعوه ذلك إلى أن يستكثر من الصلاة، وتستجيب للصلاة أعضاؤه، ويستجيب له بدنه، وهذا معروف ومشهور، مَن أكثر من ذكر الله أحب الصلاة وأطال فيها وخشع فيها، ومَن أقلَّ من ذكر الله عظمت عليه الصلاة وضعفت جوارحه عنها.
                    قال: ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾.
                    بعض العلماء يقول: ﴿تَزَكَّى﴾؛ أي زكاة الفطر.
                    ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾: صلاة العيد.
                    هذا نقول مثال، وليس هو معنى الآية بالتحديد؛ بل معناها اعم من ذلك.
                    قال الله -عز وجل-: ﴿بَلْ﴾، "بل" في اللغة تأتي للإضراب، الإضراب نوعان:
                    - إبطالي.
                    - وانتقالي.
                    الإبطالي: لإبطال الكلام السابق، تقول: ما جاء محمد بل علي، فـ"بل" هنا للإبطال.
                    وتأتي للانتقال، أن تنتقل من كلامٍ إلى كلام.
                    وهنا جاءت للانتقال، ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ﴾؛ أي تقدمون وتختارون الحياة الدنيا الفانية العاجلة، لما طُبع فيكم من حب العاجل.
                    ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، يعني كيف تؤثرون الدنيا الفانية الأولى العاجلة، والآخرة قد جمعت بين أمرين عظيمين:
                    - الأول: أنها خير، خير في ذاتها.
                    - والثانية: أنها باقية.
                    ولذلك قال أحد السلف: "لو كانت الآخرة خزفًا يبقى، والدنيا ذهبًا ينفى، لكان حريًّا بالعاقل أن يأخذ الأبقى"، أم لا؟ أنت لو قيل لك: نعطيك خزف لكن يبقى، أو ذهب لكن يفنى، أيها تختار؟ الخزف، مع أنه ليس مساويًا للذهب، لماذا؟ لأنه يبقى ويدوم.
                    قال: "فكيف والآخرة ذهب يبقى، والدنيا خزف يفنى؟!".
                    وهذا يعتبر -يا إخواني- من الأشياء العجيبة التي لا يجوز أن تذهب عن أذهاننا، وهي أن الآخرة خير في ذاتها وباقية لا نفاد لها، ومع ذلك الناس يؤثرون الفانية التي فيها المتاع الذي امتلأ بالمنغصات والمنكدات والبلايا والرزايا.
                    قال: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾.
                    ثم قال الله مؤكدًا هذا الكلام ومُبينًا أنه كلام يستحق أن تعقد عليه الخناصر، وأن يؤخذ بكل جدٍّ واهتمام.
                    ﴿إِنَّ هَذَا﴾، طيب، "هذا" اسم الإشارة يعود إلى ماذا؟
                    {لهذا الذي ذكر في السورة}.
                    طيب، ما هو الذي ذكر؟ من أولها أو من قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾؟
                    {لا، كل الذي ذكر في السورة}.
                    حتى قوله: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، و﴿وَنيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾؟
                    {ما يتعلق بالآخرة، وتزكية النفس، والتزكية}.
                    نعم، من العلماء مَن قال: إن "هذا" عائد على قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ وما بعدها.
                    ومنهم مَن قال: إنه عائد على السورة من أولها.
                    والأظهر هو الأول، لماذا؟ لأن الكلام الأول فيه حديث عن رسول الله، ثم إن "هذا" اسم إشارة للقريب، فتعود إلى أقرب كلام يصح أن يُنسب أو يُشار إليه.
                    فلو قيل: إنها راجعة إلى قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾ لكان أولى، والعلم عن الله.
                    قال: ﴿إِنَّ هَذَا﴾؛ أي هذا الوارد أو المذكور.
                    ﴿لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾، مذكور في الصحف الأولى التي سبقت هذه الصحيفة التي أنزلت على محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وهي القرآن.
                    ﴿لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ﴿18﴾ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾، ذكر منها صحف إبراهيم، وهي الكتاب الذي أنزل على إبراهيم تسمى صحف إبراهيم، ولا يُعرف لها اسم آخر غير هذا، وموسى وهو التوراة.
                    وبهذا نكون انتهينا من سورة الأعلى، وننتقل بعد ذلك إلى سورة الغاشية.
                    سورة الغاشية -أحبائي- موضوعها ظاهر وهو الغاشية، وهو القيامة، فهي تتحدث عن القيامة وما فيها من الهول، وانقسام الناس إلى فريقين:
                    - فريقٍ من أصحاب الوجوه الخاشعة العاملة الناصبة التي تصلى نارًا حامية.
                    - وفريق آخر من أصحاب الوجوه الناعمة التي أعدَّ الله -عز وجل- لها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
                    وهذه السورة مكيَّة بالإجماع ولم يُختَلَف في كونها مكيَّة أو مدنيَّة، بل هي مكيَّة.
                    وقد جاء في فضيلتها ما ذكرناه في سورة الأعلى، أنها تُقرأ في صلاة الجمعة، وتقرأ في صلاة العيد، هذا ثابت في هذه السورة الكريمة.
                    يقول الله -عز وجل-: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾.
                    "هل" هنا يراد به ماذا؟ التهويل والتفخيم.
                    هل جاء هذا الحديث الفخيم العظيم وهو حديث الغاشية؟
                    والغاشية اسم من أسماء يوم القيامة، لأنها تغشى الناس بهولها، وضجيجها، وصوتها، ورعبها المرجف الذي لا يدع شيئًا من الأفئدة إلا ملأه بالخوف والرهبة.
                    وقد قال بعض المفسرين: إن "الغاشية" هنا اسم للنار، ولا مانع من ذلك، لا مانع أن يكون اسمًا من أسماء النار، لكن أكثر المفسرين من السلف على أن الغاشية هي القيامة.
                    قال الله -عز وجل-: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾، وقد جاء للقيامة في القرآن أسماء، الحاقة، والقارعة، والصاخة، والطامة، والقيامة، والغاشية، ويوم التناد، وغيرها من الأسماء التي ذكرت ليوم القيامة، نعم.
                    {قول الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ﴾ هذا يقوي قول من قال أن الغاشية المراد بها يوم القيامة}.
                    وما الذي يمنع أن يكون ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ﴾ يوم تكون في النار خاشعة، عاملة ناصبة، تصلى نارًا حامية؟ ما يمكن؟
                    طبعًا الأول أقوى لا شك، وهو أن الغاشية هي يوم القيامة.
                    قال: ﴿وُجُوهٌ﴾، وصف الوجوه، والمقصود أهلها كلهم، يعني بجميع أعضائهم وحواسهم، لكنه ذكر الوجه لماذا؟ لأن الوجه هو الذي يعبر عن كثلة البدن، فأنت تعرف من وجه الإنسان أنه مسرور، وأنه مستبشر، وأنه حزين، وأنه متألم من قسمات وجهه، بل حتى سريرته تبدو لك من صفحة وجهه، كما قال عثمان -رضي الله عنه-: "ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحة وجهه وفلتات لسانه".
                    قال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾، هذا الخشوع مخالفٌ لما كان عليه في الدنيا، فإنه كان في الدنيا لا يعرف الخشوع، فرح، وضحك، ولعب، ولهو، لا يعرف فيه شيء من هذه المعاني، فيأتي يوم القيامة ليكون بضدِّ حاله في الدنيا.
                    ماذا قال الله في سورة الانشقاق؟ ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ﴿10﴾ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ﴿11﴾ وَيصْلَى سَعِيرًا ﴿12﴾ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق 10-13].
                    ولذلك بعض الناس يقول: يا أخي ما تنظر إلى هؤلاء الذين تصورهم لنا شاشات التلفاز من الغربيين الكفار، دائمًا مبتسمون ضاحكون مستبشرون مسرورون؟
                    نقول: نعم، وهذا السرور الذي يحصل لهم إنما هو مما يعجله الله لهم من طيبات الدنيا، ولكن يدخر لهم الذل كما قال الله -عز وجل-: ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى: 45]، جزاءً وفاقًا.
                    بينما المؤمن تجده دائمًا خائفًا، حتى وهو يعمل الصالحات تجده خائفًا، لماذا؟ يخشى أن يُردّ عليه عمله، يخاف ألا يكون أخلص في عمله، يخاف ألا يُتقبَّل منه، وإذا أذنب بقيَ خائفًا، لأنه يخشى أن يؤاخذ بذنبه، وألا يقبل الله توبته.
                    قال الله -عز وجل-: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ [المؤمنون: 60]، ولذلك لا تكاد تجد المؤمن إلا يحاسب نفسه، ما أردت إلى هذا؟ ماذا قصدت بهذه؟ دائمًا يحاسب نفسه.
                    قال الله -عز وجل-: ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾؛ أي في يوم القيامة وفي النار هذه الوجوه وهؤلاء الناس الكفار يعملون عملًا كثيرًا هو جزء من جزائهم وعذابهم، وينصبون نصبًا شديدًا، قد يكونون في الدنيا ممن ارتاح واستلذ، وطابت له الحياة، لا يصوم، لا يصلي، لا يقوم، لا يحج، لا يأمر بمعروف، لا ينهى عن منكر، لا يجاهد في سبيل الله، مرتاح؛ لأن هذه الأعمال فيها مشقة، ولها ضريبة لا نشك في ذلك، ولكن الله -سبحانه وتعالى- يجعل عوضها راحة وسعادة أبدية يلقاها المؤمن إذا بُعث يوم القيامة.
                    فقوله: ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾ يراد بها هذا العمل والمشقة الهائلة التي تدخر لهؤلاء في يوم القيامة وفي النار، فهم في النار يجرون السلاسل، ويعملون أعمالًا، ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ﴿17﴾ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾ [المدثر 17-18]، يعني سيعمل عملًا شديدًا ويعذب عذابًا أكيدًا نكدًا ويتعب منه ويشقى، حتى إنهم ينادون مالك، ﴿وَنادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ﴾ [الزخرف: 77].
                    يقال أنه يجيبهم بعد أربعين ألف سنة، يقول لهم: إنكم ماكثون، أي باقون فيها بقاءً تامًا أبديًّا.
                    ومَن قال أن ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾ نزلت في الرهبان الذين يتعبدون إلى الله في الصوامع، هذا غير صحيح، لأن الحديث في سياقه عن ماذا؟ عن القيامة وليس عن الدنيا.
                    فإن قيل القصة الواردة عن عمر أنه مرَّ على راهبٍ فناداه، فلما طلع إليه بكى عمر وقال: ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾، نقول: هذا -والعلم عند الله- إن صحَّ عن عمر، فإنما مراده أن يستعير اللفظ، استعار اللفظ القرآن لهذا الشيء الذي رآه، وهو أنه يرى إنسانًا يعمل وينصب نصبًا شديدًا وفي النهاية لن يُجزى عن نصبه بشيء لأنه لم يُوحِّد الله -عز وجل- ولم يؤمن برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
                    قال: ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾؛ أي تُدخَل.
                    وفي قراءة ﴿تُصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾؛ أي نارًا شديدة.
                    ﴿حَامِيَةً﴾؛ أي حارة شديدة الحرارة.
                    ومَن قال: ﴿نَارًا حَامِيَةً﴾؛ أي نارًا حارة شديدة الحرارة.
                    ﴿تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾؛ أي يؤتى لها بشرابٍ من عين حارة شديدة الحارة قد بلغت من الحرارة منتهاها، هذا معنى قوله: ﴿آنِيَةٍ﴾.
                    ومنهم من قال: ﴿آنِيَةٍ﴾ بمعنى حاضرة، وهذا المعنى ليس سديدًا، إنما من لوازم معنى قوله تغلي أشد الغليان.
                    قال: ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ﴾؛ أي ليس لهم في النار طعام إلا من هذا الطعام الذي لا ينفعه، وهو الضريع.
                    والضريع عند العرب يُطلق على شجرة اسمها "الشِّبرق"، شجرة من الشوك الذي لا يكاد يؤكل ولا يُنتفع به، فإن من الشوك ما يؤكل ويُنتفع به، تنتفع به البهائم والإبل، وهذا النوع من الشجر لا يُنتفع به، فهذا ما سيكون للكفار، لكن ليس بين ما في النار وما في الدنيا إلا الاسم فقط، وأما الحقيقة فمختلفة تمامًا، كما أن ما في الجنة وما في الدنيا من النعم ليس بينها من الاشتراك إلا في الاسم فقط، وإلا فالحقيقة مختلفة تمامًا.
                    قال: ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ﴾، ثم وصفه بقوله: ﴿لَا يُسْمِنُ﴾؛ أي لا ينفع البدن بالسِّمَن ولا يغذي، ﴿ولَا يُغْنِي مِن جُوعٍ﴾، لا يدفع الجوع.
                    إذن ما فيه فائدة أبدًا.
                    قال الله -عز وجل-: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ﴾، هذه على طريقة القرآن في المثاني، وهي أنه -سبحانه وتعالى- ذكر عذاب الكفار، وذكر في مقابله نعيم أهل الجنة، فوصف الوجوه لأنها إذا ظهرت عليها أثر النعمة والسرور دلَّ ذلك على أن باقي الجسم والنفس والقلب كلها في خير وحبور.
                    ﴿لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾؛ أي لعملها وكدها الذي كان منها في الدنيا راضية، يعني لجزاء سعيها راضية، فهي الآن ترى جزاء السعي فترضى رضًا شديدًا، الرضى هو منتهى الفرح بالنتيجة.
                    قال: ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾؛ أي رفيعة، وليست سافلة.
                    ﴿لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً﴾، لا تسمع فيها كلمة لاغية باطلة مؤذية من اللغو الذي لا ينفع، بل قد يُضر الإنسان سماعه، بل كل الكلام الذي يُسمع فيها كلام طيب، وكلام حق.
                    قال: ﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾؛ أي عيون، فكلمة "عين" هنا اسم جنس يدل على العيون التي في الجنة.
                    قال: ﴿جَارِيَةٌ﴾، ليست ماكثة وباقية لتأسن ويُصبح فيها الآفات وغيرها، ولكن جارية، وهذا ألذ حتى في النظر.
                    قال: ﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ﴿12﴾ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ﴾، سررها من طيبها ولينها وجمالها مرفوعة، وكلما كان السرير مرفوعًا كان أبهى في النظر، وأحسن في المجلس، وألذ وأتم في النعمة.
                    قال: ﴿وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ﴾، أكواب مُعدَّة للشراب موضوعة بين أيديه، متى أرادوا أن يشربوا فإنهم يجدون الشراب، ويجدون الكوب الذي يملئونه بما يشاءون من أنواع الأشربة.
                    قال: ﴿وَنمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ﴾، النمارق جمع نمرقة، والنمرقة هي الوسادة.
                    ﴿مَصْفُوفَةٌ﴾، حتى يا إخواني مراعاة الجمال في الأثاث وفي أنواع النعيم مراعاة وأيضًا لها معنى.
                    قال: ﴿وَنمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ﴾؛ أي قد صُفَّت صفًّا جميلًا بديعًا رائعًا.
                    قال: ﴿وَزَرَابِيُّ﴾؛ أي بُسُط.
                    ﴿مَبْثُوثَةٌ﴾؛ أي قد وُزِّعَت في أماكن متعددة، أينما تريد تجلس تجد هذه الزرابي، وتجد تلك الوسائد.
                    ثم قال الله -عز وجل- بعد أن ذكر النعيم قال: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ﴾، هذا من باب استفهام يراد به التبكيت، يعني هذه نذارة الله لكم، وهذا ما وعدتم به، أو حُذِّرتم منه، ما الذي يجعلكم تكفرون؟! أفلم تروا إلى قدرة الله -عز وجل- المبثوثة بين أيديكم؟!
                    وبدأ بالإبل لقربها منهم، ولكثرة ما فيها من الأعاجيب، فإنها مليئة بالأعاجيب، يعني لو أردنا أن تحدث عن الإبل وما فيها من الأعاجيب لاحتجنا إلى ساعات، وما زال العلماء والعلم إلى اليوم يكتشف في الإبل أشياء عجيبة جدًّا، صبرها على العطش الطويل، كونها تحمل الأثقال وهي جالسة باركة ثم تقوم بها، كونها يُشرب حليبها، يؤكل لحمها، يُركب ظهرها، تهتدي إلى أماكن ما، تهتدي إلى المكان الذي رجعت منه، تعرف صاحبها، تحقد فتنتقم ولو بعد سنين، تعرف الذي يُحسن إليها فتحسن إليه، وأعاجيبها لا تكاد تنتهي.
                    قال: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾، مَن الذي خلقها هذه الخِلقَة؟ إذن فما الذي يدعوهم الإنكار البعث، وإنكار ما تأتي به يا محمد -صلى الله عليه وسلم- من العجائب في هذا القرآن والحقائق التي لا يجوز إنكارها، ولا يمكن لعاقل أن يشكَّ فيها.
                    قال: ﴿وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ﴿18﴾ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ﴾؛ أي جُعلت منصوبة عالية.
                    ﴿وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾، فإن قيل: هل الأرض مسطحة؟ قلنا: نعم، هي في نظرنا مسطحة، وإن كانت في جملتها كريَّة مدوَّرة، لكن في النظر نراها أمامنا سطحًا واضحًا ظاهرًا.
                    ثم قال الله -عز وجل-: ﴿فَذَكِّرْ﴾، يا محمد، أنت بعد أن أقمت الحجج، وبينت الدلائل، وذكرت المصائر والجزاء، ذكر ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾، هذه مهمتك، ليس عليك أن تخلق الهداية في قلوب هؤلاء؛ بل عليكَ أن تذكرهم، وليس عليك شيء آخر.
                    ﴿لَسْتَ عَلَيْهِم بمُسَيْطِرٍ﴾، لستَ قهَّارًا لهم تجبرهم على الإيمان، وما أنت عليهم بجبار.
                    ﴿إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ﴾، يعني لكن، هنا "إلا" بمعنى لكن، لكن مَن تولى وكفر، ﴿فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ﴾، وهذا كما في سورة الأعلى قال: ﴿وَيتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ﴿11﴾ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى﴾ [الأعلى 11، 12]، وهنا قال: ﴿الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ﴾.
                    ثم هدَّد بقوله: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ﴾، مرجعهم ومصيرهم إلينا، فنحاسبهم على القليل والكثير، والصغير والنقير والقطمير.
                    قال: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾، نحن الذين سنتولى حسابهم، وسيعلمون ماذا سنفعل بهم، كما قال الله -عز وجل-: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47].
                    أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يفقهنا في الدين، ويعلمنا تأويل الكتاب المبين، ويجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
                    وبهذا نصل إلى ختام هذا الدرس، أسأل الله أن ينفعني وإياكم به.
                    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

                    تعليق


                    • #11
                      رد: تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري

                      السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
                      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
                      إخواني الحضور، مشاهديَّ الكرام، أحيِّيكم جميعًا في مستهل هذه الحلقة من دروس التفسير في هذه الأكاديمية الإسلامية المفتوحة.
                      ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا جميعًا من أهل القرآن، الذين هم أهل الله وخاصته.
                      وقد وصلنا في دروس التفسير في جزء عم إلى هذه السورة الكريمة العظيمة التي نسمعها من أئمتنا في كثير من الصلوات الجهريَّة، والتي يُستحب للإمام أن يقرأها في صلاة العشاء، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نصَّ على قراءتها عندما حثَّ معاذًا على القراءة في العشاء بمثل هذه السور؛ لأننا نعلم أن المفصل مكوَّن من طوال ومن أوساط ومن قصار.
                      فمن أوساطه التي تُقرأ في صلاة العشاء سورة الفجر والليل والشمس وسبِّح والطارق، وإذا السماء انشقت، وإذا السماء انفطرت، وغيرها من السور، وهذا من فضائل هذه السورة التي معنا اليوم وهي سورة الفجر.
                      هذه السورة الكريمة قبل أن ندلف إليها ونعلم معانيها، لدينا مقدمة دائمًا نسميها علوم السورة، وعلوم السورة كثيرة التي يتحدَّث العلماء عنها، لكن نحن نختار منها ما يُناسب المقام فنتحدَّث فيه ثم نُبيِّن المعاني.
                      لعلنا نتابع الآن. ما هو اسم السورة؟
                      اسمها سورة الفجر. هذا الاسم المعروف عند العلماء، ولا يُعرف لهذه السورة اسم غير هذا الاسم، وهو الموجود في المصاحف، والموجود أيضًا في كتب التفسير، وهو عبارة عن أول آية من هذه السورة ﴿ وَالْفَجْرِ ﴾.
                      أما أين نزلت؟ فأنا أسألكم هنا: هل هذه السورة مكية أو مدنية؟ مَن عنده جواب؟
                      {مكية}.
                      كيف عرفت؟
                      {عرفت: أن جميع آياتها قصيرة}.
                      نعم، من القرائن التي يُعرف بها أن السورة مكية أو مدنية: قصر الآيات.
                      وأيضًا الموضوع، فإن الآيات إذا كان فيها تهديد وحديث عن القيامة، أو حديث في مناقشة المشركين، أو عن التوحيد والعقيدة، وتدور في هذا المضمون، عرفنا من خلال ذلك أن السورة مكيَّة.
                      وهذا قول جمهور العلماء، وجمهور المفسرين، وذُكر عن علي بن طلحة أنها كانت مدنية، وهذا غير صحيح؛ لأن موضوعات السورة؛ ولأن جمهور العلماء يرون أنها سورة مكيَّة، وهذا هو الظاهر؛ لأن أسلوبها وافتتاحيتها ومضمونها هو مضمون السور المكيَّة.
                      ثم بالنسبة لعدد آياتها، بعد ذلك محورها، ما هو محور هذه السورة؟
                      محور هذه السورة يمكن أن يكون: تهديد الكافرين وذكر أعمالهم التي يستحقون بها التهديد، أو عقوبة الكافرين الدنيوية والأخروية وأسباب تلك العقوبة.
                      لو تأملنا هذه السورة لوجدنا أنها ذكرت عقوبات دنيوية للكفار، وذكرت عقوبات أخروية، وبيَّنت في وسط ذلك الأسباب التي استحقوا بها تلك العقوبات -كما سنبيِّن بعد قليل بإذن الله عز وجل.
                      هذا هو محور السورة، فهي سورة من سور التهديد والوعيد، وسورة من السور التي ندَّدت بالكفار وبأعمالهم، وكيف أنهم لما كذبوا بالآخرة نتج عن ذلك هذه الأعمال السيئة التي تبدر منهم في الحياة وتظهر منهم والتي صارت صبغة سلوكهم مصطبغة بها.
                      سنذكر هذه الأعمال بعد قليل عندما يقول الله -عز وجل: ﴿ فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾. هذه واحدة.
                      ﴿ كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ * وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّماً * وَتُحِبُّونَ المَالَ حُباًّ جَماًّ ﴾.
                      ثم جاءت إلى الوعيد الأخروي: ﴿ كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكاًّ دَكاًّ * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾، إلى آخر ذلك الوعيد.
                      ثم خُتمت السورة بالوعد لئلا يقنط العباد، ولتُفتَح لهم أبواب الرجاء ليعلموا أن هناك مسلكًا آخر للنفوس المطمئنة، التي اطمأنت بالله وبذكره وبوعده وبالإيمان به، ويكون جزاؤها الاطمئنان في الدنيا، وعند لقاء الله -عز وجل- عند الموت، وعند البعث، ويوم تدخل الجنة.
                      هذا بالنسبة لمحور هذه السورة.
                      أما مناسبتها: فإن سورة الغاشية جاءت تهديدًا للكافرين، أي مناسبتها لسورة الغاشية: جاءت تهديدًا للكافرين لما قال الله -عز وجل: ﴿ لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ ﴾ [الغاشية: 22]، ثم قال بعدها ماذا؟ ﴿ إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ العَذَابَ الأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [الغاشية 23-25].
                      لما وعد هذا الوعد أقسم عليه في سورة الفجر فقال: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾.
                      الجواب: لتبعثنَّ ولتجازنَّ بأعمالكم، الجواب هنا محذوف كما سنبين -إن شاء الله بعد قليل.
                      بعد ذلك نأتي إلى آيات هذه السورة، افتتحت بقول الله -عز وجل: ﴿ وَالْفَجْرِ ﴾، وهذه افتتاحية بقسم، والعادة أن الافتتاحية بقسم تدل على أن الأمر عظيم يستحق الإقسام، وإذا تأكد أو تكرر القسم فذلك يدل على مزيد العناية به، فالشيء الذي يُقسم عليه بشيء واحد ليس كالشيء الذي يُقسم عليه بشيئين وثلاثة وأربعة؛ ولذلك تجد من السور ما وصل فيه القسم إلى أحد عشر قسمًا كما في سورة الشمس، قال: ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾ [الشمس 1-7 ]، أحد عشر قسمًا.
                      ما هو الجواب؟
                      ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ [الشمس: 9].
                      هنا قال:
                      - ﴿ وَالْفَجْرِ ﴾ هذا واحد.
                      - ﴿ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ هذا اثنان.
                      - ﴿ وَالشَّفْعِ ﴾ هذا ثلاثة.
                      - ﴿ وَالْوَتْرِ ﴾ هذا أربعة.
                      - ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾ خمسة.
                      أقسم الله بخمسة أقسام على حقيقة محدَّدة ستبين لنا -إن شاء الله.
                      قال: ﴿ وَالْفَجْرِ ﴾ ما هو المُقسَم به هنا؟
                      - قيل: الفجر المعروف الذي هو أول النهار.
                      - وقيل هذا قسمٌ بالصلاة التي فيه.
                      ولا إشكال في هذا؛ لأن الفجر هو وقت ويصلح أن يكون القسم بأعظم ما في هذا الوقت وهو الصلاة.
                      - وقيل: إن الفجر عبارة عن النهار كله، وهذا خلاف الظاهر، فإن الظاهر أنه قسمٌ بهذا الوقت المحدد وهو: الفجر.
                      والذين قالوا: إنه عبارة عن النهار كله، حملهم على ذلك أن الله ذكر ما يُقابله وهو ماذا؟ الليل.
                      فقالوا: المقصود بالفجر هو النهار؛ لأنه قال بعده: ﴿ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾.
                      إذن الصحيح أن الفجر هو الصبح، وهذا الوقت وقت عظيم.
                      لاحظوا معي أن هذا الوقت إنما أقسم الله به لصلته بأمرين:
                      - الأول: البعث، فإن الفجر انبعاث للنهار من رحم الليل، وهذا القسم يُراد منه إثبات البعث، فالله الذي يُخرج الصبح من رحم الليل، هو الذي يُخرجكم أنتم بعدما دفنتم وتبعثرتم وذهبتم وفنيتم من هذه الأرض كما يخرج الصبح من الليل.
                      - والثاني: أن الفجر وقتٌ للعمل الذي تُدرَك به الجنة، حريٌّ بكم أيها الناس أن تستثمروا هذا الوقت في عمل يقربكم إلى الله، ولذلك قال: ﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ﴾، قسم يعقله العاقل وينتبه له، ويأخذ أهبته، ولا يذهب عليه الزمان سُدى، ويذهب عليه عمره من غير طاعة، ومن غير خير يُقدمه لنفسه.
                      خلافًا لأولئك الذين كانت لهم ديارٌ ضخمة، وكانت لهم أعمال هائلة، لكنها ليست في ميزان الأعمال الصالحة، أهرامات، وجابوا الصخر بالواد، ونحتوا الجبال، ولهم بلاد عظيمة فخمة، ولهم أجساد قويَّة، لكن كل ذلك لم يُستثمر في طاعة الله.
                      كان ينبغي لهم أن يستثمروها وخصوصًا في هذه الأوقات الفاضلة، في الفجر، في الليالي العشر، في الشفع، في الوتر، إلى آخره.
                      إذن فأريد بهذا القسم تحقيق غايتين.
                      قال: ﴿ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾، طبعًا لما حدَّد عشرًا عرفنا أنها عشرٌ ماذا؟ معلومة، وليست أيَّ ليالٍ عشر.
                      يعني ما يقول واحد: أي ليالٍ من العام فهي مقصودة.
                      نقول: لا، لو كان كذلك لقال: "والليالي"، لكن لما قال: ﴿ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾، عرفنا أن لها سمة محددة.
                      ولذلك ذهب المفسرون إلى أن الليالي العشر هي عشر ذي الحجة، وهذا هو الصحيح من أقوالهم، وهي أفضل أيام العام بلا شك.
                      وإن كان العلماء اختلفوا هل ليالي عشر ذي الحجة أو أيام عشر ذي الحجة وأيام العشر الأخيرة من رمضان؛ أيهما أفضل؟
                      فالصحيح الذي لا شك فيه أن عشر ذي الحجة هي أفضل أيام العام.
                      وهل الليل في عشر ذي الحجة أفضل من الليل في العشر الأخيرة من رمضان؟
                      خلاف بين العلماء، منهم مَن يقول: العشر الأخيرة من رمضان لياليها أفضل، وذلك لأن فيها ليلة القدر.
                      ويمكن أن يُقال: إن ليلة القدر أفضل، لكن العشر -عشر ذي الحجة- أفضل بكل حال.
                      لكن من حيث الليالي: ليلة القدر، ليس ليالي العشر الأخيرة رمضان أفضل، إنما فضيلتها؛ لأن الناس يبحثون فيها ويتحرَّون ليلة القدر.
                      أما عشر ذي الحجة فهي فاضلة بكل حال، كل يوم منها فاضل، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصلح فيها أحب إلى الله من عشر ذي الحجة»، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء».
                      قال: ﴿ وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴾.
                      {شيخ، أحسن الله إليك، إذا أطلق اليوم في الحديث «ما من أيام»، هل تشمل اليوم والليلة أم اليوم فقط}.
                      نعم، هذا محل خلاف بين العلماء، منهم مَن يرى أن اليوم يُطلق ويُراد به اليوم والليلة.
                      ومنهم مَن يرى أن اليوم يُطلق ويُراد به النهار وحده، ويستدلون على ذلك بقول الله -عز وجل: ﴿الْحَاقَّةُ * مَا الحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً﴾ [الحاقة 1-7]، فأطلق اليوم على ماذا؟ على النهار؛ لأنه قال: ﴿ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ﴾.
                      ومنهم مَن يرى أن اليوم يُطلق ويُراد به اليوم كاملًا بنهاره وليله.
                      طبعًا إذا جاء في النص ما يدل على أن المراد باليوم هو النهار فلا إشكال، جاء ما يدل على أن المراد به النهار كما في هذا النص.
                      وإذا جاء ما يدل على أن المراد به اليوم والليلة فلا إشكال، لكن إذا أطلق هل يُراد به هذا أو هذا؟ هذا محل إشكال عندي. ما أدري!
                      قال: ﴿ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴾، هذا قسَمان:
                      الأول: بالشفع.
                      والثاني بالوتر.
                      وقد اختلف العلماء، هل المراد بهما العموم أنهما بكل شفع وبكل وتر؟ أو مراد بهما شيء خاص؟
                      فمن العلماء مَن يقول: إن المراد بهما شيء خاص متصل بالليالي العشر، فالشفع يوم النحر، والوتر يوم عرفة.
                      وقد ورد ذلك في حديث يرفعه بعضهم وفيه ما فيه.
                      ومنهم مَن قال: إن الشفع هم الخلق، والوتر هو الله -سبحانه وتعالى.
                      ومن العلماء مَن يرى أن الشفع قسمٌ بكل شفع، والوتر قسمٌ بكل وتر.
                      وهذا العموم مناسب للفظ، وما ذكره السلف من تحديد شيءٍ معين يُطلق عليه شفع، أو يُراد بالشفع ويُراد بالوتر يُعتبر من باب المثال، فيكون تفسيرًا بالمثال والعلم عند الله.
                      ولذلك نقول: الشفع قسم بكل شفع، والوتر قسم بكل وتر، ومنه الله -سبحانه وتعالى- فإن الله وتر يحب الوتر.
                      ويقال: وَتر، ويقال: وِتر. هما لغتان عند العرب، ولا فرق بينهما إلا في النطق.
                      قال: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾، أي والليل إذا ذهب وسار، أقسم الله به في حال جريانه وسيره.
                      طيب، كلمة "يسر" هذه طبعًا تعرفون أنه يصح أنه يوقف عليها بتفخيم الراء، ويوقف عليها بالترقيق إشارة إلى الياء المحذوفة، فتقول: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾ بالراء المرققة إشارة إلى الياء المحذوفة؛ لأن أصلها "والليل إذا يسري".
                      أين جواب القسم؟ دائمًا إذا مرَّ بنا القسم لابد أن نبحث عن جوابه، لو قال إنسان: والله. تنتظر، أليس كذلك؟ فلابد تبحث عن الجواب، كما أنه إذا مر بك الفعل لابد أن تبحث عن الفاعل، لو قال إنسان: قام.
                      نقول: أكمل.
                      ولو مرَّ بك المبتدأ أو جاءك المبتدأ لابد أن تبحث عن الخبر.
                      لو قال إنسان: محمد.
                      تقول: ما به؟ أخبرنا.
                      فهذه مسألة مهمة، دائمًا إذا مرت بك في القرآن -وهي من أسباب التدبر- إذا مرَّ بك القسم فابحث عن المُقسَم عليه ما هو؟ أقسم الله على ماذا؟ ماذا يريد؟
                      هنا نلاحظ أن المُقسَم عليه غير مذكور، وهذه طريقة معروفة عند العرب، أن يذكروا القسم ويُخفوا المُقسَم عليه؛ لأنهم أشاروا إليه في القسم، أو لأن مضمون الكلام الذي يأتي يدل عليه.
                      مثلًا اسمع قول الله -عز وجل: ﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَى ﴾ [الرعد: 31]، أين جواب "ولو" ؟ ما جاء؛ لأنه معروف من الكلام، "ولو أن قرآنا سيرت به الجبال لكان هذا القرآن"، هذا هو الجواب.
                      وهذا يُستعمل في أساليب معروفة عند العرب للتدليل أحيانًا على الهيبة أو على التفخيم والتعظيم.
                      مثل أن تقول لإنسان: لو كنت معنا بالأمس
                      أو تقول لإنسان وأنت تهدده: والله.
                      ماذا تقصد؟ يعني لئن لم تنته لأفعلن وأفعلن.
                      طيب، ما هو جواب القسم؟
                      يقول العلماء: جوابه: لتبعثن ولتجازن بأعمالكم.
                      من أين جئتم بهذا؟
                      قالوا: لأن مضمون السورة يدلُّ على هذا، وهو أنكم أيها الكفار ستبعثون وتجازون على أعمالكم.
                      قال الله -عز وجل: ﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ﴾، أي: هل في هذا الذي أقسمتُ به قسمٌ معتبر لذي حجر؟ أي لذي عقل، فالحجر بمعنى العقل.
                      - ويسمى العقل عقلًا؛ لأنه يعقل صاحبه عما لا يليق.
                      - ويسمى حجرًا لأنه يحجره عما لا ينبغي.
                      - كما أنه يسمى نهية ﴿ لأُوْلِي النُّهَى ﴾ [طه: 128]، لأنه ينهاه عما لا ينبغي أيضًا.
                      فالعقل ميزته أنه يعقل الإنسان ويحدُّه عن التصرفات التي لا تليق به.
                      قال: ﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ﴾، أي عبرة ومعتبر لعاقل يعقل؟ نعم، هذا القسم فيه عبرة لو كان مَن يسمع هذا الكتاب من ذوي العقول.
                      ثم قال الله -عز وجل: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾، هذا استفهام لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكل مَن يقرأ كتاب الله.
                      ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ﴾، والرؤية هنا هل هي رؤية بصرية أم رؤية علمية؟
                      علمية، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يره، وإنما ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ يعني ألم يبلغك خبر هؤلاء الذين عذبتهم وهم قوم عاد؟
                      قال: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ﴾، كيف فعل الله -عز وجل- بهذه الأمة المعروفة التي هي أمة عاد، وإنما اختيرت عاد؛ لأنها كانت في جزيرة العرب، فالله يُحدِّث الناس بشيء يعلمونه ويعرفونه، خصوصًا أن بقايا تلك الأمة لا زالت مشاهدة عند العرب، وهي قبيلة عاد التي كان موطنها الأحقاف، يُقال إنه جنوب الجزيرة العربية في منطقة الربع الخالي، ومنطقة عمان وما حولها.
                      قال: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ ﴾، هنا ﴿ رَبُّكَ ﴾ ربك يا محمد الذي ربَّاك، وأنعم عليك، ومن نعمته عليك أنه ذكَّرك بما فعله بعاد ووعظك به، ومن نعمته عليك أنه أنقذك من فعلهم فلم تفعل مثل فعلهم.
                      قال: ﴿ بِعَادٍ ﴾، وهي عاد القبيلة العربية المعروفة التي كانت في الزمان الأول، وقد بُعثَ إليهم نبيَّ الله هود -عليه الصلاة والسلام- فكذبوه، فعاقبهم الله -عز وجل- بـ ﴿رِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى القَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّنْ بَاقِيةٍ ﴾ [الحاقة 6- 8].
                      قال: ﴿ إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ ﴾، إرم ما هي؟
                      قيل إن إرم اسم للمدينة التي كانوا يسكنون بها، وهذا غير صحيح، بل الصحيح: أن إرم اسم لجدٍّ لهم.
                      فعاد يظهر أنها كانت عدد من القبائل، ولذلك وُصفت في سورة النجم: ﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى ﴾ [النجم: 50]، وهنا قال: ﴿ بِعَادٍ * إِرَمَ ﴾، فهذا يسمى بدل، "إرم" بدل من "عاد"؛ لأن عاد هنا يا إخواني مجرورة بالكسرة، وإرم أيضًا مجرورة لكن بالفتحة، لماذا؟ لأنها ممنوعة من الصرف، والممنوع من الصرف يُجر بالفتحة نيابة عن الكسرة.
                      ﴿ إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ ﴾، هل معنى ﴿ ذَاتِ العِمَادِ ﴾ أي ذات البناء الذي يقوم على العماد؟ لأنهم كانوا يسكنون الخيام. هذا قول.
                      وقيل: ﴿ ذَاتِ العِمَادِ ﴾، أي ذات الخلق الطويل الذي كأنه أعمدة، كما قال الله عنهم: ﴿ وَزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَصْطَةً ﴾ [الأعراف: 69].
                      الظاهر -والله أعلم- الأول، لأنهم كانوا يسكنون الصحراء، وكانت لهم بيوت لها أعمدة طويلة جدًا، ولأن خلقهم ذُكر في الآية التي بعدها فقال: ﴿ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ ﴾.
                      وقد اختلف العلماء -رحمه الله- هل قوله ﴿ لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ ﴾ أي مثل بلادهم؟ أو ﴿ مِثْلُهَا ﴾ مثل أجسادهم؟
                      والظاهر أنها مثل أجسادهم، لأن الأجساد فيها خلق، والبلاد فيها ماذا؟ بناء.
                      لو كان يريد البلاد لقال: "التي لم يُبن مثلها في البلاد" فلما أراد الأجساد قال: ﴿ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ ﴾، فكان قوم عاد مميزين بطول أجسادهم، ﴿ وَزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَصْطَةً ﴾ [الأعراف: 69].
                      وقالوا عن أنفسهم: ﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾ [فصلت: 15].
                      قال: ﴿ لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ * وَثَمُودَ ﴾، قوله: ﴿ وَثَمُودَ ﴾ معطوفة على قوله ﴿ بِعَادٍ ﴾، ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * وَثَمُودَ ﴾؟
                      فإن قيل: كيف قال"وثمودَ"، ولم يقل: "وثمودٍ"؟ فماذا نقول؟
                      "ثمود" ممنوعة من الصرف، معطوفة على مجرور فهي مجرورة مثله، لكنها مجرورة بالفتحة.
                      قال: ﴿ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ﴾، ما معنى "جابوا"؟
                      {صنعوا}.
                      خرقوا، ما معناها؟
                      {ينحتون الجبال}.
                      نعم، "جابوا" بمعنى قطعوا، طبعًا نحن عندنا في العامية يقولون: "فلان جاب كذا" أصلها: جاء بكذا، فهذه كلمة مختلفة تمامًا.
                      أما هذه من: جابَ يجوبُ، يُقال: فلانٌ يجوبُ البلاد. ما معانها؟ يقطعها.
                      وكذلك: ﴿ جَابُوا الصَّخْرَ ﴾، أي قطعوا الصخر بالواد. أي وادٍ؟
                      هو الوادي المعروف، وادي القرى الذي يقع شمال المدينة في منطقة العلا وتيماء ونحوها.
                      قال: ﴿ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ﴾، ولا زالت آثار قطعهم للوادي موجودة إلى اليوم، وذلك أنك تجد الآن الجبل مقطوع هكذا نصفًا ومرسوم عليه رسوم، وموضوع فيه باب ومدخل إلى قصر موجود إلى اليوم شاهدة على تلك الحضارة الضخمة الهائلة التي كان فيها هؤلاء القوم، لكن هل نفعتهم تلك الحضارة؟ هل أغنت عنهم من عذاب الله شيء؟ هل كانت شفيعة لهم في أن تُرد عنهم عقوبة الله؟ أبدًا، كل ما يؤتيك الله من صناعات، من تمكين، من أدوات، من قوة؛ لن ينفعك إذا لم يكن معك الإيمان، إذا لم يكن معك العمل الصالح، فلو عشت في خيمة، ولو عشت لا تملك من متاع الدنيا شيئًا ومعك الإيمان، أنت وصلت إلى الحقيقة، عرفت لماذا خُلقت، ولماذا وُجدت على هذا الكوكب، وما هي النهاية التي ستصير إليها؟
                      ولذلك يبتلي الله العباد بما يؤتيهم من القوة، فهم يظنون أنهم إذا صار بأيديهم قوَّة طائرات وأسلحة وراجمات ووصلوا إلى القمر، وإلى آخره؛ أن هذا هو منتهى كل شيء، فرحوا بما أوتوا من العلم.
                      هذا لا ينفعك ما لم تعرف الحقيقة العظمى وهي أنك عبدٌ لله، خُلقت لعبوديته، وهذا هو الذي حصل لأصحاب رسول الله، قوم عرفوا لماذا خلقوا وتقربوا إلى الله -عز وجل- بأن عبدوه حق العبادة، بغض النظر عن بيوتهم أو عن أسلحتهم أو عن الإمكانات التي كانت بأيديهم، كل ذلك لم يكن له قيمة في ميزان الله -عز وجل.
                      قال: ﴿ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ﴾، أي: ألم تر كيف فعل ربك بعاد وفرعون، فـ "فرعون" معطوفة على "عاد".
                      و"فرعون" مجرورة أيضًا، لأنها معطوفة على مجرور مثله، لكنها مجرورة بالفتحة لأنها ممنوعة من الصرف.
                      قال: ﴿ وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ ﴾، ما معنى ﴿ ذِي الأَوْتَادِ ﴾؟
                      - قال بعض المفسرين: أي ذي الجنود الكثيرة، وقد كان له جنود كثيرون.
                      - وقيل: ﴿ ذِي الأَوْتَادِ ﴾ لأنه كان يضع أوتادًا يُعلِّق بها المعذَّبين ممن يُعذِّبهم من قوم موسى -عليه الصلاة والسلام- وممن آمن من قومه.
                      - وقيل: ﴿ ذِي الأَوْتَادِ ﴾، أي ذي الملاعب، لأنهم كانوا يضعون أوتادًا وحبالًا يلعبون بها.
                      وعلى كلٍّ هو وُصف بهذا وهذا وهذا، وهذا كله من باب المثال، فلا يضر الاختلاف فيه، فيُقال: ﴿ ذِي الأَوْتَادِ ﴾، أي ذي الجنود الكثيرة، وذي الأوتاد التي يُعذِّب بها المؤمنين، وذي الأوتاد أي ذي الملاعب، ولا إشكال في ذلك ويكون هذا تفسيرًا بالمثال.
                      قال الله -عز وجل: ﴿ الَّذِينَ ﴾، من هم ﴿ الَّذِينَ ﴾، هل هم فرعون أو ثمود أو عاد؟
                      لماذا لم يقل: "وفرعون ذي الأوتاد الذي طغى في البلاد"، ﴿ الَّذِينَ ﴾ مَن هم؟ كلهم، من عاد إلى ثمود إلى فرعون.
                      ﴿ الَّذِينَ ﴾، أي هؤلاء جميعًا.
                      ﴿ طَغَوْا فِي البِلادِ ﴾، معنى طغوا: طغى مأخوذة من ماذا؟ ارتفع وزاد وتعدَّى في العدوان وفي الجريمة، فهم طغوا في البلاد أي زادوا فيها عتوًّا وكفرًا وقتلًا، وأذًى لعباد الله المؤمنين، ﴿ طَغَوْا فِي البِلادِ ﴾.
                      قال: ﴿ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ ﴾، هذا يدل على أن كثرة الفساد تنتج عن ماذا؟ عن الطغيان، فمتى طغى الكافر أو المرء أو الرجل أو الحاكم كثُر الفساد كنتيجة حتميَّة لطغيانه.
                      وهكذا نجد في هذه الحضارات المعاصرة، وعند الدول الكافرة، عندما تطغى يكثر الفساد، لكن إذا لم تطغَ وعرفت قدرها وعدلت بين عباد الله -عز وجل- فإن الفساد لا يكثر.
                      قال: ﴿ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ ﴾ كنتيجة حتمية للطغيان.
                      ثم قال: ﴿ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ ﴾، إذا كثر الفساد هنا ينزل العذاب.
                      ولذلك قال: ﴿ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ﴾، أي شيئًا من العذاب، فهذا الذي نزل بعاد وبثمود وبفرعون من العذاب الأليم الموجع في الدنيا هو سوط، يعني شيء يسير من العذاب الذي يستحقونه، وهو قليل مع أنه كان مستأصلًا، تلك الريح العاتية التي قلعت قوم عاد ونسفتهم وضربت بهم في الأرض هذه سوط عذاب.
                      ذلك البحر العظيم الذي وقف لموسى حتى مرَّ هو وقومه بسلام على أرضٍ يبس، ثم دخل فرعون، فلما تتام هو وقومه انطبق عليهم في لحظة، في ثانية، في طرفة عين، فبادت أمة بأكملها، لم يُرَ منهم ديَّار ولا نافخ نار، هذا سوط عذاب.
                      كيف لو أرانا الله ما هو أعظم من ذلك السوط؟ لكان شيئًا عظيمًا لا يُقادر قدره، ولذلك قال: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾، أي أن الله راصد لهؤلاء، يحسب عليهم أعمالهم ولا يفوته شيء من أحوال أولئك العباد، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾.
                      هذا هو المقطع الأول من هذه السورة، وهو تهديد للكفار الذي جاء فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: انتظروا هذا المصير إن استمررتم على الطغيان، وأكثرتم بالفساد؛ فإن الله لكم بالمرصاد، وسينزل بكم سوط عذاب، وقد جاء الكفار شيءٌ من ذلك، ففي بدر قُتل أشرافهم وكبراؤهم، وقبل ذلك دعا عليهم -عليه الصلاة والسلام-، وبعد ذلك دعا عليهم بسبع يوسف، فأصابهم من الجوع والجَهدِ شيء كانوا يرون فيه الدخان من شدة الجَهد، حتى استنجدوا برسول الله يقولون: أهلك وعشيرتك، يعني أنقذهم مما هم فيه، فرفع الله عنهم ذلك.
                      قال الله -عز وجل: ﴿ فَأَمَّا الإِنسَانُ ﴾، الإنسان هنا قلنا أنها تأتي في القرآن بمعنى الإنسان عامة، وبمعنى الإنسان الكافر، وهذا كثير في السور المكيَّة، والسياق هنا يحدد أو يدل على أن المراد بالإنسان هو مَن هو؟ الكافر قطعًا؛ لأن المؤمن لا يقول هذا الكلام، ولأن المؤمن أن يُخاطب بقوله: ﴿ كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ * وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّماً * وَتُحِبُّونَ المَالَ حُباًّ جَماًّ ﴾.
                      فالإنسان هنا: الكافر.
                      ﴿ فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ﴾، أي امتحنه ربه.
                      بأي شيء؟
                      قال: ﴿ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ ﴾، أي أعطاه وأغدق عليه من النعم.
                      ﴿ فَيَقُولُ ﴾ مخطئًا في قوله، مسيئًا للظن بربه ﴿ رَبِّي أَكْرَمَنِ ﴾، يظن أن كرمة الدنيا دلالة على رضى الله، وهذا أكبر خطأ وفساد في الاعتقاد، إذا ظننت أن الله يُعطيك لأنه راضٍ عنك، وإذا ظننت أن الله يحرمك لأنه ساخط عليك، من عطاء الدنيا طبعًا، هذا غير صحيح.
                      لو كان كذلك؛ لكان أنبياء الله الذين كان حظهم قليلًا في الدنيا ممن سخط الله عليه، وحاشاهم من ذلك.
                      ولكان الكفار الطغاة الباغون في الأرض هم أقرب الناس إلى الرب -سبحانه وتعالى-، هذا لا يمكن أن يكون، فالدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة حتى تكون ميزانًا لرضاه وسخطه.
                      إن رضى الله وسخطه لا يُقاس بعطاءات الدنيا، ولذلك إذا حرمك الله فأفقرك أو ابتلاك بمرض، أو بأي شيء من البلاء لا تظن أن هذا البلاء نزل بك؛ لأن الله يُبغضك، أو لأنك بعيد عن الله، لا، هذا ليس مقياسًا صحيحًا، هذا مقياس جاهلي، وقد يقع بعض المسلمين في مثل هذا البلاء، وهو يظن أن الله إذا أغدق عليه في الرزق فإنها دلالة على رضى الله عنه. هذا ليس صحيح، هذا من اعتقادات الجاهلين.
                      ولذلك قال: ﴿ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ﴾، ومعنى ﴿ أَكْرَمَنِ ﴾: أكرمني، لكن حُذِف ما بعد نون الوقاية، وهي لغة مشهورة عند العرب، وينطق بها بعض أهل المناطق عندنا في هذه البلاد، يقولون: أكرمن، وأهانن، يقفون على نون الوقاية.
                      قال: ﴿ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ ﴾، وهذا يدل على أن البلاء يُطلق ويُراد به السراء، ويُطلق ويُراد به الضراء، البلاء والامتحان. نعم.
                      قال: ﴿ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ﴾، ما معنى "قدر عليه رزقه" ضيَّق عليه رزقه، كم قال الله -عز وجل- في سورة الأنبياء: ﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ [الأنبياء: 87]، ما معنى ﴿ فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾؟ ظن ألن نضيِّق عليه.
                      وقد رُوي أن معاوية أشكلت عليه، ﴿ فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾، ظن أنها من القدرة، ولم ينتبه إلى أنه من القدر بمعنى التضييق.
                      فلما جاءه ابن عباس، قال: يا ابن عم رسول الله، إني قرأت قول الله: ﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾، فعجبتُ كيف يظن نبيٌّ من أنبياء الله أن الله لا يقدر عليه؟
                      قال: يا أمير المؤمنين، ليست من القدرة، ولكنها من القدر، وهو التضييق.
                      فقال له: أنقذتني، أو كلمة نحوها يشكره على بيان المعنى.
                      قال: ﴿ فَقَدَرَ عَلَيْهِ ﴾، أي ضيق عليه رزقه، فيقول هذا الإنسان الكافر: ﴿ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾، فهو يستدل على كرم الله أو إهانته أو رضاه أو غضبه وسخطه على عبده بما يُعطى من الدنيا، وهذا اعتقاد جاهلي غير صحيح.
                      قال: ﴿ كَلاَّ ﴾، ردع وزجر عن هذا الاعتقاد الخاطئ.
                      ثم قال: ﴿ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ ﴾، انظروا يا إخواني: يُبيِّن قولًا واعتقادًا خاطئًا تنتج عنه أفعالًا خاطئة؛ لأن الذي يظن أن الدنيا هي المقياس سيعظمها، ومن تعظيمه لها أنه يجمعها بكل حال، فهو لا يبالي كيف وقعت بيده، لو رأى المال بيد اليتيم أخذه أخذًا شديدًا وأكل مال اليتيم على فقره ولم يبالِ به، لأنه يهمُّه ماذا؟ ما يدخل في جيبه.
                      قال: ﴿ كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ ﴾، أنتم لا تحترمون اليتيم ولا تكرمونه بالمال، بل لو وجدتم معه مالًا أخذتموه، لماذا؟ لأنكم ترون أن المقياس للعز وأن الأمر كله على هذه الدنيا وهذه اللُّعَاعَة، مَن يُحصِّل منها أكثر هو صاحب الحظ الأوفر. لا، هذه الدنيا بلاء يبتلي الله بها العباد.
                      قال: ﴿ كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ * وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ ﴾، لا يحضُّ بعضكم بعضًا على إطعام المسكين، لا على طعامه ولا على إطعامه. لماذا؟
                      لأن إطعام المسكين في ظاهره ذهابٌ للمال، فهم يقولون: لا، هذا المسكين إنما صار مسكينًا بقدر الله، ونحن لا نخالف قدر الله، فلبيقَ مسكينًا كما هو، ونحفظ أموالنا لبطوننا وشهواتنا وملذَّاتنا، ولندع هذا المسكين، ما لنا وما له!
                      أما المؤمن فيعلم أن الله ما جعل في العباد أغنياء ومساكين إلا ليبتلي بعضهم ببعض؛ ولذلك المؤمن تجده إما يُطعم المساكين، وإما يحض على طعام المسكين، فأنت -يا أخي- إذا كنت لا تمتلك المال الذي تُطعم به المساكين، تحضُّ وتقول لإخوانك: فلان فقير أطعموه، فلان عليه دين اقضوا عنه دينه، فلان يحتاج كذا، أعينوه في قضاء حاجته. ﴿ وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ ﴾.
                      وأيضًا من الأفعال التي تنتج عن ذلك الاعتقاد الخاطئ وهو تعظيم الدنيا ورؤية أنها هي المكسب الأساس في هذه الحياة، قال: ﴿ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ ﴾، التراث هو الميراث، يعني ما يخلفه الميت لمن بعده.
                      ﴿ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّماً ﴾، ما معنى ﴿ أَكْلاً لَّماً ﴾؟ أي أكلًا تلمُّون به مالكم ومال غيركم إليكم، لا تبالون كيف جاءكم ولا ممن أخذتموه، هل أخذتموه من محتاج؟ من فقير؟ من صغير؟ من أنثى ضعيفة؟ ما تبالون، لَمّ، هات، احرص على هذه الدنيا بأي صورة، بأي طريقة، المهم كم أكسب؟ كم يكون رصيدي؟
                      مَن يعيش ومَن يموت، مَن يُحصل شيئًا من لقمة العيش أولا يُحصل؛ هذا آخر اهتماماته، أنا كم أحصل؟ كم هو الرقم الذي يكون في رصيدي.
                      قال: ﴿ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّماً * وَتُحِبُّونَ المَالَ حُباًّ جَماًّ ﴾، أي حبًّا شديدًا، حتى إنكم تؤثرونه على كل شيء، تؤمرون بإطعام المسكين؛ فلا تطعمون، بصلة الرحم؛ فلا تصلون، بالإنفاق في سبيل الله؛ فلا تنفقون، بإعطاء الفقراء والمساكين؛ فلا تعطون، لشدة حبكم للمال.
                      وهذه الآيات -يا إخواني- كأنما تتحدَّث عن عصرنا هذا الذي صار فيه المال إلهًا يُعبَد من دون الله.
                      فالمهم في هذه الحياة كم نجمع من المال، ولذلك الآن تقوم الحروب ويُقاتل الناس، وتحصل المآسي والمذابح من أجل هذه الدنيا -نسأل الله العافية والسلامة.
                      هذا هو فعل الكفار الناتج عن هذا الاعتقاد العظيم، الاعتقاد السيئ الخطير على حياة الناس، وكأنه يتكرر اليوم في حياتنا كما نشاهد.
                      قال الله -عز وجل: ﴿ كَلاَّ ﴾، ليس الأمر كما تفعلون، تبًّا لكم وردعًا وزجرًا على ما تفعلون من أكلكم لأموال اليتامى، وعدم حضِّكم على إطعام المساكين، وحبكم للمال حبًّا جمًّا، وأكلكم للميراث أكلًا لمًّا؛ كلا، ثم ذكرهم بالآخرة، هذه أيام معدودة تعيشونها في الدنيا، لكن الأيام التي ستبقونها وتخلدون فيها هي الآخرة، فماذا أعددتم لها؟
                      فيذكرهم فيقول: ﴿ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكاًّ دَكاًّ ﴾، أي دكًّا شديدًا.
                      ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ ﴾، أي في ذلك الموطن العظيم يأتي الله لفصل القضاء، وهذا الذي يحدث في الشفاعة العظمى عندما يضيق البعاد من طول يوم الفصل، فيسألون الأنبياء، يذهبون إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، وكل واحد يقول: لستُ لها، اذهبوا إلى فلان، اذهبوا إلى فلان، حتى يصل الأمر إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-، فيذهب فيسجد عند العرش سجدة، ويحمد الله بمحامد، ثم يُقال: «ارفع رأسك، وسل تعطَ، واشفع تشفَّع..» إلى آخره. فيأتي الله لفصل القضاء.
                      هنا يجيء ربك والملك صفًّا صفًّا، وهذا يدلُّنا على الملائكة خلق متحضِّر، خلق منظَّم، هم يأتون على هيئة صفوف منتظمة مرتَّبة.
                      وهذا المجيء لله -عز وجل- مجيء حقيقي كما يليق بجلال الله وعظمته، وما دام أن الله أخبر بذلك عن نفسه فهو كما أخبر، ولا يجوز لنا أن نتأوَّله إلا إذا جاء نصٌّ يدلنا على ذلك التأويل، ولا نص.
                      فنحن نحمله على معناه المعروف من لغة العرب، فنقول: يجيء مجيئًا يليق بجلاله وعظمته، ولا نحرِّف، ولا نؤوِّل، ولا نكيِّف، ولا نمثِّل؛ بل نقول: ﴿ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾.
                      ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ ﴾ أي الملائكة.
                      ﴿ صَفاًّ صَفاًّ * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ﴾، أي في ذلك اليوم من هوله يؤتى بجهنم، كيف يؤتى بجهنم؟
                      يؤتى بها ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، يا الله! ما أعظم ذلك المخلوق! لأنها تستعد لخلق كثير ستلتهمه، أليس من كل ألف من بني آدم تسعمائة وتسعة وتسعين سيكون مثواهم النار؟ إذن هي مخلوق هائل وعظيم جدًا.
                      تصوروا -يا إخواني- هذه النار لها سبعون ألف زمام، لكل زمام سبعون ألف ملك يجرونها. إذن عندنا كم صفر الآن؟ ثمانية أصفار، لو حسبتها الآن ستكون هكذا 4900000000، اقرؤوا معي هذا الرقم، يصبح أربعة مليار وتسعمائة مليون ملك يجرون هذه الجهنم.
                      قال: ﴿ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ﴾، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها».
                      ﴿ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ﴾، في تلك اللحظة التي يؤتى فيها بجهنم يتذكر الإنسان، تلك اللحظة لحظة الذكرى المهولة، لكن هل تنفع الذكرى؟ هل تنفع؟ ما تنفع، لأنه قد ذهب كل شيء.
                      ﴿ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ﴾، قد بعدت عنه الذكرى، ليس هذا محلًّا للتذكر.
                      ﴿ يَقُولُ ﴾ في تلك اللحظة، ﴿ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾، يتمنَّى أن لو قدَّم لتلك الحياة، تلك الحياة الحقيقيَّة، أما الحياة التي قبلها فكانت ماذا؟ سرابًا خادعًا، ومتاعًا زائلًا، لم تكن حياةً، لأنها كانت ظلًا زائل، متاع ما أسرع ما ذهب ثم انتهى!
                      قال: ﴿ فَيَوْمَئِذٍ ﴾، أي في ذلك اليوم.
                      ﴿ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ﴾، أي لا يُعذب أحدٌ كعذاب الله.
                      ﴿ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾، أي لا يوثق أحدٌ كوثاق الله.
                      وفي قراءة ﴿ لاَّ يُعَذَّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ﴾، أي لا يُعذَّبُ أحدٌ كعذاب الكافر.
                      ﴿ وَلاَ يُوثَقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾، أي لا يوثَق أحد كوثاق الكافر، فيوثق وثاقًا شديدًا، ويُعذَّب عذابًا أليمًا -نسأل الله العافية والسلامة.
                      ولمَا ذكَّر بهذا المصير المهول، وذكَّر بهذا العذاب الشديد لأولئك الذين بدرت منهم تلك الأفعال، وحصلت منهم تلك الاعتقادات والأقوال، فتح باب الرجاء، وبيَّن أن هناك سعداء يطمئنون بالإيمان بالله -عز وجل-، ويعلمون أن لهم آخرة سيُبعثون بها، ولذلك قال: ﴿ يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ﴾، لماذا النفس المطمئنة؟
                      لأن تلك النفس في ذلك اليوم تكون مرعوبة أشد الرعب، هناك يُقال: ﴿ يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ﴾، اطمأنَّت بالإيمان وبذكر الله -عز وجل.
                      ﴿ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً ﴾، عن الله -عز وجل-، ﴿ مَّرْضِيَّةً ﴾، قد رضي الله عنكِ.
                      أنتِ ترضين عن جزاء الله، والله يرضى عنكِ ويُرضيكِ.
                      ﴿ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ﴾، أي ادخلي في جملة عباديَ الذين اختصصتهم واصطفيتهم.
                      ﴿ وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾، وادخلي الجنة التي أعددتها لعبادي الصالحين، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
                      هذه يعني بعض المعاني من هذه السورة التي لو أردنا أن نتوقَّف فيها كثيرًا لَمَا كفانا مجلس ولا مجلسان ولا ثلاثة، ولكن هذه يعني معلومات عامة، ووقفات عجلة مع آياتها -نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بها.
                      إلى هنا مشاهديَّ الكرام نصل إلى ختام هذا الدرس من دروس التفسير في هذه الأكاديمية الإسلامية المباركة.
                      جعلني الله وإياكم جميعًا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
                      والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

                      تعليق


                      • #12
                        رد: تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري

                        السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
                        حيَّاكم الله جميعًا في مُستهل هذه الحلقة.
                        الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
                        أحيِّيكم مشاهديَّ الكرام، كما أحيِّي إخواني -هؤلاء- الذين حضروا معنا في الأستوديو، وأسأل الله أن يجزيهم ويجزيكم خيرًا على حسن المتابعة.
                        اليوم معنا سورة البلد، وهو سورة يحفظها بحمد الله أكثر المسلمين، ونسمعها كثيرًا في المحاريب، ونستمتع أيضًا بتلاوتها؛ لِما فيها من المعاني العظيمة، والحِكم والأحكام والدروس الكريمة.
                        هذه السورة اسمها سورة البلد، ولا يُعرف لها اسم غير هذا، وإن كان الإمام الشوكاني -رحمه الله- في فتح القدير سمَّاها أيضًا سورة "لا أقسم"، ولكن هذا لم نجده في كتابٍ آخر، فالظاهر أن اسمها باسم تلك الكلمة التي وردت في أول آية وهي قوله: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ﴾، فهي سورة البلد.
                        والبلد بإجماع المفسرين هو: مكة، كما قال الله في سورة التين: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ﴾ [التين: 1-3 ].
                        وهنا قال: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ﴾، فنصُّ الآية يدل على أن المقصود به مكة.
                        وكانت تسمَّى عند العرب: البلد، والبلدة.
                        قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للصحابة وهم في مَجمَع مِنَى في يوم القرِّ وقد اجتمعوا حوله، فقال -عليه الصلاة والسلام: «أيُّ يومٍ هذا؟».
                        فقالوا: الله ورسوله أعلم.
                        قال: «أليس يوم القرّ؟».
                        ثم قال: «أيُّ شهرٍ هذا؟».
                        قالوا: الله ورسوله أعلم.
                        قال: «أليس شهر ذي الحجة؟».
                        قالوا: بلى.
                        قال: «أيُّ بلدٍ هذا؟».
                        قالوا: الله ورسوله أعلم.
                        قال: «أليست البلدة؟».
                        فكانت يُطلق عليها عند العرب البلدة والبلد.
                        إذن، هذه السورة سُميَت باسم هذه الكلمة التي وردت في أول آية من آياتها.
                        قال الله -عز وجل: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ﴾، هذه السورة، من عادتنا كما في السور الأخرى أن نتحدَّث عن مقدمات لها.
                        اسم السورة: البلد.
                        أين نزلت هذه السورة؟ ماذا ترون؟
                        {نزلت في مكة}.
                        كيف عرفت؟
                        {البلد تُطلق على مكة، فأخذت أنها نزلت في مكة}.
                        نعم، ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ﴾، الإشارة إلى شيءٍ ماذا؟ حاضر.
                        ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ﴾، فهي إشارة إلى شيءٍ حاضر، إضافة إلى أن موضوعات هذه السورة هي موضوعات السور المكية، كما أن أسلوبها هو أسلوب السور المكية، ولهذا جماهير العلماء سلفًا وخلفًا على أنها سورة مكيَّة، ولم يُخالف في هذا إلا قلَّة من العلماء يرون أنها مدنيَّة، أو أن فيها آيات مدنيَّة.
                        ولكن الصحيح هو الذي عليه جمهور العلماء من أنها سورة مكيَّة.
                        والدليل كما ذكر أخونا، يعني واضح جدًّا في الدلالة على أنها مكية، ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ﴾.
                        عدد آياتها: عشرون آية، بلا خلاف بين العادِّين.
                        تعلمون أن العدد علم من علوم القرآن، معروف علم العدِّ، ويختلف فيه البصريون عن الكوفيين عن الشاميين، إلى آخره.
                        وهل يعني ذلك أن بعض هؤلاء يعدُّ آياتٍ أكثر من غيره إذا اختلفوا؟ لا، هي نفس الآيات لا تختلف، ولكن يختلفون في المقاطع، فمثلًا سورة الفاتحة سبع آيات، يختلفون كيف تكون السبع، لكنهم لا يختلفون أبدًا في أن الآيات هي هي لا يُزاد منها، ولا يُنقص عنها.
                        محور هذه السورة: محور هذه السورة في حال الإنسان وضعفه، وأنه قد أحاطت به المشاق والأنكاد، وأنه يجب عليه أن يقتحم العقبة ليُسلِّم رقبته من النار.
                        فمقصود هذه السورة أن تُبيِّن للإنسان ضعفه، وأنه مبتلى في هذه الحياة، وأن عليه أن ينجو، ﴿فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ﴾، وتبين له سبيل النجاة.
                        في سورة الفجر جاء ذِكر أعمال الكفار التي استحقوا بها الهلاك والعقوبة الدنيوية والأخروية.
                        ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ * وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ﴾ [الفجر: 15-20]، رأيتم؟ هذه أعمالهم، ولهذا استحقوا العقوبة. في سورة البلد يُبيِّن الله أن ابن آدم مبتلى وأنه مُكلَّف، وأن الشكر واجب عليه، ﴿فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ﴾.
                        كيف يشكر ويقتحم العقبة؟ ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾، هذه هي سبل النجاة.
                        فمن أراد أن يقتحم العقبة وينجو من النار عليه أن يقوم بهذا الأمر، وإلا فالإنسان قد أُنعِمَ عليه وقد نُغِّصَ عليه، فهذه الدار دار تنغيص وأنكاد، وليست دارَ نعيمٍ وراحة.
                        قيل للإمام أحمد: متى يجد المؤمن الراحة؟
                        قال: "إذا وضع أول قدمٍ له في الجنة".
                        يعني قبل ذلك ماذا؟ قبل ذلك كله تعب ومشقَّة.
                        فنسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يمنَّ علينا بتلك الخطوة التي نضع فيها أقدامنا في الجنة فنرتاح راحة لم نذقها قبل ذلك أبدًا.
                        ما مناسبة هذه السورة؟ قد ظهر في كلامي الذي قبل قليل المناسبة بين سورة البلد وسورة الفجر.
                        ففي سورة الفجر ذِكر لأعمال الكفار التي استحقوا بها العقوبة، وفي سورة البلد ذِكر للأسباب التي يخرج بها الإنسان من أعمال أهل النار، وينجو بها من الهلكة، وقد بيَّناها ستة أسباب سنمر عليها بعد قليل.
                        ثم أيضًا في آخر سورة الفجر قال: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر 27 -30]، كيف تدخل الجنة؟ وكيف تكون من النفوس المطمئنة؟
                        إذا فكَّ الرقبة، وإذا أطعم في: ﴿يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾.
                        ثم لمَّا ذكر أعزَّ شيءٍ في النفس قال: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ﴾ [الفجر: 27]، ذكر أعزَّ مكانٍ وهو البلد، فقال: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾.
                        ثم نأتي بعد ذلك إلى تفسير هذه السورة الكريمة -نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بها.
                        وقد قسَّمناها إلى مقطعين:
                        المقطع الأول: ينتهي بقول: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾.
                        والمقطع الثاني: ينتهي بآخر السورة.
                        يقول الله -عز وجل: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ﴾.
                        ﴿لا أُقْسِمُ﴾، هذا الأسلوب مرَّ بنا مرارًا في هذا الجزء الكريم، في قوله: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الجَوَارِ الكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ [التكوير 15-17]، وفي قوله: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾ [الانشقاق 16- 18].
                        وبينا في تلك الآيتين أن معنى ﴿لا أُقْسِمُ﴾ ماذا؟ أقسم.
                        أن "ما" للتأكيد. وهذا معروف عند العرب، كما قال الله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: 12]، أصلها قبل مجيء اللام: "ما منعك أن تسجد"، فـ "لا" مزيدة للتأكيد، ولذلك يُقال: "لا" زائدة زائدة، زائدة في اللفظ زائدة للمعنى.
                        ليست زيادة لا فائدة منها ولا حكمة؛ بل هي زيادة لفظية لها دلالة معنوية، وهي التأكيد.
                        وكذلك في قول الله -عز وجل- في سورة الحديد: ﴿لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الحديد: 29]، فـ "لا" هنا زائدة أيضًا، لكنها زائدة في اللفظ زائدة للمعنى.
                        ولذلك يتحاشى بعض العلماء أن يسمُّوها زائدة، فيقولون: "لا" مؤكدة، احترامًا للقرآن أن يُنسب إليه شيء من الزيادة.
                        ولكن نقول: هي زائدة زائدة، يعني زائدة في اللفظ، يعني على أصل اللفظ، زائدة للمعنى، بليغة، لا يتم المعنى ببلاغته إلا بها.
                        طيب، إذن ﴿لا أُقْسِمُ﴾، معناها أقسم، وهذا عند جمهور المفسرين، وخصوصًا من السلف.
                        أما المتأخرون فقد اختلفوا:
                        فمنهم مَن قال: ﴿لا أُقْسِمُ﴾، أي ليس الأمر كما تزعمون، أقسم بهذا البلد، ليس الأمر كما تزعمون من أنه لا بعث، أقسم بهذا البلد.
                        وهذه الزيادة أو هذا التقدير يحتاج إلى دليل، فالأولى إجراؤها على ما ذكره السلف من أنها مؤكدة.
                        ومنهم مَن قال: أن "لا" نفي للقسم وليست إثباتًا له، فقالوا: لا أقسم بهذا البلد لأن الأمر لا يحتاج إلى قسم، فحملوا "لا" هنا على أنها نافية للقسم.
                        إذن صار عندنا ثلاثة أقوال:
                        1- "لا" مؤكدة للقسم.
                        2- و"لا" نافية لشيءٍ محذوف، ثم يأتي بعده القسم.
                        3- نفي للقسم؛ لأن الأمر أوضح من أن يُقسَم عليه.
                        والصحيح هو الأول، الذي عليه جمهور السلف؛ بل إني لا أعلم من السلف مَن خالف في ذلك، وإن كان من المتأخرين مَن ذكر الأقوال في هذا الأمر، والعبرة بما كان عليه السلف، فهم أعظم الناس فهمًا لكتاب الله، وأدرى الناس بكلام العرب.
                        فمعنى ﴿لا أُقْسِمُ﴾، أي أقسم.
                        ومما يؤكد ذلك: قوله في سورة الواقعة: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ﴾ [الواقعة 75، 76]، فجعل هذا قسَمًا مع أنه قال: ﴿لاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾.
                        قال: ﴿بِهَذَا البَلَدِ﴾، "هذا" إشارة إلى شيءٍ حاضر وهو مكة، والبلد هي مكة بالإجماع، لم يختلفوا في ذلك.
                        قال: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ﴾، الواو هنا ليست للقسم، ولكنها واو للحال، يعني: أقسم بهذا البلد حال كونك حلالًا بهذا البلد، لأن البلد يزداد شرفًا بحلول أو بأن يحلَّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لا يحلُّ لغيره.
                        ومعنى قول: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ﴾، هذه اختُلفَ فيها:
                        فمن العلماء مَن يقول: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ﴾ أي حلال بهذا البلد، وعلى هذا جمهور السلف، وبهذا تكون هذه الآية من الإعجاز الغيبي، لأنها مكية، ولم تحل مكة لرسول الله إلا في العام الثامن عندما فُتحت مكة، قال: «إنها أحلت في ساعة من النهار، وإنها عادت اليوم إلى حرمتها كما كانت بالأمس».
                        فالله أقسم بهذا البلد في الوقت الذي تكون فيه مكة حلالًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم.
                        وقال بعض المفسرين: ﴿حِلٌّ﴾، بمعنى: حالٌّ ومقيم، ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ﴾، أي حالٌّ ومقيم بهذا البلد؛ لأن شرف مكة يَزداد بوجود رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها.
                        والقول الثالث: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ﴾، أي وأنت حلال الدم في هذا البلد، عندما استحلَّ أهل مكة دمَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعلوا الجوائز على مَن يقتله -عليه الصلاة والسلام-، فأنقذه الله من بين أيديهم ثم عاد إليهم بعد سنين منصورًا فاتحًا قائمًا بالحق، بيده الشريفة تلك العصا والفأس يهدم بها الأصنام ويقول: ﴿وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾ [الإسراء: 81].
                        إذن، حلال الدم. هذا القول الثالث.
                        أي هذه الأقوال أصوب؟
                        ما عليه جمهور السلف هو الأصوب، مع أن هذه الأقوال لا تتعارض، فهي ككثير من أقوال السلف في التفسير، هي صالحة لأن تدخل في معنى الآية.
                        يعني فما الذي يمنع أن يُقال: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ﴾: أي حلال لك، قد أحلها الله، وأنت حالٌّ مقيم فيه، وأنت قد أُحلَّ دمك فيه؟ لا مانع، لكن أليقها باللفظ وأقربها هو الذي عليه جمهور السلف، بمعنى: وأنت حلال أي قد أحل الله لك هذا البلد، ويؤيده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد حصل له ذلك في فتح مكة.
                        وتكون هذه الآية من باب الإعجاز الغيبي، يعني أخبرت الآية بشيء فوقع ذلك كما أخبر به الله -سبحانه وتعالى-، وإلا مَن كان يتصوَّر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان طريدًا شريدًا ضعيفًا وحيدًا ومعه أصحابه الضعفاء، يأتي يوم يستحل فيه البلد الحرام بأمر الله -عز وجل- ويكون فاتحًا منصورًا؟! ما أحد يتوقع ذلك.
                        قال: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ﴾.
                        ثم جاء القسم الثاني: ﴿وَوَالِدٍ﴾.
                        والقسم الثالث: ﴿وَمَا وَلَدَ﴾.
                        فعندنا في هذه السورة كم قسم؟
                        هذا القسم الأول، وهذا القسم الثاني، وهذا القسم الثالث.
                        ثلاثة أقسام.
                        طيب، ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾، بأي شيءٍ أقسم الله هنا؟
                        قيل: ﴿وَوَالِدٍ﴾ والذي لم يلد، "ما" هنا نافية، يعني: ووالد وما لم يلد، يعني وكل شيء يلد، وكل شيء لا يلد، يقسم الله بكل شيء.
                        لأن الأشياء نوعان:
                        - شيء يلد.
                        - وشيء لا يلد.
                        وبهذا يكون هذا من الأقسام العامة كقوله: ﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ [الفجر: 3]، وقوله في سورة البروج: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ [البروج: 3]، ونحوها من الإقسامات العامة الشاملة.
                        هذا على القول بأن "ما" هنا نافية، يعني: ووالد وما لم يلد، يعني: وكل شيء يلد، وكل شيء عاقر لا يلد.
                        القول الثاني وعليه أكثر السلف: ﴿وَوَالِدٍ﴾، أي الذي يلد.
                        ﴿وَمَا وَلَدَ﴾، وولده، يعني والذي ولد.
                        فـ "ما" هنا تكون ماذا؟ موصولة بمعنى: ومَن ولد، ووالدٍ ومَن ولد.
                        وهل هي عامة أو مقصود بها شيء مُحدد؟
                        كثير من السلف يرون أنها إما أن تكون في آدم وولده، أو في إبراهيم وولده.
                        رجح الإمام الطبري أنه ما لم يدل على ذلك دليل ويكون هناك بيِّنة من خبر أو عقل؛ فإن الأولى حملها على العموم، فتكون قسَمًا عامًّا.
                        ﴿وَوَالِدٍ﴾، يعني: أقسم بكل والد، وبكل مولود.
                        إذن، عندنا الآن ثلاثة أقسام:
                        - بهذا البلد.
                        - وبالوالد.
                        - وبالولد.
                        على أي شيء؟ أين جواب القسم؟
                        في سورة الفجر كان جواب القسم محذوفًا مقدرًا، هنا مذكورٌ بيِّنٌ، ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾.
                        أقسم الله على هذه الحقيقة التي تحتاج إلى تأكيد، لأن كثيرًا من الناس يتوقعون أنهم يُمكن أن يعيشوا بلا كبد، وهذا لا يسلم منه أحد، لا غني ولا فقير، ولا أمير ولا مأمور، ولا كبير ولا صغير، ولا ذكر ولا أنثى، ولا حر ولا عبد، كل الناس سيعيشون الكبد ويذوقونه، حتى الأنبياء والرسل. قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، ويُبتلى الرجل على قدر دينه».
                        إذن لا بد من الكبد.
                        قال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾، اختُلف في قوله ﴿كَبَدٍ﴾ على ثلاثة أقوال:
                        القول الأول: أي في تعبٍ وعناءٍ ومشقةٍ. وهذا القول عليه أكثر السلف وهو الظاهر، بهذا يكون مثل قول الله -عز وجل: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً﴾ [آل عمران: 186].
                        ومثل قول الله -عز وجل: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155].
                        فالله يُقسم على أن الإنسان لا بد أن يُبتلى، مؤمنًا كان أو كافرًا، وأنه لا بد أن يذوق الكبد والنكد، وتكون مثل الآية التي مرَّت بنا في جزء عم: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ﴾ [الانشقاق: 16-18].
                        فالإنسان في هذه الحياة تتقلب به الأحوال، صغير، ثم كبير، شاب، ثم هرم، ثم مريض، ثم صحيح وسليم، ثم في عافية وأمن، ثم في خوف، وهكذا، لا يمكن أن يستقر على حال إلا إذا دخل الجنة استقر على حال، شبابه لا يفنى، ويجد فيها اللذة الدائمة المستمرة التي لا كدر معها البتة.
                        إذن ﴿كَبَدٍ﴾ عند جمهور السلف بمعنى: تعبٍ وعناءٍ ومشقَّة.
                        ويرى بعض السلف أن معنى قوله: ﴿كَبَدٍ﴾: أي منتصب القائمة، وهذا قال به جماعة من السلف، وتكون بهذا مثل قول الله -عز وجل: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4].
                        بعض السلف أغرب في التفسير فقال: إن "كبد" بمعنى السماء، ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾، أي خلقنا الإنسان في السماء. وهذا قال به ابن زيد، ولم أجد أحدًا قال به غيره. فهذا القول حقيقة غريب، بحثنا في كتب اللغة ما وجدنا من معاني "الكبد" السماء، لكن وجدنا العلماء يقولون: في كبد السماء.
                        فلعل ابن زيد التبس عليه الأمر، فظنَّ أنه يُمكن إطلاقه على السماء، لكن لم يقل بهذا أحد غيره، ولذلك نعد هذا القول من الأقوال الشاذة، ولذلك كثير من المفسرين أعرض عنه ولم يذكره.
                        إذن، يبقى عندنا قولان أرجحهما في نظري: القول الأول الذي عليه جمهور السلف، وهو أن الإنسان خُلق في كبدٍ أي عناء ومشقة.
                        هذا أمر يستحق الإقسام، ولا بد أن ننظر إلى هذا المعنى، وهو: هل يستحق الأمر أن يُقسَم عليه أو لا؟
                        يعني يأتي واحد يقول مثلًا: أقسم لكم بالله أن هذا اللون أزرق.
                        تقول له: يا أخي، أَرْبِعْ على نفسك، لا داعي لأن تقسم على هذا الأمر.
                        أقول لك: أقسم لك بالله أن هذا اللون أسود.
                        طيب، ما الفائدة؟! إنما يُقسَم على الشيء الخفي، يُقسم على الشيء الذي يُمكن أن يُظن بخلاف ما هو عليه، فتؤكِّد بالقسم الحقيقة.
                        ولذلك هنا يظن كثير من الناس أنه يمكن يعيش بلا كدر ولا تنغيص ولا بأس، ولا مشقة ولا عناء؛ فيقول الله -عز وجل: لا، ما منكم من أحدٍ إلا سيذوق العناء.
                        أرأيتم هؤلاء الفقراء في غابات إفريقيا؟ أرأيتم هؤلاء الأغنياء في مناطق العالم؟ كلهم مكابدون، هناك الناس يبحثون عن الطعام ليأكلوا، وعندنا يبحثون عن ماذا؟ عن المخففات وكيف الواحد يعمل "رجيم" ويذهب إلى الأندية الرياضية، ويُقلل، ويرى الطعام الطيب أمام ويحبس نفسه عنه، وكل ذلك من الكبد.
                        هذا في كل يوم يرى اللذائذ ويحرم نفسه منه خشية أن يُبتلى بالسِّمَن، وذاك في كل يوم يخرج من الصباح إلى المساء يبحث عما يدخله في فمه من قليل أو كثير، مغذٍّ أو غير مغذٍّ، مفيد أو غير مفيد، لذيذ أو غير لذيذ؛ المهم يدخل في جوفه شيء، فهؤلاء يُكابدون، وهؤلاء يُكابدون.
                        قال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾، هنا مسألة: هل الإنسان هنا هو الإنسان الذي يأتي في عامة السور المكية ويُراد به الإنسان الكافر؟ أو الإنسان يُراد به عموم الناس؟
                        {عموم الناس}.
                        ممكن هذا، يُراد به عموم هذا، وإن كان للكافر منها نصيبٌ أشد، لأن البلاء الذي قد كُتب على سائر الخلق يُصيب المؤمن والكافر على حدٍّ سواء، فالمؤمن يُبتلى بالفقر وبالمرض، وبالتعب والخوف، وغير ذلك، وكذلك الكافر، لكن الكافر له قدر زائد من الكبد؛ لأنه لا يوجد عنده إيمانٌ بالله ولا بقدر الله، فهو يُعاني من شيء آخر وهو الفراغ الإيماني، ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 124]، أرأيتم هذه القضية؟
                        ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]، فالمؤمن صحيح أنه يُكابد ويتعب، وتصيبه اللَّأواء، لكنه في المقابل يركن إلى ركن شديد، يأوي إلى الله، يتضرَّع إليه، يطلب منه، يؤمن بقدره، يعلم أن له حكمة، يعلم أن ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه، يعلم أن ما أصابه لا بد وأن تكون عاقبته خيرًا، ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ [النساء: 19]، فيرتاح ويطمئن.
                        ولذلك لا تكاد تجد من المؤمنين أحدًا ينتحر إذا نزلت به البلايا والمصائب، بينما الكفار تجد الرجل في أنعم عيش وأطيبه وينتحر.
                        من أي شيء ذلك؟! من هذا الفراغ الروحي والعاطفي الذي يضطره إلى أن ينتحر -والعياذ بالله.
                        ولذلك نقول: الإنسان هنا لا مانع أن يُراد به الكافر بشكل خاص، خصوصًا إذا رأينا الآيات التي بعدها، وهي قوله: ﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً * أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾، إلى آخره.
                        وإذا حُمل على العموم فله وجه أيضًا، ولا مانع من ذلك.
                        قال الله -عز وجل: ﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾، يظن هذا الإنسان الضعيف الذي خُلق في الكبد وخُلق في المشقة أنه قد بلغ الغاية من القوة، ويظن أنه هو المتصرف في أموره، وأنه هو المدبِّر لكل ما يدور حوله، وأن الله لن يقدر عليه، والله هو المتصرف فيه، المالك له، المدبر لأمره، فلا تظنن أنك تستطيع تفلت من قبضة الله.
                        قال: ﴿يَقُولُ﴾ مفتخرًا ومتبجِّحًا عندما يكون له مال: ﴿أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً﴾، أي مالًا كثيرًا، أنا سافرت إلى أمريكا عشرين مرة، وذهبت إلى جنيف وسويسرا، وذهبت إلى شلالات كذا، وفعلت كذا، وأنفقت كذا، ولي قصر في المكان الفلاني، وقصر في المكان الفلاني.
                        آلله أعطاك المال لتفعل به هذا؟ ولتفاخر بإنفاقه بهذه الطريقة؟ وتتكثَّر به في المجالس كما قال الله: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾ [التكاثر: 1، 2].
                        قال: ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً﴾، أي مالًا كثيرًا، مأخوذ من اللُّبدة هذه، اللبدة التي تكون على رأس الأسد، الشعر الكثير الكثيف الذي بعضه فوق بعض.
                        قال: ﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾، يعني عندما يتحدَّث بها ويقوله ويفتخر به يظن أن الله لا يراه ولا يطلع على أفعاله فيه؟
                        ثم يُذكره ربه -سبحانه وتعالى- فيقول: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، كان الواجب عليه أن يستعمل ذلك في طاعة الله، ويستثمر في العمل الذي ينفعه إذا بُعث بين يدي الله -سبحانه وتعالى.
                        فعلامَ يجعل هذه النِّعم مجالًا للفخر وللرياء، وللتعالي على الخلق، وللكبر، وللغطرسة، وللطغيان، وللتجافي عن الحق، والإعراض عن آيات الله؟ عجبًا له!
                        ولذلك قال: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ﴾، يُبصر بهما الحق؟
                        ﴿وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ﴾، ينطق بهما ويتكلم حتى يستبين له الحق، ويحاور مَن يجادله فيما هو عليه حتى يظهر له الحق.
                        ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، هديناه: أي دللناه سبيل الخير والشر، فالنجدان هما طريقا الحق والباطل، طريقا الخير والشر.
                        الله -سبحانه وتعالى- من رحمته بعباده قد أظهر لعباده طريق الخير وطريق الشر ظهورًا بيِّنـًا لا إشكال فيه، يعني هل نشك نحن أن التوحيد والشرك شيءٌ واحدٌ؟ لا يمكن نشك في ذلك.
                        الكذب والصدق، الظلم والعدل شيء واحد؟ كلنا نعلم، لو لم تنزل الشرائع، ولو لم يُرسل الله الرسل، ولو لم يُنزل الله الكتب؛ نعلم أن هذا خير وهذا شر.
                        الذي يتصدق على الناس هل هو مثل الذي يأخذ أموال اليتامى ويمنع الناس حقوقهم؟
                        الذي يُحسن إلى زوجته وأبيه وأمه وأهله وولده، مثل الذي يظلمهم ويكذب عليهم ويقطع رحمه؟ لا يمكن.
                        هذا من أين؟ هذا من هداية الله للعبد، ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، جعلنا طريق الخير واضحًا، وطريق الشر واضحًا لا لَبسَ فيه ولا غموض.
                        وجاءت الأنبياء وجاءت الرسل، وجاءت الكتب لتؤكد وتبيِّن وتفصِّل وتُنير الطريق بشكل لا يدع لذي عقلٍ إشكالًا، أو لا يدع لذي إشكالٍ إشكالًا في هذا الأمر، ولتزيد المحَجَّة وتظهر الحُجَّة.
                        ولذلك قال: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾.
                        بعض العلماء فسر "النجدين" هنا بأنهما الثديان، قالوا: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ أي هدينا الطفل عندما يولد إلى ثديي أمه يرضع منهما.
                        قالوا: لأنه جاء بعد قوله: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، ما الذي دله على ذلك حتى يرضع منهما؟
                        كان المفترض أن يخضع لدورة تدريبية حتى يتعلم كيف يمص الحليب من صدر أمه، ولكن الله هداه لأن يمصَّ بلا تعليم.
                        والمعنى الأول أظهر. لماذا؟ لأنها في باب إقامة الحجة على الخلق، قد جعل الله لك عينين تُبصر بهما الخير من الشر، والحق من الباطل، ﴿وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ﴾ تتكلم بهما وتنطق وتُبين عمَّا في نفسك، وتحاور، وتفهم.
                        ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، هذه حجة ثالثة يمتنُّ الله بها عليك ليُبيِّن أنه -سبحانه وتعالى- قد أقام الحجة على أوسع نطاق وعلى أكمل وجه، فليس لك حقٌ في أن تقول: ما بان لي شيء، اختلط عليَّ الحق والباطل، التبس عليَّ الأمر.
                        ومما يؤكد ذلك أنه في سورة الإنسان: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ [الإنسان 2، 3]، فجاء بهداية السبيل الدالة على أنها هي المناسبة للمقام.
                        وهذا مما يفسَّر به القرآن، أو مما يفسِّر القرآنُ به القرآن.
                        قال: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾.
                        طيب، ما المقابل لهذه النعمة؟ هذا يأتي في المقطع الثاني عندما يقول الله -سبحانه وتعالى: ﴿فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾، يعني عندما أعطيناه هذه النعم، وهديناه هذا السبيل، وأنعمنا عليه بالعينين واللسان والشفتين وغيرها من النعم، أفلا اقتحم العقبة؟
                        يعني: أفلا اقتحم طريق الطاعة الذي هو عقبة؛ لأن الطاعة -يا إخواني- شاقَّة على النفوس، الطاعة تخرج بها عن مشتهياتك وهواك، أنا أريد أنام في الليل ما أقوم إلا العاشرة صباحًا، يُقال لك: قم لصلاة الفجر، وأنت في دفء الفراش وفي لذة النوم تقوم، لماذا؟ لأن الله أمرك، ولا بد أن تقتحم هذه العقبة لتفوز.
                        إذن العقبة هي طريق الخير.
                        قال: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، النجدان: طريق خير وطريق شر.
                        طريق الشر: تنزل، والنزول في العادة لا يُكلف.
                        وطريق الخير: تصعد، والصعود في العادة ماذا؟ يُكلف ويُتعب، الذي يُريد يصعد يحتاج إنه يصعد بمشقة، وقد يصعد أول الدرجات بسلاسة، لكنه بعد ذلك يبدأ النفس عنده يرتفع ويشتد ويرتفع ضغط الدم، وكل هذا من أجل أن يصعد للأدوار العليا.
                        لكن لو أراد ينزل، أبدًا، مع أي نافذة من النوافذ وفي ثواني يستطيع الوصول إلى الأرض، لكن ما النتيجة؟
                        النتيجة هنا أنه يصل إلى الأدوار العليا، وهنا يصل إلى أسفل سافلين. هذا هو الفرق بين طريق الخير وطريق الشر.
                        نحن -يا إخواني- بالمناسبة، هذا المعنى نودُّ أن نجلِّيه لأنفسنا؛ لنعلم كم نحتاج من جُهد من أجل أن نصل إلى ما أراد الله أن نصل إليه، نحن خُلقنا ووضعنا في الجنة، هذا أبونا آدم، فعصى فأُهبِط عقوبة له على أكله من الشجرة وعلى عصيانه لربه، ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه: 121]، ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا﴾ [البقرة: 38]،، هبطنا.
                        قيل لنا: مَن أراد أن يعود إلى الدار الأولى فعليه أن يصعد، لأن الدار الأولى أين؟ في الجنة. وتحتاج إلى ماذا؟ إلى صعود.
                        كيف تصعد بمخالفة هواك، واقتحام العقبة، ما هي العقبة؟
                        العقبة هي الطريق الذي يكون بين جبلين، الطريق الذي يكون بين جبلين عقبة، وسلوكه والمشي فيه من أصعب مما يكون، فكذلك طريق الخير، لا تظن وأنت تذهب للمسجد أو تصوم أو تجاهد في سبيل أو تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر أو تقيم السنة أو تنهى عن البدعة أو تنصح عباد الله، أو...، أو...، أن هذا سيكون لطريق مفروش لك بالورود، ترى الكرامات، وترى الأموال، والزوجات، ويُفتح عليك، لا.
                        حُفَّت الجنة بماذا؟ بالمكاره، ابتلاءً للعباد.
                        وحُفَّت النار بماذا؟ بالشهوات.
                        هناك بعض الناس يقول: أنا لا أبغي شيئا يُتعب، نعم، إذا أردت شيئًا لا يُتعب فأنت ستصل في النهاية إلى المُتعب، صحيح ستمر بطريق مليء بالورود، لكن نهايته نارٌ تتلظَّى، والعكس أيضًا صحيح.
                        قال: ﴿فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾، لم يتجاوز هذه العقبة التي هي عقبة الطاعة وطريق الخير.
                        ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ﴾، هذا أسلوب يُراد به ماذا؟ التفخيم والتعظيم والتشويق والتهويل لهذه العقبة، وأنها شيءٌ كبير، مَن اقتحمه وتجاوزه فاز فوزًا لا خسار ولا هلاك بعده.
                        قال الله -عز وجل- مبيِّنًا ما هي العقبة التي يقتحمها الإنسان، وبأي شيء يقتحم، لا تظن أنك أمام جبل ستصعده وينتهي الموضوع، لا، المقصود به أعمال صالحة شديدة على النفوس، قال الله فيها ماذا؟
                        ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ تفكُّ الرِّقاب.
                        ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾، أي ذي مجاعة، الطعام قليل، والأخبار تقول أنه لا يوجد محاصيل، والمستودعات ما فيها شيء، والطعام الذي عندك لا يكاد يكفيك للموسم، وتُطعم طلبًا لماذا؟ لاقتحام العقبة.
                        تُطعم مَن؟ مَلِكًا أو أميرًا ترجو نواله ونفعه في الدنيا؟ لا، يتيمًا لا أب له.
                        ﴿ذَا مَقْرَبَةٍ﴾، أي قريبًا منك.
                        ﴿أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ﴾، قد لصق بالتراب من شدة الفقر.
                        فانظروا -يا إخواني: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾، ما هو فك الرقبة؟ يعني تأتي برقبة وتفكها؟ أي إعتاقها، هذا أسلوب معروف أو جملة معروفة يُراد بها إعتاق الرقبة، لأن العادة كانت الرقبة تُغلُّ لمن كان رقيقًا، ففكها يعني حلُّ هذه العقدة عنها ليُصبح الإنسان طليقًا.
                        كيف يفك الإنسان الرقبة؟ بأن يأتي إلى إنسان قد استُعبِد، أو إنسان قد كان رقيقًا فيُعتقه لله -عز وجل.
                        ومثله: إطلاق مَن قُيِّدت حريَّتهم في سجون أو نحوها، بهذا نقول: واجب على المسلمين أن يسعوا في فكاك رقابهم من أعدائهم، فإذا كان في المسلمين رجل قد أُسِر، وضعه حاكم طاغية أو كافر في سجنٍ يريد بذلك إيذاءه، وجب على المسلمين جميعًا أن يقوموا بفك تلك الرقبة.
                        كما قال الله: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِياًّ وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً﴾ [النساء: 75].
                        وهذا مما يجب فيه الجهاد، لأن الله قال: ألا تقاتلون في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين، هذا معنى الآية، في سبيل فكاكهم وإخراجهم ممن يريد أسرهم وحبسهم والتضييق عليهم وكبت حرياتهم، إلى آخره.
                        قال: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾، هذا العمل الأول.
                        ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾، أي ذي مجاعة شديدة.
                        مَن يُطعم؟
                        ﴿يَتِيماً﴾، واليتيم هو مَن؟ مات أبوه قبل البلوغ، ولا يُطلق على مَن ماتت أمه، لأن الإنسان يفقد السند الأعظم بموت أبيه، لأنه هو الذي يُغذِّيه، وهو الذي يجلب له الرزق، وهو الذي يحميه، صحيح أنه يفقد الحنان والبر والرحمة إذا ماتت أمه، لكن يبقى في مملكة أبيه، فإذا فقد أباه أصابه شيءٌ عظيم من البلاء.
                        قال: ﴿يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ﴾، أي صاحب قرابة، قريب منك، لأن اليتيم القريب له من الحق أكثر مما لليتيم البعيد عنك.
                        ﴿أَوْ مِسْكِيناً﴾، والمسكين هو ذو المسكنة، وهو الفقير الذي بلغ به الذل مبلغه بسبب فقره، لأن قلة ذات اليد تجعل في الإنسان ذلًّا، فهو لا يستطيع يُجاري الناس، ولا يستطيع يدخل معهم، ولا يخرج معهم، ولا يُجالسهم خشية أن يُلزم بأشياء اجتماعية ما يستطيعها، فهو يصيبه لأجل ذلك ماذا؟ مسكنة وذل.
                        ﴿أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ﴾، أي قد لصق بالتراب من شدة الفقر.
                        قال: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
                        إذن عندنا:
                        1- ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾. هذا واحد.
                        2- ﴿إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾. هذا اثنين، يتيمًا ذا مقربة، أو مسكينًا ذا متربة.
                        3- ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
                        4- ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.
                        5- ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾.
                        هذه خمسة أسباب يُحصِّل بها الإنسان اقتحام العقبة ويكون من أهل الميمنة، ولذلك قال: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، لماذا كان من الذين آمنوا؟
                        لأن فعل الخيرات لا ينفع صاحبه في الدار الآخرة إلا بشرط الإيمان، ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ [الإسراء: 19]، لا بد من شرط الإيمان.
                        فإذا جاء الإنسان بسعيٍ طيب لكن من دون إيمان؛ فإنه يُكافَأ عليه في الدنيا، ولكن ليس له في الآخرة شيء، كما قال الله -عز وجل: ﴿لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ [النساء: 114].
                        فلا ينال الأجر العظيم والثواب الجزيل والجنة إلا من كان مؤمنًا بالله واليوم الآخر ويريد بذلك وجه الله في الدار الآخرة.
                        قال: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، وصَّى بعضُهم بعضًا بالصبر، الصبر على الفقر، الصبر على البلاء، الصبر على المحن، الصبر على هذه العقبة، تصوم في شدة النهار، تقوم في ظلمة الليل، تتوضأ بالماء البارد، تترك مشتهياتك، وتقاسي العذابات من أجل أن تُمسك بدينك حتى يكون القابض منهم على دينه كالقابض على الجمر من شدة البلاء، فيوصي بعضهم بعضًا بالصبر، اصبر يا أخي، عما قريب نلقى الأحبة محمدًا وصحبه، عما قريب يذهب ذلك العناء وينتهي هذا البلاء.
                        قال: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾، أيضًا مع الصبر يوصي بعضهم بعضًا بالرحمة.
                        يا أخي، انظر إلى أخي فلان وجاري فلان إنه محتاج. يا أخي، أخو فلان عليه دينٌ فاسعَ في قضائه. يا أخي، فلان له حاجة فلا بد أن نجتمع على قضائها. هذا يتيم لا بد أن تكفله. هذه أرملة لا بد أن تؤويها وتقوم عليها، «الساعي على الأرملة والمسكين كالصائم لا يُفطر، والقائم لا يفتر». ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾.
                        بخلاف مَن كانوا في سورة الفجر، ماذا قال الله فيهم؟
                        قال: ﴿وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّماً * وَتُحِبُّونَ المَالَ حُباًّ جَماًّ﴾ [الفجر 18-20]، ما يهمهم شيء، ماذا يصل إلي؟ ماذا يبقى في جيبي؟ أما يتيم ومسكين وقريب ومَن يُرحم؛ هذا لا يعنيني ولا يهمني أبدًا.
                        قال: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾.
                        ثم أعطاهم هذه الشهادة وهي قوله: ﴿أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ﴾، هؤلاء هم أصحاب اليمين في الدار الآخرة، وهم الذين ينالون المكافأة العظمى الجنة وما فيها من خير، وأعظم ما فيها من الخير: رؤية الرب -سبحانه وتعالى- كما قال الله: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26].
                        ولما ذكر هذا الترغيب لأهل تلك العقبة التي لا بد من اقتحامها؛ ذكَّر بالمصير الآخر على طريقة القرآن في الاقتران بين الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، والجنة والنار، وسبيل المفلحين وسبيل الأشقياء الضالين، قال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا﴾، أي جحدوا بها ولم يؤمنوا.
                        ﴿هُمْ أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ﴾، أي أصحاب الشمال وأصحاب طريق الشؤم على أنفسهم، فإنهم من سلكوا دربًا سهلًا وطريقًا منعَّمـًا، أغانٍ، وزنى، وخمور، ويفعلون ما يشاءون، ولا يقومون لصلاة، ولا يصومون يومًا في سبيل الله، ولا يجاهدون عدوًّا، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن منكر؛ فهؤلاء هم أصحاب الشؤم على أنفسهم، ومصيرهم كما قال الله -عز وجل: ﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ﴾.
                        كانوا في الدنيا منطلقين أحرارًا، يفعلون ما يشاءون، يتصرفون كما يريدون، كل ما يحلو لهم وكل ما يبتغون يفعلونه.
                        في الدار الآخرة ﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ﴾، كُبتت حرَّيتهم، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ [المجادلة: 5].
                        نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يقينا هذا السبيل، وأن يكفينا هذا الشر، ونسأل الله أن ينفعنا أيضًا بهذه السورة العظيمة الكريمة، التي على قلة آياتها فيها معاني لو تأملها المؤمن لكانت له كافية.
                        أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وإلى لقاء في درس آخر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

                        تعليق


                        • #13
                          رد: تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري

                          السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
                          الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومَن والاه.
                          حياكم الله مشاهديَّ الكرام، وحيَّى الله الإخوة الحضور معنا في هذا الاستوديو.
                          هذا درس من دروس التفسير في هذه الأكاديمية الإسلامية المفتوحة، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينفع به.
                          وقد وصلنا في دروس التفسير إلى سورة الشمس التي معنا اليوم، سنأخذها -بإذن الله- ثم نكمل بقية الدرس في سورة الليل، ونكملها -إن شاء الله- في يوم غدٍ -بإذن الله.
                          سورة الشمس من سور المفصل، أو بالأحرى من سور أوساط المفصل.
                          وقد ورد في فضلها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرشد معاذًا لما اشتكاه ذلك الرجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أفتَّانٌ أنت يا معاذ؟! أفلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى؟». فنصَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذه السورة.
                          ولا يثبت لهذه السورة فضيلة خاصة إلا ما ورد من الفضائل العامة في القرآن أو في المفصل بشكلٍ أخص.
                          هذه السورة العظيمة سُميت: سورة الشمس، ولا يُعرف لها اسم غير هذا الاسم، فتسمى في بعض الكتب: الشمس، وفي بعض الكتب: والشمس وضحاها. وعلى كلٍّ الاسمان لا فرق بينهما.
                          هذه السورة الكريمة ليس لها سبب نزول، كأغلب سور القرآن، ليس لها سبب نزول؛ لأن القرآن نزل على وجهين:
                          - منه ما يكون له سبب نزول، كأن تكون هناك حادثة معينة، أو سؤال يُسأله النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فتأتي السورة جوابًا لذلك السؤال، أو تأتي السورة ذاكرة ذلك الحادث.
                          - وكثير من سور القرآن نزلت ابتداءً؛ أي من عند الله -عز وجل- تذكيرًا للعباد.
                          هذه السورة عدد آياتها عند عامة العادِّين: خمس عشرة آية، وقد عُدَّت في بعض العدد كالمدني الأول والمكي: ست عشرة آية.
                          وقد يقول قائل: هل إذا عُدَّت ست عشرة آية هناك آية زائدة؟
                          نقول: لا، ليس هناك زيادة في الآية، وإنما يختلفون في مقاطع الآيات.
                          فمثلًا في هذه السورة قال الله -عز وجل: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا﴾، قوله: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا﴾ جعلت آية، ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا﴾، صارت هي الآية الخامسة عشرة، ﴿وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾، صارت الآية السادسة عشرة.
                          أين نزلت سورة الشمس؟
                          لا شكَّ أن سورة الشمس من السور المكية، وعلى هذا عامة المفسرين.
                          موضوعها وافتتاحيتها ومضمونها؛ كل ذلك يدل على أنها سورة مكية، خصوصًا إذا علمْنا أن هذه السورة جاءت بالتهديد للمشركين لئلا يكون مصيرهم كمصير ثمود.
                          ولذلك نحن نقول: هذه السورة مكية بلا إشكال.
                          ما هو محور هذه السورة؟ مضمونها أو موضوعها الأساس؟
                          من العلماء مَن يقول: إن هذه السورة جاءت في تهديد المشركين، إما أن يُقيموا على طاعة الله -عز وجل- أو ينزل بهم ما نزَل بقوم ثمود.
                          ومنهم مَن قال: إنها جاءت للحثِّ على طاعة الله وتوحيده، والنهي عن معصية الله والشرك به، وذلك من قول الله -عز وجل: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾.
                          ويمكن أن يكون موضوعها: تزكية النفس؛ وذلك لأن القسَم في هذه السورة كان على تزكية النفس، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾، ومن زكَّى نفسه استحق الكرامة عند الله -سبحانه وتعالى-، ومن دسَّاها وأخفاها وأخملها بمعصية الله استحق العقوبة.
                          وجاءت الأقسام في السورة مبينةً هذا الأمر، فهي تُقسم بالشيئين المتضادين، الشمس والقمر، الليل والنهار، والسماء والأرض، فكذلك النفوس، منها مَن يتزكَّى، ومنها مَن يتدسَّى، فمن أيهما ستكون؟
                          ولذلك يأتي في سورة الليل ما يؤكد هذا المعنى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾، [الليل 1-4 ]، سعيكم مختلف.
                          ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل 5-10].
                          فجاءت هاتان السورتان كأنهما تبينان الاختلاف الواقع بين الخلق في طاعة الله -سبحانه وتعالى-، والأخذ بأسباب التزكية والفلاح والنجاح، وترك ذلك، وتدسية النفس وإخمالها بمعصية الله -سبحانه وتعالى.
                          فمن أيهما تريد؟ ليس هنا مكان للواقفين، وليس هناك موقع متوسط بين طريق اليمين وطريق الشمال، إما أن تكون من هؤلاء أو من هؤلاء، ولا طريق ثالث بينهما.
                          هذه السورة جاءت مناسبة لسورة البلد؛ لأن في سورة البلد ذكر الله -سبحانه تعالى- أو أقسم على أن الإنسان في كبد، وبيَّن أنه هداه النجدين، فإما أن يأخذ بطاعة الله -عز وجل- وهو أحد النجدين اللذين على الإنسان أن يأخذ بهما، فيُفلح ويُنجح ويكون من أهل اليمين، وإما أن يدع نفسه على ما هي عليه فلا يقتحم العقبة، فيدخل النار المؤصدة.
                          جاءت هذه السورة لتؤكد هذا المعنى أيضًا، فقد قال الله -عز وجل: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾.
                          هناك: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 10]، وهنا: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾.
                          وفي سورة الليل: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: 4- 10].
                          وتلاحظون أن هذه السور الثلاث كأنما هي دائرة واحدة يكمِّل بعضها بعضًا، والقرآن كله يدور حول هذه النفس وتزكيتها وتقويمها، والعلو بها إلى مدارج الكمال، وبيان الطرق الموصلة إلى الله -سبحانه وتعالى-، وتحذيرها من الطرق المخالفة الموصلة إلى عقاب الله -جل وعلا.
                          نبدأ هذه السورة بقول الله -عز وجل- وبقول الله -سبحانه وتعالى: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾، أقسم الله -عز وجل- في بداية هذه السورة بعدد من مخلوقاته، وأقسم بنفسه الكريمة، فالمُقسَم به في هذه السورة أحد عشر قسمًا، أو الأقسام في هذه السورة أحد عشر قسمًا.
                          قال الله -عز وجل: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا﴾ هذا الثالث، ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾، هذه أحد عشر قسمًا.
                          أين جواب القسم؟
                          أكثر العلماء على أنه في قول الله -عز وجل-: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾، وقالوا: إن اللام في جواب القسم أُسقطت لطول الفصل بين القسم والمقسم عليه.
                          وبعضهم قال: إن جواب القسم مقدَّر، أي: لتبعثن. ولا يظهر ذلك، فإن الظاهر ما عليه الجمهور من أن جواب القسم: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾.
                          طيب، نبدأ بالقسم الأول: ﴿وَالشَّمْسِ﴾، أقسم الله بآية عظيمة يراها كل الخلق في الغرب والشرق والشمال والجنوب، وكل الناس يعرفون هذه الآية العظيمة، وهي من أجلى آيات الله التي يشاهدها الخلق.
                          ونلاحظ أنه في القرآن يكون القسم بأشياء واضحة يتفق الناس عليها، وليس بأشياء خفية يختلفون فيها، وذلك لأن هذا القرآن ليس لأمة معينة، أو للعلماء، أو لطائفة محددة، بل هو للثقلين الإنس والجن.
                          قال: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾. ما معنى ﴿وَضُحَاهَا﴾؟ ما تقولون يا شباب؟
                          ﴿وَضُحَاهَا﴾؛ أي وقت الضحى؛ أي أول النهار. جميل.
                          ﴿وَضُحَاهَا﴾ أي ضوؤها.
                          قيل هذا؛ أي ﴿وَضُحَاهَا﴾ أي ضوؤها وشعاعها.
                          وقيل: ﴿وَضُحَاهَا﴾؛ أي النهار كله أو أول النهار.
                          والأظهر الذي ذكره الأخ، وهو ﴿وَضُحَاهَا﴾ بمعنى: ضوئها.
                          يعني: والشمس وضوئها الذي يكون منه الضحى. لماذا؟
                          لأننا إذا قلنا: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾ أي والنهار، لكان ذلك مُكررًا مع قوله: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا﴾.
                          فالظاهر أن قوله: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾؛ أي وضوئها الذي يشعُّ منها.
                          ثم قال: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا﴾؛ أي تبعها، فالقمر تابع للشمس، ومنه يستمد النور، فالقمر لولا الشمس ما ظهر منه شيء؛ لأنه يعكس نور الشمس، ولذلك هو تبعٌ للشمس.
                          قال: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا﴾، هل معنى قوله: ﴿جَلاَّهَا﴾ أي جلَّى الشمس؟ أو ﴿جَلاَّهَا﴾ أي: جلَّى شيئًا آخر لم يُذكر فيما تقدم؟
                          {المقصود ممكن يا شيخ -أحسن الله إليك- الأرض}.
                          لكن الأرض ما جاءت!
                          لو قال: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا﴾، يفترض أن تكون الأرض قد مرَّت حتى يعود الضمير على مذكور.
                          {تعود إلى الشمس}.
                          نعم، ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا﴾، جلَّى الشمس، لأن الضمائر هنا كلها تعود إلى ماذا؟ إلى الشمس.
                          قال: ﴿وَضُحَاهَا﴾؛ أي وضحى الشمس.
                          ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا﴾، تلا الشمس.
                          و﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا﴾؛ أي جلَّى الشمس وأوضحها. هذا قول.
                          وبعض أهل اللغة يقول: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا﴾؛ أي جلَّى الظلمة، وأنارها أو أزاحها.
                          قالوا: ويمكن أن يعود الضمير على غير مذكورٍ إذا كان معروفًا. واضح هذا؟
                          فإذا كان معروفًا مستقرًّا في الأذهان؛ يمكن أن يعود الضمير عليه للعلم به.
                          قال: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾، يغشى ماذا؟ يغشى الشمس؛ أي يغطيها بظلامه، والغشيان بمعنى التغطية.
                          قال: ﴿وَالسَّمَاءِ﴾، هذا قسمٌ أيضًا بالسماء، نلاحظ دائمًا هنا الإقسام يأتي بالشيء ونظيره أو ضده أو ما يقابله، الشمس يقابلها القمر، النهار يقابله الليل، السماء يقابلها الأرض، كأنه يقول: إن الكون مبني على هذه المزاوجة والمقابلة.
                          كذلك النفوس، ليست النفوس كلها على منهج واحد، بل مناهجها مختلفة، فإما أن تكون مع هؤلاء، وإما أن تكون مع هؤلاء.
                          ولذلك بعض الناس يضع -كما يدعي- منهجًا وسطًا، أنه ممكن يأخذ من هؤلاء وهؤلاء، ويرى أن هذا هو الوسط.
                          فنقول: لا، إما أن تسلكَ طريق هؤلاء، أو تسلك طريق هؤلاء، ولا مكان للوسط، ﴿لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ [المدثر: 37]. ولم يقل: يتوقف أو يتوسط.
                          وتسمية هذا التوقف، أو هذا الخير من الطريقين توسطًا ظلم وإجحاف.
                          لأنه لو واحد قال لك مثلًا: أنا سآخذ مالَك.
                          فقلت: ليس من حقك أن تأخذَ من مالي شيئًا.
                          فجاء آخرُ وقال: لا، أعطه من مالك شيئًا، لَمَا سُمِّيَ قوله وسطًا. أليس كذلك؟
                          مع العلم أنه يقول: لا، أنا أقول ليس بقولك ولا بقول هذا، فأنت بدل أنه طالب مئة ألف؛ أعطه عشرة آلاف وينتهي الموضوع. فلا يمكن أن يُسمى قوله وسطًا. لماذا؟
                          لأنه ما جاء بالحق، ولا جاء بالعدل، العدل أن يكون مالك لك، وألا يُؤخذ من مالك شيءٌ، فليس كل مَن جاء بكلام يرضي به أو كلام وسط في نظره يكون ذلك الكلام وسطًا حقيقيًّا أو خيارًا أو عدلًا، فالعدل الخيار هو الوسط، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ [البقرة: 143]؛ أي عدلًا خيارًا.
                          يعني لو قال إنسان: أنا أريد أشرب الخمر والدخان وكل شيء، وآخر قال: لا، لا نشرب شيئًا من ذلك؛ لأنها مما حرمه الله.
                          وجاء ثالث قال: لا، الخمر صحيح، لكنَّ الدخانَ لا بأسَ به.
                          فهل يُقال إن هذا هو المتوسط والعدل والإنسان الوسطي؟!
                          كما يُروَّج له أحيانًا عند بعض المغفَّلين -مع الأسف- أن الوسط عنده شيء ما يمكن يُعرف إلا بالذوق، الذوق الفاسد، فهو يريد أن يضع وسطية وهمية هو يرتضيها، وهذه الوسطية من عجائب الأمور أنه يقبلها في حق الله، لكن لا يقبلها في حق نفسه، لأنه لو جاء إنسان يتهمه بشيء، وجاء آخر يدافع عنه، هو لا يقبل أن يُتهم بذلك الأمر، ولا يقبل أن يقال فيه نصف التهمة أيضًا على أن هذا قولٌ وسط.
                          طيب، قال: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾، أقسم الله بالسماءِ، هذه القبة العظيمة والبناء الضخم العالي الذي نراه أضخم شيء في أعينِنا، ولكن ليس أكبر شيء في مخلوقات الله، لأن أكبر مخلوقات الله هو العرش، ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ [الحاقة: 17].
                          قال: ﴿وَمَا بَنَاهَا﴾، "ما" هنا ماذا تعني؟
                          {شيخ -أحسن الله إليك- لعلها تكون موصولة}.
                          والذي بناها.
                          {لعلها ذلك؛ أي نقول: والسماء والذي بناها}.
                          مَن هو الذي بناها؟
                          {هو الله -جل وعلا}.
                          إذن هذا قسَمٌ بالله -جل وعلا- هذا قول.
                          فـ "ما" هنا صالحة لأنْ تكونَ موصولةً كأنها بمعنى: والسماء ومَن بناها، والذي بناها، فيقسم الله بالسماء، ويقسم بمَن بناها وهو نفسه -جل وعلا- هذا قول.
                          القول الثاني: أن "ما" هنا يمكن أن تكون مصدرية، فيكون المعنى: والسماء وبنائها المحكم والعظيم والقوي والشديد، فيقسم الله بالسماء وبنائها.
                          وهذا أيضًا صحيح؛ لأن "ما" تصلح للدلالة على هذا وعلى هذا، ومتى صلحت للمعنيين من دون تضاد أمكن اجتماعهما، فإنه يمكن القول بهما. وهذا هو المذهب الصحيح في المشترك اللغوي، وهو أنه متى صحَّ حمل الآية على المعنيين من غير تضاد جاز تفسيرها بكلا المعنيين، فنقول: والسماء والذي بناها، وبنائها، أو: والسماء وبنائها، والذي بناها.
                          ولا مانع من ذلك، هل هناك شيء يمنع من أن يُقسم الله بنفسه أو يقسم بفعله وهو بناؤها، لا مانع من ذلك.
                          قال: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا﴾، أقسم بالأرض المقابلة للسماء، وهي هذا الكوكب الذي نحن نعيش عليه، جعله الله ممهدًا لنا، منه خلقنا، وفيه يُعيدنا.
                          قال: ﴿وَمَا طَحَاهَا﴾، ما معنى "وما" هنا؟ نفس الكلام أيضًا.
                          ﴿وَمَا طَحَاهَا﴾، يمكن أن تكون موصولة، فيكون المعنى هو الأرض ومَن طحاها؛ أي والذي طحاها، وهو الله -سبحانه وتعالى.
                          ويمكن أن يكون المعنى: والأرض وطحوها، يعني بسطها، فالله يقسم بالأرض ويقسم ببسطها، ويقسم بنفسه التي بسطت هذه الأرض.
                          فمعنى طحا: أي بسط.
                          قال: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾، أيضًا نفس الكلام السابق، أقسم الله بالنفس بعد أن أقسم بهذه الآيات العظيمة المتقابلة، الشمس والقمر والنهار والليل، السماء والأرض، أقسم بالنفس؛ ليبيِّن أن النفوس ليست شيئًا واحدًا، بل هي نفوس مختلفة.
                          وهذا المعنى جاء في البلد، وهي آية عظيمة جدًّا، بل هي من أعظم الآيات التي يستدل بها الإنسان على قدرة الله -سبحانه وتعالى.
                          قال: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ﴾، ثم قال بعدها: ﴿أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21]، فهي آية عظيمة لمن تبصَّر، والخلق الآن مع سعة علمهم وكثرة مكتشفاتهم، يقال: إنهم لم يكتشفوا من أسرار هذه النفس إلا ما يوازي واحد في المائة، هذا في ظنهم، وقد يكونوا لم يصلوا إلى هذا الواحد، لكن يطنون أنهم اكتشفوا الآن واحد في المئة من أسرار هذه النفس، فأسرارها عظيمة وعميقة وواسعة، لا تحدها الحدود، ولا تدركها العقول.
                          طيب، قال: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾؛ أي والذي سواها، وهو الله -سبحانه وتعالى.
                          أو: ونفسٍ وتسويتها، يقسم الله بالنفس وبفعله -سبحانه وتعالى-، يسقم بالنفس المخلوقة، وبفعله لها عندما سوَّاها وأوجدها وخلقها وكوَّنها، قال: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾.
                          ثم بيَّن أن الله جعل في هذه النفس شيئين متقابلين: الفجور والتقوى، وألهمها العلم بهما، فكل النفوس تعلم أصل الفجور وأصل التقوى، هذا معلوم لدى النفوس بالإلهام.
                          انظر الآن إلى نفس الإنسان هل هي تركن للصدق أو إلى الكذب؟ بغضِّ النظر عن كونه متديِّنًا، مسلمًا، يهوديًّا، نصرانيًّا، بوذيًّا؛ كل النفوس تحب الصدق وتأنف من الكذب، بل إنك لو جئت حتى إلى الكذاب نفسه وقلت له: يا كذاب، ماذا يفعل؟ يغضب.
                          هذا يدلك على أن الله وضع في النفوس معرفة الفجور من التقوى.
                          الظلم والعدل، كل النفوس تحب العدل وتهفو إليه، وتأنف من الظلم وتأباه، ولو كانت تمارسه، ولو قلت للظالم: يا ظالم، ممكن يضربك ويحاكمك ولو كان ظالمًا صريح الظلم. من أين هذا؟
                          طيب، خذ الشرك والتوحيد، الشرك والتوحيد واضحان في النفس البشرية، صحيح أن الإنسان يحاول تسويغ هذا الشرك ويُجلب بالأدلة والبراهين الوهمية على أن هذا الذي يشرك به يستحق العبادة؛ لكن النفس من داخلها تأبى ذلك.
                          تقول: كيف تعبد حجرًا؟ كيف تسجد لحجر أنت صنعته بنفسك؟ لا يمكن ذلك!
                          فمهما حاولت إيهام النفس بان هذا هو الحق؛ النفس من داخلها تأبى ذلك؛ لأن الله قد ألهمها فجورها وتقواها، قد جعل ذلك إلهامًا فيها، وهذه قضية -يا إخواني- مهمة جدًّا، وهو أن نعلم أن النفوس -وهذا من إقامة الله الحجة على العبد- قد جعل فيها ما تعرف به الحق من الباطل، كما قال: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 10]؛ أي بيَّنَّا له طريق الحق من الضلال.
                          وقال: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ [الإنسان: 2، 3].
                          قال: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾، الفجور هو الخروج عن الطاعة، والتقوى كون النفس مستقيمة على طاعة الله متقية لله خائفة منه، قائمة بأمره.
                          قال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾، بعدما بيَّن الله -سبحانه وتعالى- أن هذه النفس لما سوَّاها -سبحانه وتعالى- فجعل فيها فجورها وتقواها؛ بيَّن أن الذين يفلحون هم صِنفٌ واحد من البشر، مَن هم؟
                          هم أولئك الذين يزكون هذه النفس، فالنفس تعلم الحق من الضلال، تعلم الحق من الباطل، الإيمان من الكفر، ولكن هل تعمل بذلك؟ تختلف النفوس.
                          فمن النفوس مَن تترقى وتصعد وتزكي نفسها، ومن النفوس مَن تأبى، ترى الحق وترى الباطل وتدرك الفرق بينهما، ولكنها تأبى أن تعمل بشيء، فهذا هو الفرق، الفرقان العظيم بين هذه النفوس وهذه النفوس.
                          قال الله -عز وجل: ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾، الفلاح في العربية يطلق على إدراك المطلوب، ومنه الفلَّاح الذي يحرث الأرض ليدرك مقصوده منها بخروج الزرع والثمار وغير ذلك.
                          ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾، ما معنى ﴿زَكَّاهَا﴾؟
                          التزكية في اللغة تطلق على شيئين:
                          - على التطهير.
                          - وعلى النَّماء.
                          فقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾؛ أي طهرها، طهرها من ماذا؟ طهرها من الذنوب، طهرها من الشرك، طهرها من الأخلاق السافلة، طهرها من البدع، كل ذلك تحتاج النفس إلى تطهير منه.
                          وأيضًا نمَّاها؛ لأن الزكاة تطلق على النَّماء، قال: زكا الشيء أي نما، والزكاة التي هي الركن الثالث من أركان الإسلام مأخوذة من هذين، فهي تطهير للمال ونماء له، كذلك تزكية النفس.
                          ركناها العظيمان: لا تقوم تزكية النفس إلا على تطهير ونماء.
                          ولذلك بعض الطوائف المنتسبة للملة تقوم على التطهير، بمعنى أنها تشتغل على تخلية النفس من الأفكار والخواطر ومن الذنوب والمعاصي، لكنها لا تقوم في مقابل ذلك بتنمية هذه النفس وتزويدها بالإيمان والعمل الصالح، فالنفس لا تخلو، لا بد لها مما يشغلها ويملؤها، فأنت يكون لك دور في تصفيتها وتنظيفها وتبيضها من هذه الفواحش والظلمات وهذه الأفكار الباطلة، وهذا الشرك، وهذه البدعة، والنيات السيئة، ويكون مقابل ذلك أن تغذيها بالعمل الصلح، بالطاعة، بالذكر، بالتوحيد، بالإيمان، بالتعلق بالله -عز وجل- لكي تفلح، فالنفس لا تزكو إلا بهذين.
                          فإذن قلت: كيف يزكِّي الإنسان نفسه؟
                          نقول: يبدأ أولًا بقلبه، فأصل زكاة النفس تبدأ من القلب، ولذلك الإيمان محله الأول أين هو؟ القلب.
                          بعض الناس يأتي ليزكِّي نفسه لكنه يشتغل على الجوارح والبدن، نفترض أنه مثلًا كان يدخن أو يشر ب الخمر وينظر إلى النساء الأجنبيات عنه، أو ينظر إلى الحرام، ويترك الصلاة، فتجده يقطع هذه المعاصي ويلتزم بالصلاة، لكنه لا يلتفت إلى ما في قلبه من كبر، من حسد، من عُجب، من سوء ظن بالله أو ظن بخلقه، من رياء، من عجب، من سُمْعَة، من غير ذلك مما يحصل من الأعمال القلبية السيئة، فتجده بعد أيام يرتكس ويعود إلى ما كان عليه، السبب: أنه بدأ من الجوارح ولم يبدأ من القلب.
                          فالبداية الصحيحة لتزكية النفس تبدأ من القلب، بأن يعمل الإنسان بالأعمال القلبية التي تُنير الإيمان في قلبه، وتُقوِّي قلبه، فإذا قوي القلب واستقام، استقامت الجوارح تبعًا رُغمًا عنه كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
                          وعليه: التزكية لها ركنان:
                          - تخلية.
                          - وتحلية.
                          تطهير، ونماء. هذان ركنان.
                          طيب، في أي ميدان؟ في ميدان القلب، وميدان اللسان، وميدان الجوارح.
                          نبدأ بالقلب، ثم اللسان والجوارح، فإذا فعلنا ذلك حصَّلنا هذه التزكية.
                          وقوله: زكَّى، وتزكَّى، كلها أفعال تدل على الاعتمال والتكلف، ولذلك قال في سورة البلد قبل سورة الشمس: ﴿فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾ [البلد: 11]، فسمى أعمال الطاعة ماذا؟ عقبة. حُفَّت الجنة بالمكاره، لماذا؟ لأن الله -عز وجل- يبتلي العبد كيف تحصِّل هذا النعيم العظيم إلا بطريق محفوف بكثير من الأشياء التي تخالف هوى النفس، فأنت تحتاج إلى عمل وجدٍّ واجتهاد، وصيام، وقيام، وذكر، ومجاهدة للنفس على كل الأصعدة.
                          قال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ﴾؛ أي خسر. ﴿مَن دَسَّاهَا﴾، ما معنى ﴿دَسَّاهَا﴾؟
                          {معنى دساها: أخفاها}.
                          أخفاها، دساها أي أخفاها وأخملها. كيف تكون تدسية النفس؟
                          قالوا: بالمعاصي، فإذا عصى الله -سبحانه وتعالى- وترك الطاعات وترك التزكية فقد أخفى نفسه؛ لأن التزكية صعود، التزكية ارتفاع، والتدسية أن تدع نفسك على ما هي عليه، فأنت إذا تركتها على ما هي عليه ما نهيت النفس عن الهوى، فإنك تُخملها بذلك، فهي تسفُل وتنزل، هذه هي الحقيقة التي ينبغي لنا أن فنهمها في موضوع تزكية النفس وتدسيتها.
                          ثم ضرب الله لنا مثلًا بقول: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا﴾، هذا المثل هو أمة ثمود، لماذا اختيرت ثمود؟
                          أولًا: لأنها أمة تعرف العرب تاريخها، وترى العرب آثارها، وآثارها باقية شاهدة إلى اليوم يراها الناس قائمة ماثلة أمام أعينهم.
                          يقول الله -عز وجل: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ﴾، هذه الأمة التي تعرفون تاريخها وماذا صنع الله بها، والعرب يعرفون ماذا حصل لثمود، ماذا حلَّ بهم، من أين أتوا، ولا ينكرون ذلك، ويرون آثارهم ويمرون بديارهم، أفلا يعتبرون؟!
                          ثانيًا: لأن هذه الأمة واضح جدًّا، الذنب الذي وقعوا فيه بيِّن لكل ذي عينين، يسهل عرضه وضرب المثال به، ليس أمرًا خفيًّا، بل ولا طويلًا أو معقدًا، وليس فيه حجج ولا براهين، ولا ..، نبي جاء بآية من عند الله -عز وجل- وهي هذه الناقة التي خرجت من بطن الصخرة، ثم اشترط عليهم نبيهم أن يكون لها شربٌ ولهم شرب يومٍ معلوم، وقال لهم: لا تمسوها بسوء، فهم -والعياذ بالله عز وجل- استهانوا بأمر هذا النبي، وخالفوا ما اشترط عليهم، فكذبوه فعقروها، فأنزل الله -عز وجل- عليهم بأسه ونقمته وعذابه.
                          قال: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا﴾، ما معنى ﴿بِطَغْوَاهَا﴾؟ الباء ما معناها؟
                          {السببية}.
                          السببية؛ أي بسبب طغيانها، كذبت ثمود، المسبب لهذا التكذيب هو الطغيان، أمة طاغية، فما حملها على التكذيب أنها وجدت ما يؤكد لها هذا التكذيب أو يبرر لها هذا التكذيب، وإنما هو الطغيان، أمة تريد أن تفعل ما تشاء، لأنها قادرة وقوية وقد أعطاها الله بسطة في الأجسام وقدرة على فعل الأشياء، فظنت أنها بذلك لن يستطيعَ أحد أن يغلبها أو يتمكَّن منها، هذا هو الطغيان، تجاوز الحد، فإذا تجاوز الإنسان في نفسه حدَّه سُمي طاغيًا، كما يُقال: إذا تجاوز الماء الحد المعتاد، قال طغى الماء، ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَا المَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الجَارِيَةِ﴾ [الحاقة: 11]؛ أي زاد وتجاوز الحد المعهود.
                          قال: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا﴾؛ أي بسبب طغيانها، وسماه الله -عز وجل- في سورة الحاقة، قال: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾ [الحاقة: 5]؛ أي الصيحة المهولة التي نزلت عليهم، وحلت بديارهم، فأزهقت نفوسهم وقتلتهم شرَّ القِتلة.
                          قال: ﴿إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾، انبعث: أي خرج من بين هؤلاء أشقاهم، فهم كلهم أشقياء. لماذا كلهم أشقياء؟ لأنهم كانوا موافقين على الفِعلة، فهو لم يفعلها بأن استبدَّ بالفعل من بينهم وافتأت عليهم، بل فعل ذلك عن رأي منهم وإجماع منهم، حتى قيل إنه لم يفعل ذلك حتى أقرَّ له بذلك كلُّ صغير وكبير من قبيلة ثمود.
                          قال: ﴿انْبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾، والأشقى هذا عند عامة المفسرين يجتمعون على اسمه، وسبب الاجتماع على اسمه فيما يبدو أن العرب كانت تتوارث ذلك التاريخ وتعرفه، اسمه قُدار بن سالف، كل مَن ذكره من السلف ذكره بهذا الاسم -فيما رأيت.
                          قال: ﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ﴾، مَن هو رسول الله؟ محمد أم موسى؟
                          صالح، رسول الله هو صالح -عليه الصلاة والسلام- وهنا يُبيَّن لنا شيءٌ في علم التفسير اسمه الوجوه والنظائر، أن كلمة رسول الله تأتي في بعض السور أو في بعض المواطن بمعنى موسى، وتأتي في بعض المواطن بمعنى محمد، تأتي في بعض المواطن ويراد بها صالح أو هود أو غير ذلك من أنبياء الله -عليهم الصلاة والسلام-، هذا ما يسمى عند العلماء بماذا؟ بالوجوه والنظائر، كلمة يكون لها أصل أو دلالة في اللغة، لكن يختلف تطبيقه في المعنى في الموطن المحدد، أو في وجوهه المختلفة في القرآن.
                          ماذا قال في سورة المزمل؟ قال: ﴿فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾ [المزمل: 16]، هل عصى فرعونُ محمدًا؟ ما المراد بالرسول هنا؟ موسى الذي أرسل إليه، وهو موسى -عليه الصلاة والسلام.
                          هنا: ﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ﴾؛ أي المرسَل من عند الله، وهو صالح -عليه الصلاة والسلام.
                          ﴿نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا﴾، ما معنى ﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾؟ لماذا قال: "نَاقَةَ" ، ولم يقل: "ناقةُ"؟
                          {شيخ -أحسن الله إليك- لأنها مفعول بها، كأن مفهوم الآية يقول: دعوا أنتم ناقة الله}.
                          نعم، يسمى: منصوبًا على التحذير، يعني: احذروا ناقة الله. هذا ما يسمى النصب على الإغراء والتحذير، كما تقول: الصلاةَ الصلاةَ. ماذا تقصد؟ الإغراء، أخصُّ الصلاةَ وأحثُّ.
                          أما هنا فهي منصوبة على التحذير، يعني احذروا ناقة الله أن تمسوها بسوء، واحذروا سقياها؛ أي المكان الذي تستقي منه؛ لأنه اشترط عليهم أن يكون لها شربٌ ولهم شرب يوم معلوم، هكذا اشترط عليهم صالح -عليه الصلاة والسلام.
                          قال: ﴿نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ﴾، كذبوه فيما جاء به من أن لها يوم محدد، وأنهم إن مسوها بسوء نزل بهم عذاب؛ لأنه كان يقول: إن مسستموها نزل بكم عذاب الله، كذبوه في ذلك، فهم أصلًا لم يصدقوه في رسالته علمًا بأنه جاء بآية من أعظم الآيات بيِّنة، لا يمكن أن يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثلها، ولا يمكن لأحد أن يقدر عليها، لكن الله -سبحانه وتعالى- قد أجراها أمامهم لتكون آية لنبي الله صالح -عليه الصلاة والسلام.
                          قال: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا﴾؛ أي قتلوها.
                          قال: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم﴾؛ أي أنزل عليهم عذابًا مُدمدِمًا أي مستأصلًا، ما ترك فيهم نفسًا.
                          ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنْبِهِمْ﴾، لاحظوا معي -يا إخواني- قوله: ﴿بِذَنْبِهِمْ﴾، القرآن دائمًا يدلنا على سبب وقوع العذاب، وأن العذاب ما وقع اعتباطًا أو من غير أن يكون هناك أسباب أوقعت فيه، لنأخذ من ذلك العظة والعبرة، وهي أن هناك ذنوب تكون مسببة لما ينزل من العذاب.
                          قال: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنْبِهِمْ﴾، ولاحظ عندما جاء بكلمة "الرب"، هذا الرب الذي رحمهم وأعطاهم هذه الناقة التي كانت تسقيهم حليبها، وتعطيهم ما في بطنها من هذا الخير، هو الرب الذي يُدمدم عليهم، بأن نقمته بمَن عصاه وكفر بنعمته وكذب برسوله ستكون شديدة وبطشه شديد.
                          هذا الرب الذي أوجد هذه الآية الفائقة المهولة هو الذي يقدر على أن يوجد عذابًا -أيضًا- مهولًا عظيمًا.
                          قال: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا﴾، سوَّاها، لم يُبقِ فيها شيئًا.
                          قال: ﴿وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾، ﴿وَلاَ يَخَافُ﴾، اختلف هل هي عائدة على الله أو على الأشقى؟ والصحيح أنها عائدة على الله.
                          قال: ﴿وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾؛ أي لا يخاف الله عاقبة فعله، لأنه ما من أحدٍ يعاقِب عقوبة إلا ويخاف من عاقبة تلك العقوبة، يخاف أن تكبر المسألة، يخاف أن تكون هناك ردَّة فعل قوية جدًّا لم يُقدَّر لها قدرها، يخاف من تبعات تلك العقوبة، حتى ولو كان ملِكًا بطَّاشًا أو ظالمًا، فتَّاكًا أو قديرًا أو قويًّا؛ لا بد أن يخاف من العاقبة. من هو الوحيد الذي لا يخاف من عاقبة ما يفعله؟ الله -سبحانه وتعالى-؛ لأنه يعلم كل شيء وقادر على كل شيء، وبيده كل شيء.
                          ولذلك قال: ﴿وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾، لا يخاف العاقبة من العقوبة التي ينزلها بمَن طغى وأذنب وكذب برسوله -صلى الله عليه وسلم.
                          في قراءة ﴿فَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾، طيب، هل نقبل هذه القراءة علمًا بأنها غير موافقة لرسم الصحف؟
                          نعم القراءات المتواترة، ومن شروطها أن توافق رسم المصحف. فما جوابكم؟
                          السؤال: فيه قراءة: ﴿فَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾، طيب، نحن نعلم أن من شروط قبول القراءة الصحيحة ألا تخالف رسم المصحف، إذا قلت "فَلَا" خالفت رسم المصحف. فكيف صارت متواترة ومع ذلك خالفت رسم المصحف؟
                          مثل قوله: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [آل عمران: 133]، قراءة أخرى: "سَارِعُوا"، هذا مخالف لرسم المصحف. ما الجواب؟
                          الجواب: أن رسم المصحف جاء بهذا وبهذا، فعثمان -رضي الله تعالى عنه- رسم المصحف على نحوٍ تجتمع فيه القراءات، فإن لم يمكن اجتماع القراءتين، كتب في مصحف بحرف وفي مصحف آخر بحرف، فالذي في مصحفنا مكتوب ﴿وَلاَ يَخَافُ﴾، وفي بعض المصاحف -لأنه كتب عدة مصاحف، مصحف للمدينة، ومصحف لمكة، ومصحف للبصرة، ومصحف للشام- هذه المصاحف إذا كانت القراءة لا يمكن كتابتها على نحو تجتمع فيه مع القراءة الأخرى، فإنه يكتب أو يرسم الحرف في مصحفٍ على نحو، والحرف الآخر في المصحف الثاني لئلا يضيع من القرآن شيء. واضح؟
                          ولذل مثلًا تجد الشاميين يقرؤون "فَلَا" مثلًا، أنا لا أدري مَن هم الذين يقرؤون "فَلَا"، لكن تجد الشاميين يقرؤون "فَلَا"، لماذا؟
                          لأن المصحف الشامي مكتوب فيه ﴿فَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾.
                          وأنا نصصت على هذا من أجل أن يزول الإشكال، كيف نقر بهذه القراءة وهي مخالفة لرسم المصحف؟
                          لا، ليست مخالفة لرسم المصحف أصلًا، بل هي موافقة لرسم أحد المصاحف.
                          ننتقل بعد ذلك إلى سورة الليل.
                          تفضل..
                          {أحسن الله إليك، كثير من القراءات يختلف فيها الرسم، فهل عثمان -رضي الله عنه- جعل لكل قراءة مصحف؟}.
                          لا، ليس كثير من القراءات، كثير من القراءات تجتمع في الرسم، مثلًا: "ملِك"، و"مالك"، لا يختلفان في الرسم، لأنها كُتبت "ملك"، والقراءة التي فيها زيادة ألف وُضعت ألف صغيرة مشيرة إلى القراءة الأخرى، فكان عثمان يسلك هذا السبيل لكي يدل على القراءتين.
                          فإذا كانت القراءتان لا يمكن أن يجتمعا في رسم واحد، فإنه في هذه الحالة يلجأ إلى أن يكتب قراءة أو يرسمها في مصحف على نحو، وفي المصحف الآخر على نحوٍ آخر.
                          بقي أربع دقائق من هذه الحلقة لعلنا نأخذ مقدمات عن سورة الليل.
                          سورة الليل سورة مكيَّة على الصحيح، وتسمى سورة الليل، وفي بعض الكتب يقال: والليل إذا يغشى، وهذا ليس فرقًا بين الاسمين.
                          أين نزلت؟ في مكة، عند جمهور العلماء، ومَن قال في المدينة فهو قول غير صحيح، لماذا؟؛ لأن موضوع هذه السورة ومضمونها من مضمونات السور المكية؛ ولأنها من السور المكية المتقدمة في النزول؛ ولأن سبب نزول هذه السورة قصة أبي بكر عندما كان يشتري الأرقَّاء من الصحابة المضطهدين من أسيادهم المشركين ويعتقهم، فكان أبوه يقول: إني أراك تشتري هؤلاء الضعفاء من الأعبد، فلو أنك اشتريت الأقوياء ذوي الجد والنشاط والمال لكي ينفعوك.
                          فقال: دعني يا أبي فإني أريد ما أريده -أو كما قال رضي الله تعالى عنه.
                          فأنزل الله -عز وجل- في شأنه هذه الآيات التي ذكرها العلماء وأجمعوا عليها، وهي أن الآيات نزلت فيه.
                          في قوله -سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى * فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لاَ يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى﴾، الأتقى هو أبو بكر بإجماع المفسرين، كما ذكر ذلك بعض المفسرين، ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾.
                          فهذه السورة نازلة في أبي بكر، وهل هي خاصة به؟ ليست خاصة به؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فنحن نأخذ عموم الألفاظ ولو كانت الآيات نازلة على سبب خاص.
                          عدد آياتها كما تلاحظون هي عشرون آية بالإجماع -كما يقولون.
                          محور هذه السورة.
                          منهم مَن يقول: محور هذه السورة ذِكْرُ أسباب النجاة بأن يعطي الإنسان ويتقي ويصدِّق بالحسنى لييسر الله له اليسرى.
                          ومنهم مَن يقول: إن هذه السورة هي في البخل والإنفاق كما ورد ذلك عن ابن عباس، وهذا حقيقة جلي وظاهر من الآيات.
                          ومنهم مَن يقول: محور السورة في الفرق بين النفوس، فمن النفوس مَن هي نفوس معطية متقية مصدقة تؤمن بالخلف من الله -عز وجل-، ومن النفوس مَن هي نفوس بخيلة مستغنية عن الله وعن عباد الله، ومكذبة بالخلف من الله -سبحانه وتعالى- فهي لبيان الفرق بين النفوس، ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾، فمن الناس مَن يسعى هذا السعي، ومنهم مَن يسعى هذا السعي، والفرق بينهما شاسع.
                          وعلى كلٍّ تطمئن نفسي إلى أنها في الإنفاق والبخل؛ لأن قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى﴾، بدأ بالعطاء، ﴿وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ﴾؛ أي أمسك، بدأ بالبخل، ﴿وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾.
                          ثم ذكر بعد ذلك قصة أبي بكر وأنه كان يعطي العطاء لا يريد منه إلا وجه الله -سبحانه وتعالى-، قال: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى﴾، وقد أسلفنا قبل قليل المناسبة بينها وبين سورة الشمس والبلد، وقلنا: إن هذه السور الثلاث محورها يكاد يكون شيئًا واحدًا.
                          إلى هنا نصل إلى نهاية هذه الحلقة، اسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يبارك لي ولكم في القرآن العظيم، وأن يجعلنا جميعًا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
                          وإلى لقاء لنكمل سورة الليل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

                          تعليق


                          • #14
                            رد: تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري

                            السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
                            الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومَن والاه.
                            حيَّاكم الله في حلقة جديدة من حلقات هذا البرنامج المبارك، وهذه الدروس الطيبة النافعة في الأكاديمية الإسلامية المفتوحة.
                            أحييكم، وأحيي إخواني هؤلاء الذين حضروا معنا في الاستوديو لهذه المحاضرة، التي نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينفعنا وإياهم وإياكم بها.
                            وكنا بالأمس تحدثنا عن مقدمات سورة الليل، أو ما يسمى عند العلماء بـ"علوم السورة"، البحث عن نزولها، وهل هي مكية أو مدنية، عدد آياتها، محور السورة.
                            وكنا ذكرنا أن محور السورة يدور حول الإنفاق والبخل؛ لأنه ورد عن ابن عباس أنه قال: "نزلت سورة الليل في البخل والإنفاق"، أو كما قال -رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
                            وهذا ظاهر من آياتها، وبيِّنٌ في حديثها عن أهمية الإنفاق وأثره في سلوك الإنسان طريق الاستقامة.
                            ثم تحدثنا -أيضًا- عن اسم هذه السورة وقلنا إنها: سورة الليل، أو يقال: والليل إذا يغشى.
                            هذه السورة افتتحت بقول الله -عز وجل: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾، هذا قسم، ونلاحظ أن أكثر السور المكية تُفتتح بالقسَم، لماذا؟
                            لأنها تخاطب في الغالب قومًا منكرين، والمنكر يحتاج إلى ما يؤكد له الحقيقة التي تتلى عليه، بخلاف المقرّ والمعترف والمؤمن، فإن المؤمن قد لا يحتاج إلى أن يُقسم له، ولا إلى شيء من المؤكدات التي يقبل بها الخبر.
                            إذا كنت تحدث إنسانًا وهو لا يقرّ لك بالخبر، تقول: والله إن كذا وكذا قد وقع، أما إذا كنت تحدث إنسانًا وهو مقرٌّ لك بكل ما تتحدث به فإنك تخبره مباشرة من دون مؤكدٍ أو مؤكدات.
                            ولذلك نجد أنه في السور المكية تكثر المؤكدات، ومن أهمها القسم الذي هو أسلوب عربي معروف.
                            لكن يختلف القسم في القرآن عن القسم في كلام الناس، من أي جهة؟ مَن يعرف؟ يختلف القسم في القرآن عما هو عليه في كلام الناس. نعم.
                            {يختلف من حيث المُقسَم عليه}.
                            نعم، المقسم به.
                            {الله -عز وجل- يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوقات تُقسِم بالله -عز وجل}.
                            نعم، الله -عز وجل- له أن يقسم بما شاء من خلقه، ولذلك نجده يقسم بالليل، وبالنهار، وبالفجر، وبالليالي العشر، وبالبلد، ويقسم بالوالد وما ولد، وشاهد ومشهود، ويقسم بالتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين، له أن يقسم بما شاء من خلقه، ولا يقسم الله بشيء إلا لبيان إحدى أمرين:
                            - لبيان عظمته.
                            - أو منفعته.
                            وقد اجتمع هذا كما ذكر هذا الزركشي في البرهان، اجتمع في أول سورة التين عندما قال الله -عز وجل: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ﴾ [التين 1-3]، فأقسم بالتين وبالزيتون لبيان منفعتهم، وأقسم بطور سينين والبلد الأمين لبيان عظمتهما وأهميتهما ومكانتهما وما حصل فيهما من الخير والبركة العظيمة.
                            قال: ﴿وَاللَّيْلِ﴾، أقسم الله بالليل، هذه الآية العظيمة التي خلقها الله -عز وجل- لتكون محلًّا لسكون الخلق، ومحلًّا لهدوء العالم، وهذا الليل -يا إخواني- آية عظيمة من آيات الله، فالمؤمن يسكن فيه ويتخذه مجالًا ومطيَّة للقرب من ربه، بمناجاة الله، وتلاوة كلامه، والانطراح بين يديه، ومسألته -سبحانه وتعالى- والبكاء على الذنوب، والاستغفار بالأسحار.
                            قال: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾، يعني: إذا يغطي الكون بظلامه.
                            ثم قال: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾، هذه المقابلة بين الآيتين، أو بين النعمتين العظيمتين الليل والنهار، ليبيِّن أن هناك مقابلة بين نوعين من البشر، كما أسلفنا في سورة الشمس، وكما أسلفنا في سورة البلد، هناك الآن قسمة ستأتي إلينا بعد قليل.
                            ولذلك قال: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾، أي ظهر وبان واتضح. هذا قسمٌ ثانٍ.
                            ثم قال: ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى﴾، "ما" هذه في اللغة العربية تأتي بمعانٍ متعددة، لكن في هذا الموطن لها أكثر من معنى، مَن يعرف؟
                            إما أن تكون موصولة، ويكون المعنى: والذي خلق الذكر والأنثى. فيكون قسمًا بمَن؟
                            {بالله -جل وعلا}.
                            وإما أن تكون؟
                            {وبالذي}.
                            لا، النفس الموصولة.
                            {وبخلق الذكر والأنثى}.
                            نعم، تكون مصدرية، كما قلنا: ﴿وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ [الشمس 5، 6]، إما أن تكون موصولة أو تكون مصدرية.
                            قال: ﴿وَمَا خَلَقَ﴾، أي وخَلقِ الذكر والأنثى، إما أن يكون قسمًا بالله، أو بفعله وهو الخلق.
                            ومثل هذا الخلاف نحن نقبله، ونرى أن الآية تشمله؛ لأن المشترك عندنا يجوز حمله على معنييه إذا لم يكن بينهما تضاد.
                            والاشتراك عندنا قد يكون في الاسم، وقد يكون في الفعل، وقد يكون في الحرف، وقد يكون حتى في الأدوات، مثل هذه الأداة وهي "ما"، الأسماء الموصولة، أسماء الإشارة، وغيرها من الأدوات التي تستعمل في الكلام.
                            قال: ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى﴾، أي والله الذي خلق الذكر والأنثى، فهو يقسم بنفسه العلية، أي: وخَلقِ الذكر والأنثى.
                            طيب، لماذا ذكر الأنثى؟ لأن هناك تقابلًا، وسيأتي هذا التقابل بعد قليل بين صنفين قامت عليهما الدنيا، ولأجلهما بعثت الرسل، وأنزلت الكتب، وقام سوق الجنة والنار.
                            ولذلك قال هنا: ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى﴾، في قراءة يمكن تجدونها في صحيح البخاري في حديث أبي الدرداء، عندما جاءه أصحاب عبد الله بن مسعود، قال لهم: كيف يقرأ عبد الله بن مسعود سورة الليل؟
                            فقالوا: إنه يقرأها: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى)، قال: "والله ما أخذتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا كذلك، وإنهم يريدون منِّي أن أقرأها على غير ذلك".
                            فأبو الدرداء -رضي الله تعالى عنه- تلقَّاها من رسول الله كما تلقَّاها عبد الله بن مسعود عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتلك الصفة وهي: (وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى).
                            طيب، هل هذه القراءة صحيحة مع أنها في صحيح البخاري؟
                            نقول: هي صحيحة من حيث الإسناد، لكنها ليست مقبولة، لماذا؟
                            لأنها لا توافق رسم المصحف، فهذه القراءة كانت قبل العرضة الأخيرة، وعثمان لم يقرّ في المصاحف التي كتبت في عهده ووزعها على الأمصار إلا ما كان في العرضة الأخيرة، وهذا ما نازعه فيه بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- كعبد الله بن مسعود وأبو الدرداء ونحوهما من الصحابة الذين كانوا أهل علم وقرآن، ولكن الأمر بعد ذلك استقرَّ على ما كتبه عثمان، فعُدَّ ما سوى المكتوب في مصاحف عثمان شاذًّا لا يقبل على أنه قرآن وإن صحَّ إسناده.
                            ولذلك اشترط العلماء لقبول القراءة ماذا؟ صحة الإسناد وموافقة رسم المصحف، وموافقة العربي ولو بوجه.
                            قال: ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى﴾، ثم جاء المقسم عليه وهو قوله: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾، أي إن عملكم الذي تعملونه بجدٍّ، وتقبلون عليه، وتتأتون إليه وتنفذونه مختلف، لا يمكن أن يكون شيئًا واحدًا، كما يريد بعض الناس أن يقول: إن الناس كل واحد يعمل ما يشاء وفي النهاية الناس كلهم يذهبون إلى لا نهاية، أو إلى لا شيء، أو يذهبون والله -سبحانه وتعالى- يدخلهم جميعًا الجنة.
                            أنا أقول: لا، كلا والله، لا يسوي الله الحكيم العليم بين مَن أحسن ومَن أساء، بين مَن تصدَّق ومَن بخل، بين مَن آمن وكفر، بين مَن أقبل ومَن تولى، لا يمكن أن يستويَ الاثنان، ولذلك قال: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾، لمختلف، فسعي الناس مختلف.
                            وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث قال: «كل الناس يغدو»، يعني كل الناس يخرج في الصباح، أي في وقت الغدو، «فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»، ما هناك حل ثالث، إما أن تعتق نفسك بعملك، وإما أن توبق نفسك بعملك فتوردها النار وبئس القرار.
                            قال الله -عز وجل: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾.
                            ثم جاء إلى القسمة، فقال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾.
                            ﴿مَنْ أَعْطَى﴾، لاحظوا معي -يا إخواني- بدأ بالصنف الأول وهو: ﴿مَنْ أَعْطَى﴾، أعطى المال، وأعطى العلم، وأعطى من كل ما آتاه الله -سبحانه وتعالى- من نعمه شكرًا لله على ما امتنَّ به، حتى فعله للطاعات كإقامة الصلوات، والصيام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصح للخلق، والجهاد في سبيل الله؛ كله داخل في ﴿أَعْطَى﴾، لكنها تدل دلالة أولية على العطاء الذي هو بذل المال من أجل الله -عز وجل-، وتدل على ما سواه تبعًا.
                            ولذلك قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى﴾، لاحظوا -يا إخواني- إذا قُرِنَ بين أفعال تُؤتى وتُعمل وبين التقوى، فإن التقوى تدل على الجانب الآخر، وهو: ترك المحرمات.
                            فكأنه يقول: أعطى واتقى الله -سبحانه وتعالى- عندما أعطى، فلم يمنّ، ولم يؤذِ، ولم يراءِ، ولم يُعجبْ، اتقى الله -سبحانه وتعالى- في عطائه، فوضع عطاءه حيثُ أمره الله، لم يعطِ الخمَّارين، أو يعطِ الظالمين، أو يُعطِ الدَّاعين إلى الشرك؛ بل أعطى مَن يتقي الله بعطائه إياه، فتقوى الله تقارف الإنسان في كل شيء، في عطائه، في أخذه، في سكوته، في كلامه، في قيامه، في قعوده، في تعليمه، في بذله، في منعه، يتقي الله في كل شيء.
                            والتقوى: هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل الأوامر واجتناب النواهي.
                            قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾، قوله: ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾، ما معناه؟ أسمع منكم يا شباب. ما معنى "صدق بالحسنى"؟ تفضل.
                            {صدق بالآخرة}.
                            نعم، "صدق بالحسنى"، يمكن أن يكون المعنى ما ذكر الأخ حكمت، بمعنى: صدَّق بالجنة، وما يعطيه الله للمؤمنين في الآخرة. هذا قول.
                            القول الآخر للسلف: "صدق بالحسنى"، أي بـ"لا إله إلا الله".
                            القول الثالث: "صدق بالحسنى"، أي بالخلف من الله، يعني أن يُـخلف الله عليه إذا أعطى، فهو يعطي ويعلم أن الله -سبحانه وتعالى- سيخلف عليه إذا أنفق.
                            وهذا عقيدة عند المؤمن؛ لأنه يعلم أن الله -سبحانه وتعالى- قد وعد، ووعده حقٌّ وصدق لا يمكن أن يتخلف، من أنه إذا أنفق إنسان نفقة أخلفها الله عليه، ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ: 39]، فالله -سبحانه وتعالى- قد تكفل بالخلف، وتكفل بالنَّماء والزيادة، ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261].
                            إذن، "صدق بالحسنى"، أي صدق بالخلف من الله.
                            تلاحظون هذه الأقوال الثلاثة، وهي:
                            - صدق بـ "لا إله إلا الله".
                            - صدق بالجنة وما فيها من النعيم المقيم لمَن أعطى واتقى.
                            - صدق بالخلف من الله.
                            كلها من باب اختلاف التنوع، لكن أولاها وأحراها، أولاها بالسياق، وأقربها إلى مضمون السورة ومحورها هو: القول بأنها صدق بالخلف من الله، وهو يتضمن؛ لأن الذي يصدق بالخلف من الله لا شك أنه من أهل التوحيد، ولا شك أنه ممن يصدق بالجنة والآخرة، ما أحد يمكن يصدق بالخلف من الله وهو لا يؤمن بالجنة، ولا يؤمن بأن وراء الخلف من الله في الدنيا خلف من الله في الآخرة، أعظم من خلف الدنيا وهو جزاء الآخرة.
                            قال: ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾، ما جزاؤه يا ربنا؟
                            قال: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾، لاحظوا الجزاء العظيم من الله -سبحانه وتعالى-، هذا وعد كريم من الله، أن الله ييسرك لليسرى، ييسرك فتصبح حياتك سهلة وطيبة، ييسرك فتصبح طيب النفس، قنوعًا راضيًا بما عندك، لا تلهث لهاث أهل الدنيا الذين لا يشبعون منها، مثل الواحد منهم ﴿كَمَثَلِ الكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾ [الأعراف: 176]، ييسره لليسرى بأن تقضى حاجاته، ييسره لليسرى بألا تتعسَّر أموره، كلما ولج بابًا أو دخل دربًا أو أراد أمرًا فتيسرت أموره، وعد من الله.
                            ولذلك نجد المنفق ما يمكن -كما يقولون- أن يقع، وإذا وقع وجد متَّكأً، صانع المعروف يقولون: لا يقع، وإذا وقع وجد متَّكأ، لماذا؟ لأن الله ييسره لليسرى.
                            ومن أمثلة ذلك مثلًا في الواقع: أن تجد هذا الإنسان المنفق إذا ضاقت عليه الأمور وتكالبت عليه مثلًا الديون، فرَّج الله عنه من وجهٍ لا يتوقعه ولا يتصوره، وكم رأينا لهذه الصدقة من ثمرة عظيمة عاجلة لا تقع في حسبان امرئ أبدًا.
                            سأذكر لكم قصة مختصرة: هذا رجل كان يمر في أحد الشوارع، أو في إحدى الأزقة في إحدى المدن، فوجد رجلين يختلفان قد ارتفعت أصواتهما، فدعاه الفضول إلى أن ينظر ماذا عندهما، فسألهما، فقال أحدهما: هذا الرجل يسكن في بيتي ولم يؤدِّ الإيجار، وأنا أقول له: اخرج من البيت.
                            فقال للثاني: لماذا لا تعطيه الإيجار؟
                            قال: والله إني أقول له: خذ ما تيسر من الإيجار وأنظرني في الباقي، فإني والله لا أملكه.
                            فقال: كم عندك من الإيجار؟
                            قال: ألف وثلاثمائة ريال.
                            قال: وكم الباقي؟
                            قال: ألف ومائتين.
                            فقال هذا الرجل: عليَّ الألف ومائتان، ثم ذهب وأحضرها وسلمها لصاحب البيت، وبهذا اكتمل الإيجار، ثلاثة آلاف ريال.
                            قال: فذهبت إلى بيتي ونمت تلك الليلة، ولما أصبحت وصليت الفجر ورجعت إلى البيت وأردت أن أشرب قهوة الصباح، قبل أن أشرب الفنجان الأول طُرقَ الباب، فخرجت لأنظر ماذا عند الباب، فإذا واحد من أصحابي من أصحاب المكاتب العقارية، قال لي: يا فلان، اركب اركب، عندنا بيعة وأريدك تكثِّرني حتى نسوغ البيعة بين البائع والمشتري.
                            قلت: أركب، فركبت، فنزل إلى البائع وطرق عليه الباب وقال: أنت جازم على البيع؟
                            قال: نعم، ولكن بمليون لا تزيد ولا تنقص، خارج السعي.
                            فجاء إلى السيارة وركب وقال بالشركة: البائع رضي بالبيع.
                            ثم ذهب للمشتري، فنزل وطرق عليه الباب، قال ترى صاحبنا قد أقر أو يريد البيع بمليون، أنت موافق؟
                            قال: نعم.
                            وصاحبنا الذي أنفق البارحة نفقة لم ينزل من السيارة، فرجع وقال: قد أقرَّ يريد الشراء، وقد تواعدوا الساعة التاسعة في المحكمة ولا داعي لحضورك، ولكن هذا حظك من السعي، سعي المليون 2.5 بالمائة، يعني 25 ألف ريال، لك نصفها ولي نصفها، فأعطاه اثني عشر ألفًا وخمسمائة ريال.
                            انظروا -يا إخواني- في الليل أخرج ألفًا ومائتين، وفي الصباح وصل إليه من فضل الله ورحمته اثنا عشر ألفًا وخمسمائة ريال.
                            والآن القصص في هذا الباب كثيرة جدًّا، وفي كل يوم نسمع الكثير ونرى حتى في أنفسنا نحن مما يمنُّ الله -سبحانه وتعالى- به علينا عندما يُخرج الإنسان شيئًا من المال، العوض من الله -سبحانه وتعالى- والخلف قريب وعاجل، وكم وقع الإنسان في كربة وشدة، فإذا بالله -سبحانه وتعالى- يفرجها له وييسرها له من حيث لا يتوقع ولا يحتسب.
                            قال: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾.
                            ثم جاء إلى الصنف الثاني، لأن عندنا صنفين في القسم، ليلًا ونهارًا، وذكرًا وأنثى.
                            قال: ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى﴾، بخل: أي أمسك، البخل هو إمساك المال وعدم صرفه في وجوهه المشروعة، فكل من أمسك عن أمر مشروع من نفقة أو صدقة أو زكاة واجبة أو مستحبة، فإنه يدخل في دائرة البخل.
                            طبعًا مَن قصَّر في المستحب لا يسمَّى بخيلًا إذا كان مؤديًا للواجب، لكن لو قصَّر في الواجب والمستحب سُمِّي بخيلًا.
                            قال: ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى﴾، ما معنى ﴿وَاسْتَغْنَى﴾؟
                            يعني استغنى بما عنده من المال عن كل أحد، قال أنا عندي فلوسي، وآكل منها وأشرب، ما علي من أحد، وما أريد من أحد شيئًا، ورأى أن المال هو عدَّته وأنه هو مُتَّكَؤُه في الحياة، لا يعتمد على الله ولا على أحد من عباد الله، المال هو المتصرف، هو الإله، استغنى بهذا المال عن كل شيء واتَّكأ عليه.
                            قال: ﴿وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾، قال: أبدًا، تخرج منك فلوس لن ترجع، ليس من العقل أن أكسب مالًا ثم أضعه بيد هؤلاء الفقراء والمساكين، تذهب عليّ بعدما تعبت عليه وجلبته بالحيل وبالكدِّ؟ لا يمكن!
                            فهو يكذب بالحسنى، يكذب بالخلف من الله، يرى أن المال الذي يخرج لا عوض له، بخلاف المؤمن.
                            قال: ﴿وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾.
                            وهذا الخلاف في هذه الآية كالخلاف في الآية السابقة:
                            قيل: كذب بـ"لا إله إلا الله".
                            - وقيل: كذب بالجنة والدار الآخرة.
                            - وقيل: ﴿وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾ أي كذب بالخلف من الله.
                            ولا مانع من اجتماع هذه الأقوال، لكن أليقها بالسياق هو قوله: ﴿وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾، أي: بالخلف من الله -سبحانه وتعالى.
                            قال الله -عز وجل- ما جزاؤه؟ ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾، لاحظ: الله جزاء لهذا المكذب البخيل ييسره للعسرى، يدله على طريق الشر.
                            انظر إلى هؤلاء البخلاء، وفي مجتمعات المسلمين منهم -مع الأسف- الكثير، عندما يبخل عن الوجوه المشروعة، أين يذهب بماله؟ ليلة من الليالي تجده ينفق على عرس من عرس أولاده مليونين، ثلاثة ملايين، كان بإمكانه أن يجعلها عدَّة له إلى الجنة، كان بإمكانه أن يغني بها مائة بيت من بيوت المسلمين، كان بإمكانه أن يُزوِّج بها ألفًا من أبناء المسلمين، ذهب وصرفها على أطعمة وعلى موسيقى وعلى قصر أفراح، فذهب عليه مليون أو مليونان في ليلة واحدة!
                            بل إنك تجد منهم عجائب مما يُيسَّرون له من طريق الشر، تجد الواحد منهم يعمل أعمالًا مضحكة، يزوج قط على قطة بمائة ألف، وحصل هذا عندنا، نعم، رجل من الأثرياء الذين لا يُعرفون في الخير -مع الأسف- وجد قطًّا مع قطة، قطة قد اشتراها بثمن باهظ، فلما رأى هذا القط؛ أرادَ أن يزوجهم، فزوج القط، وهو والله لا يعلم عن هذه القطة ولا يعلم عن هذه القصة شيئًا، وكلَّف حفل العرس مائة ألف ريال. تصوروا يا إخوان؟!
                            من أين هذا؟ هذه عقوبة من الله، ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾.
                            كم رأينا وسمعْنا من التجارِ مَن يقال له: أنفقْ في هذا المسجدِ، فيتبرع بألف أو ألفين.
                            ثم يُقال: أنفقْ على هذه اللعبة، أو على هذا النادي، أو على هذه الحفلة، فيخرج مليونًا ومليونين بسخاء نفس!
                            ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾، وهذا الرجل تجد أن أمورَه تتعسرُ، تضيقُ نفسه، دائمًا يشعر بالكآبة، ودائمًا يحاول أن يوسع -كما يقال- صَدْرَه، فهو يذهب إلى كل ألوانِ اللهو من أجل أن يفرج عن نفسه فلا يستطيع.
                            ما السبب؟
                            لأنه لم يُفرجْ عن النفوسِ الضعيفةِ، لم يَبذلْ ذلك المال الذي ابتلاه الله -سبحانه وتعالى- به في وجوهه المشروعة، فابتلاه الله بأن عسَّر أموره، ضيَّق نفسه، جعله متكدِّر الخاطر، خبيث النفس، هذه عقوبة من الله -سبحانه وتعالى-، وإلا كيف تفسر إنسان عنده متاع الدنيا يستطيع أن يفعل ما يشاء، ومع ذلك يقول: أنا ضائق من بيتي، ضائق من بلدي، ضائق من عملي، ضائق من أولادي، ضائق من كل شيء، أريد شيئًا ينفِّس عني، ما سرُّ ذلك؟
                            سرُّ ذلك هذه الآية، فتأملوها يا عباد الله، ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾، كما تيسر على عباد الله وتنفق في سبيل الله، يوسع الله صدرك، وييسر أمرك، ويقنِّعك بما آتاك، ويفتح لك أبواب الخير، فأنت تدخل من بابٍ إلى باب أجمل منه وأجل.
                            أما ذاك يخرج من باب شرٍّ إلى باب أشر منه وأعظم.
                            قال: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾، إلى أن يصل إلى العسرى العظيمة وهي النار، وبئس القرار.
                            ثم قال: ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾، لاحظوا: عندي هنا "ما"، دعونا نلاحظها يا شباب.
                            "ما" هذه تأتي بمعانٍ كثيرة، تكون نافية، وتكون موصولة، وتكون استفهامية، وتكون شرطية، تكون مشتركة، هذه "ما" لها دلالات مختلفة.
                            في هذه الآية سنلاحظ هذه الدلالات، قال: ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾، "ما" يمكن أن تكون هنا استفهامية، يعني: أي شيء يغني عنه ماله إذا تردَّى؟ أي إذا تردَّى في نار جهنم ماذا يغني عنه هذا المال إذا كُبَّ على وجهه في النار؟ أي شيء؟ فإنَّ "ما" هنا استفهامية.
                            ويمكن أن تكون "ما" نافية بمعنى: لا يغني عنه ماله إذا تردى، وقد مرَّ بنا مثل هذه الـ "ما" في قوله -سبحانه وتعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى﴾ [عبس 1-7]، "ما" هناك تأتي بهذين المعنيين، ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى﴾، يعني: أي شيء عليك إذا لم يتزكَّ، فصارت استفهامية.
                            أو تكون نافية: ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى﴾، أي ليس عليك شيء إذا لم يتزكّ هذا الذي أنت تدعوه.
                            طيب، قال: ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾، لا يغني عنه ماله شيئًا، سواءٌ قلنا: ﴿تَرَدَّى﴾ أي ترد في نار جهنم، وهذا هو الأظهر.
                            أو قلنا: ﴿تَرَدَّى﴾، بمعنى: هلك.
                            فالأمر سيَّان، هل إذا حضره الموت وجاءه ملك الموت يُغني عنه مالُه شيئًا؟ لا يغني عنه شيئًا.
                            ننتقل بعد ذلك إلى المقطع الذي يليه.
                            قال الله -عز وجل: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾، أي إن علينا أن نبيِّن لكم الهدى، وندلكم على طريق الخير حتى تسلكوه، ونبيِّنه البيان الشافي الكافي، كما قال الله -عز وجل: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ [الإنسان: 3]، ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 10].
                            وإما أن يكون بمعنى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾، أي إن سبيل الهدى موصل إلينا، كما قال الله في سورة النحل: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ﴾ [النحل: 9]، فسبيل الهدى وسلوك الطريق الصحيح موصلٌ إلينا ولا بد.
                            قال الله -عز وجل: ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى﴾، بيَّن أن الهدى عليه، وبيَّن -أيضًا- أن الآخرة والأولى له، فهو مالِكهما وبيده أمرهما، فمَن تقصدون يا عباد الله؟ وإلى مَن تتوجهون؟ لن تجدوا أحدًا غير الله، فاقصدوه وعظِّموه، واعلموا أن كل شيء بأيديكم هو منه وحده وليس من أحد غيره.
                            قال: ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى﴾، أي حذرتكم نارًا تلظَّى إذا لم تعطوا وتتقوا وتصدقوا بالحسنى، إذا بخلتم واستغنيتم وكذبتم بالحسنى، فإني أحذركم من نارٍ تلظَّى.
                            ومعنى ﴿تَلَظَّى﴾، أي: تتلهب وتشتعل بشدة.
                            وقوله: ﴿تَلَظَّى﴾، أصله: تتلظَّى، أي تتلهب، لكن حذفت التاء الأولى تخفيفًا، كما قال في سورة عبس: ﴿فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى﴾ [عبس: 6]، أي تتصدى، هذا الحذف يكون للتخفيف.
                            وقوله: ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى﴾، هذا التنكيل -كما يقول العلماء- للتعظيم، نارًا وأيُّ نار، إنها نار عظيمة.
                            قال: ﴿لاَ يَصْلاهَا﴾، أي لا يدخلها، ويقاسي حرَّها ويُشوَى بها ويُصلى بها ﴿إِلاَّ الأَشْقَى﴾، الذي بلغ الغاية في الشقاء، فكذب وتولى واستغنى وبخل ولم يصدق بالخلف من الله -سبحانه وتعالى.
                            ﴿الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾، كذب بالعقائد والأخبار، ﴿وَتَوَلَّى﴾، أعرض عن الإيمان والطاعة.
                            جمع هذين الأمرين، فهذا هو الذي يُصلى بالنار التي تتلظى.
                            ثم بيَّن مَن يتجنب النار، قال الله -عز وجل: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى﴾، الأتقى هو الذي يجنب هذه النار، بمعنى أن يكون في جانب وهي في جانب، بعيدًا عنها، ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا من تفسير هذه الآية، قال: «اتقوا النارَ ولو بشقِّ تمرة»، وقال: «المرء في ظلِّ صدقتِه يومَ القيامة».
                            قال: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى﴾، الذي اتقى الله حق التقوى، فأعطى واتقى وصدق بالحسنى.
                            ﴿الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾، المفسرون يذكرون أن هذا نزل في حق أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- وهذا ذكره عامة المفسرين حتى حكاه بعضهم إجماعًا، وقالوا: إنها نزلت في أبي بكر عندما كان يُعتق الصحابة الأرقاء من أسيادهم المشركين الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب، يفتديهم بذلك، ثم يحررهم لوجه الله.
                            ولا شك أن في الظاهر أن مال أبي بكر بهذه الطريقة يضيع، هكذا ينظر إليه مَن لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولكنه كان يفعل ذلك لوجه الله، لا يريد من أحدٍ جزاءً ولا شكورًا.
                            وكان أبوه يقول له: يا بني، إن أعتقت أحدًا فأعتق الجلْد القويَّ صاحب المال حتى ينفعك، ولا تنظر أو تذهب إلى الضعيف الفقير فتعتقه؛ لأنه لن ينفعك ولن يغني عنك شيئًا.
                            فيقول له أبو بكر -رضي الله عنه: "إني أريد ما أريد"، يعني أريد وجه الله.
                            ولا يريد لا جزاءً ولا شكورًا، ولا شيئًا من حطام هذه الدنيا العاجلة، فجمع الله -عز وجل- له بين عز الدنيا وعز الآخرة، فهو خير أمم الأرض كلها بعد الأنبياء، خير من طلعت عليه الشمس بعد الأنبياء هو هذا الرجل: أبو بكر الصديق.
                            فإن قلت: هذه الآيات ألفاظها لا تخص أبا بكر.
                            قلنا: نعم، هي نزلت في أبي بكر -كما ذكر المفسرون رحمهم الله تعالى، وحكاه بعضهم إجماعًا- لكن ألفاظها عامة.
                            وعليه: فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، يعني متى اختلف عندنا اللفظ والسبب، أخذنا بعموم اللفظ.
                            فنقول: كل مَن سلك سبيلًا أو أخذ بألفاظ هذه الآية؛ فإنه داخل في معناها.
                            قال: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾، أي يطلب تزكية نفسه وطهارتها، يطلب ما عند الله، لا يريد بذلك سُمعة ولا جاهًا ولا منزلةً، ولا عَرَضًا من أعراضِ الدنيا، ولا يُريد ذلك إلا أن يُطهر نفسه.
                            وقد لفتَ السعديُّ أنظارنا إلى شيء عجيب، قال: وعليه؛ فمن تصدق بصدقة وعليه دين واجب يجب قضاؤه، فإنه لا يدخل في هذه الآية، لماذا؟
                            قال: لأنه ما تزكى بإيتائه المال وصدقته به، كيف تتصدق بصدقة وعندك دين واجب عليك، يجب أن تؤديه، حالٌّ في ذمتك، واجب أداؤه، وأداء الواجب مُقدَّم على التطوع بالصدقة. فلماذا تفعل ذلك؟ هنا يفقد الإنسان هذا المعنى الجميل في هذه الآية وهو قوله: ﴿الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾، يطلب زكاة نفسه.
                            أنت لا تطلب زكاة نفسك بأداء مستحبٍّ وترْك واجب، كيف يكون هذا؟!
                            إنما تطلب زكاة نفسك إذا أدَّيت الواجب، ثم زدتَ عليه بأن أدَّيت المستحب، ولذلك نحن نحذر إخواننا تحذيرًا بالغًا من أن يقوم الإنسان بالصدقة من المال وبالإنفاق في وجوه البر وعليه ديون مستحقَّة للناس، أو عليه نفقات واجبة، نفقة لأولاده، لزوجته، لوالديه قد أهملها وتركها وهو يتصدق!
                            كم جاءني من أناس مع كل أسف- يريد يتصدق في بناء مسجد أو في حفر بئر أو في كفالة داعية أو في كفالة يتيم، وفي الوقت ذاته تجده مقصر في حق أهله، أو في قضاء دينه، أو في أداء واجب قد وجب عليه.
                            مثل هذه الصدقة ليست محبوبة عند الله، بل الذي ينبغي للإنسان لو أنه تصدَّق بالفعل، يعني قال: سأتصدق بهذه المائة ريال، وعليه دين، له في هذه الحالة أن يتراجع عن الصدقة ويسدد بها الدين؛ لأن قضاء الدين مقدمٌ على الصدقة.
                            قال: ﴿وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى﴾، هذا الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى، ليس لأحد عنده من نعمة يجزيه بها، يعني ليس لأحد فضل عليه حتى يكافئه بأن يعطيه شيئًا من المال، وإنما هو صاحب الفضل ولا يأخذ من الناس شيئًا، فهو يستغني عن الناس ويغنيهم، لا يمد يده إليهم ويعطيهم، هذا هو الفخر وهذا هو الفضل.
                            قال: ﴿وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى﴾، يعني لم يتصدق على أحدٍ؛ لأنه في يوم من الأيام وقف معه؛ لأنه في يوم من الأيام أكرمه؛ لأنه في يومٍ من الأيام أطْعمه أو أعْطاه أو أقْرضه.
                            قال: ﴿إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى﴾، لا يحمله على ما يحمله من الصدقة والإنفاق إلا طلب وجه الله -عز وجل- ومرضاته، ﴿إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى﴾، الذي له العلو في ذاته وفي أسمائه وصفاته، علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات.
                            قال: ﴿وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾، هذا قسَم من الله -سبحانه وتعالى- بأنه لا بد أن يُرضي هذا العبد، يرضيه سواء في الدنيا أو كان ذلك في الآخرة.
                            ﴿وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾، واللام هنا كما يقول العلماء: موطئة للقسَم ، أي: والله لسوف يرضى.
                            ولما جاء هنا القسَم على رضى أحد أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- جاء القسَم في سورة الضحى على رضى محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى: 1-5]، إذا كان أبو بكر قيل له: ﴿وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾، أحقُّ بها منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك جمع الله له فقال: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى: 5].
                            ننتقل بعد ذلك إلى سورة الضحى.
                            {شيخ، أقول: أحسن الله إليك، بالنسبة لصاحب الدين إذا كان دينه يطول لسنين، فهل يبقى كل هذه المدة لا يتصدق ولا يجود بالقليل؟}.
                            نعم، الواجب مقدَّم على الصدقة، وهذا ما يقع فيه -مع الأسف- كثير من الناس، يظن أنه بالصدقة بتقرب إلى الله، لا، أهم شيء تتقرب به أداء الواجبات، «وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل»، النوافل متى؟ بعد الفرائض والواجبات.
                            لكن أحيانًا يكون الدين كبير والصدقة يسيرة لا تكاد تذكر، لقمة أو خبزة أو ريال، أو شيء من هذا القبيل الذي لا يؤثر في الدين، فهذا يُتسامح فيه، لكن الأجدر بالإنسان متى كان عليه شيء واجب أن يبادر إلى أداء ذلك الواجب، ولا يتأخر فيه، لأنها تتعلق بها حقوق الآخرين. نعم..
                            قال الله -عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾.
                            أولًا: هذه السورة تسمى سورة الضحى، أو والضحى.
                            أين نزلت؟
                            هي مكية، وسبب نزولها يدلُّ على ذلك.
                            وأما عدد آياتها: فكما تشاهدون إحدى عشرة آية.
                            وأما محورها: فهي ذكر نعم الله -سبحانه وتعالى- على رسوله، ولكن هي في النعم الظاهرة المحسوسة البيِّنة، وليست في النِّعم المعنويَّة كما في سورة الشرح، فسورة الشرح في النعم المعنويَّة، وسورة الضحى في النعم الظاهرة المادية.
                            وأما مناسبتها: فقد ظهر لنا مناسبتها بسورة الليل، فسورة الليل في ذكر فضيلة مَن أعطى واتقى وعلى رأس هؤلاء الذين أعطوا واتقوا أبو بكر -رضي الله تعالى عنه-، وهذه في ذكر مَن علمه ذلك السبيل، ودلَّه على هذا الطريقِ، خير البرية وأزكى البشرية، سيد ولد آدم، محمد -صلى الله عليه وسلم.
                            وهذه السورة يذكرُ العلماء لها سببَ نزول، وهي أن الوحي تلبَّث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلتين أو ثلاثة، فجاءته امرأة يقال إنها أم جميل وهي زوج أبي لهب، جاءت إليه وقالت: إني أرى شيطانك قد قلاك -تعني بذلك جبريل لم ينزل عليه ليلتين أو ثلاثة.
                            فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لشدة محبته لربه ومحبته لجبريل ومحبته لهذا الوحي أن ينزل عليه ويؤانسه، أضرت به هذه الكلمة، وتأثر بها، ربي يَقليني، يُبغضني، جبريل لا يأتيني، الوحي لا ينزل عليَّ.
                            تعرفون الحبيب لا يريد أن يُكدَّر بينه وبين مَن يحب بأي شيء.
                            فأنزل الله -عز وجل- عليه مطمئنًا، اطمئن يا محمد، فأنت بالمحل الأعلى من ربك، وأنت بالمكان الرَّضي، فلا يقع في قلبك شيء من الخوف أن يكون هناك انقطاع بينك وبين الله، ولذلك نزلت بقوله: ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ﴾، أي: ما تركك ربك، ﴿وَمَا قَلَى﴾، أي ما قلاك ولا أبغضك.
                            ولاحظوا عندما جاء إلى ﴿وَمَا قَلَى﴾، لم يقل: وما قلاك، لماذا؟
                            لأن اللفظ قد يكون شديدًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ﴿وَمَا قَلَى﴾، ليبين أنه لا يُمكن أن يُخاطب -عليه الصلاة والسلام- بقوله: وما قلاك.
                            قال: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾.
                            طيب، أقسَم الله بأمرين، قال: ﴿وَالضُّحَى﴾، يُراد بالضحى: أول النهار، وهو الضحى المعروف.
                            وقال بعضهم: يُراد بالضحى: النهار كله.
                            ولا شك أنها على الأول أدل، لكنها من لازمها الثاني، وهو النهار كله.
                            ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾، أي: إذا سكن، أو أقبل بظلامه.
                            وقد جاء عن ابن عباس أنه فسرها بقوله: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ أي ذهب. وهو تفسير غريب، بل الأقرب أن يكون ﴿سَجَى﴾ بمعنى: أقبل بظلامه وغطَّى الكون بالظلام وسكن، يقال: ليل ساجٍ، أي: ساكن.
                            قال: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ﴾، ولاحظ هنا: أضاف الرب إليه، وهذه خصوصية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن الربوبية قد تكون ربوبية عامة، رب الناس، وقد تكون ربوبية خاصة، مثل قوله: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ﴾، الذي يربيك ويختصك وينعم عليك.
                            ﴿وَمَا قَلَى﴾، أي: وما أبغض.
                            ﴿وَلَلآخِرَةُ﴾، هذا قسَم ثانٍ، والله، لَلآخرة خير لك يا محمد من الأولى، فكل ما أعطيته في الأولى من النبوة، من الفتح، من الانتصار، من التمكن من الأعداء، من البسطة في الملك والرزق، كل ذلك ما سيكون لك في الآخرة خير لك مما في الدنيا.
                            وقد ورد عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سيكون له في الجنة ألف ألف قصر، أي مليون، في كل واحد منها ما تحتاجه من الخدم والحشم وغير ذلك.
                            قال: ﴿وَلَسَوْفَ﴾، قسَم رابع، هنا قسَم، وهنا قسَم، وهنا قسَم ﴿وَلَلآخِرَةُ﴾، وهنا قسَم، كل هذه لتسكين هذا القلب المحب الواله، الذي لا يريد أن يكدَّر محبته بشيء.
                            قال: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾، يعطيك عطاءً واسعًا في الدنيا وفي الآخرة.
                            أما عطاؤه في الدنيا: فقد أنعم الله عليه بانتشار دينه، وانتصار جنده، وتمكنه من أعدائه، وحصول الخير العظيم بسببه، فقد رأى هو بنفسه -عليه الصلاة والسلام- كيف أن الله فتح له الفتوح، وأذل له الجبابرة.
                            قال: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾، وهذه الآية يقول بعض العلماء أنها من أرجى آيات القرآن؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد وعده ربه أن يعطيه عطاءً فيرضى، ومن أعظم الأشياء التي كانت تهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتشغل باله: نجاة أمته.
                            ولذلك كان -عليه الصلاة والسلام- يقول: «أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟»، فكبَّر الصحابة.
                            قال: «أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟»، فكبَّر الصحابة.
                            قال: «أما ترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟»، فكبَّر الصحابة.
                            فالنبي -صلى الله عليه وسلم- مهتم جدًّا بنجاتنا، ومهتم جدًّا بأن ندخل معه الجنة، وأن نشرب من حوضه الشريف شربة لا نظمأ بعدها أبدًا -نسأل الله الكريم من فضله.
                            قال مذكرًا إياه، يعني كيف تتوقع أن يقلاك ربك وأن يدعك، وأن يهجرك ويبغضك، كيف تتوقع ذلك وهو قبل ذلك قد سبقت له عليك نعم، وهذه النعم بدأت معك من بدايتك من أول نشأتك، قال: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى﴾، هذا يقول العلماء: استفهام تقريري، ألم يجدك يتيمًا قد فقدت ليس أباك وحده؛ بل أباك وأمك، ثم تبعهما جدك.
                            قال: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى﴾، أي آواك.
                            ﴿وَوَجَدَكَ ضَالاًّ﴾، كلمة ﴿ضَالاًّ﴾ اختلف الناس فيها:
                            قيل: ﴿ضَالاًّ﴾، أي تائهًا في شِعاب مكة.
                            والصحيح أن الضلال بمعنى: عدم العلم بهذا الخير وهذا الوحي وهذه النبوة، يأتي في القرآن بهذا المعنى، كما قال الله -عز وجل- في آخر سورة الشورى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ [الشورى: 52]، فالضلال جاء لهذا المعنى، أي غير عالمٍ بهذا الوحي، ولا عارفٍ به فعرفك الله إياه.
                            ﴿فَهَدَى﴾، أي فهداك.
                            ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلاً﴾، أي فقيرًا ذا عيال، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عنده عيال، كان فقيرًا معدمًا.
                            ﴿فَأَغْنَى﴾، أي أغناك، وسع عليك.
                            ثم لما بيَّن له هذه النعم كيف أن الله أحاطه بها؛ بيَّن له كيف يشكره.
                            شكرها كالتالي:
                            ﴿فَأَمَّا اليَتِيمَ﴾ يا محمد، ﴿فَلاَ تَقْهَرْ﴾، لا تقهره بأن تأخذ ما معه، بل أكرمه، وأعنه، ويسر عليه، واكفله، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين».
                            ﴿فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ﴾، السائل من هو؟
                            - إما أن يكون السائل الفقير الذي يسأل، وهذه تُقابل: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾.
                            - وإما أن تكون السائل المستفتي طالب العلم، فتكون مقابل قوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى﴾.
                            فصارت هذه الآية في مقابل آيتين ذكرت فيها نعمتان، وهذه الآية ﴿فَأَمَّا اليَتِيمَ﴾ في مقابل قوله: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى﴾.
                            ثم ختم السورة بقوله: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾.
                            معنى الآية: وأما بنعم ربك فحدِّث، نِعم الله التي أنعم بها عليك، و"نعمة" اسم جنس، وقد أضيف، وهذه صيغة من صيغ العموم، أي نعم ربك فحدث.
                            كلمة "حدث" تدل على أنك تحدث بها نفسك، وتحدث بها غيرك، فتقول: أنا أنعم الله عليَّ.
                            كيف حالك يا فلان؟ الحمد لله، أنا في خير وعافية.
                            لكن ما تقول: أنا زفت، أنا مسكين، أنا محطم، أنا... إلى آخره؛ بل تحدَّث بنعم الله عليك، لكن هل تحدِّث بها الحاسد والحاقد؟ لا، لا تحدث بها إلا مَن تعلم أنه يُضمر لك الخير.
                            أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعينني وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
                            وإلى لقاء في درس قادم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

                            تعليق


                            • #15
                              رد: تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري

                              السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
                              الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وصحبه ومن والاه.
                              حيَّاكم الله مشاهدي الكرام، وحيَّى الله الإخوة الحضور في هذه القاعة المباركة في الأكاديمية الإسلامية المفتوحة.
                              معنا اليوم في درس من دروس التفسير ثلاث سور، السورة الأولى سورة الشرح، والثانية سورة التين، والثالثة سورة العلق، وكل سورة من هذه السور تستحق أن نقف معها في درس كامل، ولكن مراعاة للوقت وللزمان المتاح لهذه المادة ؛ فإننا من الآن سنقرن السور إلى نهاية هذا الجزء المبارك، وختام هذا القرآن العظيم.
                              اليوم نبدأ بسورة الشرح.
                              وسورة الشرح تُسمى: سورة الشرح، وألم نشرح، وألم نشرح لك صدرك، وكلها في هذا المضمار.
                              وتُسمى أيضًا سورة الانشراح، وكلها أيضًا في نفس المعنى، فليس بينها خلاف إلا في الحروف، يعني كثرةً وقلةً، بعضهم يأخذ حروفَ الآية، وبعضهم يأخذ معنى الحروف، فيقول: الانشراح أو الشرح.
                              هذه السورة -في المعنى- تتمةٌ لسورة الضحى، فسورة الضحى في ذِكر نِعم الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن بعض المشركين قال له: إن ربك قد قلاك، فأنكر الله ذلك، وبين أنه يحبه، وأنه يكرمه، وأقسم على أنه سيكرمه كرامة لم يكرمها أحدًا من عباده، ثم استدل على ذلك بذكر النعم، فقال: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾ [الضحى: 6-8]، ثم بين له سبيل الشكر لتلك النِّعم التي أنعم به عليه.
                              في هذه السورة تتمة لهذه النِّعم، فكأنه يقول: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾، ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾.
                              ولذلك ذكر بعض السلف أنهما سورة واحدة، والصحيح أنهما سورتان، وسورة الضحى جاءت بذكر النعم الحسية الظاهرة، وسورة الشرح جاءت بذكر النعم المعنوية على رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
                              وفي سورة الضحى يُبين له كيف يَشكر تلك النِّعم الحسية، وفي سورة الشرح يُبين له كيف يشكر هذه النعم المعنوية عليه -عليه الصلاة والسلام- وعلى من حصل له مثل ذلك، وأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- تقبس من النعم بقَدْر قُربها من نبيها -صلى الله عليه وسلم.
                              ففي هذه السورة يقول لله -عز وجل: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً﴾، هذا مثل قوله: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾[الضحى: 3]؛ وذلك لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أصابته مشقة عظيمة في تبليغ هذه الدين، فالله -عز وجل- يقول: اصبر يا محمد، اصبر؛ فإني معك، وإن كل عسر ينزل بك معه يسر، بل معه يسران، ثم يرشده إلى طريق الوصول إلى ذلك اليسر، وإلى طريق النصر، وإلى طريقِ الشكر، ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾.
                              وبهذا نعرف -يا إخواني- أن هذه السورة سورة مكية؛ لأنها جاءت تتصل برسول الله، فيها تثبيت له على هذه الدعوة العظيمة، وتصبير له على هذا البلاء الذي يناله والمشقة التي تصيبه، ولا خلاف في هذا ولله الحمد والمنة.
                              إذن هذه السورة اسمها الانشراح، وأين نزلت؟ نزلت في مكة.
                              ما عدد آياتها؟ عدد آياتها ثمان آيات بالإجماع، لم يختلف العادّون في أنها ثمان آيات.
                              وما محورها؟
                              كما أسلفنا بيان نعم الله على نبيه، وكيفية شُكر تلك النعم. هذا محور هذه السورة.
                              فإن قال قائل: هل هذا خاص برسول الله؟
                              قلنا: لا، هو لرسول الله، ولمن كان على منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
                              ما أنعم الله عليه بنعمة وتفضل عليه بفضل عليه أن يشكر، فإذا كان رسول الله -صلوات ربي وسلامه عليه- قد طلب منه أن يشكر الله -سبحانه وتعالى- على النِّعم التي أنعم بها عليه، فحريٌّ بنا نحن أن نشكر، ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يطيل القيام، ويطيل الوقوف بين يدي ربه حتى تتفطر قدماه، فيقال له: أليس الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك؟
                              فيقول -عليه الصلاة والسلام: «أفلا أكون عبدًا شكورًا».
                              فمن أراد أن تتم له النعم، ويثبت له الفضل، وتتنزل عليه المكارم من الرب -سبحانه وتعالى- فعليه بطريق الشكر، ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7]، وهذا قسَم من الله -سبحانه وتعالى- بأن المزيد سيتحقق بالشكر، ومن دون أن يُعلق بالمشيئة، ما قال: "لئن شكرتم لأزيدنكم إن شئت"، بل قال: ﴿لأَزِيدَنَّكُمْ﴾، فليس هناك مجال إلا للزيادة عند وقوع الشكر، فأسأل لله -سبحانه وتعالى- أن يوزعني وإياكم شُكر نِعمته علينا.
                              ما هي مناسبة هذه السورة؟
                              واضح جدًّا من خلال ما أسلفنا أنها مناسبة جدًّا لسورة الضحى، فكلاهما تتحدث عن نِعم الله على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتبين له كيف يشكر نعمة الله عليه بعد أن أسبغ عليه النعم.
                              نبدأ بتفسيرها:
                              يقول الله -عز وجل: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾.
                              الهمزة في قوله: ﴿أَلَمْ﴾ لأي شيء؟ هذه استفهامية، لكن ما نوع هذا الاستفهام؟
                              {تقريري}.
                              تقريري.
                              كلما جاءك الاستفهام وأمكن أن تُقره بـ "قد" دلَّ ذلك على أنه تقريري.
                              ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً﴾ [النبأ: 6]؛ أي قد جعلنا الأرض مهادًا.
                              ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ﴾ [الغاشية: 1]؛ أي قد جاءك حديث الغاشية.
                              إن هذا الاستفهام تقريري، يقرره الله -سبحانه وتعالى- أي قد شرحنا لك صدرك.
                              ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾؛ أي ألم نوسع لك صدرك فنجعله فسيحًا، حليمًا رفيقًا، واسعًا طيبًا لا يحمل فيه غلًّا ولا حقدًا ولا حسدًا، ولا شيئًا يعتمل في قلوب الخلق من سُوء الظن والغل، من الكراهية، من الحقد، من الحسد، من هذه الأمراض القلبية التي تؤثر على مسيرة القائد، وعلى مسيرة القدوة، وعلى مسيرة من يحمل الأمانة.
                              ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾، وهذا وإن كان في الأشياء المعنوية فهو أيضًا يُوحي بما حَصَلَ لرسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- من حادثةِ شقِّ الصدرِ التي حصلتْ للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- عندما جاءه جبريل فشق صدره، وأخرج منه حظ الشيطان، فهي توحي بها، وإن كان المعنى أساسًا مقصودًا به ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾؛ أي ألم نوسع لك صدرك؟ فيصبح هذا الصدر طيبًا رفيقًا حليمًا، غيرَ مملوء بحقد ولا حسد ولا ضغينة ولا كراهية.
                              وبدأ بهذه -يا إخواني- لأهميتها للداعية، الداعية لذي لا ينشرح صدره ولا يتسع قلبه لِمَا يسمعه من كلامِ خُصومه، ولما يحصلُ له من أذى، ولما يسمعه من الكلمات الكثيرة التي تُؤذيه، مثل: ساحر، مجنون، كاهن، إرهابي، أصولي، إلى غيرها من هذا القاموس الذي لا ينتهي من الكلمات التي تُلقى على الدعاة.
                              يقول الله: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾، يعني انتبه! الداعية لا ينجح إلا إذا كان صدره واسعًا طيبًا، لا يبالي بمثل هذا، ولا يعيقه عن مواصلة الطريق.
                              قال: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾، لعلكم تذكرون دعوة نبي الله موسى أول ما كلف بالرسالة ماذا قال؟
                              قال: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ [طه: 25- 28]، فبدأ بشرح الصدر.
                              ولذلك على الدعية دائمًا وعلى مَن يتحمل الأمانة والتكليف والمسؤولية أن يسأل الله بأن يَشرح صدره.
                              قال: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾، ما معنى "وضعنا"؟
                              لن نُفسر "وضعنا" حتى نفسر "وزرك".
                              الوزر ما هو؟
                              قال بعض العلماء: الوزر هنا هو ثقل الدعوة وأعباؤها، ولكن هذا هروب من شيء يعتقده بعض الناس فيحمل الآية على غير معناها الذي يعرف من ظاهرها، فعندما يعتقد الإنسان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يقع في ذنب أو مخالفة يحمل الآية على هذا المعنى.
                              والصحيح الذي عليه عامة السلف والأئمة المحققون: أن الأنبياء تصدر منهم الذنوب، لكن الله يوفقهم للتوبة، ولا يصدر منهم من الذنوب ما لا يليق بمقامهم ويتنافى مع مقامهم ويتنافى مع نبوتهم، مثل ذنب الكذب، أو الأشياء الخسيسة التي تحط من أقدارهم كالسرقة والزنا وغير ذلك من الأعمال التي لا تليق، لكن أن يغضب مثلًا فيحصل منه ما لا يليق، أو يجتهد في موطن لا يصح فيه الاجتهاد، أو نحو ذلك، هذا ممكن أن يحصل.
                              والنبي -صلى الله عليه وسلم- بل الأنبياء يوفقهم الله -سبحانه وتعالى- للتوبة فيتوبون، ولذلك قال العلماء: إنه لا يمكن أن يحصل للنبي ذنب يتصل بالعصمة بعصمة النبوة، يقدح في عصمة النبوة في تبليغ الرسالة، كالكذب مثلًا، هذا لا يمكن أبدًا.
                              وكذلك الكبائر -كبائر الذنوب-، لكن الصغائر عادة السلف على أنه تقع منه.
                              ويدل لذلك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت».
                              ويقول: «اللهم غفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري».
                              والله -سبحانه وتعالى- يقول في حقه ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح 1، 2]، إذن ما معنى ﴿مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾؟!
                              الآخرون الذين يريدون نفي هذا الأمر بناء على اعتقاد عندهم في أن النبي لا يصدر منه ذنب أصلًا يلوون أعناق هذه الآيات.
                              ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾؛ أي ذنب أبيك آدم، ﴿وَمَا تَأَخَّرَ﴾؛ أي ذنوب أمتك.
                              ما يكون هذا المعنى.
                              وهنا يقولون: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾؛ أي الأوزار التي تكون على أمتك، أو قبل لنبوة، وهذا كله لا يليق بمعنى الآية.
                              فيقال: ما يقع من رسول لله -صلى الله عليه وسلم- من الذنوب الله -سبحانه وتعالى- قد محاها عنه، ووضعها عنه، وأزالها، فلا يؤاخذه بها، وهذا من كرم لله -سبحانه وتعالى- وعظيم تفضله على عبده؛ لأن النبي بشر، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ [فصلت: 6]، والبشر يُتوقع منه لوقوع في الذنب، وهذا بدءًا بأبينا آدم -عليه الصلاة والسلام-، وتسير حتى تصل إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- يقع منه شيء من ذلك، ولو لم يقع منهم ذلك ما صح لنا الاقتداء به. كيف نقتدي بهم في توبتهم وانكسارهم وذلهم بين يدي ربهم واعترافهم بذنوبهم، واستغفارهم لله -سبحانه وتعالى- إذا كانت الذنوب لا تقع منهم؟
                              وإذا كُنا نعلم أنَّ الذنوب لا تقع منه أصلًا؛ فنحن نقول: الأنبياء ليسوا مثلنا، هم خلق آخر كالملائكة، وهذا يمنع من الاقتداء به.
                              ولذلك نقول: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾؛ أي حططنا عنك ذنوبك، تفضلًا من الله -سبحانه وتعالى- على نبيه.
                              قال: ﴿الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾، الوزر أنقض الظهر، يعني أثقله، وهذا يدلنا -يا إخواني- على أن الذنب يثقل الإنسان ويؤذيه، ويؤخر مسيرته، ويعيقه عن الجد والاجتهاد والعمل، ومزيد التحصيل من العمل الصالح ومن الكسب في الدعوة.
                              ما يصيبك من شيء يمنعك من تحقيق مكاسبَ دعويةٍ أو ثقل نفسي أو بدين يحصل لك إلا بذنب منك، ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30]، ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 165].
                              {شيخ -أحسن الله إليك- ذكرتم أن الكذب يتنافى مع النبوة، فماذا عن قول الله تعالى في سورة الأنبياء على لسان إبراهيم -عليه السلام- عندما سأله قومه عن تكسير الأصنام، قال: ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوَهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ﴾ [الأنبياء: 63]، وهو لم يفعله في الحقيقة؟}.
                              يقولون: إن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- عرَّض، فقال: ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوَهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ﴾ [الأنبياء: 63]، بمعنى: إن كانوا ينطقون فعله الكبير، إذن النتيجة: أنهم لا ينطقون؛ إذن لم يفعله الكبير.
                              وقيل: إن مراده بذلك إحراجهم، وليس مراده أن يذكر شيئًا خلاف الواقع، مثلما قال لما ناقش عبدة النجوم، قال: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام 76]، لا يقصد بهذا أنه يعترف لهذا النجم ولذلك الكوكب أو القمر أو الشمس بأنه رب، ولكن من باب التنزّل مع الخصم، وهذا أسلوب معروف.
                              التنزُّل مع الخصم: يعني لو قلنا إن هذا هو الرب؛ طيب فلننظر، نظروا أفل -يعني غاب-، قال: لا أحب الآفلين.
                              ﴿فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ يعني سلمنا لكم أن هذا أكبر من النجم الذي رأيناه قبل قليل، فهو أحق بالربوبية من الأول.
                              دعونا ننظر، ﴿فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ [الأنعام: 77].
                              قال: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾، أثقل ظهرك.
                              والنقيض: هو صوت الصرير الذي يكون فيما تحمله الدابة، عندما تحمل شيئًا ثقيلًا يسمع للخشب الذي يكون على ظهرها صوت صرير يُسمى نقيضًا.
                              قال: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾، هذه هي النعمة الثالثة على نبيِّه محمد -صلى الله عليه وسلم- وهي رَفع الذكر، ولسان الصدق في العالمين، وهذا حصل لرسول الله بما لم يحصل لأحد من رسل الله قبله، وهو أن الله رفع ذكره.
                              كيف رفع ذكره؟
                              قرن اسمه باسمه، في الأذن مثلًا -وهذا على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر-، فذكر رسول الله لا ينقطع من الأرض لحظة واحدة، ولو أخذت هذا في الأذان وحده لكان كافيًا، فكيف والناس يذكرون رسول لله -صلى الله عليه وسلم- عبر أحاديثه وكلماته وسيرته، وعبر تلاوة القرآن، وغير ذلك من الأسباب، بل عبر التعبد لله بالصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه يشرع لنا في صباح كل يوم ومساء كل ليلة وفي كل صلاة أن نُصلي على رسول لله -صلى الله عليه وسلم-، وأن نُصلي عليه كلما ذكر حتى قال -عليه الصلاة والسلام: «البخيل من ذُكرتُ عنده فلم يصلِّ علي»، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد.
                              طيب، إذن ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ معناها أي جعلنا لك ذكرًا رفيعًا منشورًا في الخلق، باقيًا إلى يوم القيامة.
                              وفي الأذان -يا إخواني- لاحظوا هذه الآية العجيبة، تأملوا في هذه اللحظة الآن التي نحن فيها، هناك من يؤذن الظهر، وهناك من يؤذن العصر، وهناك من يؤذن المغرب، وهناك من يؤذن العشاء، وهناك من يؤذن الفجر الآن، وفي كل دقيقة هناك من يؤذن إما عصر أو ظهر، أو مغرب، وعشاء، أو فجر، فهل ينقطع ذكر محمد -صلى الله عليه وسلم- من الأرض دقيقة واحدة؟
                              بل لو أنك تركت ذلك كله، جئت إلى الحرمين الشريفين لوجدت أنه لا يمكن أن يخلو هذان المسجدان الكريمان من مصلّ أو عبد أو طائف أو عاكف أو تالٍ، وهذا كافٍ في أن ذكر محمد -صلى الله عليه وسلم- باقٍ وأنه مرفوع، وهذا لا يتحقق لأحد إلا له -عليه الصلاة والسلام- فهو سيد ولد آدم.
                              قال: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾، وهذا يدلنا -يا إخواني- على أن من شرح الله صدره ووضع عنه وزره أن الله يرفع ذكره، يعني مجيء هذا بعد هذين دليل على أن رفع الذكر يكون بشرح الصدر ووضع الوزر، فمن أكثر من الاستغفار، وسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يشرح صدره، تحقق له شرح الصدر، حصل له رفع الذكر.
                              وهذا رأيناه في العلماء والمشايخ الذين جمع الله لهم بين الحلم وسعة الصدر، وبين العبودية الكثيرة والتامة لله -سبحانه وتعالى.
                              قال: ﴿فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً﴾، الفاء هذه يسميها العلماء "الفاء الفصيحة"، وهي التي تُفصح عن شيء محذوف، يعني فإذا تحقق ذلك فلا تجزع يا محمد ﴿فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً﴾؛ أي ما أنت فيه من الضيق والشدة، ومهاجمة هؤلاء الكفار ومعاداتهم لك؛ اعلم أنه يزول، ويعقبه يسر عظيم.
                              قال: ﴿فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً﴾، وهذه بشارة لكل من أُصيب بعسرة من عدة جهات:
                              - الجهة الأولى: التأكيد ﴿فَإِنَّ﴾، ثم أعادها مرة ثانية.
                              - الثانية: التكرار ﴿فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً﴾، يعني لا تيأس، ولا تتوقع أن العسر سيستمر بك؛ بل سيعقبه يسر -بإذن الله.
                              - الثالثة: أن الله جعل اليسر مقرونًا بالعسر، ما قال: "فإن بعد العسر يسرًا"، قال: ﴿مَعَ العُسْرِ يُسْراً﴾، لمزيد الطمأنينة بأن البشارة قادمة، وأن الفرج قريب.
                              - ثم أمر رابع، وهو مهم جدًّا، وهو: أن الله -عز وجل- ذكر العسر مُعرَّفًا في الآيتين، واليسر منكَّرًا في الآيتين، ولذلك قال ابن عباس ورُوي مثله عن عمر وبعض السلف، قالوا: "لن يَغلب عُسرٌ يُسرين".
                              فجعلوا اليسر اثنين، وجعلوا العسر واحدًا، مع أنه ذُكر مرتين، ما السبب؟
                              السبب -يا إخواني- هو أن المعرَّف إذا كُرِّر في الكلام دلَّ على شيء واحد، فإذا قلت: جاء الرجل، ورأيت الرجل، وسلمت على الرجل، وأجلست الرجل، كم رجلًا؟ واحد. لماذا؟
                              لأني جئت بـ (أل) الدالة على العهد، يعني الرجل المذكور قبل قليل.
                              أما في حال النكرة فلا، فإذا قلت: جاء رجل، وسلمت على رجل، ومررت برجل، وأكرمت رجلًا، كم رجلًا؟ أربعة.
                              لاحظتم؟
                              هنا العسر جاء معرفًا بالألف واللام في الموطنين، هنا وهنا، واليسر جاء منكرًا، وذلك قالوا: لن يغلب عسر واحد يسرين اثنين. واضح؟
                              فهذه بُشرى لكل مَن نزل به عُسر، لكل من نزلت به شدة، يا فلان هذا العسر قد أنزل لله معه يُسرين.
                              ونحن نلاحظ الآن -يا إخواني- عندما يصاب الإنسان بشدة؛ تجد أن الذين حوله يتألمون له أكثر مما يتألم هو، بسبب هذا اليسر الذي يخلطه الله -سبحانه وتعالى- ويمزجه بالعسر.
                              طيب، قال: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾، الآن يبين له المخرج مما ينزل بالإنسان وطريق الشكر، فيا محمد، متى فرغت من شغل أخروي أو من عمل تقوم به، فانصب في عبادة ربك.
                              إذا فرغت من صلاة الفريضة، فانصب في صلاة النافلة.
                              أو إذا فرغت من عبادة ربك، فانصب في دعاء ربك.
                              أو إذا فرغت من الجهاد في سبيل الله، فانصب في الصلاة.
                              أو إذا فرغت من شغل دنياك، كأن تكون تعالج أمرًا من أمور الدنيا، زراعة أو صناعة أو غير ذلك، أو إصلاح شيء في البيت؛ فانصب في عبادة ربك.
                              فإن الأصل أنك مخلوق لهذه العبادة، ويقول الشيخ أبو بكر الجزائري -حفظه الله- يقول: "هذه الآية عامة، فإذا فرغت من شُغل الدنيا؛ فانصب في شغل الآخرة. وإذا فرغت من شغل الآخرة، فانصب في شغل الدنيا"؛ لأن المؤمن لا يمكن أن يبقى خاليًا لا في شغل الدنيا، ولا في شغل الآخرة.
                              وهذا معنى واسع جدًّا، ويدل على مبدأ عظيم من المبادئ لإسلامية، وهي أن المسلم يعلم أن هذا الوقت عُدة له، إما أن ينتفع به في أمر دنياه، أو ينتفع به في أمر دينه.
                              قال: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ﴾، قوله: ﴿فَانصَبْ﴾ فيها الدلالة على القصد، القصد القلبي والقصد البدني، انصب في عبادة ربك، اسعَ واجتهدْ وأقْبِلْ، ولا تقتصر على أنك تؤديها كما يؤديها المنافقون، ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء: 142].
                              قال الله -عز وجل: ﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾، لاحظوا هذا التعبير، قال: ﴿إِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾، يعني إلى الله وحده لا إلى غيره ارغب، ارغب في الطلب، وفي القصد، وفي السؤال، وفي العون، ارغب إليه وحده.
                              وهنا يقول: ﴿إِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾، أصل الكلام: "فارغب إلى ربك"؛ لأن الجار والمجرور عادة يكون متأخرًا، محله التأخر، فإذا قدِّم دلَّ على معنى وهو الحصر، يعني: ارغب إلى ربك، لا إلى أحد سواه.
                              وهذه المناسبة -يا إخواني- من المعاني البليغة التي ترد وتُقصد في موردها في القرآن لكريم، وهو إذا قُدِّم ما حقه التأخير دلَّ على الاختصاص أو على الحصر.
                              يعني: ارغب إلى ربك لا إلى أحد سواه، لا يلتف قلبك إلى أحد من خلق الله، ارغب إليه بالدعاء، ارغب إليه بطلب النصر، ارغب إليه بالفتح، ارغب إليه بطلب الحفظ، ارغب إليه في كل حاجة من حاجاتك.
                              ﴿وَإِلَى رَبِّكَ﴾، ولاحظوا كيف قال: ﴿وَإِلَى رَبِّكَ﴾، ولم يقل: "إلى الله"؛ لأن الرغبة له صلة بالربوبية، أنا أرغب إلى الرب الذي يربي ويعطي ويمنع ويرزق ويخلق، فهذا هو الذي يستحقه أو ينبغي للإنسان أن يفعله، ﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾.
                              ننتقل بعد ذلك إلى السورة الثانية وهي سورة التين.
                              {أقول -أحسن الله إليك- هل اليسر الذي يعقب العسر، هل لا بد أن يكون من جنس العسر؟ كمرض مثلًا، هل اليسر يستلزم أن يكون صحة، أو ربما يأتي في شيء آخر؟}.
                              لا، ما يلزم، يعني أولًا: ما قال ﴿فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً﴾، قد تجد الإنسان يصاب بمرض، لكن الله -سبحانه وتعالى- يجعل مع هذا المرض يُسرًا في جانب آخر، فالسجين الذي كان عندك يُفرج عنه، الدين الذي كان لديك يُقضى، فيجعل الله مع هذا العسر، بحيث لا يجمع عليك دين ومرض ووجود مفقود أو أحد، هذا واحد.
                              وإن كان لا شك زوال العسر إنما يكون بضده، نعم، لكن الآية فيها عموم، ولذلك نجد -سبحانه الله- أنه لا يكاد يجتمع على الإنسان عسر من كل جانب، لا يكاد يجتمع على الإنسان عسر من كل زاوية، بل تجد العسر يأتيه من جهة وفي الوقت ذاته هناك يُسر من جهة أخرى، فتجد إنسان مثل مريض لكنه في الوقت ذاته قد تيسرت أموره المادية، تجد إنسان مثلا أعزب لكنه قد تيسرت مثلا أموره الأهلية، له والدة وإخوة وأخوات، وأب، وجماعة، وأقارب، وينتمي إلى أسرة، وإلى آخره، وهلم جرًّا.
                              سورة التين.
                              أيضًا هذه السورة تعرف بهذا الاسم، فهي سورة مكية على الصحيح، من أين عرفنا أنها مكية؟
                              لأن كثيرًا من السلف قالوا بذلك، ولأنه ورد فيه ما يدل على ذلك، وهو قوله: ﴿وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ﴾، فالإشارة "هذا" تدل على شيء حاضر، فالصحيح من أقوال أهل العلم أنه سورة مكية.
                              إضافة إلى موضوعها، فموضوعها من موضوعات السور المكية.
                              أما عدد آياتها: فهي ثماني، أيضًا بالإجماع، ولم يختلفوا في ذلك، مثل سورة الشرح.
                              وأما محور سورة التين: فالذي يظهر لي -ولله أعلم- أنه بيان تكريم الله للإنسان، وما ينبغي له حيال ذلك التكريم.
                              فالله أقسم، قال: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾، وحقه إذا خلقناه في أحسن تقويم أن يشكر ويؤمن ويعمل الصالحات، لكنه يرتد طواعيةً واختيارًا إلى أسفل سافلين، فيُؤثر الكفر والطغيان والجحود على الطاعة والشكران والعبادة لله -عز وجل- فيرده الله إلى النار في أسفل سافلين، إلا مَن أراد الله به خيرًا ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾؛ أي غير مقطوع.
                              قال الله: ﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾؛ أي بالجزاء والحساب.﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ﴾.
                              فحديثها عن تكريم الإنسان، وعما ينبغي له حيال ذلك التكريم، أو أقسام الناس حِيال ذلك التكريم، منهم من طغى فارتد بذلك التكريم إلى أن يكون في أسفل سافلين، ومنهم من شكر، فجعل الله له أجرًا غير ممنون.
                              إذن هذا هو محورها الذي جاءت له.
                              ما مُناسبتُها لسورة الشرح؟
                              المناسبة أيضًا ظاهرة، فإذا كان في سورة الشرح تكريم الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ففي هذه بيان كرامة الإنسان عند الله، وأن الله أكرمه وشرَّفه وأعلى مقامه، وجعله أحسن الخلق خلقًا، قال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾، وكان الأجدر بهذا الإنسان أن يشكر نعمة الله، مثلما جاءنا في سورة البلد، قال الله -عز وجل: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ [البلد: 8-14]، إلى آخره.
                              فبين أنه أنْعم عليه بِنعم، ومع ذلك لم يشكرْ هذه النعم، ولا اقتحم العقبة التي هي طاعة الله -عز وجل-، أو اقتحم عذاب لله -عز وجل- الذي لا يُقتحم إلا بفك الرقبة وإطعام المساكين والأيتام ونحوهم.
                              فسُورة الشرح في بيان كرامة رسول لله -صلى الله عليه وسلم-، في سورة التين في كرامة الإنسان وواجبه تجاه تلك الكرامة.
                              طيب، بعد ذلك نأتي إلى ألفاظ السورة.
                              افتتحت هذه السورة بأربعة أقسام:
                              القسَم الأول: التين.
                              القسَم الثاني: الزيتون.
                              القسَم الثالث: الطور.
                              القسَم الرابع: وهذا البلد الأمين.
                              أين جواب القسَم؟
                              ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾. فهذا هو جواب القسم بلا نزاع.
                              طيب، قال الله: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾.
                              التين: هو هذه الثمرة المعروفة التي قال عنها بعض السلف: "هي أشبه ثمار الدنيا بثمار الجنة"، لأنه لا يوجد فيها شيء يُرمى، ما فيها نواة، ولا فيها قشر، وكلها يؤكل، التينة تأخذها وتأكلها جميعًا.
                              لكن التمر مثلًا تأكل التمرة ثم تخرج منها النواة، الموزة ماذا تفعل؟ تقشرها، البرتقالة تقشرها، التفاحة فيها شيء في جوفها يُرمى، أما التين فهي أشبه ثمار الدنيا بثمار الجنة، هذا فضلًا عما فيها من منافع.
                              والزيتون: هي تلك الثمرة المشهورة المعروفة المباركة، التي مدحها الله -سبحانه وتعالى- بالبركة، قال: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ [النور: 35]، فجعلها الله مباركة، فمن بركتها أنها لا ...، ومن بركتها أنها تعطي عطاءها كل عام، ومن بركتها أنه تعمر فتعيش أحيانًا مئة ومائتين وثلاثمائة سنة، ومن بركتها أنه لا تيبس ولا تجف، خضراء طول العام في كل الأوقات، ومن بركاتها أنها تخرج منها هذه الثمرة فيأكلها الناس، ويعصرونها فيخرجون منها الزيت الذي هو أفضل الزيوت وأحسنها.
                              والعجيب أن العالم والطب الحديث لا يكتشف ما في هذا لزيت من الفوائد إلا متأخرًا، يعني منذ سنوات قليلة، بينما المسلمون قد اكتشفوا هذه البركة، وهذه الفضيلة لهذا الزيت منذ أن نزل عليهم القرآن، وه يأخذون هذا الزيت ويأتدمون به، ويشعرون ببركته وفضله على سائر الزيوت التي تؤخذ من غيرها من الأشجار.
                              طيب، قال: ﴿وَالزَّيْتُونِ﴾، هنا اختلف العلماء: هل المقصود الإقسام بالشجرة نفسها أو الثمرة نفسها، التين والزيتون؟ أم الإقسام بمكانهما؟
                              فمن العلماء من قال: أن الإقسام بهما.
                              ومنهم من قال: إن الإقسام بمكانهما.
                              من أين لكم أنه كان بالمكان، يعني بلاد الشام؟
                              التين في بلاد الشام، دمشق وما حولها، والزيتون بيت المقدس، لأنها الأرض مباركة.
                              من أين أخذتم ذلك؟
                              قالوا: لأنه عُطف عليها القسَم بأماكن، وهو: ﴿وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ﴾.
                              قالوا: وهذا إشارة إلى محل الرسالات الثلاث، التي هي أكثر الرسالات انتشارًا وشيوعًا وأتباعًا في الأرض، وهي اليهودية، والنصرانية، والإسلام.
                              أو إشارة إلى الأنبياء، أنبياء هذه لديانات الثلاثة التي نزلت.
                              فالإشارة في الأولى إلى عيسى -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه بعث وولد في ذلك الموطن في بيت المقدس.
                              وطور سينين إشارة إلى رسالة موسى -عليه الصلاة والسلام- لأنه كُلِّم في الطور، طور سيناء.
                              ﴿وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ﴾، إشارة إلى رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم.
                              ولا مانع نقول أن يُراد الأمران، يراد هاتان الشجرتان إقسامًا بهما لمنفعتِهما وبركتهما، والإشارة إلى مكانهما؛ لأن الله عطف عليها مكانًا، وقد ورد عن كثير من السلف أنهم لما فسروا ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾ قالوا: إن المراد بهما المكان، إشارة إلى نبي الله عيسى -عليه الصلاة والسلام.
                              قال: ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾، الطور: هو الجبل، هكذا يفسره بعضهم.
                              بعضهم يقول: الطور هو الجبل لذي عليه شجر، يعني ليس أي جبل، وهل المقصود به أي طور وأي جبل؟ أو طور محدد؟
                              من العلماء من يقول: أنه قسَم بكل جبل عليه شجر.
                              والصحيح أنه -كما ذكرتم: جبل محدد. لماذا؟ لأنه أضافه، فقال: ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾، لو أراد أي جبل؛ لقال: "وطورٍ" فنوَّنه، لكن لما أضافه دل ذلك على أنه يريد جبلًا معينًا، وهو الجبل الذي كلم الله عنده موسى -عليه الصلاة والسلام.
                              وهو جبل في سيناء، المنطقة المعروفة تاريخيًّا وجغرافيًّا، هي هذه المنطقة التي في أعلى البحر الأحمر، بين مصر وفلسطين.
                              قال: ﴿وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ﴾، إشارة إلى البلد الذي بعث فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مكة، ويسمى البلد، والبلدة، وهو مشهور من أسمائها.
                              ﴿الأَمِينِ﴾؛ لأن الله أمَّنه فجعله آمنًا، لا يُختلى خلاؤه، ولا يُنفر صيده، ولا يُقتص فيه، ولا ينتقم فيه منتقم من أحد؛ لأنَّ الله جعله: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ [آل عمران: 97].
                              أقسم على ماذا؟
                              قال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾، أكد هذا الأمر بمؤكدين: اللام و"قد".
                              ﴿خَلَقْنَا الإِنسَانَ﴾؛ أي جميع الناس.
                              ﴿فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾، في قوام حسن.
                              كيف في قوام حسن؟ ما تجد مثل الإنسان في حسن قِوامه، جعل فمه وعيناه وأذناه ورأسه في أعلاه، ولم تجعل في أسفله، وجعل الطعام الذي يأخذه بيده فيجعله في فمه، لا كما تفعل البهائم تأكل طعامها بأفواهها، وانظر إلى العنز والبقرة والبعير والغزال والأسد، كلهم يأكلون ويذهبون بأفواههم التي في رؤوسهم إلى المكان الذي يأكلون منه، وغالب البهائم يمشي على ماذا؟ على رجليه ويديه، أما ابن آدم فقد جعل قائمًا منتصبًا، وشرفه الله -عز وجل- بهذه الصورة الحسنة والجميلة التي لا يشبهه فيها أحد.
                              قال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾، قال: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾؛ أي جعلناه مرتدًّا إلى النار.
                              يعني ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾، على الصحيح من قول المفسرين فيها أنها النار، رددناه إلى النار، لماذا؟
                              لأنه لم يشكر نعمة الله -عز وجل-، وجحد كما قال الله -عز وجل: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً * إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ [العاديات 1- 7]، كنود بمعنى جحود شديد الكفر.
                              يقال في عبس: ﴿قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ [عبس: 17]؛ أي ما أشد كفره.
                              قال: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾، هذا قول.
                              القول الثاني وهو قول مشهور رجَّحَه ابن جرير، قال: "رددناه إلى أرذلِ العمر"، أي جعلناه يرتد إلى أرذل العمر.
                              وهذا القول حقيقة ضعيف، لماذا؟
                              لأننا إذا لنا به كيف يصبح أمر الاستثناء، رددناه إلى أرذل العمر إلا الذين آمنوا لم نردهم إلى أرذل العمر؟!
                              والواقع يشهد بأن الذين يردون إلى أرذل العمر قد يكونون من الكفار، وقد يكونون من المؤمنين.
                              ثم لو قلنا بذلك؛ لكان ذكر مآل المؤمنين، ولم يُذكر مآل الذين كذبوا ولم يؤمنوا ولم يعملوا الصالحات، وهذا يُخالف ما جرى عليه معهود القرآن، من أنه إذا ذكر مصير هؤلاء يُذكر مصير من يقابله، فهو هنا يقول: ثم رددنا الإنسان الذي لم يشكر إلى النار إلا من آمن فإننا نعطيه أجرًا غير ممنون، أي غير مقطوع.
                              وبهذا نعرف أن قوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾؛ أي رددناه إلى النار، ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾، فهؤلاء ينجيهم الله -عز وجل- من أسفل السافلين وهي السِّجين المذكورة في سورة المطففين، ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾ [المطففين: 7]؛ أي في أسفل سافلين.
                              ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ﴾، يعطيهم الله -سبحانه وتعالى- ويمكنهم ويملكهم من الأجر غير الممنون، أي غير المقطوع.
                              وكلمة "ممنون" تأتي بمعنى:
                              - غير ممنون: أي غير مقطوع.
                              - غير محسوب أيضًا.
                              - غير منقوص.
                              فهي تأتي بهذه المعاني الثلاثة، ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾.
                              قال الله: ﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾.
                              ومما يؤكد هذا المعنى بالمناسبة: قوله في سورة الانشقاق: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [الانشقاق 25، 26 ]، فهذه مثل تلك، فقوله ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ مثل قوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾.
                              قال: ﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾، فما يكذبك أيها الإنسان بعد بالدين؟
                              "ما" هنا يصح أن تكون بمعنى "مَن"، ويصح أن تكون "ما" الاستفهامية.
                              فيكون المعنى: فأي شيء يجعلك تكذب بالدين؟ أو: فمن يكذب بعد بالدين؟
                              يمكن أن تكون هكذا، ويمكن أن تكون هكذا، والمعنى لا يختلف كثيرًا إن حملناه على هذا أو حملناها على هذا.
                              وما هو الدين هنا؟
                              قولان لأهل العلم:
                              - منهم من يقول: الدين بمعنى الجزاء والحساب، وهذا هو الذي ترد عليه كلمة "الدين" في عامة لقرآن كما في سورة الفاتحة ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4]، وفي سورة الانفطار قال الله -عز وجل: ﴿وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الانفطار 16- 18]، وهذا مأخوذ من دان بمعنى حاسب وجازى، "كما تدين تدان"، "الكيس من دان نفسه" أي حاسبها.
                              إذن فما الذي أو فأي شيء يجعلك تكذب بالدين؟ وقد أكرمك الله -عز وجل- هذه الكرامة، وأعطاك هذه العطية، وأحسن إليك؛ ما الذي يحملك على التكذيب بالدين؟ أي الجزاء والحساب.
                              - وبعضهم حمل معنى الدين على العمل والطاعة والعبادة، فما الذي يجعلك تُكذب بهذا الدين أو بهذه الشريعة التي أنزلت على محمد -صلى الله عليه وسلم.
                              ولا شك أن المعنى الأول هو الأليقُ.
                              قال: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ﴾، هذه لها صلة بالتكذيب بالدين، من أي جهة؟
                              أن الله أحكم الحاكمين، فمن حِكمته أنه لا يمكن أن يخلقنا في هذه الدنيا فيكون منا المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والظالم والمظلوم، والمطيع والعاصي، والمحسن والمسيء، يفنينا وينهينا ولا يجازينا، لا يمكن هذا!
                              هذا -ما شاء الله- طوال حياته وهو مستقيم على الجادة، بار بوالديه، مُطيع لله، صادق في حديثه، لا يظلم أحدًا من العباد، يعدل بين الناس، يتصدق من ماله، يُؤثِرُ على نفسه.. إلخ.
                              وهذا لا يفعل شيئًا من الخير؛ بل هو ظلم للعباد، باغٍ عليهم، يزني ويسرق ويظلم، ويفعل الأفاعيل، ثم يموتان ولا يبعثان؟! هل يليق هذا بحكمة الله؟!
                              ولذلك قال: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ﴾.
                              وقوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ﴾، إما أن تكون من الحكمة أو تكون من الحكم، ولا مانع أن يجتمع الأمران.
                              ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ﴾؛ أي ذو الحكمة العالية، أو أليس الله ذو الحكم الذي يحكم بما يشاء ويفعل ما يريد؟
                              ولا مانع من اجتماعها، فهم معنيان صحيحان يمكن اجتماعهما.
                              وقد ورد في نهاية هذه السورة أنه إذا قال: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ﴾، يقول الإنسان: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، والحديث في إسناده ما فيه، منه من يحسنه، وكثير من المحدثين يضعفه، والذي في سورة القيامة أقوى منه.
                              بهذا -أيها الإخوة- نصل إلى ختام لقائنا هذه الليلة، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينفعنا به، وأن يجعلنا جميعًا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وأن يجعل القرآن حجة لنا لا علينا.
                              نودعكم على أمل اللقاء بكم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

                              تعليق

                              يعمل...
                              X