إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تفسير سورةالبقرة للنابلسى

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تفسير سورةالبقرة للنابلسى


    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

    أيها الأخوة الكرام نبدأ اليوم تفسير سورة البقرة، ولهذا سبب سأوضِّحه لكم قبل أن أشرع بالتفسير، مضى على هذا الدرس أيها الأخوة بفضل الله جلَّ جلاله أكثر من خمسٍ وعشرين عاماً، كان التفسير في البدايات آيات مختارة من القرآن الكريم، ثمَّ بَدَأْتُ من سورة لقمان، وتابعت إلى نهاية المصحف، بدأ التسجيل الواضح من جزء عمَّ، وقبل هذا الجزء التسجيلات غير واضحة، ثم رجعت إلى سورة يونس،

    وتابعت التفسير إلى سورة لقمان، وكان وقتها بحسب الخطة أن أعود إلى سورة البقرة، أي فسرت الثلث الأخير، عشرة أجزاء، ثم الثُلث الثاني، ثم الثلث الأول، لسببٍ أو لآخر تابعت التفسير إلى نهاية الجزء التاسع والعشرين، جزء عم مُفَسَّر بشكل واضح جداً، ومسجَّل بشكل واضح جداً، فحسب الخطة نعود الآن إلى القسم الأول، لأن كل السور من هود إلى نهاية المصحف مفسـَّرة ومسجلة على أشرطة واضحة جداً، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يمكنني من تفسير الثلث الأول.

    كل شيءٍ في الدنيا زائل إلا عملاً يتصل بالآخرة:


    اليوم نبدأ تفسير سورة البقرة، ولكن أُقَدِّم لكم هذه الحقيقة، أي شيءٍ في الدنيا زائل إلا عملاً يتصل بالآخرة، وكل واحد من الأخوة الحاضرين إذا لم يكن له عمل متعلق بالآخرة فهناك خسارة كبيرة ؛ الدنيا تمضي، البيوت تزول، لاحِظوا: الميت ترك كل شيء إلا عملاً صالحاً ينزل معه في قبره، فالله عزَّ وجل يقول:
    ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (108) ﴾
    (سورة يوسف)
    كُلُّ من يتبع نبي الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يدعَو إلى الله بطريقةٍ أو بأخرى، وقلت لكم من قبل: استقيموا يُسْتَقَم بكم، الموقف الصادق دعوة، الموقف الأمين دعوة، الوَرَع دعوة، الصدق دعوة، الإتقان دعوة، قد يكون لكل واحد عمل طيّب، هذا العمل يُسَبب اتساع دائرة المسلمين، فالدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم، والدعوة إلى الله في حدود ما تعلم ومع من تعرِف، وكل إنسان جلس في مجلس علم، واستمع إلى تفسير صار مؤاخذاً، صار مسؤولاً، صار مكلَّفاً أن ينقل هذا إلى الآخرين إما بلسانه، أو بشريط، أو بلقاء، لا بدَّ أن تُلْقي بعد أن استمعت، لا بد أن تعطي بعد أن أخذت،
    وهذا الذي يبقى، الذي يحَرِّك المؤمن في الدعوة إلى الله حديثٌ لرسول الله، والله أيها الأخوة لو تلوت هذا الحديث على مسامعكم آلاف المرات لا أشبع منه: ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها ))

    [ البخاري عن سهل بن سعد ]
    (( فَوَ اللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ))
    [ متفق عليه عن سهل بن سعد]
    (( خير له مما طلعت عليه الشمس ))
    [ أخرجه الطبراني عن أبي رافع ]

    الجهاد الدَعَوي من أكبر أنواع الجهاد:
    الجهاد كما تعلـمون ذِروة سنام الإسلام، ومن مات ولم يجاهد، ولم يحدِّث نفسه بالجهاد مـات على ثلمةٍ من النفاق.
    الجهاد الدَعَوي من أكبر أنواع الجهاد، والدليل قال تعالى:

    ﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (52) ﴾
    ( سورة الفرقان)

    جميل جداً أن يمتلئ المسجد بطُلاَّب العلم، والأجمل من هذا أن ينتشر هذا العلم خارج المسجد، جميل جداً أن يفكِّر كُلٌ منا كيف ينْقُل الحق إلى أخيه، إلى صديقه، إلى جاره، إلى موظفي محلِّه، إلى زملائه، إلى أقربائه، لأننا جميعاً كل الأخوة الحاضرين طرفٌ واحد، ولكن البطولة أن تُدخل إلى هذا المجموع الطيِّب إن شاء الله أطرافاً جديدة، فكل واحد مكلف أن يبحث من أقربائه، من زملائه، من جيرانه، من أتباعه، ممن هم دونه،

    ممن هم فوقه، بطريقةٍ أو بأخرى لنشر هذا الحق، هذا الذي يبقى، وترون كيف يموت الناس ولا يأخذون معهم شيئاً، إلا عملاً صالحاً ابتغوا به وجه الله عزَّ وجل، فتعليم العلم من أعظم الأعمال الصالحة، نشر الحق صنعة الأنبياء:
    ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) ﴾
    ( سورة فصلت)

    كلما اتسع الحق صارت الاستقامة سهلةً:
    بدأ هذا الدرس أيها الأخوة في عام 1976 بأربعة أشخاص فقط، وترون هذا الإقبال ـ وهذا من فضل الله عزَّ وجل ـ هؤلاء الذين يأتون لطلب العلم، ولمعرفة كلام الله عزَّ وجل، وسنة رسوله، هؤلاء يبتغون وجه الله عزَّ وجل، فالبطولة أن تتعلم، وأن تُعَلِّم، وأن تستمع، وأن تُلْقي، وأن تتلقَّى، وأن تعطي، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
    (( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ))
    [ البخاري عن عثمان ]


    على الإطلاق، خيرية مطلقة، وكلما اتسعت دوائر الحق ضاقت دوائر الباطل، وكلما اتسع الحق صارت الاستقامة سهلةً، قال تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) ﴾
    ( سورة النور)
    وقال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا (103)﴾
    ( سورة آل عمران )

    الفضل لله عزَّ وجل، وهذا القرآن الكريم مائدة الله، وهذا القرآن الكريم حبل الله المتين، دستوره القويم، الصراط المستقيم، المنهج الصحيح، هذا الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هذا الكتاب فيه نبأ من قبلكم وذكر مَن بعدكم، فيه الأمر، فيه النهي، فيه الحلال، فيه الحرام، فيه أخبار الأمم السابقة، فيه مشاهد من يوم القيامة، فالحقيقة الفضل لله عزَّ وجل أن سورة يونس والتي بعدها مُفَسَّرَةٌ بشكلٍ مفصل إلى نهاية المصحف، ومسجَّلة بأشرطة واضحة جداً، واليوم نبدأ الثلث الأول لهذا الكتاب الكريم،

    ونبدأ بسورة البقرة. النقطة الأولى سميت هذه السورة بسورة البقرة تأكيداً على الإيمان باليوم الآخر:

    قبل أن نبدأ في شرح هذه السورة لا بد أن نسأل هذا السؤال: لماذا سميت سورة البقرة، مع أن البقرة ليست حيواناً مألوفاً في الجزيرة العربية ؟ الحقيقة أن هذه البقرة التي سُمِّيَت بها السورة الأولى في القرآن الكريم بعد الفاتحة، هذه البقرة لها قصة ؛ كان هناك رجل غني جداً من بني إسرائيل، كان ثرياً جداً، ولم يكن له أولاد، فقتله ابن أخيه، وألقى الجثة بعيداً على مشارف قريةٍ بعيدة، واتُّهِمَ أهل هذه البلدة بقتل هذا الرجل، ونَشِبَ خلافٌ بين القرية الأولى والقرية الثانية، إلى أن جاء أولياء القتيل ليسألوا موسى عليه السلام عَن الذي قتل هذا الرجل، فربنا عزَّ وجل في الآية الثالثة والسبعين من هذه السورة الكريمة ذكر قصة هذه البقرة، فقال:
    ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً (67) ﴾

    الأمر الإلهي أن يذبح بنو إسرائيل أيَّةَ بقرة، فإذا أخذوا أحد أعضائها، وضربوا به هذا القتيل يحيى، ويقف، ويقول: فلان قتلني، أي كأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يُثْبِت لبني إسرائيل الحياة بعد الموت ؛ نقف قليلاً لننتقل إلى موضوع اليوم الآخر.
    الحقيقة الكبرى أيها الأخوة أنه بعد الإيمان بالله ـ وهـو الرُكن الأول ـ أن تؤمن بالـيوم الآخر، لأن الحياة الدنيا من دون إيمانٍ باليوم الآخر غابة يأكل القوي فيها الضعيف، يستغلُّ الغني الفقير، وهذا مـا يجري في العالم اليوم، هو عالم لا يؤمن باليوم الآخر، فالقوي هو الذي يسحقُ الضعيف، والغني هو الذي يستغلُّ الفقير، والأقوى هو الذي يعتدي على الأضعف. لم ينجح مجتمع على وجه الأرض إلا مجتمعاً آمن بالله واليوم الآخر:

    الأحداث كلُّها تشير إلى أنه لن تقوم حياةٌ إلا أن تؤمن باليوم الآخر، وكل ما يقال من كلامٍ لا معنى له ؛ ضمير يقِظ، وازع داخلي، هذا كلُّه إن لم يُدَعَّم بالإيمان باليوم الآخر لا جدوى منه، ولم ينجح مجتمع على وجه الأرض إلا مجتمعاً آمن بالله واليوم الآخر ؛ فربنا سبحانه وتعالى من خلال قصة البقرة أراد أن يبيِّن لبني إسرائيل أن هذا الذي تراه ميتاً سوف يُحْييِه الله يوم القيامة لينال جزاء عمله، فماذا فعل بنو إسرائيل ؟ هذا الأمر لم يتلقَّوه بالقبول،
    ولم يستقبلوه بالرضا، ولم يستقبلوه بالانصياع، بل استقبلوه بالتشكيك والسخرية:

    ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) ﴾
    نبيٌ كريم يستهزئ ؟! يمزح !! ﴿ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ (68) ﴾
    هنا.. ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً (67) ﴾

    وانتهى الأمر. الذي يموت ذاتُهُ باقية وسوف يحاسب:

    أية بقرةٍ تُجْزِؤكم، وأية بقرةٍ لو أخذتم أحد أعضائها وضربتم به الميت لقام، وتكلَّم، وقال: قتلني فلان، ولكن بني إسرائيل شددوا على أنفسهم:
    ﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا (72) ﴾
    كل طرفٍ ألقى التهمة على الطرف الآخر: ﴿ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ﴾

    يقول الناس عن الذي يموت: الفقيد الفلاني، هذا الذي يموت خلع ثياباً فقط، أما ذاتُهُ فباقية، وسوف يحاسب، وسوف يعيش حياةً أبدية في جنةٍ يدومُ نعيمها، أو في نارٍ لا ينفد عذابها. تدل الآيات التي نزلت في أول الدعوة الإسلامية على شيئين:
    أخواننا الكرام تُلحُّ الآيات التي نزلت في أول الدعوة الإسلامية على شيئين ؛ أن تؤمن بالله، وأن تؤمن باليوم الآخر، لأن الإيمان بالله لا معنى له من دون أن تؤمن أنَّه مطلعٌ عليك، وسيحاسِب، وسيعاقِب، لن تستقيم على أمر الله إن لم تؤمن أنه مطلعٌ عليك، وسيحاسب، وسيعاقب، قال تعالى:
    ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) ﴾
    ( سورة الطلاق )

    أي إنك تستقيم حينما تعلم أن الله يعلم، وأنَّك في قبضته وسيحاسب ؛ ولن تجد إنساناً مستقيماً إلا بسبب أنه يُدْخل في حساباته اليوم الآخر ؛ والذي يثير العجَبَ أن الإنسان حينما يأكل المال الحرام، وحينما يعتدي على أعراض الآخرين، وحينما يتفَلَّت من منهج الله عزَّ وجل، كيف ينام الليل ؟ كيف يتوازن مع نفسه ؟ إذا قرأ قول الله تعالى: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) ﴾
    ( سورة الحجر )

    خصوصية هذه الدنيا أن النعم التي أنت فيها لا بدَّ أن تفارقها عند الموت:

    حينما يوقن الإنسان المؤمن أن كل حركةٍ، وكل سكنة، وكل تصرفٍ، وكل عطاءٍ، وكل منعٍ، وكل وصلٍ، وكل قطعٍ، وكل زيارةٍ، وكل نظرةٍ، وكل كلمةٍ سوف تَدْخُل في ميزان أعماله، وسوف يُسأل عنها يوم القيامة، عندئذٍ يستقيم الإنسان على أمر الله، ولن تجد في الأرض إنساناً مستقيماً إلا إذا كان إيمانه باليوم الآخر عظيماً، هذه الدنيا فيها نِعَم، وفيها مُتَع، وفيها شهوات، وفيها حظوظ، ما الذي يحصل ؟ هذه الحظوظ،

    وهذه الشهوات، وهذه المُتع، وهذه الِنعم بشكل عام إما أن تفارِقَك وأنت حي، وإما أن تفارقها عند الموت ؛ لا بدَّ من الفراق، لأنّ خصوصية هذه الدنيا أن النعم التي أنت فيها لا بدَّ أن تفارقها عند الموت، وقد تفارقك قبل الموت ؛ من هنا كان دعاء النبي عليه الصلاة والسلام:

    (( اللهم أمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا ))
    [ رزين عن نافع مولى ابن عمر]
    أما الدار التي لا تفارقك فيها النعم ولا تفارقها هي الدار الآخرة. ﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) ﴾
    ( سورة الصافات)
    وقال: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) ﴾ ( سورة المطففين)

    هناك قلق في الدنيا، الإنسان قَلِق على صحته وكلما تقدَّم به العمر يزداد هذا القلق، يا ترى أَأُصاب بالمرض الفلاني ؟ أو بالمرض الفلاني ؟ والأمراض كثيرة جداً، هذا أكبر قلق، قلقٌ على الصحة ؛ يوجد قلق على الدخل، هل يبقى هذا الدخل أم يتقلَّص ؟ هل أبقى في هذه الوظيفة ؟ هل تبقى لي هذه التجارة ؟ هل يبقى لي هذا الدخل ؟ الحياة الدنيا مشحونة بالقلق، لأنك لا بدَّ أن تُغادر الدنيا، إذاً سوف تفارق كل النعم ؛ وأوضح شاهد إذا تَبِعْتَ جنازةً، ورأيت الميت كيف يدفن، كان ساكناً في بيت، قد تكون مساحته مئتي متر، قد يكون أربعمئة متر، قد يكون بيت بأحياء دمشق الراقية، قد يكون بيتاً له إطلالة جميلة، له شرفات ومُعْتَنى به، غرف للنوم، غرف للاستقبال، غرف للجلوس ؛ فيه كل شيء، فيه تدفئة، تكييف، أين مصير صاحب هذا البيت ؟ تحت أطباق الثرى، في حفرةٍ صغيرة ؛ هذا مصيرُ كل حي.

    أكثر ركنين متلازمين من أركان الإيمان هما الإيمان بالله واليوم الآخر:

    هذه النعم، لا بدَّ أن تفارقها بالموت، وقد تفارقُكَ قبل الموت ؛ أما الآخرة فحياةٌ أبديةٌ سرمدية، حياةٌ لا نغص فيها، ولا شيخوخة فيها، ولا حُزْنَ فيها، ولا قلق فيها، ولا برد، ولا حر، ولا مرض، ولا فقر، ولا غنى، ولا قهر.
    ﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) ﴾
    (سورة الصافات)
    وقال: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) ﴾
    ( سورة المطففين)

    إذاً أراد الله جلَّ جلاله حينما جعل هذه السورة تحمل اسم سورة البقرة أن يذكِّرنا باليوم الآخر، وأن الإيمان باليوم الآخر يأتي بعد الإيمان بالله تماماً، ولو تتبعت الآيات التي تذكر الإيمان لوجدت أن أكثر ركنين متلازمين من أركان الإيمان هما الإيمان بالله واليوم الآخر ؛ والحياة الدنيا من دون إيمان باليوم الآخر غابة ؛ يأكل القوي الضعيف، يستغل الغني الفقير، شعوبٌ تُقْهَر، شعوبٌ تموت من الجوع، وشعوبٌ تُطعِم كلابها من اللحم ما لا تأكله شعوب بأكملها في جنوبي آسيا، هناك محلات، وهناك رَفاه لكلابهم يفوق رفاه بعض الشعوب ؛ حياةٌ القوي فيها هو المسيطر،

    والضعيف مسحوق، هذه حياةٌ دُنيا من دون يوم آخر، انظر إلى مجتمع إيماني صغير، أفراده مؤمنون باليوم الآخر، تجد الإنسان يأخذ ما له ويدع ما ليس له، قلت مرةً في موضوع الزواج: لماذا ينجح الزواج الإسلامي ؟ لأن الله بين الزوجين، لأن كل طرفٍ يخشى أن يظلم الطرف الآخر، يخشى الله، يخاف من الله أن يظلم الطرف الآخر، وكل طرفٍ يرجو رحمة الله بخدمة الطرف الآخر، فكلا الزوجين يرتقيان إلى الله، ويزداد التفاهم والوئام بينهما بسبب إيمانهما بالله واليوم الآخر. فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه:

    أنا أُلِحُّ على الإيمان باليوم الآخر ؛ يجب أن يدخل هذا اليوم ـ اليوم الآخر ـ في الحسابات اليومية، وقال لي أخ: في الحسابات الساعيِّة، والأصح أن يدخل هذا اليوم في الحسابات اللحظيَّة، كل لحظة، كل عملٍ سوف تحاسب عليه.

    ﴿ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) ﴾
    (سورة الكهف)
    الإنسان المؤمن شخصية فَذَّة ؛ ذكرت مرة أن الشخصية الفَذَّة فيها درجة علمية، من هو المؤمن ؟ المؤمن عرف الحقيقة الكُبرى في الكون، عرف الله، هذا أكبر عالم لأنه عرف الله ـ دققوا في هذا القول ـ فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه، القرآن الكريم هذا الكتاب وازن بينه وبين أي كتابٍ آخر، المسافة بينهما كما بين الله وهذا المؤلِّف، لأن هذا كلام الله ؛ وازن بين من عرف الدنيا، وبين من عرف الله، بينهما كما بين الله وخلقه ؛ هذا الذي عرف الله إنسان كبير جداً، عرف الحقيقة العظمى وانسجم معها فسعد في الدنيا والآخرة، والإيمان درجة أخلاقية، لأن المؤمن محكوم بمنظومة قيمٍ أخلاقيةٍ كثيرةٍ كبيرةٍ جداً، ففي حياته نهج دقيق تفصيلي، وذكرت سابقاً أنه ما وصل المسلمون إلى ما وصلوا إليه اليوم إلا لأنهم توهَّموا أن الإسلام مجموعة عبادات شعائرية فقط، هي الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة،

    بينما يحوي الإسلام ـ وأرجو ألا أُبالغ ـ مئة ألف بند تقريباً ؛ بنود في كسب المال، بنود في إنفاق المال، بنود في الزواج، بنود في الطلاق، بنود في المجالس، بنود في أداء الحِرَف، بنود في السفر، بنود في الإقامة، بنود في تربية الأولاد، منهج كامل ؛ حينما فهم المسلمون أن الإسلام بضعة عبادات شعائرية كانوا خلف الأمم جميعاً، أما حينما فهم الصحابة الكرام أن الدين هو الحياة كما أرادها الله عزَّ وجل ساروا وفق المنهج التفصيلي، لذلك طلب العلم فرضٌ على كل مسلم، في حياة المسلمين لا شيء يعلو على طلب العلم ؛ إنَّك بالعلم تعرف من أنت، وتعرف موقعك بين الناس، وتعرف ماذا بعد الموت، وماذا قبل الموت، وما المنهج الذي ينبغي أن تسير عليه ؟ فلذلك حينما يؤمن المؤمن باليوم الآخر تنتهي مشاكله.

    الدين كله محاسبة ذاتية:

    هذه قصة نموذجية أرويها دائماً ؛ أخ من أخواننا يعمل في لف المحركات قال لي: أنا قبل أن أصطلح مع الله يأتيني محرك محروق، طبعاً أجرة لفِّ المحرك خمسة آلاف تقريباً، قال لي: أفتحه، فإذا به قَطْع بسيط جداً في خط خارجي، يُصَلَّح في دقيقة، قال لي: قبل الصلح مع الله أُصَلِّح هذا المحرِّك وآخذ خمسة آلاف عداً ونقداً، لأن صاحب المحرك لا يعرف ماذا حدث ؟ يعرف أن المحرك واقف عن العمل، إذاً هو محروق، وجاء به للفّه، قال لي: بعد أن عرفت الله عزَّ وجل أقول له: كلَّف خمساً وعشرين ليرة، مع أن الشرط خمسة آلاف، دخل بالمحاسبة الذاتية، هذه هي القصة كلّها.

    الدين كله محاسبة ذاتية، الدين كله كما قال هذا الأعرابي، هذا البدوي لسيدنا عمر، قال له: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها، فقال له: ليست لي، قال له: قل لصاحبها ماتت، ليست لي، خذ ثمنها، ليست لي، ثم ألحّ عليه، قال له: والله إنني في أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها: ماتت، أو أكلها الذئب لصدَّقني، فإني عنده صادقٌ أمين، ولكن أين الله ؟ هذا الدين كله، الدين كله أن تؤمن باليوم الآخر، ضبطْتَ لسانك، ضبطت كسبك للمال، ضبطت إنفاقك للمال، ضبطت عَيْنَك، ضبطت أذنك، ضبطت يدك، ضبطت حركاتك وسكناتك.

    أيها الأخوة الكرام سُمِّيت هذه السورة التي هي أطول سورةٍ في القرآن، سميت بالبقرة لأن البقرة دليلٌ لبني إسرائيل على اليوم الآخر، كيف أن الله سبحانه وتعالى أحيا هذا الميت الذي قال: فلان قتلني.
    هذه واحدة، فلذلك الإنسان عندما يعصي الله عزَّ وجل يجب أن يعلم أن إيمانه باليوم الآخر ضعيف ؛ لو كان إيمانه باليوم الآخر قوياً لما عصى الله أبداً ؛ مستحيلٌ أن يعصي الله إذا كان مؤمناً أنه سيحاسب ؛ إذا ذهبت إلى بلد مجاور، ووجدت في أثناء الذهاب تفتيشاً دقيقاً جداً، وأنه لا يمكن لشيء أن يمر إلا بمحاسبة دقيقة، هل تشتري شيئاً هناك ؟

    أبداً، شيء طبيعي، ما دام هناك حساب دقيق لا تشتري شيئاً، يقول لك رخيصة: ليست المشكلة أنها رخيصة، ولكن كيف سأنقلها إلى بلدي ؟ لا تمر، والمؤمن كذلك، أي شيء، قد لا يوجد عليه رقابة، أنت موثوق، الطبيب موثوق، المهن الراقية كلها موثوق بأصحابها، لو قال طبيب لمريض: تحتاج إلى تحليل، عشرة تحاليل، هل يستطيع المريض أن يناقش الطبيب ؟ لا يستطيع، تحتاج إلى التحليل الفلاني، انتهى ؛ من الذي يعلم أن هذا التحليل ضروري أو غير ضروري ؟ هو الله وحده، إذا قال لك المحامي: الدعوى رابحة، وهي خاسرة حتماً، هل بإمكانك أن تناقشه ؟ من يعلم ذلك ؟ الله وحده، والله أيها الأخوة لو صح إيمان المسلمين باليوم الآخر لأغلق قصر العدل أبوابه.

    الدين منهج كامل وليس عبادات شعائرية فحسب:
    بقي سيدنا عمر وزير عدل مع سيدنا الصديق سنتين، ولم يَرفع له أحد قضية، لو أنصف الناس لاستراح القاضي ؛ نحن مشكلتنا الإيمان باليوم الآخر، وأنك سوف تُسأل.
    ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) ﴾
    ( سورة الحجر )
    مرة ثانية يا أخواننا الكرام، أكبر وهم نتوهمه أن الذي يأتي إلى المسجد ويصلي هو صاحب دين ؛ تأتي إلى هنا لتأخذ تعليمات الصانع فقط، وتعود مرة ثانية لتقبض الثمن، دينك بعملك، دينك بدكّانك، دينك بمكتبك، دينك بعيادتك، دينك بشركتك، دينك بالحقل، دينك بالمعمل، دينك مع أولادك، هنا تأخذ تعليمات الصانع، وتعود إلى الحياة كي تُمارس هذه التعليمات ؛ وأوضح شيء كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيت الله عزَّ وجل يقول: (( اللَّهمَّ افْتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللَّهمَّ إني أسألك من فضلك ))
    [مسلم عن أبي حميد]
    يا رب أشعرني بقربي منك، أما إذا خرج من المسجد يقول: (( اللَّهمَّ إني أسألك من فضلك ))
    [مسلم عن أبي حميد]

    العمل خارج الجامع، هناك الدين، هناك الاستقامة، هناك ضبط اللسان، هناك ضبط الدخل، هناك ضبط الإنفاق ؛ نحن حينما فهمنا الدين خمس عباداتٍ شعائرية صرنا في مؤخَّرة الأمم، ولكننا يجب أن نفهم الدين منهجاً كاملاً، لهذا أكبر شيء يشغل المؤمن: ما حكم الشرع في هذا الموضوع ؟ الله عزّ وجل قادر أن يُعيدَنا جميعاً مرةً أخرى:
    سميت سورة البقرة لأن الله أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة ليضربوا ببعضها هذا المقتول، فيعيد الله جل جلاله له الحياة فيقف، ويقول: فلان قتلني ! أي أن الله عزّ وجل قادر أن يُعيدَنا جميعاً مرةً أخرى، وهذا الذي ذكره القرآن الكريم .
    الشيء الثاني: كان في بني إسرائيل رجل صالح، وكان مستقيماً ورعاً مخلصاً، لم يَدَع لأهله إلا بقرة ؛ هذه كل ثروته في الدنيا لابنه الوحيد، هذه الصفات التي في سورة البقرة:

    ﴿ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) ﴾

    انطبقت جميعها على هذه البقرة، فلم يرض صاحبها (ابن هذا الصالح) بثمن أقل من أن يُملأ جلدها ذهباً فكانت ثروةً طائلة ؛ يستنبط من هذا: أن الإنسان إذا كان صالحاً تولَّى الله مِن بعده رعاية أولاده ؛ يقول الله عزّ وجل في الأثر القدسي: ((عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه ؟ يقول هذا العبد: يا ربِ أنفقته على كل محتاجٍ ومسكين لثقتي بأنك خيرٌ حافظاً وأنت أرحم الراحمين ـ يقول الله عزّ وجل في هذا الأثر القدسي ـ عبدي أنا الحافظ لأولادك من بعدك )). [ورد في الأثر]

    معنى ذلك: تحرَِّ الحلال، ولا تأخذ ما ليس لك، ولا تَخْشَ على أولادك من بعدك، الله وليُّهم هو الحافظ الأمين، هو الذي يرعى لك أولادك بعد موتك، هو الذي يسترهم، هو الذي يرزقهم، هو الذي يحفظُهم، هو الذي يُكرمهم ؛ كم من أبٍ ترك ملايين طائلة لأولاده كسبها بالحرام من أجلهم، فكانت النتيجة أنهم بدّدوا هذه الأموال في وقتٍ قصير وعاشوا فقراء ؛ وكم من أبٍ خاف الله عزّ وجل في كسبه فتولَّى الله من بعده رعاية أولاده، لا تقلق على أولادك، اقلق على شيء واحد هو: أن تقع في معصية ؛ هذا الذي مَكَّنك الله منه ؛ معظم الناس الآن يكسبون المال الحرام من أجل أولادهم،
    من أجل بناء مستقبل أولادهم، شراء بيوت، تزويج أولادهم، يكسبون المال الحرام، ما الذي يحدث ؟ هذا المال الذي كسبوه حراماً يبدَّد، ويذهب كما أتى، ويبقى أولادهم فقراء، تتمة الأثر القدسي يقول الله لعبدٍ آخر: (( عبدِ أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه ؟ يقول: يا ربِ لم أنفق منه شيئاً مخافة الفقر على أولادي من بعدي، يقول الله عزّ وجل: إن الذي خشيت على أولادك من بعدك قد أنزلته بهم ))

    [ورد في الأثر]

    النقطة الثانية احرص على الدخل الحلال وعلى طاعة الله والله سيتولى أولادك من بعدك:
    هي بقرة مباركة، لأن الأب كان صالحاً:
    ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا (82)﴾
    ( سورة الكهف )
    بنى سيدنا الخضِر الجدار لأن أباهُما كان صالحاً، فلذلك الحقيقة الثانية في هذه السورة: احرص على الدخل الحلال، احرص على طاعة الله، ولا تفكر في مصير أولادك، لأن الله سيتولى أمرهم، إذا كنت أباً صالحاً سيحفظ الله لك أولادك من بعدك، وسيتولى أمرهم ؛ والله كم من قصةٌ مؤثرةٍ ؛

    رجل اتقى الله فكان أولاده من بعده أعلاماً، قمماً، وكم من رجل لم يتق الله في كسب المال، ترك أيضاً ملايين طائلة فرأى صديق المتوفى ابن صديقه في الطريق فقال له: إلى أين أنت ذاهب ؟ قال بالحرف الواحد: إنني ذاهبٌ لأشرب الخمر على روح أبي، روح الميت تُرفرف فوق النعش، تقول: يا أهلي، يا ولدي، لا تلعبَن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حلَّ وحرم فأنفقته في حله وفي غير حله فالهناء لكم والتبعة علي.

    النقطة الثانية: أن هذه البقرة التي جاءت صفاتها مفصَّلةً انطبقت على تلك البقرة التي كانت لرجلٍ صالح فأبى ولده ثمناً لها إلا مِلءَ جلدها ذهباً، أحياناً يَدَعُ أب صالح قطعة أرض، بيتاً، دُكَّاناً صغيرة، تدرّ هذه الدكان على أولاده من بعـده خيراً كثيراً، لأنه كان صالحاً، لا تقلق على أولادك، اقلق على دخلك، حلال هو أم حرام ؟ أنت لست مكلفاً أن تُطعم أولادك المال الحرام، هذه النقطة الثانية.

    النقطة الثالثة أن هذه السورة سورة مدنية :

    النقطة الثالثة في هذا الدرس: أن هذه السورة سورة مدنية ؛ طبعاً القرآن الكريم كما تعلمون مكيٌّ ومدني، والعلماء اختلفوا هل الآية التي نزلت في مكة مكية، والتي نزلت في المدينة مدنية إطلاقاً ولا علاقة للزمن بها، مراعين المكان فقط ؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام بعد فتح مكة أُنزل عليه القرآن، فالآيات التي أُنزلت عليه في مكة مكيةٌ أم مدنية ؟ هناك علماء راعوا الزمن فقط، فكل آيةٍ نزلت بعد الهجرة في أي مكان فهي مدنية، وكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة في أي مكان فهي مكية، هذا مقياس زمني، ويوجد مقياس مكاني ؛ فكل آيةٍ نزلت في مكة بأي وقت فهي مكية، وكل آية نزلت في المدينة فهي مدنية.

    الذي يعنينا أن القرآن المكي له خصائص، والمدني له خصائص ؛ يركِّز القرآن المكي على الإيمان بالله عن طريق الآيات، ويركِّز على اليوم الآخر، اِقرأ سورة من الأجزاء الأخيرة من القرآن الكريم، سورة عمَّ، النازعات، المرسلات، يركِّز على الإيمان بالله، وعلى الإيمان باليوم الآخر، لأنهما أصلا العقيدة، يركز على الرد على الكفار والملحدين، والمشركين والمنكرين، وعلى ذكر الجنة والنار، تكاد هذه القواسم تتجاذب السور المكية، الإيمان بالله من خلال الآيات، الإيمان باليوم الآخر، الرد على المشركين والكفار والملحدين، ذكر الجنة والنار، لو انتقلت إلى البقرة، إلى آل عمران، إلى النساء، إلى الأنعام، يختلف الأمر، تجد آيات التشريع اِفعل ولا تفعل:

    ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ٌ (282) ﴾
    ( سورة البقرة )

    شيء جميل، تشريع. كل دعوةٍ إلى الله لا بد أن تمر بمرحلتين:
    يوجد منافقين..
    ﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا (120) ﴾
    ( سورة آل عمران )

    صـار هناك طبقة منافقين، لم يكن في مكة منافقون لأن الإسلام كان مُضطَهَدَاً، فلا داعي لأحد أن ينافق ؛ إذا أعلن الكفر يمشي على عرض الطريق، كان المسلمون مضطهَدين، لذلك لم يكن نفاق في مكة، أما حينما أُسس للمسلمين دولة قوية في المدينة صار هناك نفاق ؛ تجد في السور المدنية حديثاً عن التشريع، وحديثاً عن المنافقين ليحذِّر المؤمنين، وحديثاً عن علاقة المسلمين بغيرهم، هذا في المدينة.
    ما الذي يعنينا ؟ الذي يعنينا هو أن كل دعوةٍ إلى الله لا بد أن تمر بمرحلتين: مرحلة التعريف بالله واليوم الآخر، ومرحلة التعريف بالمنهج، وأية دعوةٍ إلى الله غَفَلَت عن تعريف أتباعها بالله واليوم الآخر دعوةٌ عرجاء، دعوةٌ لا تنجح، فأنت حينما تأمر الإنسان أن يصلي، يصلي لمن ؟ تأمره أن يستقيم، يستقيم خوفاً مِن مَن ؟ لا يعرف الله !! وكنت أقول دائماً: إذا عرف الإنسان الأمر، ولم يعرف الآمر تفنن في التفلُّت من هذا الأمر،

    وهذا حال المسلمين اليوم أعظم من أن يُخفى، مغنية تسأل عالماً: إنني تبت فهل يوجد مانع أن أغني ؟ لا يوجد مانع بموضوعات دينية ؟ صار الغناء مسموحاً، والاختلاط مسموحاً، والبنوك مسموحة في مصر، لم يعد هناك شيء، كل شيء له فتوى، وكنت أقول متحسّراً: إنَّ لكل معصيةٍ فتوى.

    إذا عرف الإنسان الأمر ولم يعرف الآمر تفنن في التفلت من هذا الأمر، وهذا حال المسلمين ؛ صار الإسلام فلكلوراً، مظاهراً، لباساً إسلامياً ؛ آيات قرآنية نزين بها البيت، وتوجد سهرات لا ترضي الله في هذا البيت، توجد أجهزة لا ترضي الله في هذا البيت، توجد علاقات لا ترضي الله في هذا البيت، أما كله آيات قرآنية، وصورة الكعبة، وآية الكرسي ؛ بقي الإسلام مظاهراً، مؤتمرات إسلامية، كتباً فخمة جداً، العنوان على عرض الكتاب، أناقة بالطباعة، أشرطة مرئية ومسموعة، ومكتبات، وكل شيء في أعلى درجة، لكن لا توجد استقامة، لا يوجد التزام ، وكأن الله عزّ وجل تخلَّى عنا.

    الآيات المكية تُعرفنا بالآمر بينما الآيات المدنية تُعرفنا بالأمر الإلهي:

    ذكرت هذا فيما مضى، أن شخصاً سألني فقال لي: لِمَ ندعو الله فلا يستجيب لنا ؟ قلت له: سُئل الإمام إبراهيم بن الأدهم هذا السؤال مرةً في البصرة فقيل له: إن الله تعالى يقول:
    ﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (60) ﴾( سورة غافر )

    ونحن ندعو الله فلا يستجيب لنا ؟ قال: " لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء ؛ ادعيتم أنكم آمنتم بالله ولم تنصاعوا لأمره، قرأتم القرآن فلم تعملوا به، ادعيتم حب نبيَّكم فلم تعملوا بسنَّته، قلتم: إن النار حق فلم تتقوها، قلتم: إن الجنة حق فلم تعملوا لها، دفنتم موتاكم فلم تعتبروا.." ذكر اثني عشر بنداً، وقال: فكيف يُستجاب لكم ؟!!
    الذي أريده ما دام هناك مّكي ومدني، معنى ذلك أن القرآن المكي يدعوك إلى الإيمان بالله واليوم الآخر عن طريق الآيات، وأيَّة دعوةٍ إلى الله تُغفل هذا الشطر الكبير من الدين فهي دعوةٌ عرجاء لا تنجح، والآن ترى أننا اعتنينا بالفقه على حساب العقيدة، يجب أن نعتنيَّ بالفقه والعقيدة معاً، والشيء الدقيق أن الإنسان حينما يؤمن بالله إيماناً صحيحاً، هو يبحث عن أمره ونهيه، يبحث بشكلٍ حثيث، لذلك المؤمن الصادق شغله الشاغل ما حكم الشرع في هذا ؟

    أنت أحياناً موظف في شركة، نُحِّيَ المدير العام السابق عن عمله وجاء مدير جديد، أنت تسأل: من هو ؟ فلان، ما ثقافته ؟ ما أخلاقه ؟ ما طبيعته ؟ ما طباعه ؟ بعد أن عرفت شيئاً عن شخصيته الآن تنتظر الأوامر والنواهي ؛ سلوك طبيعي جداً أن تعرف الآمر أولاً، ثم الأمر ثانياً ؛ فنحن في المكِّي عرفنا الآمر، الآن في المدني يجب أن نعرف الأمر ؛ لذلك أيُّ أمرٍ لم يسبقه تعريفٌ بالآمر هذا الأمر لا قيمة له، لأن شرف الرسالة من شرف المُرسل، وقيمة الأمر من قيمة الآمر، وكلَّما عرفت الله أكثر وَقَّرْتَ أمره أكثر، وكلَّما عرفت الله أكثر صدَّقتَ بوعده أكثر، وكلَّما عرفت الله أكثر صدَّقتَ بوعيده أكثر ؛ القضية دقيقة جداً، لذلك لا تحاول أن تُملي على الناس الأوامر الإلهية دون أن تعرِّفهم من أمر بها ؛ ماذا عند الله لو أطعته ؟ وماذا عنده لو عصيته ؟ إذا لم يكن هناك فكرة واضحة ماذا ينتظر الطائع، وماذا ينتظر العاصي فلا تعبأ لا بالأمر ولا بالنهي.

    بالكون تعرف الله وبالشرع تعبده:

    هذا درس بليغ لنا، فلذلك أنا حاولت في أول التفسير أن أبدأ بالقسم المكي أي بالثلث الأخير ثم بالثلث الثاني، ورجوت الله عزّ وجل أن يُمَكَّن الإيمان بالله في قلوب الأخوة المؤمنين.
    الآن يأتي التشريع تاجاً يتوَّج به المؤمن ؛ أنت حينما تعرف الله تبحث عن أمره ونهيه تبحث عما يرضيه، لذلك بالكون تعرفه وبالشرع تعبده ؛ هذان الخطَّان في عهد النبي ؛ الخط الأول: التعريف بالآمر، والثاني: التعريف بالأمر ؛ الحد الأدنى الآن أن يسير الخطَّان معاً، لذلك لا بد من درسٍ تعرف الله فيه، التفكُّر في خلق السماوات والأرض هذا الخط الأول، كل إنسان يأكل، ويشرب، ويتزوج، وينام، ويستيقظ، ويتأمَّل، وينظر، يجب أن تعلم أن أرقى عبادة على الإطلاق تتقرَّب بها إلى الله أن تتفكَّر في خلق السماوات والأرض، من أجل أن تزيد معرفتك بالله، من أجل أن يكون أمر الله عندك عظيماً:

    ﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً (14) ﴾
    ( سورة نوح)

    إذا فكَّرت في خلق الإنسان أطواراً ترجو لله الوقار، من أين يأتي الوقار ؟ يأتي إذا فكَّرت في خلق الله عزّ وجل: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾
    ( سورة فاطر: الآية 28)
    أيها الأخوة الكرام، علمتنا كلمة مكي ومدني أن الدعوة ينبغي أن تمر بمرحلتين ؛ مرحلةٍ نتعرف فيها إلى الآمر، والمرحلةٍ الثانية نتعرف بها إلى الأمر الإلهي. النقطة الرابعة يُعَلِّمنا الله جلَّ جلاله أن التوجيه غير المباشر أبلغ أثراً من التوجيه المباشر:
    هذه السورة أيها الأخوة ـ سورة البقرة ـ من أطول سور القرآن الكريم، فيها خاصة ثالثة أُسأل عنها دائماً، هذه الخاصة: حديثٌ طويل عن بني إسرائيل وما علاقتنا ببني إسرائيل:
    ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ (134) ﴾
    ( سورة البقرة )

    صفحات طويلة، سيدنا موسى، وعلاقته بفرعون، وعلاقته بقومه، وكيف نجَّاه الله من فرعون ؟ وكيف انتقل إلى سيدنا شعيب ؟ الحديث عن بني إسرائيل له مغزى هو: أن الأسلوب التربوي الحكيم ينطلق من هذه المقولة: " إيَّاكِ أعني واسمعي يا جارة "، يُعَلِّمنا الله جلَّ جلاله أن التوجيه غير المباشر أبلغ أثراً من التوجيه المباشر،
    فكل الأمراض التي وقعت بها بنو إسرائيل المسلمون مرشَّحون لأن يقعوا بها، فأيُّ مرضٍ من أمراض بني إسرائيل نحن مُرشَّحون لأن نقع فيه:
    ﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) ﴾

    (سورة البقرة)
    هذا يعتقده المسلمون اليوم، يعتقدون بمفهومٍ ساذج للشفاعة، اِفعل ما شئت، والنبي عليه الصلاة والسلام يشفع لك: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) ﴾
    ( سورة المائدة)
    هذا مرضٌ أصاب المسلمين: ﴿ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا (93)﴾
    ( سورة البقرة )

    لو تتبعت أمراض بني إسرائيل لوجدت أن كل هذه الأمراض قد تلبَّّسنا بها ؛ فإذا قرأنا قصة بني إسرائيل نقرأها كي نتعظ، كي نعتبر من هؤلاء القوم الذين خرجوا عن منهج ربهم فاستحقوا لعنة الله عزّ وجل، هذه النقطة الثالثة.ملخص لأهم نقاط الدرس:
    نعيد ملخص هذه النقط:
    الأولى: سميت هذه السورة بسورة البقرة تأكيداً على الإيمان باليوم الآخر، وأن الناس جميعاً سيحاسبون حساباً دقيقاً جداً، ومن حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً:

    (( ألا يا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة ألا يا رب نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة ألا يا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين ألا يا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم..))
    [ابن سعد والبيهقي والديلمي عن أبي البجير]
    العبرة باليوم الآخر.
    الشيء الثاني: أن الذي يحيا حياةً مستقيمة ينبغي ألا يقلق على أولاده من بعده، لأن الله عزّ وجل هو الذي سيحفظ له أولاده من بعده، أي عليك أن تستقيم وانتهى الأمر:
    ﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) ﴾

    ( سورة الزمر)
    وقال: ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) ﴾
    ( سورة الأعراف)
    النقطة الثالثة: هي أن هذه السورة مدنية، والسور المدنية فيها تشريعات، والتشريع مكانه الطبيعي بعد معرفة المُشَرِّع، الأمر مكانه الطبيعي بعد معرفة الآمر، فإذا عرفنا الآمر وعرفنا الأمر تكاملنا، ولا تنسَ أن الله سبحانه وتعالى جعل التشريع نصف الدين تماماً.
    والنقطة الرابعة في سورة البقرة: أن كل قصص بني إسرائيل بأمراضهم، وتقصيرهم، وانحرافاتهم تنطبق علينا، ذكرت مرة أنّ هؤلاء الذين نسوا:
    ﴿ حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (14) ﴾

    (سورة المائدة)

    معنى ذلك متى تكون بيننا العداوة والبغضاء ؟ إذا نسينا حظاً مما ذُكرنا به، كأن للعداوة والبغضاء قانون. في مجتمعنا قواسم مشتركة كبيرة جداً ومع ذلك هناك عداوة وبغضاء:
    قال تعالى:
    ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ (91) ﴾
    (سورة المائدة)
    وقال: ﴿ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (14) ﴾
    (سورة المائدة)
    معناها في مجتمعنا قواسم مشتركة كبيرة جداً، ومع ذلك عداوة وبغضاء مع هذه القواسم المشتركة، وصف الله عزّ وجل بني إسرائيل فقال: ﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى (14) ﴾
    ( سورة الحشر )
    يحوي المجتمع عشرات العوامل المشتركة، ومع ذلك عداوةٌ وبغضاء ما بعدها من عداوةٍ وبغضاء، هذا قانون ثالث، فأردت من هذا الدرس أن يكون مقدمةً للدروس القادمة التفصيلية، اسم البقرة، والأبُ الصالح، وبنو إسرائيل، لماذا كثر ذكرهم في هذه السورة ؟ والشيء الرابع المكي والمدني. والحمد لله رب العالمين
    التعديل الأخير تم بواسطة بذور الزهور; الساعة 14-09-2014, 10:04 PM. سبب آخر: التنسيق

  • #2
    الدرس الثانى من تفسير البقرة لنابلسى



    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

    اللغة من تكريم الله للإنسان وهي أداة اتصالٍ راقية جداً:

    أيها الأخوة الكرام... مع الدرس الثاني من سورة البقرة.
    ﴿ الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) ﴾
    أيها الأخوة الكرام... الكتاب هو الذي يُحْفَظُ في السطور، ويُقرأ مدى الدهور، والقرآن هو الذي يُحفظ في الصدور، ويُقرأ، يغلب على القرآن أنه يُقرأ، إذاً يحفظ في الصدور، ويغلب على الكتاب أنه يكتب، ويحفظ في السطور ؛ فالقرآن والكتاب اسمان لشيءٍ واحد ؛ لكن هذا يُذَكِّرنا بقوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) ﴾
    ( سورة الرحمن)

    البيان اللُّغة، واللغة من تكريم الله للإنسان ؛ أداة اتصالٍ بين أفراد النوع، أداة اتصال راقية جداً، أداةٌ يعبِّر بها الإنسان عن فكره وشعوره، أداةٌ اجتماعية ؛ يتَّصل الإنسان مع الآخرين عن طريق اللغة ؛ لو أن اللغة تُقرأُ، لو أن اللغة تقتصر على أن تُلقى، وأن تُسمع، لما انتقلت ثقافةٌ من جيلٍ إلى جيل، ولا من أمةٍ إلى أمة، لذلك قال تعالى:
    ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) ﴾

    ( سورة العلق)

    البيان من أخص خصائص الإنسان:
    اللغة حديثٌ واستماع، واللغة كتابةٌ وقراءة ؛ حينما مَكَّنَ الله الإنسان من أنْ يكتب اللغة، ومن أن يقرأ المكتوب، معنى ذلك أن هذه الـعلوم التي بين يدي الإنسان انتقلت من جيلٍ إلى جيل، ومن عصرٍ إلى عصر، وعن طريق الترجمة من أمةٍ إلى أمة ؛ فالإمام القُرطبي مثلاً صاحب التفسير المشهور، لو لم يكن هناك كتابة أين علمه ؟
    ضاع بموته، فأيُّ عالمٍ صَبَّ علمه في كتاب، فهذا الكتاب انتفع به أبناء عصره الذين لم يلتقوا به، وانتفع به الذين جاؤوا بعده إلى يوم القيامة، وانتفعت به الأمم الأخرى عن طريق الترجمة، إذاً معنى قوله تعالى:

    ﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) ﴾
    (سورة الرحمن)

    البيان من أخص خصائص الإنسان، وهو من تكريم الله للإنسان ؛ عَلَّمك أن تنطق، وعلَّمك أن تفهم الكلام الذي ينطقه غيرك، وعلمك أن تكتب، وعلمك أن تقرأ المكتوب ؛ فلذلك الكتاب محفوظٌ في السطور، ويقرأ على مدى الدهور، والقرآن محفوظٌ في الصدور، ويُقْرَأُ بلسانٍ عربيٍ مبين. فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه:
    أيها الأخوة... أما كلمة الكتاب.

    ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ (2) ﴾
    هذه (أل) العهد، أيْ: هذا الكتاب الذي يتميَّز عن كتب أهل الأرض من آدم إلى يوم القيامة، أيُّ كتابٍ ألَّفه إنسان، أُُدخل إلى أضخم مكتبةٍ في العالم، كل هذه الكتب في كفة، وهذا القرآن في كفةٍ أخرى ؛ إنه كلام الله، وفضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه ؛ لذلك هذا الكتاب، هو كتابنا المقرر، هو أساس سعادتنا، هو منهجنا، هو دستورنا، هو حبل الله المتين، هو الصراط المستقيم، هو النور المبين ؛ لا تنس هذه المقولة " فضل كلام الله على كلام خلقه، اِقتنِ أعلى كتاب ألَّفه إنسان في العالم، المؤلف إنسان لكن هذا القرآن من عند خالق الأكوان.

    دخل مغنٍ بريطاني شهير إلى مكتبة في إيطاليا فرأى فيها القرآن الكريم، فسأل صاحب المكتبة: من مؤلِّف هذا الكتاب ؟ رفع صاحب المكتبة يده إلى السماء، وأشار إلى الله عزَّ وجل، استهزأ هذا المغنِي بهذه الكلمة، واشترى الكتاب ليقرأه، ولينتقده، وليوبِّخ صاحب المكتبة على هذا الادعاء ؛ فلما قرأه آمن به، وترك الغناء، وصار من دعاة الإسلام، واشترى بثروته الطائلة، كل تسجيلاته، وأحرقها ؛ فهذا الكتاب كتاب خالق الأكوان، هذا كتابنا، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (( خيركم من تعلم القرآن و علمه )).

    [ البخاري عن عثمان ]

    خيركم على الإطلاق. الجهاد الكبير هو نشر كتاب الله و تبيانه و شرحه و حَمْل الناس على تطبيقه:
    الجهاد ذِرْوة سنام الإسلام، أعلى شيء في الإسلام الجهاد، وسمَّى الله نشر هذا الكتاب وتِبيانَه للناس، وتفسيره، وشرحه، و حَمْل الناس على تطبيقه سمَّى ذلك: جهاداً كبيراً، فقال تعالى:
    ﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) ﴾

    (سورة الفرقان )
    والشقي كلُّ الشقي الذي جاء إلى الدنيا، وخرج منها، ولم يفهم كلام الله.

    ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ (2) ﴾

    هذه (أل) العهد، أيْ: كتاب الله، هذا الكتاب متميِّز عن كتب بني البشر قاطبةً ؛ فما من كتابٍ على وجهِ الأرض إلا فيه خطأ، وفيه صواب، أما الكتاب الذي لا ريب فيه فهو هذا الكتاب، فلن تجد في هذا الكتاب حرفاً ثبت أنه خطأ، لأنه كلام خالق البشر.

    ابتعاد القرآن الكريم عن الخلل لأنه كلام خالق البشر:
    أنا أقول لكم هذه الكلمة: مهما كان المؤلف عظيماً، قد تكون معطيات العصر الذي أُلِّف فيه الكتاب واضحةً، فإذا قرأت كتابه بعد مئة عام وجدت فيه خللاً ؛
    هذا الكتاب الذي أنزله الله على النبي صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرناً، هل في تقدُّم العلوم المُذهل في كل أنواع العلوم ؛ في الفلك، وفي الطب، وفي علم القارَّات، وفي الجيولوجيا، وفي التاريخ، هل هناك حقيقةٌ علميةٌ قاطعةٌ صَدَمت آيةً قرآنية ؟ مستحيل، لأنه كلام خالق البشر ؛ وليس هذا الكلام من عند النبي عليه الصلاة والسلام. مثلاً: قال تعالى:

    ﴿ وَالْخَيْلَ (8) ﴾
    والخيل أمام النبي.. ﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً (8) ﴾
    (سورة النحل )
    هذا الشيء موجود في الجزيرة العربية، لو كانت هذه الآية من صنع النبي، لانتهت عند هذا الحد.. ﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) ﴾
    لم يكن في عهد النبي طائرة، لم يكن في عهد النبي سيَّارة، ولم يكن في عهد النبي حَوَّامة، ولم يكن في عهد النبي مركبة فضائية، لكنه كلام خالق الكون، قال تعالى: ﴿ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) ﴾

    ( سورة النحل)

    فالذي يركب طائرةً ويقرأ هذه الآية يرى أن الطائرة دخلت في هذه الآية، والذي يركب مركبةً فخمة ويقرأ هذه الآية يرى أن المركبة دخلت في هذه الآية، لأنه كلام خالق البشر. من استوعب كلام خالق البشر سعد به في الدنيا والآخرة :
    يقول الله عزَّ وجل:
    ﴿ وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) ﴾
    (سورة الحج)
    الإنسان يعجَب، لِمَ لَمْ يقل الله عزَّ وجل: ﴿ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ
    القصد أن الفج بعيد، لكن لأن الأرض كرة فإنك كلما ابتعدت عن إحدى نقاطها صار البعد عمقاً.. ﴿ وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ (28) ﴾
    (سورة النحل)

    إذاً هذا الكتاب غير كتب أهل الأرض، وما أتعس الذي أمضى حياته مع كتبٍ من صنع بشر ؛ أمضى حياته في الأدب، في الشعر، في القصة، كل هذا من صنع البشر، أما إذا استوعب كلام خالق البشر سعد به في الدنيا والآخرة . تميز القرآن الكريم عن كل الكتب السماوية السابقة:
    شيءٌ آخر..

    ﴿ ذَلِكَ (2) ﴾
    و(أل) للعهد، أي أن هذا الكتاب متميزٌ عن كل الكتب السماوية السابقة، كيف ؟ اِئتمن الله البشر على الكتب السماوية السابقة لحكمةٍ أرادها، وكانت معجزة النبي شيئاً، والكتاب الذي أُنزل عليه شيءٌ آخر ؛ معجزة سيدنا عيسى أنه أحيا الموتى ؛ ومعجزة سيدنا موسى أنه ضَرَبَ البحر فكان طريقاً يبساً، والأفعى، والعصا، فالمعجزة شيء، والكتاب الذي نُزِّل عليه شيءٌ آخر، الكتب السماوية اِئتمن الله البشر عليها، بينما القرآن الكريم يتمَيَّز من بين الكتب السماوية أن الله تولى حفظه بذاته، قال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) ﴾
    ( سورة الحجر)

    القرآن الكريم هو المُهَيمن على كل الكتب الأخرى:

    لذلك لا يستطيع بشر أن يبدِّل حرفاً واحداً، ولا أن يبدِّل حركةً، ولا أن يضع آيةً مكان آية، وليس معنى حفظ الله عزَّ وجل لهذا القرآن أنه لا تجري محاولةٌ لتغييره، الآن في الإنترنت سور اِدّعى الذي وضعها أنها من سورة البقرة، رقم ثلاثة وعشرين، ولا علاقة لها بالقرآن إطلاقاً ؛ الأمر يكشفه الأطفال،
    وفي درسٍ آخر إن شاء الله أقرأ عليكم هذه السور التي افتعلها أعداء الدين، وجعلوها كأنها سور من كتاب الله عزَّ وجل ؛ إنك إذا قرأتها أمام طفل يكشف أنها اِدِّعاء وكذب، أمام طفل من المسلمين ؛ إذاً هذا الكتاب كتاب الله عزَّ وجل يتميز عن بقية الكتب السماوية أن الكتب السماوية اِئتمن الله خَلْقَهُ على حفظها، فما الذي حصل ؟

    ﴿ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ (13) ﴾
    ( سورة المائدة: آية " 13 " )

    أو بدلوا وحرَّفوا لأهوائهم، فالكتب السماوية السابقة غاب منها قسم وحرف وبُدل منها قسمٌ آخر، إذاً ليست هي كلمة الله الآن ؛ وكما أن الكتب السابقة أُنزلت على قومٍ معيَّنين لفترةٍ معينة ؛ بينما القرآن الكريم هو المُهَيمن على كل هذه الكتب.. ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ (85) ﴾
    ( سورة آل عمران )
    ﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (33) ﴾

    ( سورة الصف )

    القرآن جامعٌ لكل أحكام السماء من بدايات الرسالات حتى يَرثَ الله الأرض ومن عليها:
    إذاً:
    ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ (2) ﴾
    هذا الكتاب متميِّز على كل الكتب السماوية السابقة، وعلى كل الكتب التي ألَّفها بنو البشر قاطبةً.. ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ (2) ﴾
    بعضهم قال: القرآن جامعٌ لكل أحكام السماء، من بدايات الرسالات، حتى يَرثَ الله الأرض ومن عليها، هذا الكتاب ليس للأمة العربية، ولا للمسلمين، بل هو لكلِّ أبناء الأرض قاطبةً، والله تولى بنفسه.. بذاته.. حفْظَ كتابه ؛ والعلماء يُضيفون على ذلك أنه من لوازم حفظ كتاب الله جلَّ جلاله حفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛

    لأن سنة النبي مبيِّنة للقرآن، فإذا ضاع التفسير ضاع الأصل ؛ فإذا قلت: إن الله تولى حفظ القرآن الكريم، معنى ذلك أنه تولى أيضاً حفظ سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كيف تولى حفظها ؟ عن طريق علماء آتاهم الله قدراتٍ عاليةً جداً فمحَّصوا، ونَقَّبوا، ودققوا، وحفظوا سنة رسول الله الصحيحة.تولي الله عز وجل بذاته حفظ القرآن الكريم :

    يطمئننا الله عزَّ وجل أن هذا القرآن لن (لن تفيد تأبيد النفي) أي لن تصل إليه يد التحريف والتبديل، لذلك قال:
    ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ (2) ﴾
    إذا قرأته لا يمكن أن يتبادر إليك شكٌ طفيف أن هذه الكلمة ليست من القرآن، هذا الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم هوَ هو بين أيدينا، بسوره، وآياته، وكلماته، وحركاته، وسكناته.. ﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ (2) ﴾
    لأن الله بذاته تولى حفظ القرآن الكريم ، لذلك لا يمكن أن يطرأ عليه أي تغيير، لكن ليس معنى ذلك أنه لا تجري محاولات، تجري، بدأها مسيلمة الكذاب، فإذا قرأت ما صاغه، وادَّعى أنه وحيٌ من السماء لأخذك الضحك إلى مكانٍ بعيد.

    الإعجاز في القرآن الكريم على أنواع منها :
    1 ـ الإعجاز الإخباري:

    أيها الأخوة الكرام... قد يسأل سائل: ما السبيل إلى أن أؤمن أن هذا القرآن من عند خالق الأكوان ؟ السبيل كلمة واحدة: إعجازه، لا يستطيع بنو البشر مجتمعين إلى يوم الدين أن يأتوا بآيةٍ واحدة إطلاقاً، فهذا الكتاب فيه إعجاز، والإعجاز أي أن البشر يَعْجزون عن أن يأتوا بمثله، أولاً فيه إعجاز إخباري..
    ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ (44) ﴾

    ( سورة آل عمران: آية " 44 " )
    ما كنت لديهم، جاء القرآن الكريم بآيات تبيِّن، وتوضِّحُ التاريخ البشري بدقةٍ متناهية ؛ ففي مصر مثلاً كان هناك فراعنة، وفي حقبةٍ قصيرةٍ جداً حكم مصر ملوك، الحاكم الذي عاصر سيدنا يوسف جاء ذكره في القرآن ملك فقال: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ (54) ﴾
    ( سورة يوسف )
    أما الذي عاصر سيدنا موسى كان فرعوناً: ﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ (51) ﴾
    (سورة الزخرف )

    هناك دقة بالغة لأن هذه القصص سمَّاها العلماء: من إعجاز القرآن الإخباري، قال تعالى: ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ (4) ﴾(سورة الروم)

    إعجاز القرآن الإخباري يتناول الماضي والحاضر والمستقبل:

    إعجاز القرآن الإخباري يتناول الماضي والحاضر والمستقبل ؛ قصة فرعون مع سيدنا موسى، وقصة سيدنا يوسف مع ملك مصر، وقصة أقوامِ عادٍ وثمود جاءت بتفصيلٍ شديد ودقةٍ شديدة، هذا اسمه: الإعجاز في الإخبار عن الماضي ؛ وفي القرآن الكريم إخبارٌ عن الحاضر البعيد مكانياً عن رسول الله ؛ وفي القرآن الكريم إعجازٌ إخباريٌ عن المستقبل، قال تعالى:
    ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ (4) ﴾
    (سورة الروم)
    وفعلاً في بضع سنين تزيد عن الثلاثة وتقِلُّ عن التسعة غلب الرومُ الفرسَ في أدنى الأرض، قال بعض علماء التفسير: أي في أخفض نقطةٍ من الأرض،
    ولم يكن أحدٌ يعلم قبل عشرات السنين أن غور فلسطين أخفض نقطةٍ في الأرض، عُرِفَ بعد اكتشاف أشعة الليزر أن غور فلسطين أخفض نقطة في الأرض إطلاقاً، والمعركة تاريخياً تَمَّت في غور فلسطين، قال تعالى:
    ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ (4) ﴾

    (سورة الروم)
    في القرآن الكريم إعجاز إخباري ؛ إخبار عن الماضي، وإخبار عن الحاضر، وإخبار عن المستقبل.
    2 ـ الإعجاز العلمي:


    وفي القرآن الكريم إعجاز علمي، مثلاً، اكتشف علماء الفيزياء الآن أن كل عنصرٍ في الأرض من دون استثناء ذرَّات، وفي الذرة نواة، وحول النواة مسارات، وعلى المسارات كهارب، قال تعالى:
    ﴿ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) ﴾

    ( سورة يس)
    مثل آخر: اِكتشف أن جنس المولود ذكراً كان أو أنثى يحدده الحوين لا البويضة، ولا علاقة للبويضة بتحديد جنس المولود، قال تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) ﴾(سورة النجم)
    ﴿ وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) ﴾(سورة الحج)
    الأرض كرة. ﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
    ( سورة النمل)

    الأرض تدور، تمُرُّ الجبال مر السحاب ثلاثين كيلو متراً بالثانية، كل ثانية تقطع الأرض في دورتها حول الشمس ثلاثين كيلو متراً، في الدقيقة تقطع ألفاً وثمانمئة كيلو متر، في العشر دقائق ثمانية عشر ألف كيلو متر، نحن الآن مشينا عشرين ألف كيلو متر، من بداية الدرس وحتى الآن.. ﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ (88) ﴾
    ( سورة النمل)

    الإعجاز العلمي في القرآن الكريم:

    منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، وإلى بضع عشراتٍ من السنين كان يُظَن أن الشمس ثابتة، والكواكب تدور من حولها، على أقل تقدير المجموعة الشمسية تدور حول الشمس، ثم اكتشف أن الشمس تجري، قال تعالى:
    ﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) ﴾
    ( سورة يس)
    يوجد بالقرآن إعجاز علمي ؛ لم يكن على عهد النبي طائرات، ولا صواريخ، ولا مناطيد، قال: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ (125) ﴾
    ( سورة الأنعام )
    تـرى أنت السحاب سقفاً أبيضاً، فإذا ركبت طائرةً ترى السحاب من فوق جبالاً، ودياناً، هِضاباً، سهولاً.. كتضاريس الأرض تماماً.. وهذا ذكر في القرآن الكريم ؛ طبعاً أنا أعطيكم أمثلة على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، الإعجاز العلمي في القرآن الكريم الآن أصبح اختصاصاً اسمه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) ﴾
    ( سورة الطارق)
    فَهِمَ العلماء أن هذا البخار يصعد إلى السماء ويرجع مطراً، هذا المعنى الذي يتناسب مع معطيات ذلك العصر، ثم فهموا أن هذه الموجات الكهرطيسية تصعد إلى السماء فترُدُّها طبقة الأثير، ولولا هذه الطبقة التي ترجع هذا البث لما كان هناك إذاعة ولا نقل صورة عبر الفضاء.. ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) ﴾
    ( سورة الطارق)
    ثم اكتشف العلماء أن كل كوكبٍ في الكون يسير في مسارٍ مُغْلَق، معنى مسار مغلق أنه يرجع إلى مكان انطلاقه بعد حين، فالصفة الجامعة المانعة الشاملة لكل الكون أن السماء ذاتُ رجعٍ.. ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) ﴾
    ( سورة الطارق)
    3 ـ الإعجاز البلاغي:
    الطريقة كي تؤمن أن هذا القرآن كلام الله هو الإعجاز ؛ الإعجاز الإخباري، الإعجاز العلمي، الإعجاز البلاغي.. ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا (6) ﴾
    ( سورة هود )

    احذف ( مِن ) الكلام ليس قرآناً، لأن من تفيد استغراق أفراد النوع، احذف (ما) و (إلا) ليس قرآناً، لأن أسلوب النفي والاستثناء يفيد الحصر والقصر، لو ألغينا النفي والاستثناء فقد ألغينا القصر، اِحذف (على).. ما من دابةٍ إلا الله يرزقها.. ليست قرآناً، لأن حذف (على) أَلغى الإلزام الذاتي لله عزَّ وجل، قل: الدواب صار محدوداً (أل) العهد، بعض الدواب، الدواب الأهلية، أما جاءت دابة منكَّرة، مُنَكَّرة تنكير شمول ؛ قد تقف أمام آيةٍ ترى فيها إعجازاً بلاغياً، هنا استثناء، هنا حصر، هنا قصر، هنا تقديم، هنا تأخير، قال تعالى:
    ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ (5)﴾

    (سورة الفاتحة )
    إذا قال: نعبد إياك.. هل يختلف المعنى ؟ يختلف اختلافاً كبيراً، إذا قلت: نعبد إيَّاك يا رب، لا يمنع أن نعبد غيرك، أما إذا قلت: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ (5)﴾
    (سورة الفاتحة )
    قدَّمت إياك على الفعل، أي لا نعبد إلا أنت.﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ (59) ﴾.
    (سورة الأنعام )
    لـو قال: مفاتح الغيب عنده، فهي عنده، وعند غيره، أما حينما جاءت عنده قبل مفاتح الغيب، أصبح المعنى حصراً ؛ هذا موضوع طويل جداً، الإعجاز العلمي طويل جداً، يحتاج إلى أشهر، الإعجاز البلاغي يحتاج إلى أشهر، الإعجاز التاريخي، الإخباري، إعجاز النظم، شيء مذهل.

    فيا أيها الأخوة الكرام... طريق الإيمان بهذا الكتاب هو الإعجاز.أي فعلٍ من أفعال الله هو شهادة الله لنا أن هذا القرآن كلامه:
    هناك شيء آخر: الذي أنزل هذا الكتاب، الذي أنزله يشهد لنا أنه كلامه، كيف يشهد لنا أن كلامه الذي أنزله ؟ من خلال التأويل، والتأويل بأدق التعاريف: وقوع الوعد والوعيد ؛ أي حينما يمحق الله مال المُرابي، محق مال المرابي شهادة الله لهذا المرابي قوله تعالى: ﴿
    فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (279) ﴾

    ( سورة البقرة )
    هو كلامه، محقُ مال المرابي شهادة الله للمرابي أن هذا القرآن كلامه ؛ والشاب الذي يؤمن بالله ويعمل صالحاً ويحيا حياةً طيبة، الحياة الطيبة التي يحياها الشاب هي شهادة الله له أن هذا القرآن كلام الله ؛ وحينما تنفِقُ من مالك فيزداد مالك، فزيادة المال شهادة الله لك أن القرآن كلام الله عزَّ وجل.. ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ (276) ﴾
    ( سورة البقرة )
    أي فعلٍ من أفعال الله هو شهادة الله لنا أن هذا القرآن كلامه.. ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ (40) ﴾
    (سورة الحج )
    يوجد توازن قُوى في العالم: ﴿ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ (40) ﴾
    (سورة الحج )
    فحينما أُلْغي هذا التوازن عانت الشعوب ما عانت، عانت الأمَرَّين كان هذا التوازن بين قُوى الأرض نعمة من نعم الله العظمى، غفلنا عن هذه النعمة فعرفناها بفقدها ؛ كان التوازن نعمةً من نعم الله العظمى، ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ﴾
    توازن القوى، شرق وغرب، فلما اختل هذا التوازن، وصار هناك قوة واحدة، فقَدْنا هذه النعمة ؛ اللهمَّ عرفنا نعمك بكثرتها لا بزوالها،

    لابدَّ من أن نعرف النعم، إما أن نعرفها بوفرتها أو بزوالها.القرآن كلام الله وحبله المتين ومنهجه للعالمين:
    شيءٌ آخر: هذا القرآن كلام الله، وحبل الله المتين، والصراط المستقيم، ومنهج ربِّ العالمين، والنور المبين، غنىً لا فقر بعده، ولا غنىً دونه، من أوتي القرآن فهماً وتفسيراً

    فرأى أن أحداً أُوتي خيراً منه فقد حقَّرَ ما عظَّمه الله عزّ وجل ؛ أهل القرآن أهل الله، أنت حينما تأتي إلى بيتٍ من بيوت الله لتتعلم كلام الله فلا شيء في حياتك يعلو على هذا الهدف ؛ لاشيء، أي أهم ألف مرة من أن تؤدي امتحاناً جامعياً يُبنى عليه مستقبلك، إنك تتعرف إلى كلام الله، إلى منهج الله، إلى افعل ولا تفعل، هذا حرام وهذا حلال، فلذلك يقول الله جلَّ جلاله:
    ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ (1) ﴾

    (سورة الأنعام )
    نحمد الله على أنه أَوْجد الكون، وفي المستوى نفسه: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ (1) ﴾
    ( سورة الكهف )
    أي أن الكون كلُّه في كَفَّة وهذا القرآن في كفة، الكون خَلْقه والقرآن كلامه، لا معنى لخلق الكون من دون منهجٍ تسير عليه ؛ يتَّضحُ هذا في قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) ﴾
    ( سورة الرحمن)

    ترتيب تعليم القرآن مع خلق الإنسان ترتيبٌ رُتَبي وليس ترتيباً زمنيًّاً:

    يا رب كيف تعلِّم الإنسان القرآن قبل أن تخلقه ؟ ليس هذا هو المعنى..
    ﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) ﴾

    ( سورة الرحمن)

    المعنى: أن ترتيب تعليم القرآن مع خلق الإنسان ترتيبٌ رُتَبي، وليس ترتيباً زمنيًّاً، بمعنى أن وجود الإنسان لا معنى له من دون منهجٍ يسيرُ عليه، اِذهب إلى بعض الشعوب، ماذا يعبد شعب في الهند بأكمله ؟ البقر، وشعبٌ آخر يعبد الجرذان، وعندي تحقيقٌ علمي لمجلةٍ محترمةٍ جداً فيها صورٌ لا تُصدَّق، معبد ضخم جداً.. إله هذا المعبد الجُرذان.. لذلك قال الله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ (1) ﴾
    ( سورة الكهف )

    نحن نعبد الله عزّ وجل، نعبد خالق السماوات والأرض، نعبد الذي بيده ملكوت كُلِّ شيء، نعبد الذي إليه يرجع الأمر كله، نعبد الذي إذا قال لشيءٍ: كن فيكون، نعبد القوي، نعبد الغني، نعبد صاحب الأسماء الحُسنى، والصفات الفُضلى.

    النعم الكبرى التي أنعمها الله عز وجل على الإنسان:
    لذلك أحد أكبر النعم بعد نعمة الوجود نعمة الهدى ؛ هناك ثلاث نعم ؛ نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهُدى والرشاد، يؤكد هذا المعنى:
    ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) ﴾
    ( سورة الكهف )
    من أجل أن تطمئن أن هذا الكتاب الذي بين يديك هو نفسه الكتاب الذي أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم من دون زيادةٍ ولا نقص، قال تعالى: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ (27) ﴾
    ( سورة الكهف )
    لا تُبَدَّل، ولا تُغَيَّر، ولا تُحَرَّف، ولا يُضاف عليها، ولا يُحذف منها إطلاقاً.. تولَّى الله بذاته حفظ كتابه.. ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ (27) ﴾
    ( سورة الكهف )

    الله تعالى دعا الإنسان ليؤمن به طوعاً ليكون إيمانه اختياراً لا إكراهاً :
    أنت حـينما تؤمن طـوعاً تـرقى به، لو أراد الله عـزَّ وجل أن نؤمن به قسراً لفعل، ولـكن هذا لا يُسعدنا، لـو أراد الله أن نؤمن بهذا القرآن قسراً لكان ذلك، ولـكن هذا الإيمان القَسري لا يسعدنا، قال تعالى مخاطباً نبيه محمد:
    ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) ﴾
    ( سورة الشعراء)
    لكن الله دعانا لنؤمن به طوعاً، لنرقى بهذا الإيمان، ليكون إيماننا اختياراً لا إكراهاً: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (256) ﴾
    ( سورة البقرة )
    فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ: آية تدل على إعجاز الله عز وجل في قرآنه :
    يقسم ربنا جلَّ جلاله رحمةً بنا فيقول:
    ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) ﴾ ( سورة الواقعة)

    لا يعرف معنى هذه الآية إلا من درس الفلك ؛ أذاعت محطة أخبار عالمية خبراً من سنة ونصف أنه: تمّ اكتشاف مجرة تبعد عنا ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية ؛ أقرب نجم مُلتهب للأرض يبعُد عنا أربع سنوات ضوئية، أجْرِ مساءً على الآلة الحاسبة ما معنى أربع سنوات ضوئية ؟ أي ( ثلاثمئة ألف كيلو متر بالثانية × 60 بالدقيقة × 60 بالساعة × 24 باليوم × 365 بالسنة × 4 هذا الرقم قسمه على مئة)، عندنا سيارة نريد أن نصل بها إلى هذا الكوكب، السرعة مئة، ثم قَسِّم هذا الرقم على الساعات، أي 24 تعرف عدد الأيام، ثم قسم هذا الرقم على 365،
    يظهر معنا أننا نحتاج لأن نصل إلى أقرب نجم ملتهب إلى خمسين مليون سنة، وبإمكانك أن تجري هذا الحساب مساءً، تقود سيارة خمسين مليون سنة لتصل إلى أقرب نجم ملتهب للأرض، هذه المجرة الأخيرة، ثلاثمئة ألف بليون، أي ثلاثمئة ألفْ ألف مليون سنة ضوئية ؛ قال الله عزّ وجل:
    ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) ﴾
    ( سورة الواقعة)
    فما جواب هذا القسم ؟
    ﴿ إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) ﴾
    ( سورة الواقعة)
    جواب هذا القسم إن هذا كلامي يا عبادي.زوال الكون أهون على الله من ألاّ يحقِق وعده للمؤمنين:
    ذكرت قبل يومين في حفل ـ بدأت الحفل هكذا ـ قلت: زوال الكون أهون على الله من ألاّ يحقِق وعده للمؤمنين:
    ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ (55) ﴾
    ( سورة النور )
    أين الاستخلاف ؟
    ﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ (55) ﴾
    ( سورة النور )
    أين التمكين ؟
    ﴿ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ (55) ﴾
    ( سورة النور )
    أين الاطمئنان ؟
    ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا (38) ﴾
    ( سورة الحج )
    أين الدفاع ؟
    ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) ﴾
    (سورة النساء )
    لهم علينا ألف سبيلٍ وسبيل..
    ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ (7) ﴾ ( سورة محمد )
    أين النصر ؟ زوال الكون أهون على الله من أن لا يحقق وعده للمؤمنين. إضاعة الصلاة و اتباع الشهوات تبعد الإنسان عن الله عز وجل:
    ولكن:
    ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) ﴾( سورة مريم )
    الساعة الخامسة قيام ليل الحمد لله !!
    قيام ليل بقنوات المجاري، لا بالتحليق مع الله عزّ وجل..
    ﴿ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) ﴾
    هذا هو الجواب، فلذلك:
    ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) ﴾
    ( سورة الواقعة)

    فضل القرآن الكريم :

    إذا عرف الإنسان قيمة هذا القرآن لا ينام الليل، لا يغيب عن درس تفسيرٍ واحد، كلام الله دستورنا، منهجنا، نور الله المبين، صراطه المستقيم، حبلُ الله المتين، هو الغِنَى، هو العِز، كلكم يعلم إذا تفوَّق عالم في القرآن الكريم ومات ترتج الدنيا له، مات وأخذ معه كُلَّ شيء، أخذ معه كل الخير،

    أما أهل الدنيا إذا ماتوا فيتركون كل شيء ؛ الذين عرفوا الله، وأمضوا حياتهم في الدعوة إليه يأخذون معهم كل الخير، إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً، تعلَّموا القرآن وعلموه، اِفهموا أحكامه، ولقنوا أحكامه لأبنائكم، وربوا أبناءكم على هذا القرآن الكريم، وعلى حُبِّ نبيِّكُم، وعلى حب صحابته الكرام.
    ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ (2) ﴾( سورة يونس )

    يشكك أكثر أعداء الدين في هذا القرآن أنه جاء به بشر، ولكن أنتم يا من تشكّكون بهذا القرآن ألاَ تتبعون نبيَّاً من بني البشر ؟ ﴿
    أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا (2) ﴾ ( سورة يونس )

    هذه سُنَّة الله في خلقه، أنزل الله هذا القرآن على سيد الخلق، وحبيب الحق، أنزله على أمين وحيِّ السماء..
    ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) ﴾( سورة هود)

    عبادة الله عز وجل فَحْوى القرآن كُلّه
    :
    هذا الكتاب كله ملخَّصه كلمة واحدة: ألا تعبدوا إلا الله:
    ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) ﴾
    ( سورة هود)
    ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ (110) ﴾
    ( سورة الكهف )
    فَحْوى هذا القرآن كُلِّه:
    ﴿ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ (110) ﴾
    ( سورة الكهف )
    هذه آية تلخيص، يلخِّص الله عزّ وجل لنا قرآنه كله..
    ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا (110) ﴾

    ( سورة الكهف )
    من عمل أعمالاً صالحة ألقى الله في قلبه الأمن و الطمأنينة و السعادة:
    قد تنتظر سنوات وسنوات، ولا تستطيع أن تقابل مَلِكاً، لكن ملك الملوك يقول لك:
    ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا (110) ﴾
    ( سورة الكهف )

    ثمن اللقاء عملٌ صالح، اِجعل عملك صالحاً فأنت مع الله، تلقَ الله في الدنيا قبل الآخرة، يُلقي عليك أنواره، يُلقي عليك تجليِّاته، يملأ قلبك أمناً وطمأنينةً، يملأ قلبك سعادةً، يملأ قلبك رضاً.
    جاءت سيدَنا الصديقَ استغاثةٌ من أحد قواده في بلاد الفرس ـ في نهاوند ـ المسلمون ثلاثون ألفاً، والأعداء مئةٌ وثلاثون ألفاً، أرسل سيدنا خالد إلى سيدنا الصديق يطلب منه النجدة، بعد حين جاءت النجدة، أقل شيء ثلاثون ألفاً مع الثلاثين، أو خمسون ألفاً، أو سبعون ألفاً، فكانت النجدة رجلاً واحداً اسمه القَعْقَاع، عندما وصل إليه نظر إليه فقال له: أين النجدة ؟ فقال له: أنا، معي هذا الكتاب فاقرأه، فتح الكتاب:
    " من عبد الله أبي بكر إلى خالد بن الوليد، أحمد الله إليك، يا خالد لا تعجب أن أرسلت إليك واحداً، فو الذي بعث محمداً بالحق إن جيشاً فيه القعقاع لا يُهزم "، وانتصر الجيش وفيه القعقاع، القرآن يصنع بطولات، القرآن يجعل منك ألفاً، القرآن يجعل منك مئة ألف، أنت واحد، هذه كلها حقائق. التوحيد فحوى دعوة الأنبياء جميعاً:
    لذلك:
    ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) ﴾
    ( سورة هود)
    فَحْوى هذا القرآن كله
    : ﴿ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ (2) ﴾
    ( سورة هود)
    الأدق من ذلك أنّ فحوى دعوة الأنبياء جميعاً من أولهم إلى آخرهم هو التوحيد..
    ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) ﴾
    (سورة الأنبياء)
    قصص القرآن الكريم أحسن القصص:
    ما من مكتبة الآن في الأرض إلا فيها قصص، ساعة تسمى أدباً مكشوفاً، وساعة تسمى أدباً واقعياً، فالإنسان البعيد عن الله في الوحل، الإنسان ساقط، الإنسان شهواني، الإنسان خائن، الإنسان أناني، الإنسان متعجرف، يقول الله عزّ وجل:
    ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ (3) ﴾
    ( سورة يوسف )

    اِقرأ قصة سيدنا يوسف تَسْمُ نفسك ـ إنسان مبدأ ـ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمال فقال:
    ﴿ أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) ﴾
    (سورة المائدة)
    كان عبداً فجعله الله مَلِكاً بطاعته لله، وقف سيدنا موسى مع الحق، ولم يعبأ:
    ﴿ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ (15) ﴾
    ( سورة القصص)
    وخرج من مصر خائفاً يترقب، وصل إلى سيدنا شُعَيب، وزوَّجه ابنته، وعاد إلى فرعون رسولاً:
    ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ (7) ﴾
    ( سورة القصص)
    ﴿ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) ﴾
    ( سورة القصص)
    هذا القرآن الكريم ؛ امرأة فرعون آسية مَثَل أعلى لكل النساء، إن إيمان المرأة مستقلةٌ به عن زوجها، أكثر النساء الفاسقات يقُلن: هكذا يريد زوجي، سوف تُسألين أنت وحدك عن إيمانك:" لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ".
    فرعون وما أدراكم ما فرعون، الجبار الطاغية ما استطاع أن يحمل امرأته على أن تؤمن به..
    ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) ﴾
    ( سورة التحريم)

    قصص القرآن الكريم تغطي جميع الأحوال التي يمر بها البشر :

    أيها الأخوة: القرآن فيه قصص، إذا قرأ أحدهم قصة نوح وكان عنده ابن سيئ يمتلئ قلبه جبراً، ومن يقرأ قصة سيدنا إبراهيم وعنده أبٌ سيئ:
    ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي (43) ﴾
    ( سورة مريم )
    ومن كانت زوجته سيئة جداً فليصبر عليها..
    ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ (10) ﴾
    ( سورة التحريم )
    والتي عندها زوجٌ شرير، فلها في امرأة فرعون القدوة..
    ﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ (11) ﴾
    ( سورة التحريم )

    والذي يحتل مكانة عَلِيَّة في المجتمع بإمكانه أن يكون صالحاً، قصة ذي القرنين، مكَّنه الله في الأرض وجعله مؤمناً كبيراً صالحاً، والذي لا ينجب الأولاد، سيدنا زكريا، وإذا دخل إنسان السجن ظُلماً، سيدنا يوسف، نبيٌّ كريم دخل السجن، ليس السجن وصمة عار بحق الإنسان أحياناً، فإذا قرأت القرآن الكريم تجد أن كل قصة دواء، إنسان ظُلِم فرضاً له في سيدنا يوسف أسوةٌ حسنة ؛ امرأةٌ عفيفةٌ طاهرةٌ تكلَّم الناس في عرضها ظلماً وزوراً لها في السيدة عائشة أسوة حسنة ؛ كأن قصص القرآن تُغَطِّي كل الأحوال.
    . ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ (3) ﴾( سورة يوسف )

    الآيات القرآنية تعطي الإنسان إيماناً فطرياً:
    أما إذا قرأت مثل هذه الآيات:
    ﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ (2) ﴾
    ( سورة الرعد)
    هل يستطيع أحدٌ من بني البشر أن يدَّعي ذلك ؟ إلا أن هذا كلام الله عزّ وجل، أي أنت بالفطرة إذا قرأت هذه الآية:
    ﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ (2) ﴾ ( سورة الرعد)
    من يستطيع من بني البشر أن يدَّعي ذلك ؟ هذه الآيات تُعطيك إيماناً فطرياً، وهذا القرآن في النهاية:
    ﴿ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (1) ﴾
    ( سورة إبراهيم)
    الكافر في ظلام، في ظُلُماتٍ بعضها فوق بعض، وأما المؤمن إذا قرأ القرآن فهو على بيّنةٍ من ربِّه، إنه في نور الله عزّ وجل، حتى إنّ بعضهم قال: الله نور السماوات والأرض، نوَّرها بهذا القرآن الكريم، بيَّن، ووضَّح.

    أعلى خُلُقٍ على الإطلاق أن يتخلق الإنسان بأخلاق القرآن الكريم:
    اقرأ القرآن تعرف أنك المخلوق الأول ، اقرأ القرآن تعرف أن هذه الدنيا لعبٌ، ولهوٌ، وزينة، وأن الآخرة هي دار القرار، اقرأ القرآن تعلم أن العمل الصالح هو رأس مالِكَ في الدنيا، اقرأ القرآن تعلم أن أعلى خُلُقٍ على الإطلاق أن تتخلق بأخلاق القرآن ؛ سُئلت السيدة عائشة عن أخلاق رسول الله ؟ قالت: كان خلقه القرآن، فأنت إذا قرأت القرآن، تلوْتَه حق تلاوته، فهمتَ آياته، تدبَّرْتها، وعملت بها سعدت في الدنيا والآخرة، كنت في ظلام البعد وظلام الجهل، فانتقلت إلى نور العلم والمعرفة، والدعاء: " اللهمَّ أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، من وحول الشهوات إلى جنَّات القربات ".
    فاليوم:
    ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ (2) ﴾
    إن شاء الله في الدرس القادم سنتابع قوله تعالى:
    ﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) ﴾
    والحمد لله رب العالمين
    التعديل الأخير تم بواسطة بذور الزهور; الساعة 14-09-2014, 10:38 PM. سبب آخر: التنسيق

    تعليق


    • #3
      الدرس الثالث من تفسير البقرة لنابلسى


      بسم الله الرحمن الرحيم

      الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
      أيها الأخوة الكرام مع الدرس الثالث من سورة البقرة.

      الشهوات تدفع الإنسان إلى الحركة لأن السِمة العامة للإنسان أنَّه حَرَكيّ:
      لا زلنا في قوله تعالى :
      ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) ﴾
      فكلمة (ذلك) ذا: اسم إشارة، فيها إشارةٌ إلى هذا القرآن الكريم، أما هذه (اللام) فيسميها النُحاة لامَ البعد، أو لام التعظيم، وذاك غير ذلك. ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ (2) ﴾
      الكاف للخطاب، فالله سبحانه وتعالى يشير إلى هذا الكتاب، ويبيِّن لنا عظمته، ويخاطب به جميع الناس، الشيء الذي ينبغي أن نقف عنده وقفةً متأنية كلمة: ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) ﴾
      أيها الأخوة الكرام الإنسان حركة، لماذا ؟ لأن الله أودعَ فيه الشهوات، فالشهوات تدفعه، حاجته إلى الطعام تدفعه إلى العمل، حاجته إلى المرأة تدفعه إلى الزواج، أو إلى طريقٍ آخر، حاجته إلى تأكيد الذَّات تدفعه إلى التفوّق، فهذه الحاجات التي أودعها الله في الإنسان تجعله يتحرَّك، فالسِمةُ العامة للإنسان أنَّه حَرَكيّ ؛ أما هذا الكأس فلا يتحرك لو وضعناه في هذا المكان مئات السنين، لأنه لا يحتاج إلى شيءٍ يدفعه ليبقى موجوداً، لا يحتاج إلى أن يزهو على أقرانه، لا يحتاج إلى طرفٍ يُكَمِّلُه ؛ الجماد ساكن، بينما الإنسان متحرك. خالق الإنسان وحده هو الذي يرسُم للإنسان هدفاً لأن الإنسان ليس أهلاً لذلك:
      طبيعة الإنسان متحركة ؛ سبب هذه الحركة كما قال الله عزَّ وجل:
      ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ (14) ﴾
      (سورة آل عمران )
      هذه الشهوات التي أُودعت في الإنسان تجعله يتحرَّك، الآن نحو ماذا يتحرك ؟ هنا السؤال، ما دام هناك حركة فهناك هدف، من هي الجهة التي تَرْسُمُ له الهدف الصحيح ؟ هي الجهة الخالقة ؛ الإنسان أحياناً يرسم لنفسه هدفاً، هدفاً غير صحيح، غير نافع، غير مفيد، وقد يكون هدفاً مُدَمِّراً، فالإنسان ليس أهلاً أن يرسم لذاته هدفاً ؛ رُسِمَ الهدف، ما هو الطريق المناسب لهذا الهدف ؟ قد أسلُكُ طريقاً وعراً، قد أسلك طريقاً لا يوصلني إلى هذا الهدف، قد أسلك طريقاً طويلاً، من هي الجهة ـ مرةً ثانية ـ المؤهَّلة كي ترسم لي أقصر طريق وأسلم طريق ؟ الحقيقة خالق الإنسان وحده هو الذي يرسُم لهذا الإنسان هدفاً، وهو الذي يرسم له طريقاً؛ أما لو رسم الإنسان هدفاً، فالأهداف متحركة، والأهداف متبدِّلة، والأهداف غير ثابتة، والأهداف مِزاجية أحياناً ؛ هؤلاء البشر أمامكم منذُ آلاف السنين ؛ انغمس أناسٌ في الشهوات إلى قِمم رؤوسهم، وقدَّس أناسٌ العقل، فكان العقل سبب دمارهم، قدس أناسٌ العادات والتقاليد فكانت العادات والتقاليد سبب تخلفهم، أناسٌ قَدَّسوا المادة، أناسٌ قدَّسوا الروح، أناسٌ قهروا النفس، رسمت الشعوب والأمم أهدافاً لذواتها، وكانت الأهداف غير صحيحة ؛ ادَّعت شعوبٌ أنها الشعب المختار في الأرض، فأرادت أن تَقْهر بقية الشعوب، فدُمِّرت وانتهت، الآن هدف الشعوب الغربية المُتعة بأي طريق، وبأية وسيلة ؛ قضت المتعة عليها، وإذا كانت هذه الدول تقوم فهي تقوم على أدمغة الآخرين، لا على أدمغة أبنائها. لا بدَّ أن تستهدي الله بالهدف الذي تسعى إليه وبالطريق الموصل إلى هذا الهدف :
      أوَّل نقطة في هذا الدرس: مَن هي الجهة المؤهَّلة لأن ترسم لهذا الإنسان هدفاً ؟ الله جلَّ جلاله، من هي الجهة المؤهَّلة التي ترسم لهذا الهدف طريقاً ؟ الله جلَّ جلاله، كلمة ﴿هُدًى﴾ دقق، إنسان وصل إلى مدينة ولا بدَّ أن يلتقي بشركة، ولا يعرف أين هذه الشركة، إذاً هو يحتاج إلى دليل، يحتاج إلى هادي، هو مهتدٍ، ويحتاج إلى هادٍ، والهدف الشركة والطريق ؛ كلمة هُدى تعني: الهدف والطريق والهادي والمهتدي، المهتدي أنت، الهادي، والهدف، والطريق من عند الله عزَّ وجل، فكل إنسان استهدى الله بتحديد الهدف، واستهدى الله بتحديد الطريق نجح، وأفلح، وفاز، ونجا، خلافاً للإنسان الذي وضع هدفاً من عنده ؛ هناك إنسان هدفه المتعة، وإنسان هدفه المال، وإنسان هدفه العلُوّ في الأرض، وإنسان هدفه موضوع معيَّن، فكل إنسان ينصرف إلى الهدف الذي رسمه ؛ لكن متى تُخَيِّبُهُ هذه الأهداف ؟ في النهاية، حينما يكتشف أن المال ليس بشيء، جعله هدفاً في مقتبل حياته، قَدَّسه، باع من أجله دينه وعِرضه، وصل إلى المال، ثم اكتشف أن هذا الهدف سخيف، متى يكتشف هذا ؟ بعد فوات الأوان وهو على فِراش الموت ؛ أدق فكرة في هذا الدرس أنه لا بدَّ من أن تستهدي الله بالهدف الذي ينبغي أن تسعى إليه، ولا بدَّ من أن تستهدي الله بالطريق الموصل إلى هذا الهدف.
      (( يا عبادي، كُلُّكم ضالّ إلا مَنْ هَدَيتُه، فاسْتَهدُوني أهْدِكم ))
      [أخرجه مسلم والترمذي عن أبي ذر الغفاري ]
      لاحظ هذه الشعوب فيما حولنا، صار العالم الآن قرية، العالم بيت، العالم الآن غرفة واحدة، شعوب بمئات الملايين تعبد البقر، شعوب تعبد ذواتها، شعوب تقدِّس العقل إلى درجة الحماقة، شعوب تقدس الشهوة، شعوب تقدس التاريخ والعادات والتقاليد، فهذه الشعوب رسمت أهدافاً لكنها ضلَّت سواء السبيل ؛ من هو الناجح ؟ من هو الرابح ؟ من هو المُفْلح ؟ هو الذي سأل الله عن الهدف الصحيح ؛ الهدف هو الجنة، لأن الإنسان خُلِق للجنة، والطريق طاعة الله عزَّ وجل.
      فكلمة ﴿هُدًى﴾

      أي هناك هدف، وهناك حركة نحو الهدف، وهادٍ، و مهتدٍ، أربعة أركان لكلمة الهُدى، فأنت المهتدي، والهادي هو الله، يهديك إلى الهدف الصحيح، ويهديك إلى الطريق الصحيح ؛ والله جلَّ جلاله هدى أنبياءه ورسله إلى الأهداف الصحيحة، فَسَلِموا، وسعدوا هم وأتباعهم في الدنيا والآخرة، والذين شردوا عن طريق الدين رسموا أهدافاً أخرى. آياتٌ من القرآن متعلِّقة بالهدى :
      إذا نظرت أيها الأخ الكريم إلى شارع مزدحم بالناس تجد أن في بال كل إنسان هدفاً يسعى إليه، السعيد والرابح والناجي هو الذي تطابَق هدفه مع الهدف الذي رسمه الله لهذا الإنسان لذلك أيها الأخوة هناك آياتٌ متعلِّقة بالهدى مهمةٌ جداً ينبغي أن تكون تحت سمعنا وبصرنا:
      ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) ﴾
      هل هناك ثمرة بعد هذه الثمرة ؟ ﴿ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ (38) ﴾
      مِن المستقبل كله: ﴿ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) ﴾
      على الماضي كله:
      ﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) ﴾
      وقال: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) ﴾
      ( سورة طه )
      لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه، اِجمع الآيتين، من يتبع هدى الله عزَّ وجل لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه، ولا يندم على ما فات، ولا يخشى مما هو آت. الهدى مبذول لكل الناس:
      الهدى الحقيقي، الفوز الحقيقي، المعرفة الحقيقية.
      ﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ (73) ﴾
      ( سورة آل عمران )
      لا يمكن أن يوصف إنسان بأنه مهتدٍ إن لم يعرف الله، قد يتفوق في الدنيا، ولكنه ليس مهتدياً، إن الهدى الحقيقي الهدى المنجي الهدى المسعد ﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾ فلا يوجد إلا حل واحد ؛ إما أنك مع الله، وإما أنك مع الهوى. ﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ (73) ﴾
      هناك آية أخرى: ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى (120) ﴾
      ( سورة البقرة )
      لذلك قد تجد إنساناً ذكياً لكن لن يكون الإنسان عاقلاً إلا إذا اهتدى بهدي الله: (( كُلُّكم ضالّ إلا مَنْ هَدَيتُه، فاسْتَهدُوني أهْدِكم ))
      [أخرجه مسلم والترمذي عن أبي ذر الغفاري ]
      هذا الهدى مبذول لكل الناس.. ﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ (88) ﴾
      (سورة الأنعام )
      ألزم الله سبحانه وتعالى نفسه بهداية البشر :
      الله عزَّ وجل قال:﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) ﴾
      (سورة الليل)
      ألزم الله سبحانه وتعالى نفسه بهداية البشر، هداهم بهذا الكون، الكون كلُّه يدلُّ على الله، وهداهم بهذا القرآن، وهداهم بالعقل، وهداهم بالفطرة، وهداهم بأفعاله ؛ أفعاله تدل عليه، والفطرة مجبولة على الإيمان به، والعقل مركبٌ على مبادئ توصله إلى الله عزَّ وجل، وكل ما في الكون يدل على الله، يدل على الله خالقاً ومربياً ومسيراً، موجوداً وواحداً وكاملاً ؛ فلذلك أيها الأخوة أنت متحرك شئت أم أبيت، لا يوجد حل وسط، هناك مَلَكٌ وهناك شيطان، الملَك يُلْهم والشيطان يوسوس ولا بدَّ من أن تستجيب لأحدهما لأنك كائن متحرك، إذاً هناك هدف، الهدف إما أنه من صنعِك، وإما أنه من الله عزَّ وجل، إذا كان من صنعِك في الأعم الأغلب فالهدف غلط، يصاب الإنسان بخيبة أمل حينما يكتشف أنه عاش عمراً مديداً، وقد ضلّ سواء السبيل: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) ﴾
      ( سورة الكهف)
      الإنسان مخلوقٌ للجنة وطريقُها طاعة الله عزَّ وجل:
      أيها الأخوة ورد في بعض الآثار أن الكافر حينما يأتيه ملك الموت يصيح صيحةً لو سمعها أهل الأرض لصعقوا من شدة الندم.
      ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(15)﴾
      ( سورة الزمر)
      أخطر شيء أن تعرف إلى أين تتحرك ؟ لجمع المال فقط من طريقٍ مشروع أو غير مشروع، هذا ضلال، تتحرك لتكون منزلتك عّلية بحقٍ أو بباطل، لتستعلي على الناس، هذا ضلال، تتحرك لتنغمس في المتع الرخيصة إلى أن يأتي الموت هذا ضلال ؛ ما الهدف ؟ متعة، مال، مكانة، استعلاء، ما الهدف ؟ الهدف الحقيقي أنت مخلوقٌ للجنة، وطريقُها طاعة الله عزَّ وجل، يجب أن تُصْغي إلى خالقك الذي رسم لك الهدف، والدليل: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ﴾
      (سورة الذاريات)
      وقال: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ (119) ﴾
      ( سورة هود )
      وقال: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) ﴾
      (سورة الطلاق)
      البشرية قسمان ؛ إنسان استهدى الله فهداه، وإنسان شرد عن الله:
      هذا القرآن هُدى، يحتاج الإنسان في حركة الحياة إلى هدف فرَسَمَ له القرآن الهدف، ويحتاج الإنسان في سعيه نحو الهدف إلى طريق فرسَمَ له القرآن الطريق، وهذا القرآن كلام الله عزَّ وجل، إذاً يمكن أن نقَسِّم البشرية إلى قسمين ؛ إنسان استهدى الله فهداه، وإنسان شرد عن الله، والشرود عن الله آلاف الأنواع، أنواع منوعة، التاريخ أمامكم والشعوب من حولكم والأخبار بين أيديكم، أكثر الشعوب تسير في طريق مسدودة، لو أنها ازدهرت في حياتها الدنيا، لو أنها ـ كما يقولون ـ سخَّرت الطبيعة، لكنهم حينما يأتي ملك الموت يفاجؤون أنهم خلقوا لحياة أبدية، وأن هذه الحياة الدنيا هي إعداد لتلك الحياة، فجعلوها مقراً، وجعلوها منتهى أمانيهم، ومَحَطَّ رحالهم، فضلوا سواء السبيل.
      أيها الأخوة لا تنسوا هاتين الآيتين:
      ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) ﴾
      وقال: ﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) ﴾
      وقال: ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى (120) ﴾
      ( سورة البقرة )
      هو الهدى وحده، الحق لا يتعدد. هناك طريقان إما أن تستجيب لأمر الله عزَّ وجل وإما أن تستجيب لهواك :
      دققوا في هذه الآية:
      ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ (50) ﴾
      ( سورة القصص )
      إن لم تستجب لرسول الله فأنت على الباطل قطعاً، هناك طريقان إن لم تكن على أحدهما فأنت على الثاني حتماً ؛ إما أن تستجيب لأمر الله عزَّ وجل، وإما أن تستجيب لهواك، إما أن تكون على طريق الحق، وإما أن تكون على طريق الباطل.
      الهدى كما قلت قبل قليل مبذول، كُلُّ شيءٍ يدلك على الله إن أردت الهدى ؛ فإن لم ترد الهدى لو التقيت بالأنبياء جميعاً، ورأيت معجزاتهم جميعاً، وكل شيء أمامك واضح فلن تبلغ الهدى، الشيء الذي يلفت النظر أن بعض العلماء في أوربا أو أمريكا اطّلعوا على حقائق مذهلة في خلق الإنسان أو في الأكوان، اطلعوا على حقائق مذهلة، لكنْ لماذا لم يؤمنوا ؟ لأنهم ما أرادوا الهُدى، ولو أرادوا الهدى لوصلوا إليه، القضية قضية قرار، فإما أن تتخذ قراراً بالبحث عن الحقيقة، وعندئذٍ كلُّ شيءٍ يوصلك إليها، وإما أن تعزف عن الحقيقة، ولو رأيت الأنبياء جميعاً، واستمعت إليهم جميعاً، ورأيت معجزاتهم جميعاً، ورأيت كتاباً ينزل من السماء، ورأيت ناقةً خرجت من الجبل، ورأيت بحراً أصبح طريقاً يبساً، ورأيت العصا أصبحت أفعى أو ثعباناً، ورأيت النار تمتنع عن إحراق إبراهيم لن تستفيد شيئاً، إلا أن تتخذ قراراً من الداخل بالبحث عن الحقيقة. أنواع الهداية:
      أيها الأخوة قال العلماء: هناك هداية دلالة، وهناك هداية توفيق، وهناك هداية مصلحة، كيف ؟ نحن بني البشر هدانا الله عزَّ وجل إلى مصالحنا، يحتاج الإنسان إلى الطعام، فيشعر بالجوع، الإحساس بالجوع هداية إلى المصلحة، لو أن الإنسان يجوع دون أن يشعر بالجوع لمات، يوجد عند الإنسان جهاز توازن لو اختل توازنه يستعيد توازنه، فالحفاظ على التوازن هذه مصلحة ؛ عينا الإنسان، وأذناه، وأنفه، وحواسه كلها تهديه إلى ما حوله، أنت موصول مع المحيط الخارجي بهذه الحواس.
      أحياناً قصة لها دلالة، إنسان يقود سيارته من حمص إلى دمشق، وهو في حديثٍ ممتعٍ مع صديقه لم يلتفت إلى مشير الحرارة، ارتفعت الحرارة، واحترق المحرِّك لخلل أصابه ؛ قال لي: لو نظرت إلى اللوحة مرة واحدة، ورأيت الحرارة مرتفعة لوقفت ووفرت ثلاثين ألفاً ؛ لم ألتفت إلى اللوحة لأنني منغمس في حديث ممتع مع صديقي فاحترق المحرك، اللوحة إذاً ناقصة، لأن المؤشر يعطي حركة فهو يحتاج إلى نظر، وتحدث مشكلة إذا غفل السائق عن النظر للمؤشر، فما قولك بعداد له صوت ؟ يمكن أن ترى، ويمكن أن تسمع وهو أبلغ، فإذا كان الإنسان ضعيفَ السمع يحتاج إلى ضوء، عداد فيه ضوء، وصوت، وحركة يكون أقوى.
      1ـ هداية المصالح:

      جهازنا الذي زودنا به ربنا عز وجل هذا الجهاز المعقد هداك إلى مصالحك، تجد الإنسان إذا جاع يبحث عن الطعام، إذا كان الطعام فاسداً تقيؤه، آلية التقيؤ دقيقة جداً ؛ يقوم جهازه وهو نائم بآليات عجيبة جداً، لسان البلعوم يتحرك وأنت نائم حركة معقدة، ويأتيه إشارة من الفم إلى الدماغ أن هناك لعاباً، فالدماغ يعطي أمراً، لسان المزمار هذا يغلق القصبة الهوائية إغلاقاً تاماً ويفتح طريق المريء، فيدخل هذا اللعاب في مري الإنسان وأنت نائم، فالإنسان مبني بناء دقيقاً جداً.
      لو دخل جرثوم هناك جهاز المناعة المكتسب، جهاز دقيق جداً، لمجرد دخول جرثوم تخرج عناصر استطلاعية من جهاز المناعة تتصل بهذا الجرثوم، وتكشف هويته، وتأخذ شفرته الكيماوية وتعود إلى معامل صنع السلاح العقد الليمفاوية ؛ تهيئ هذه العقد سلاحاً مضاداً، تأتي عناصر ثالثة مقاتلة تحمل هذا السلاح، تنطلق إلى الجرثوم وتقاتله فتقتله، ثم تأتي عناصر خدمات تزيل هذه الجثث من ساحة المعركة، وأنت لا تشعر. هداية المصالح واضحة جداً عند الحيوانات:
      إنسان رأى أفعى، هذه الصورة انطبعت على شبكية عينه، شبكية العين فيها إحساس نُقِلَت إلى الدماغ، الدماغ فيه إدراك بحسب المفاهيم والخبرات السابقة، يدرك الدماغ الخطر ويتصل بملكة الجهاز الهرموني عن طريق ضابط اتصال هو جسم تحت السرير البصري ؛ الدماغ ملك والنخامية ملكة، ملك وملكة لا بدَّ أن يلتقيا عن طريق وسطاء ؛ ترسل الملكة أمراً إلى الكظر أن هناك خطراً ليتصرَّف، فيرسل الكظر أمراً إلى القلب ليرفع ضربات القلب، إذا ارتفعت الضربات أسرع الدم في الأوعية، ووصل الدم إلى العضلات بطريقةٍ أسرع ؛ ويرسل أمراً ثانياً إلى الرئتين فيزداد وجيبهما كي يتناسب وجيب الرئة مع ضربات القلب، ويرسل أمراً ثالثاً إلى الأوعية المحيطة في الجسم فتضيق لمعتها ويصفر، لون الخائف، لأنه بحاجة إلى الدم لا إلى لون وردي، وأمراً رابعاً إلى الكبد فيطرح كميةً زائدة من السكر كي تكون وقوداً إضافياً في معركته مع هذه الأفعى، وأمراً خامساً بإطلاق هرمون التجلُّط، فلو أنه جُرح لئلا ينزف دمه كله، الدم يتجلط، هذه هداية، فإذا كان هناك خطر توجد آلية معقدة، دخل جرثوم توجد آلية معقدة، دخل الطعام هناك هضم معقد، على كلٍ هذا طريق طويل، هذه الهداية، اسمها هداية المصالح، أي أن الله عزَّ وجل خلق الإنسان في أحسن تقويم.
      ﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) ﴾
      ( سورة طه)
      هذه هداية المصالح وهي تبدو واضحة جداً عند الحيوانات، يقوم الحيوان بآليات معقدة جداً من دون تعليم، من دون تدريب، والدليل فور ولادة الطفل الصغير الآن يضع فمه على ثدي أمه ويقوم بآلية معقدة جداً تسَمَّى آلية المص، مَن علَّمه وضَعَ شفتيه على حُلْمَة ثدي أمه، وأحْكَم إغلاق شفتيه، وسحب الهواء فجاءه الحليب ؟ لولا هذه الآلية لما كان هذا الدرس، ولما كانت هذه البلدة، ولما كان إنسان واحد في العالم، آلية المص، سموه: مُنْعَكَس المص. ﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) ﴾
      هذه هداية المصالح، نحن وغيرنا سواء فيها ؛ بالعكس الغرائز أعلى عند غيرنا من الأعمال الإرادية.
      2ـ هداية الدلالة:
      الهداية الثانية أيها الأخوة هداية الدلالة، أنزل ربنا عزَّ وجل هذا القرآن على نبيه ليدلُّنا على ذاته، ليدلنا على هدفنا، ليدلنا على طريقنا، ليدلنا على منهجنا، اِفعل ولا تفعل، هذه هداية ثانية، هداية الدلالة.
      3ـ هداية التوفيق:
      الهداية الثالثة: ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) ﴾
      ( سورة الكهف)
      هداية التوفيق.
      كل واحد منا مهتدٍ إلى مصالحه، يجوع يأكل، يدخل طعام فاسد فيتقيَّأ، يتعب جهازه العصبي فينام، يقول لك: أريد أن أنام، متضايق فينام ويستريح، يشتهي في الصيف المأكولات الباردة، مأكولات فيها ماء، يشتهي الخس، يشتهي البطيخ، يشتهي الحلو في الشتاء لوجود البرد، يحتاج إلى غذاء فيه طاقة حرارية عالية جداً، فالإنسان مهتدٍ إلى مصالحه. أدلة من القرآن الكريم عن هداية التوفيق:
      أجرى بعض أطباء الأطفال تجربة رائعة جداً، وضعوا عشرة أطفال أمام غذاء مفتوح، أنواع منوَّعة من الغذاء وسمحوا للأطفال أن يأكلوا كما يشاءون ؛ ورسم علماء كبار في التغذية لعشرة أطفال آخرين منهجاً رائعاً في التغذية، فالفيتامينات، والسكريات، والبروتينات، والنشويات، كل الأغذية النظامية ؛ وجدوا أن نمو أجسام الأطفال الذين تُركوا وشأنَهم ليأكلوا كما يشاءون أرقى بكثير من نمو الذين رسمت لهم خطط دقيقة جداً في غذائهم ؛ فالإنسان مهتدٍ إلى مصالحه، يهتدي إلى مصالحه، والله عزَّ وجل هداه إليه، هداه هداية دلالة، فإذا قبلت الهدى أيها الإنسان هُديت هدايةً ثالثة، هُديت توفيقاً، الله يوفقك، تستوعب الحق، يعينك على طاعته، يعينك على العمل الصالح، يجمعك مع أهل الحق، يشرح صدرك للإسلام، هذه كلها هداية توفيق، فأنت بين هداية المصلحة وبين هداية الدلالة، وبين هداية التوفيق، ثلاثة هدايات ؛ هداية مصلحة، هداية دلالة، هداية توفيق، تتوَّج هذه الهدايات أنك تهتدي إلى الجنة، يدخل المؤمنون الجنة بفضل الله عزَّ وجل.
      أيها الأخوة معنى قوله تعالى:
      ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) ﴾
      ( سورة الكهف)
      هذا الهُدى هداية التوفيق: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى (17) ﴾
      (سورة فصلت )
      هذا هو الاختيار: ﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى (76) ﴾
      ( سورة مريم )
      أيضاً هداية التوفيق. هناك أخطار محدقة بالإنسان لأنه وحده قَبِلَ حمل الأمانة:
      شيءٌ آخر ؛ يقول الله عزّ وجل في الآية الكريمة:
      ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ (50) ﴾
      ( سورة القصص )
      معنى ذلك أنه لا شيء على الإنسان لو اتبع هواه وفق هدى الله عزّ وجل، لأنه ليس في الإسلام حِرْمان، بل هناك تنظيم، كل شهوةٍ أودعها الله في الإنسان فتح لها قناةً نظيفة تسري خلالها.
      أيها الأخوة الكرام هذا الكتاب هدىً لمن ؟ ﴿ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
      كلمة متقين، المتقي اسم فاعل من الفعل اتقى، اتقى مزيد، مجرَّده وقى ؛ وقى من الوقاية، الوقاية فيها خطر، معنى ذلك هناك أخطار محدقة بالإنسان لأنه وحده قَبِلَ حمل الأمانة، رِّكب الله المَلَك من عقلٍ بلا شهوة وركِّب الحيوان من شهوةٍ بلا عقل وركِّب الإنسان من كليهما، اختارت الملائكة العبادة من دون مسؤولية، هُم مع الله دائماً، واختارت الحيوانات الشهوة من دون مسؤولية، فالحيوان همه أكله فقط لكنه لا يُحاسب وهو غير مكلَّف، لكن الله خلق الإنسان من طين الأرض، ونَفَخَ فيه من روحه، ففيه نفخةٌ من الله، وفيه قبضةٌ من الطين، فيه نوازع أرضية، وفيه ميول علوية، إذاً يوجد عنده خطأ ؛ فإذا غلبت نوازعُه الأرضية أَخَلَّ بالأمانة، إذا غلبت نوازعه الأرضية فسد لأن عنده دوافع وشهوات ؛ الفساد بالضبط كمركبة فيها محرك، الشهوة هي المحرك، قوة اندفاع، والمنهج هو المِقود، تصور مركبة بلا مِقود، والطريق فيه انعطافات، وفيه حفر، وفيه وديان على اليمين واليسار، فمركبة تنطلق بسرعة عالية في طريق فيه انعطافات، والدنيا ليل فلا بدَّ أن تهوي في الوادي ؛ فكلمة متقي: مِن اتقى، واتقى مزيد من وقى، ووقى من الوقاية، والوقاية من الخَطَر، معناها يوجد خطر، لأنك إنسان تحوم حولك أخطار، فما الخطر ؟ الخطر أن تتحرّك وفق شهواتك من دون منهج الله عزّ وجل، هذه هي القصة كلها. ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ (50) ﴾
      ( سورة القصص )
      المتقي هو الذي اتقى عقاب الله عزّ وجل:
      إذا أحب الإنسانُ المرأة، والْتقى معها لقاءً خارج نطاق الزوجية، فقد اعتدى على بشرٍ مخلوق، قضى وطره دون أن يربطها بعلاقة زوجية تضمن لها مصالحها ومستقبلها، إذاً هو ماذا فعل ؟ اعتدى على الآخرين بدافع من شهوته، الإنسان يحب المال، قد يأكل أموال الناس بالباطل بدافع من حب المال، فالشهوات إن لم تنضبط بمنهج الله فلا بدّ أن تؤدِّي إلى فساد وقد قال الله عزّ وجل:
      ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ (41) ﴾
      (سورة الروم )
      ما هو الفساد ؟ إخراج الشيء عن خصائصه ؛ صمم الله عزّ وجل هذا الماء لا لون له ولا طعم له ولا رائحة، لو كان فيه رائحة غير مقبولة لأصبح الماء فاسداً، ولو فيه عكر شديد أصبح الماء فاسداً، لو فيه ألوان غير مقبولة أصبح ماء فاسداً ؛ إفساد الماء إخراجه عن طبيعته، هذا هو الإفساد، فلأن الله أودع في الإنسان الشهوات فإذا لم يهتد بهدي الله عزّ وجل فلا بد أن يفسد، والفساد أساسه مخلوقٌ مخير أودعت فيه الشهوات، تحرَّك وفق الشهوات من دون منهج الله عزّ وجل، لذلك ليس هناك فساد في عالم الملائكة، وليس هناك فساد في عالم الحيوان، الفساد فقط عند الإنسان الذي مُكِّنَ من الشهوات ولم يهتد بمنهج الله عزّ وجل ؛ فلذلك لأني أنا إنسان يوجد حولي أخطار ؛ خطر الشهوة، خطر تَحَمُّل العقاب على عدواني على الآخرين ؛ ما الذي يجري الآن ؟ أناس يعتدي بعضهم على بعضٍ، وربنا عزّ وجل يحاسبهم حساباً دقيقاً، فأنت أمام خطر أن تغريك نفسك بأخذ ما ليس لك، فيعاقبك الله عقاباً أليماً، هذا خطر ؛ فالمتقي هو الذي اتقى عقاب الله عزّ وجل ؛ الله عزّ وجل له أسماءُ جلالٍ ؛ الله جبار، الله منتقم، الله كبير، الله قهَّار، الله مهيمن، هذه أسماء الجَلال، ورحيم، ولطيف، وحكيم هذه أسماء الجمال. معنى كلمة (تقوى):
      ما معنى اتقيت الله ؟ اتقيت أسماء جلاله بأسماء جماله، أي أنا أطلب رحمة الله بطاعته، أتقي غضبه، أتقي بطشه، أتقي انتقامه:
      ﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) ﴾
      (سورة البروج)
      وهو: ﴿ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) ﴾
      (سورة الرعد)
      قال: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ (18) ﴾
      ( سورة الأنعام )
      هذه أسماء الجلال أما إذا أنا أطعته: ﴿ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) ﴾
      ( سورة هود)
      وقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً (96) ﴾
      ( سورة مريم)
      إذاً كلمة التقوى أن تتقي غضب الله، تتقي عقابه، تتقي أن تكون تحت أسماء جلاله وتتقي عقابه الأبدي وهو النار، لذلك: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ (102) ﴾
      ( سورة آل عمران )
      أن تطيعه فلا تعصيه، وأن تذكره فلا تنساه، وأن تشكره فلا تكفره. حينما يستقيم الإنسان على أمر الله يتقي أسماء الجلال ويطلب أسماء الجمال والإكرام:
      أيها الأخوة الكرام، الهدى إنسان شعر بالخطر، بحث عن الخلاص من خلال هذا الكتاب، لذلك :
      ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) ﴾
      كلما تمعَّنت، كلما تأمَّلت في هويتك أنت إنسان فيك شهوات أرضية، وفيك مطالب علوية، فإذا غلبت عليك شهوتك فالمصيبة كبيرة جداً، حينما تحركت الشهوة عشوائياً رافقها العدوان على أعراض الناس، وعلى أموالهم، والعدوان مصيره العقاب، وأنت حينما تستقيم على أمر الله تتقي عقاب الله، حينما تستقيم على أمر الله تتقي أسماء الجلال، وتطلب أسماء الجمال والإكرام: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) ﴾
      إن لم يبحث الإنسان عن الحقيقة فهذا الكتاب لا يعنيه، فلو جلس إنسان في مكان جميل وليس عنده هدف فهو لا يسأل عن شيء، ولا يبحث عن شيء، أما إذا جاء إنسان إلى بلدة غريبة عليه، وله مبلغ ضخم ليقبضه من مؤسسة، وهو لا يعرف عنوان المؤسسة فتجده يسأل لأن هناك هدفاً، الهدف أن يأخذ هذا المبلغ من هذه المؤسسة، والمؤسسة لا يملك عنوانها، فإنه يسأل، فأخطر شيء أن تكون إنساناً بلا هدف، أنا ذهبت إلى بلاد بعيدة جداً، قيل لي: ماذا رأيتَ ؟ قلت: رأيت إنساناً بلا هدف، يأكل، ويشرب، ويستمتع: ﴿ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) ﴾
      (سورة محمد)
      أخطر شيء أن تكون بلا هدف، وأعظم شيء أن يكون لك هدف عظيم، هذا الهدف يدفعك إلى مكارم الأخلاق.
      لذلك أيُّها الأخوة، الشيء اللطيف أن المؤمن لا يشيخ أبداً، المؤمن شابٌ دائماً، قد يصل إلى المئة ولكنه لا يشيخ بل يبقى شاباً، شابٌ بهمته، لأن هدفه كبير، هدفه الله عزّ وجل. حينما يكون الله هدفك فأنت في شبابٍ دائم:
      النقطة الدقيقة: متى يسأم الإنسان الحياة ؟ حينما تكون أهدافه أرضية ؛ هدفه الزواج فتزوج، هدفه أن يكون معه مال فجَمَّع المال، هدفه أن يحتل مكانة رفيعة فنالها، والإنسان دائماً يكتشف تفاهة أهدافه المادية، فمستحيل أن يمدك شيئاً من الدنيا بسعادةٍ مستمرَّة، كلما بحثت عن هدفٍ مادي ووصلت إليه اكتشفت تفاهته، أما حينما يكون الله هدفك أنت في شبابٍ دائم.
      ثمة فكرة ذكرتها كثيراً: إن الإنسان يبحث عن السعادة في أعماقه، وتحتاج السعادة بالمفهوم المادي إلى صحة، وإلى وقت، وإلى مال، ودائماً عنصر من هذه العناصر مفقود، ففي أول الحياة الوقت موجود والصحة موجودة ولكن لا يوجد مال، في منتصف الحياة الصحة موجودة والمال موجود ولكن لا يوجد وقت، في آخر الحياة المال موجود والوقت موجود ولكن لا توجد صحة، معنى هذا أن الإنسان طوال حياته شقي، دائماً ينقصه شيء، لكن المؤمن غير هذا، المؤمن لا ينطبق عليه هذا الحكم، لماذا ؟ لأن هدفه الله عزّ وجل ؛ هو شاب يسعد بالله، وهو متزوج يسعد بالله، وهو فقير يسعد بالله ؛ القصة كلها أن لا يكون هدفك محدوداً، إذا كان الهدف محدوداً ووصلت إليه انتهيت، تصبح الحياة مملةً، تصبح الحياة مُتْعِبةً، تصبح الحياة عبئاً ؛ لذلك تجد الكبراء، أصحاب الأموال، أصحاب المراتب العالية في المجتمع تجلس معهم فتتضايق، يقول لك: المال أمر تافه، لا شيء فيه، مع أن معه أموالاً طائلة، وليس عنده مشكلة.
      ذكر لي أحد الأخوة مفارقة عجيبة جداً: زاره شخص، أقسم بالله أن حجمه المالي بِضعة آلاف الملايين، لا بضع مئات، بل بضعة آلاف، شكا له عن حياته وعن ملله، لا يعجبه شيء، ولا يوجد شيء يرضيه، قال لي: شيء عجيب، خرجت من عنده وليس لي قوائم تحملني، فما هذا الإنسان ؟!! لا يوجد عنده مشكلة، المال كله بين يديه ؛ وتابع هذا الأخ حديثه قائلاً: طلبت أسرة فقيرة مساعدة مني، دخلت إلى بيت في إحدى قرى دمشق، فإذا هو بيت متواضع جداً تحت درج، الزوج موجود، والزوجة موجودة، والأطفال في سعادة، والدخل محدود، طلبوا أجرة البيت فقط ؛ ألف ليرة فقط، قال لي: شعرت أن في هذا البيت سعادة غامرة، مع أنه يشكو من ضيق الدخل، فالإنسان حينما يفقِد الهدف يصير إنساناً عبئاً، فالذي أقوله لكم: يجب أن تختار هدفاً يفوق كل قدراتك، هو الله عزّ وجل، كل إنسان هدفه الله فهو سعيد، في شباب دائم، ليس ثمة ملل ولا سأم، لأنه يبحث عن شيء مهما بذل من أجله فلن يحيط بالله عزّ وجل، أما الدنيا فمحدودة، وتنتهي.
      ثَمَن الجنة ضبط الشهوة والشقاء أن تغلبك شهوتك :
      إنسان صار معه مال، أكل جميع المأكولات ولم يبقَ عنده الرغبة الجامحة للأكل، تزوج فأَلِفَ هذه العلاقة، احتل مكانة رفيعة في المجتمعَ فأَلِفَ هذا التعظيم، وهذه المكانة، لكنه يبحث عن شيء، لذلك توجد نقطة دقيقة، ذات مرة ألقيت فيها درساً عنوانه: " ثم ماذا ؟"
      جمعت المال، ثم ماذا ؟ وصلت إلى مكانةٍ عَليَّة، ثم ماذا ؟ يوجد قبر بعد الدنيا، انغمستَ في كل المتع الرخيصة، ثم ماذا ؟ السِمة التي تجمع كل المنحرفين الملل والسأم والضجر، لماذا تجد المؤمن أسعد الناس ؟ لأن هدفه كبير، فهو موعود بالجنة.
      ﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) ﴾
      ( سورة القصص)
      أيها الأخوة هذه الآية الكريمة: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) ﴾
      أي إذا شعرت أن هناك خطراً، الخطر أن تغلبك شهوتك: ﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا (106) ﴾
      (سورة المؤمنون)
      أي غلبتنا شهواتنا، الشقاء أن تغلبك شهوتك وهذا هو الامتحان الصعب، ثَمَن الجنة ضبط الشهوة: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) ﴾
      (سورة النازعات)
      الفرق بين المؤمن وغير المؤمن:
      أنت حينما تشعر أن هناك خطراً، الخطر أن تغلبك شهواتك على منهج ربك، أنت إذاً الآن مُتَّق، تتقي الخطر، تتقي أن تقع تحت وطأة عذاب الله، تتقي أن تكون تحت وطأة أسماء الجلال، بطش الله شديد، هناك زلازل، هناك أمراض عضالة، هناك قهر، وفقر، وانقباض، وهم، وحزن، تتقي أن تكون تحت وطأة أسماء الجلال، تتقي العقاب الأكبر وهو النار، ما دمت تتقي فأنت تبحث عن الهدى، والهدى موجود في القرآن الكريم، القرآن رسم لك الهدف ورسم لك الطريق:
      ﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) ﴾
      ( سورة فاطر)
      أي أنه ما من جهةٍ في الأرض مؤهلةٍ أن ترسم لك الهدف الصحيح إلا الله عزّ وجل، وما من جهةٍ في الكون مؤهلة أن ترسم لك الطريق الصحيح لهذا الهدف ؛ هدف المؤمن الجنة، هدفه أن يعرف الله، وأن يعرف منهج الله، وأن يسلُك الطريق الصحيح ؛ فعنده توازن، وعنده رضىً، وعنده قناعة، لا يوجد عنده شعور بالقلق للمستقبل، لأن الخط البياني للإنسان المؤمن صاعد صعوداً مستمراً، أما حينما ينسى الله عزّ وجل يكون الصعود حاداً، والسقوط مُريعاً ؛ هذا الفرق بين المؤمن الذي يمشي على منهج الله عزّ وجل، وخطُّه البياني صاعد صعوداً مستمراً، بينما غير المؤمن يكون صعوده حاداً، وانهياره سريعاً. بعض الأحاديث الشريفة التي تتعلَّق بسورة البقرة:
      أيها الأخوة إن شاء الله تعالى نُتابع هذا في الدرس القادم:
      ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) ﴾
      بالمناسبة اسمحوا لي أن أضع بين أيديكم بعض الأحاديث الشريفة التي تتعلَّق بسورة البقرة، قد يسأل أحدكم ما هذه التفصيلات ؟ يقول عليه الصلاة والسلام: (( تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ ))
      [أحمد عن ابن بريدة عن أبيه]
      وفي حديثٍ آخر: (( تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلَ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ ))
      [أحمد عن ابن بريدة عن أبيه]
      و في حديثٍ ثالث: (( وعَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَقَالَ: قَرَأْتَ سُورَتَيْنِ فِيهِمَا اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ))
      [الدارمي عَنْ مَسْرُوق بنٍ عَبْدِ اللَّهِ]
      (( كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ في أعيننا ))
      [رواه أحمد في مسنده عن أنس بن مالك ِ]
      جدَّ: أي عظُّم في أعيننا. (( مَنْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَاءَتَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَقُولانِ رَبَّنَا لا سَبِيلَ عَلَيْهِ ))
      [الدارمي عَنْ كَعْبٍ ]
      (( ما خيَّب الله امرأ قام في جوف الليل فافتتح سورة البقرة وآل عمران ))
      [الطبراني عن ابن مسعودٍ ]
      ربنا عزّ وجل وصف المؤمنين والمنافقين والكفار في أوائل هذه السورة :
      أوائل هذه السورة مباركة جداً، لأن ربنا عزّ وجل وصف المؤمنين بخصائص كبرى والمنافقين والكفار، هؤلاء الأصناف الثلاث، فالإنسان عليه أن يحرص على أن تنطبق عليه صفات المؤمنين، طبعاً في الدرس القادم:
      ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ (5) ﴾
      والهدى يرفعهم عند الله: ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) ﴾
      إذا فهمنا هذه الآيات فهماً دقيقاً وانطبقت علينا سَلِمْنا وسعدنا في الدنيا والآخرة، أخرج الإمام مسلم وأحمد والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ وَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لا يَدْخُلُهُ الشَّيْطَانُ))
      [مسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن أبي هريرة]
      (( أفضل القرآن سورة البقرة وأعظم آيةٍ فيها آية الكرسيّ وإن الشيطان ليفر من بيتٍ تُقْرأ فيه سورة البقرة ))
      [الحارث عن الحسن مرسلاً]
      هناك أحاديث كثيرة عن فضل هذه السورة، أرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفِّقنا إلى متابعة فهم هذه السورة والعمل بها. والحمد لله رب العالمين
      التعديل الأخير تم بواسطة بذور الزهور; الساعة 14-09-2014, 10:56 PM.

      تعليق


      • #4
        الدرس الرابع من تفسير البقرة لنابلسى


        بسم الله الرحمن الرحيم

        الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
        عالم الشهود:
        أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الرابع من سورة البقرة، ومع الآية الثالثة، إحدى أكبر صفات هؤلاء المتَّقين أنهم يؤمنون بالغيب، فما هو الغيب ؟ هناك عالَم الشهود، وهناك عالَم الغيب ؛ عالَم الشهود ما تشاهده، ما تسمع به، ما تشُمُّه، ما تُحِسُّ به، تسمعه، أو تراه، أو تشمُّه، أو تتذوَّقه، أو تحس به، المعلومات التي تأتينا عن الحواس الخمس، عالم الشهود ؛ هذا الضوء متألق، وهذه المروحة تدور، وهذا الصوت يُكَبَّر نعرفه بآذاننا.
        أيها الأخوة الكرام، لذلك قالوا: " ليس مع العين أين "، ليس مع العين أين الدليل ؟ لا نحتاج مع العين إلى دليل ؛ لا يختلف البشر جميعاً على المحسوسات، لذلك العلوم المادية متَّفق عليها في كلِّ قارات الأرض ؛ علم الفيزياء، والكيمياء، والضـوء، والميكانيك، والحرارة، وعلم المستحثات.
        العلوم المادية، ليس بين علماء الأرض خلافٌ حولها إطلاقاً، لأن الحس يقيني، هذا هو عالَم الشهود، الشيء الذي تدركه بسمعك، تسمع صوته، أو تراه بعينك، أو تلمسه بيدك، أو تشُمُّه بأنفك، أو تتذوَّقُه بلسانك، هذا عالم الشهود.
        قد تتوهم أن الحـواس خمس، والحقيقة الحواس أكبر من خمس بكثير، أمامك وعاءان مغلقان، فأيهما ممتلئ وأيهما فارغ ؟ لا تعرف بأذنك، ولا بعينك، ولو وضعت يدك على الوعاء، ولا بيدك، ولا بأنفك، ولا بلسانك، تحمل أحد الوعاءين تراه خفيفاً، تحمل الثاني فتراه ثقيلاً، هذه حاسة إدراك الثقل ؛ إذا وضعت وعاء تحت الصنبور، كلّما ازداد الماء في الوعاء تشعر أن يدك تقاوم أكثر، يزداد الوزن، تشعر من خلال عضلاتك أن الوزن يزداد، هذه حاسةٌ أيضاً ؛ تُعطى قطعتين من قماش من مستوى واحد، بالشكل واللون، أيُّهما أَرَقّ ؟ تأتي بإصبعين، تعرف من خلال الإصبعين سماكَة الشيء، هذه أيضاً حاسة ؛ تنام على السرير نوماً مديداً، تضغط العضلات مع الهيكل العظمي على العضلات التي تحت الهيكل العظمي، فهناك مراكز ضغط في العضلات تُنْبئ الدماغ أن الضغط اشتد، والأوعية ضاقت لمعتها، والتروية ضعفت، وحدث حس بتنميل وخدر، تذهب هذه المعلومة إلى الدماغ ؛ يعطي الدماغ أمراً، فيتقلَّب النائم ثمانٍ وثلاثين مرة ذات اليمين وذات الشمال، فإدراك الضغطِ هذا قوةٌ إدراكية عند الإنسان ؛ إدراك الثقل قوة إدراكية، إدراك الثخانة قوة إدراكية، غير السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس ؛ نحن ألفنا أنَّ الحواس خمس، ولكن هناك قوىً إدراكية عند الإنسان كثيرة جداً.

        استواء البشر و غير البشر في عالم الشهود :
        كيف يشعر الإنسان أنه جائع ؟ يا ترى المؤشر صوتي ؟ لا، جائع وهو ساكت، فهل المؤشر كيماوي ؟ لا نعرف، ضوئي ؟ لا نعرف، عصبي ؟ لا نعرف، نعرف أننا جائعون، نريد أن نأكل، هذا أيضاً إدراك ؛ يحس الإنسان بالعطش أحياناً ؛ فالإحساس بالجوع، والإحساس بالعطش، وتقدير سماكة الشيء، وتقدير وزن الشيء، والمُدركات الأُخرى هذه كُلُّها من عالَم الشهود.
        أيها الأخوة، هذه الحواس الخـمس، وغير الخمس كثيرة جداً، وهذه من هداية المصلحة ؛ هدانا إلى مصالحنا، الإنسان يتوازن، راكـب الدرَّاجة إذا مال درجتين يدرك فيصحّح، لولا جهاز التوازن لما استطاع أحد أن يركب دراجة، ولا أن يمشي على قدمين إطلاقاً ؛ انظر إلى المجسَّمات في محلات بيع الألبسة تحددها تستند إلى قاعدة كبيرة جداً ؛ لا يوجد ميت يقف على قدميه، من يقدر أن يوقف ميتاً ؟ إنه يقع لأن جهاز التوازن تعطل، أما الإنسان يمشي بقدمين لطيفتين، يتنقل لأنه متوازن، فالتوازن إحساس، اختل التوازن ؛ الإنسان أحياناً يأكل أكلة متفسِّخة، يتقيَّؤها رأساً، أدرك أن الطعام فاسد، حدث القيء ؛ القيء أساسه إدراك، التوازن أساسه إدراك، الجوع أساسه إدراك، العطش أساسه إدراك، معرفة وزن الشيء أساسه إدراك، معرفة ثخانته إدراك، تتم معرفة أشياء كثيرة هذه كلها عن طريق الإدراك، هذا عالَم الشهود، يستوي فيه البشر جميعاً، ويستوي فيه البشر وغير البشر.

        عالم الغيب :
        ما هو عالَم الغيب ؟ الغيب كل شيءٍ غاب عن حواسِّنا وعن مدركاتنا ؛ يؤمن الحيوان بحواسِّه، أما الإنسان فهو مُكَرَّم أعطاه الله قوةً إدراكية تزيد عن حواسه الخمس وعن مدركاته الحسِّية ؛ أعطاه الله عقلاً، بالعقل تؤمن بالغيب، الشيء الذي غاب عنك تدرِكُه بعقلك ؛ تمشي في طريق ترابي تجد أثر عجلتين، تقول: مرَّت من هنا سيارة، ولعلها صغيرة لقلة المسافة بين العجلتين، ولعلها كبيرة، ولعلها شاحنة كبيرة، أنت لم تر السيارة، ولكن رأيت آثارها، فعن طريق العقل أيقنتَ بأن هناك سيارةً مرت ؛ البعرةُ تدل على البعير، والماء يدلُّ على الغدير، أفسماء ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، ألا تَدُلاَّن على الحكيم الخبير ؟
        المدرِكات الحسية تجعل الإنسان مع عالم الشهود وجهاً لوجه لأن أساسه الحواس الخمس:
        أساس عالم الشهود الحواس الخمس وكل أدوات الإدراك الحسية ؛ من وزن، من ثخانة، إحساس بالجوع، إحساس بالعطش، إحساس بالتوازن، إحساس بفساد الطعام، إحساس بالانضغاط.
        أحياناً يزداد اللعاب في فمك، وأنت نائم، وأنت غارق في النوم، وأنت ترى مناماً معيناً، تذهب إشارة من الفم إلى الدماغ، زاد اللُّعاب عن حده المعقول، يعطي الدماغ أمراً للسان المزمار، يغلق فتحة الهواء إغلاقاً محكماً، ويفتح فتحة المريء فتحاً واسعاً، فالإنسان يبتلع ريقه وهو نائم، لولاها لوجدت ريق الإنسان على الوسادة، وأنت نائم هناك عملية معقدة جداً للسان المزمار ؛ وتتم أنت نائم عمليَّات أخرى كالتقَلُّب يُمْنَةً ويُسرةً ؛ فالمدركات الحسية، وأدوات الإدراك الحسية، والحواس الخمس هذه أداتُك إلى عالَم الشهود، وهذه من نعمة الله الكبرى، هذه هداية ولكنها هداية المصالح.
        وأنت تعلم ما حولك عن طريق الحواس، تقول: توجد رائحة كريهة في البيت، الرائحة أحد وسائل إدراك الأشياء، تنتهي وظيفة عينك في العبث عند الجدار، بينما تمتد أذنك إلى ما بعد الجدار ؛ فتقول: هناك حركة في البيت، من دخل إلى البيت ؟ من فتح الباب ؟ وأنت جالس في غرفتك عينك لا تكشف أما الأذن فقد كشفت ؛ أما لو أن حشرةً ماتت، أو فأرةً ماتت تحت السرير، فلا تسمع صوتها، ولا ترى جُثَّتَها، ولكن تشم رائحتها بعد حين، تقول: هناك رائحة كريهة ؛ حتى الغاز الذي نستعمله، الرائحة الكريهة في الغاز أُضيفَتْ له قصداً، الغاز ليس له رائحة، هذه الرائحة الكريهة في الغاز أضيفت له من أجل أن نشعر بالتسرب فلا يحترق البيت ؛ فهذه المدرِكات الحسية تجعلك مع عالم الشهود وجهاً لوجه، ولكنك مخلوقٌ مكرم زُوِّدتَ بعقلٍ يدرك ما غاب عنك.

        الغيب الشهودي غيبٌ له آثار ووسيلة إدراكه العقل :
        الآن: الله جلَّ جلاله لا تدركه الأبصار، الله جلَّ جلاله غَيبٌ عنك، لكن الكون كله من آثاره، فعن طريق العقل إذا أعملته تتعرف على الله عزَّ وجل بهذه المخلوقات هذا عالم الغيب ؛ عالم الغيب شيءٌ غاب عنك ولكن له آثاراً، فأنت عندك حواس، وأدوات إدراك لهذه الآثار، فهذه الحواس، وأدوات الإدراك تَنقل إلى الدماغ معطيات الآثار، والدماغ يحكم على الذي غاب عنك ؛ أول خصيصة للإنسان المؤمن أنه يؤمن بالغيب، يؤمن بالله ولا يرى الله، يؤمن بعظمة الله من خلال عظمة خلقه، يؤمن بتسيير الله من التسيير الذي يراه بعينه، يؤمن بالمسيِّر من التسيير، يؤمن بالحكيم من الحكمة، يؤمن بالمنظِّم من النظام، يؤمن بالخالق من الخَلْق، يؤمن بالمُبْدِع من الإبداع ؛ إن أكبر قضية في حياة المؤمن أن الله أعطاه عقلاً، والكون كلُّه أثر من آثار الله عزَّ وجل، فهذا العقل إذا وَجَّهْتَه إلى هذه الآثار دلّك على المؤثر.
        القضية بسيطة جداً، أنت أمام جدار، وراء الجدار دخان، والقاعدة " لا دخان بلا نار " فإذا ذهبت إلى خلف الجدار رأيت النار بعينك، " ليس مع العين أين "، لا نريد دليلاً ؛ أما إذا ابتعدت عن الجدار ورأيت الدخان، الآن يحكم عقلك من أثر النار على وجود النار، تقول: لا دخان بلا نار، ما دام هناك دخان إذاً يوجد نار، مع أنَّك لم ترَ النار، هذا أحد أنواع الغيوب، غيبٌ له آثار، شيءٌ غاب عنك وله آثار، فوسيلة إدراكه العقل ؛ يمكن أن نسمي هذا الغيب: بالغيب الشهودي، الغيب الذي له في عالم الشهود آثار.

        وفي كل شيءٌ له آيةٌ تدل على أنَّه واحدٌ
        ***

        كل ما في الكون ينطق بوجود الله و بوحدانيته:
        كل ما في الكون ينطق بوجود الله، كل ما في الكون ينطق بوحدانية الله، كل ما في الكون ينطق بكمال الله، كل ما في الكون ينطق برحمة الله، ينطق بلطف الله، ينطق بقوة الله، ينطق بعلم الله، كل ما في الكون ينطق بأسماء الله الحسنى، لذلك الطريق الواضح الصارخ القصير، أن تعرف الله من خلقه..
        ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) ﴾
        ( سورة آل عمران)
        لا زلنا في عالم الشهود، تشعر بالحاجة إلى النوم، هذه حاسة، يقول لك: نعست لا أستطيع الاستمرار، فما الذي أشعرك أنك بحاجة إلى النوم ؟ تَعِب الجهاز العصبي، كيف ينقل لك هذا الجهاز أنه تَعِب وبحاجة إلى النوم ؟ هذا إدراك، نمت ثماني ساعات، استيقظت، ما الذي أشعرك أنك قد أخذت قسطاً من الراحة ؟ الاستيقاظ أيضاً إدراك، الأمثلة دقيقة وكثيرة جداً؛ عالم الشهود، العالم المحسوس، إنْ صوتاً، أو شكلاً، أو رائحةً، أو ذوقاً، أو ملمساً، أو ثِقَل الأشياء، وثخانة الأشياء، والإحساس بالتوازن، والإحساس بالجوع، والإحساس بالعطش، والإحساس بالحاجة إلى النوم، والإحساس بالحاجة إلى الاستيقاظ، الإحساس بأنه يجب أن نتقلب بالفراش، الإحساس بأنه لا بدَّ أن نبتلع اللُّعاب في فمنا، وما إلى ذلك من إحساسات لا يعلمها إلا الله، وهي إحساسات لا تنتهي. أنواع الغيب:
        إذا انتقلنا إلى عالَم الغيب، كل ما غاب عنك، كل ما غاب عن حواسك الخمس ومدركاتك الحسية، هذا هو عالم الغيب، أعظم غيبٍ يجب أن تؤمن به الله، غابت عنك ذاته وأمامك آثاره، والأدوات العقل، لذلك هناك معرفة عقلية ومعرفة حسية.
        لكن يوجد شيء غاب عنك وليس له آثار، الملائكة غائبةٌ عنا لكن ليس لها آثار، الجن مخلوقاتٌ غابت عنا وليس لها آثار، اليوم الآخر غاب عنا وليس له آثار، هذه معرفة ثالثة.
        الغيب الأول، غيبٌ له آثار أداته العقل.
        الغيب الثاني غيب الأخبار غيبٌ ليس له آثار، أداته الأخبار فقط، والخبر أساسه أن يكون صادقاً، فإذا كان الخبر صادقاً هذه معرفة من نوع ثالث، إما أن ترى بعينك، وإما أن تستدل بعقلك، وإما أن تُصْغي بأذنك، فأخبرنا الله عزَّ وجل أن هناك ملائكة، هذا نوع ثالث، أخبرنا أن هناك عالماً هو عالم الجِن، أخبرنا أن هناك يوماً آخر، أخبرنا أن في هذا اليوم نار جهنم، وجنة عرضها السماوات والأرض، كل هذه الغيوب التي لا أثر لها، والتي لا يستطيع العقل أن يصل إليها أخبرنا الله عنها.
        فالغيب الثالث غيب إخباري، الغيب الثاني غيب استدلالي، وهناك غيبٌ استأثر الله به لا يعلمه أحدٌ إلا الله.

        ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ (27) ﴾
        ( سورة الجن )
        فإذا أخبرنا النبي عن شيءٍ في المستقبل فهو من إعلام الله له لا من علمه الذاتي. من رحمة الله بالإنسان أنه ترك له علامات لكل شيء :
        فيا أيها الأخوة..( يؤمنون بالغيب )، شيء غاب عنك، لكنك تعرف آثاره، أنت الآن أمام أداة كهربائية معطلة، يا ترى التيار الكهربائي معطل ؟ تأتي بأداة أخرى تضع شريطها في هذا المأخذ، فإذا عمل معنى ذلك أن المأخذ سليم، حصرت العطل، يا تُرى هذه المِكواة معطلة بسبب شريطها ؟ تأتي بشريط جديد تضعه تجدها تعمل، إذاً العطل من الشريط، أساساً هذا هو العمل العقلي ؛ كل الحضارة قائمة على الفكر ؛ شيء لا يراه الإنسان ولكن يرى آثاره ؛ لا يرى الطبيب الجراثيم، يقول لك المريض: عندي ارتفاع حرارة، و قيئ، و إسهال، يقول لك الطبيب: معك الجرثوم الفلاني في الأمعاء ؛ قال الله عزَّ وجل:
        ﴿ وَعَلَامَاتٍ (16) ﴾
        ( سورة النحل )
        من رحمته بنا ترك ربنا عزَّ وجل علامات، أعطانا علامات، علامات للنباتات، علامات للأمراض، علامات للجراثيم، علامات لكل شيء.. ﴿ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) ﴾
        ( سورة النحل )
        سمعنا في الأخبار أنه ستأتي موجةٌ حارة بعد يومين مثلاً، هل يُعَدُّ هذا غيباً ؟ هناك ليس غيباً بل هو واقع، هو غيب عندنا، وواقع في بلاد أوروبا، والرياح لها سرعة، فنحن بعد يومين تصلنا هذه الموجة، ليس هذا غيباً بالمعنى الذي استأثر الله به، هذا غيبٌ سمح الله للإنسان أن يكشفه إما بمعرفة سرعة الرياح، أو باتصالات لاسلكية عن طريق الأقمار الصناعية تعرف ما سيكون بعد يومين، هذا ليس من علم الغيب الذي استأثر الله به، هذا من علم الغيب الذي سمح الله به.
        أحياناً مسألة رياضيات، تأخذ بعض المُعطيات تصل إلى المجهول، المجهول ليس غيباً، غيبٌ سمح الله أن تعرفه عن طريق المعطيات، المسلمات ؛ أحياناً يُسرَق بيت، وهناك من يتعامل مع الجن، ويَكشف الجني لعميله الإنسي أين المسروقات مثلاً ؟ هذا غيبٌ سمح الله به. تعرف العقل عن طريق نظام السببية والغائية وعدم التناقض إلى الله عزَّ وجل:

        نحن يجب أن نعرف أن هناك عالم الشهود، الواقع المحسوس المادي، و أن لعالم الشهود أدوات لمعرفته، يوجد عندنا حواس خمس، ويوجد عندنا عشرات الأدوات الإدراكية الحسية في الجسم، أما الذي غاب عنا هو من عالم الغيب، وأهم شيء في عالم الغيب الله جلَّ جلاله، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ؛ ما دام الكون أحد آثار الله عزَّ وجل، ما دام الكون تجسيداً لأسمائه الحسنى، ما دام الكون مظهراً لأسمائه الحسنى، فالكون من آثار الله عزَّ وجل، ويوجد عقل، والعقل عن طريق نظام السببية والغائية وعدم التناقض، يتعرَّف إلى الله عزَّ وجل.
        لكن أن تقول: هناك جنة ونار هذه لا ترى بالاستدلال، إنَّ هناك ملائكة وجناً هذه لا تُرى بالاستدلال، إنَّ هناك صراطاً، وحوضاً، ولوحاً محفوظاً، وإن أصل البشر آدم وحوَّاء، هذا كلُّه من عالم الغيب الذي ليس له آثار فينفعنا عقلنا بها، هذا من عالم الغيب الذي ليس له آثار، أداته الوحيدة الإخبار، الإخبار لا بدَّ من أن يكون صادقاً حتى يكون صحيحاً، فإذا أخبر الله عن شيء فهو حقٌ كأنك تراه لذلك:

        ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) ﴾
        ( سورة الفيل )
        من منكم رأى ذلك ؟ مع أن الله يُخاطبنا، معنى هذه الآية أن الله إذا أخبرك عن شيء فينبغي أن تؤمن به كأنَّك تراه..
        ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (3) ﴾

        ( سورة البقرة )
        آمنا بالله هناك غيبٌ استأثر الله به لا يعلمه أحدٌ من خلقه.. وغيبٌ استأثر الله به، وسمح لبعض الأنبياء أن يعرفوه، فكل أحاديث آخر الزمان، ومجيء سيدنا عيسى، هذه كلها من الغيب الذي سمح الله لنبيِّه أن يَعلَمه. ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ (27) ﴾
        ( سورة الجن )
        وأما الغيب الذي أخبرنا الله به ؛ الإيمان بالملائكة، الإيمان بالجن، الإيمان بالجنة، الإيمان بالنار، الإيمان بالصراط، الإيمان بالحوض، الإيمان باللوح المحفوظ، هذه كلُّها من الغيب الذي غاب عنا، وليس له آثار، لكن الله أخبرنا به. على الإنسان أن يعرف هوية أية قضية تُعرض عليه :
        أخواننا الكرام، الآن الشيء الدقيق جداً يجب أن تعرف هويّة أية قضيةٍ تُعرض عليك، هذه قضية حِسِّية مرجعها العلماء، يأتي شخص فيقول: أستاذ: أعمَلُ عملية ؟ أقول له: ماذا قال لك الطبيب ؟ هذه قضية علمية تحتاج إلى طبيبٍ حاذقٍ ورعٍ مسلم، إخبار الطبيب الحاذق الورع المسلم ؛ هو الحَسم، هو الفيصل ؛ القضية حسية، قضية تُقاس بمقاييس، يوجد ميزان حرارة، يوجد ميزان ضغط، يوجد إيكو للقلب، يوجد مِرنان، يوجد أدوات، يوجد تحليلات، الأمور الحسيِّة لها مقاييس حسية، قال تعالى:
        ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) ﴾
        (سورة الأنبياء)
        الأمور الغيبية إن كان لها آثار فأداتها الوحيدة العقل، و نقول عنها: غيبٌ استدلالي، أما الأمور الغيبية التي ليس لها آثار، وسمح الله أن نعرفها أداتها الأخبار، فصار عندنا يقينٌ حسي، يقينٌ عقلي، وخبر صادق عنها، وهناك غيب استأثر الله به، فأية قضيةٍ في الدين، يجب أن تعرف هويَّتها، من النوع المحسوس أم المعقول أم الإخباري. على الإنسان أن يبتعد عن القضايا الإخبارية أثناء حواره مع الآخر:
        أكبر مطب يصيب بعض المسلمين في أثناء الحوار مع غير المسلمين عندما يأتون بقضية إخبارية يجعلونها عقلية، أخي أَثْبِتْ لي أنه يوجد جن ؟ والله لا يوجد معي دليل، أَثبت لي أنه يوجد جهنم ؟ يقول له: طول بالك لا يوجد الآن معنا دليل، هذه قضية إخبارية، ليست قضية حسية ولا قضية عقلية، أنت بعد أن تؤمن بالله، وتؤمن بكلامه، وأن كلامه حق أخبرك الله أن هناك دار آخرة، وهناك نار، وهناك جنة ؛ إياك أن تخطئ، القضايا الحسية أداتها الحواس، القضايا الغيبية التي لها آثار أداتها العقل، القضايا الغيبية التي ليس لها آثار أداتها الإخبار ؛ أعلى خبر، القرآن الكريم، قال لك: بدأت البشرية بآدم وحواء، لذلك تركل بقدمك كل نظرية علمية أساسها أن الإنسان أصلُه قرد، اركلها بقدمك، لأن أعلى خبر عندنا كلام الله، قضية بدء الخليقة هذه غيب ليس له آثار، طريقه الوحيد الإخبار، أخبرنا أصدق القائلين أنَّ البشر بدؤوا بآدم وحواء، انتهى الأمر.
        منهج البحث في الإسلام دقة الحواس صحة الاستدلال وصدق الخبر :
        إذاً أنا عند وجود قضايا إخبارية أعتني بصحة الخبر فقط، وعند القضايا العقلية أعتني بصحة الاستدلال، وعند القضايا الحسية أعتني بدقة الحواس ؛ دقة الحواس، وصحة الاستدلال، وصدق الخبر ؛ هذا منهج البحث في الإسلام، أداة المعرفة الحسية: دقة الحواس، فلان يوجد عنده عمى ألوان، هذا أداته فيها خلل، فلان عنده ضعف في الشم لا يستطعم مثلاً، فلان عنده ضعف في خلايا الذوق، فالمعرفة الحسية أداتها دقة الحواس، والمعرفة العقلية أساسها صحة الاستدلال، كل إنسان فان، علمونا إياه في الثانوي، سقراط إنسان سقراط فان، فهذا استدلال عقلي، القضايا الغيبية التي ليس لها آثار أداتها الوحيدة صحة الأخبار، أعلى خبر كلام الله، بعده الحديث المتواتر، بعده الحديث الصحيح ، بعده الحسن.. إلى حد هنا يكفي.. الضعيف له إشكال.
        قيمة الإيمان بالغيب:
        الآن:
        ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (3) ﴾
        جيَّد، ما قيمة الإيمان بالغيب ؟ آمنت أن لهذا الكون خالقاً، آمنت أن لهذا الكون مسيَّراً، آمنت أن لهذا الكون مربيَّاً، آمنت أن هذا الخالق عظيم، ما قيمة هذا الإيمان إن لم تتصل به ؟ أنا أكاد أموت عطشاً، وعلمت أن هناك ماءً عذباً بارداً سائغاً، ما قيمة هذا الإيمان إن لم أتحرك إليِّه ؟ الإيمان النظري لا قيمة له إطلاقاً، " العلم ما عُمل به فإن لم يُعمل به كان الجهل أولى ". إقامة الصلاة بعد الإيمان بالغيب:
        لذلك بعد الإيمان بالغيب:
        ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ (3) ﴾
        (( لا خَيْرَ فِي دِينٍ لا رُكُوعَ فيه ))
        [ مسند أحمد عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاص]
        (( الصلاة عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين ومن تركها فقد هدم الدين ))
        [ أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن عمر ]
        الصلاة غُرَّة الطاعات، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض والسماوات، الصلاة هي الفرض الذي لا يسقط بحال، الشهادة تؤدَّى مرة واحدة، والحج يسقط عن الفقير والمريض، والصيام يسقط عن المسافر وعن المريض، والزكاة تسقط عن الفقير، الفرض الوحيد المتكرر الذي لا يسْقط بحال، يؤدى قائماً، أو قاعداً، أو مضطجعاً، أو بالإيماء، تؤدى الصلاة برموش العين، الفرض الذي لا يسقط بحال.. لأنك إذا ألغيت الصلاة ألغيت الدين: بين المرء والكفر ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر.. ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ (3) ﴾
        أنت بأمسِّ الحاجة للمال، وعلمت أن هناك إنساناً عظيماً، وهو يحب أن يعطيك، ما الذي يمنعك من أن تصل إليه ؟ ما الذي يحجزك عنه ؟ إن أيقنت أنه يعطيك ويحب أن يعطيك، وأنت في أمسِّ الحاجة إليه، فلا بدّ بعد أن عرفته أن تذهب إليه.
        ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا (110) ﴾
        ( سورة الكهف )
        ثمن هذه الصلاة: ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) ﴾
        هذا الدين كله. الدين كلّه يقوم على الإيمان بالله و إقامة الصلاة و الإنفاق :
        الدين كله في هذه الكلمات الثلاث:
        ﴿ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) ﴾
        أوسع آية بالإنفاق، أعطاك الله جاهاً أنفق هذا الجاه وانصر الضعيف، أعطاك الله علماً أنفق هذا العلم وعلِّم الجاهل، أعطاك مالاً أنفق هذا المال وارحم الفقير، أعطاك حكمةً أصلح بين شخصين، أعطاك عضلاتٍ قوية شُدَّها في معاونة الضعيف.. ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) ﴾
        يقول لك أخ: أنا أُتْقِن التبليط، فأنا جاهز لأي خدمة للمسجد، هذا أدَّى الذي عليه، " إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم "، أنا طبيب، ويمكن أن أعالج الفقراء، بارك الله بك، أنا محلل، ويمكن أن أجري تحاليل للفقراء. ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) ﴾
        أنا محامي، إذا كان هناك أخ ضعيف فقير له قضية شائكة فأنا أدافع عنه من دون مقابل، يبذل المحامي اختصاصه، والطبيب يبذل اختصاصه، والمهندس يبذل اختصاصه، والبائع يبذل اختصاصه، والغني يبذل اختصاصه، والعالم يبذل اختصاصه. ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) ﴾
        الضعيف، خبير بالتدفئة مثلاً، التدفئة بدون صوت تحت الأرض، المسجد بحاجة لتدفئة هادئة أنفق هذا العلم، باب الإنفاق مفتوحٌ على مصراعيه.. ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) ﴾
        العمل الصالح وسيلة الإنسان للاتصال بالله عز وجل:
        أخواننا الكرام، هذه آية مذهلة، آمنت بالغيب، لأنك آمنت بالغيب فلابدّ أن تتصل بالله عزّ وجل، والوسيلة هي العمل الصالح، الآية دقيقة..
        ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا (110) ﴾
        ( سورة الكهف )
        هذا الدين، الدين بسيط جداً، ولكننا عَقَّدناه، نحن جعلنا الدين عُقَداً، وعقبات ؛ آمن بالله من خلال خلقه، في رأسك عقل، وثمة كون معجز، إذا أعملت العقل قليلاً عرفت أن لهذا الكون خالقاً. من لوازم الإيمان بالله وكتبه و رسله أن نؤمن أن رسالات الله عزّ وجل غير منقطعة:
        أخواننا الكرام، الآن هناك إنجازات علمية مذهلة، ما يحدث في أي مكان في العالم يراه كلُّ الناس في القارات الخمس، نقل الصورة عن طريق الأقمار الصناعية هل هو شيء سهل ؟ والملوَّنة والآن ذات الأبعاد الثلاثة ؛ نقل الرسالة بجهاز، بمجرد أن تضع الرسالة في هذا الجهاز يظهر في أقصى بلاد الدنيا.. بالفاكس.. هل هذا قليل ؟ هذا الهاتف الخلوي قليل ؟ الإنترانيت قليل ؟ لو أعمَل الإنسان عقله في الكون بجهد واحد من المليار مما أُنجز من هذه المنجزات لعرف الله ؛ آمنتَ بالغيب، أقمت الصلاة، ثمن هذه الصلاة الإنفاق ؛ أنفقْ أُنْفِق عليك؛ من هم المتقون ؟ الذين اتقوا الخطر..
        ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) ﴾
        الله عزّ وجل خالق الكون، والخلق كلُّهم عياله منذ أن خلَّقهم، وحتى قيَّام الساعة، فلا معنى أن تؤمن أن الله أرسل نبيَّاً لنا وحدنا.. قال لا:
        ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) ﴾
        نؤمن بالأنبياء جميعاً، نؤمن بالكُتب السماوية كلِّها، نؤمن أن الله لا يدع عباده من دون رسل وأنبيَّاء.. ﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) ﴾
        ( سورة الرعد)
        ﴿ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (78) ﴾
        ( سورة غافر )
        فمن لوازم الإيمان بالله، والإيمان بالكتاب، والإيمان بالنبيَّ أن تؤمن أن رسالات الله عزّ وجل غير منقطعة، على مدار الزمان هناك رسالات، وهناك أنبيَّاء، وهناك هداية، لأن الله عزّ وجل قال: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) ﴾
        ( سورة الليل)
        إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ :
        ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ (19) ﴾
        ( سورة آل عمران )
        لـو تتبَّعت في آيـات القرآن نـبيَّاً نبيَّاً لوجدت أن الله وصف كل نبي بأنه مسـلم، فالإسلام بالمعنى الواسـع: الخـضوع لله، وبالمعنى الضَيِّق: آخر رســالة نزلت على رسول الله، فالمعنى الواسع للإسلام إذاً هو الانصياعٍ لله، حتى فرعون حينما أدركه الغرق قال: ﴿ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) ﴾
        ( سورة يونس)
        أي أنا خضعت لهذا الوحي الذي جاء به موسى، ولكن بعد فوات الأوان، قال: ﴿ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) ﴾
        ( سورة يونس)
        المشكلات التي يعانيها المسلمون اليوم نتيجة ضعف إيمانهم باليوم الآخر :
        ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) ﴾
        ( سورة البقرة)
        والله أيها الأخوة الكرام، في نفسي عن هذه الكلمة معانٍ كثيرة جداً، كل مشكلاتنا التي نعانيها لضعف إيماننا باليوم الآخر، لو أنَّك آمنت أنك سوف تُحَاسب حساباً دقيقاً: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) ﴾
        (سورة الحجر)
        ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) ﴾
        ( سورة الزلزلة)
        لا يمكن أن تأخذ ما ليس لك، ولا يمكن أن تعتدي على حق أحد، ولا يمكن لك أن تستطيل على إنسان، ولا أن تَبْتَزَّ مال إنسان، ولا أن تحتال على إنسان ؛ كل ما ترى عينك من معاصٍ يفعلها الناس فهذا لضعف إيمانهم باليوم الآخر ؛ وأحد ثاني أكبر ركن في الدين هو: اليوم الآخر. الإيمان بالله و اليوم الآخر يبعدان الإنسان عن معصية الله تعالى:
        الآن تنتهك مجتمعات قوية، تنتهك حُرمات الشعوب، تستغل خيراتها، تعتدي على حُريَّاتها، ماذا يتوهم هؤلاء الأقوياء ؟ أنهم أذكياء، وأن عندهم العلم، والسلاح الفَتَّاك، والإعلام والمصارف، هم بمقياس اليوم الآخر أغبياء، وسوف يحاسبون حساباً عسيراً..
        ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) ﴾
        ( سورة إبراهيم)
        لمجرد أن تؤمن باليوم الآخر، وفي هذا اليوم لن تُغَاَدرُ صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها الله عزَّ وجل.. ﴿ مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) ﴾
        ( سورة الكهف)
        لمجرد أن تؤمن باليوم الآخر، وأن الله سيَسْأل كل الخلق عن الكلمة، وعن النظرة، من سابع المستحيلات أن تعصي الله..
        العاقل و المتفوق من آمن بالله وعمل لليوم الآخر:

        ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ (5) ﴾
        هذا الهدى رَفَعَهم، ﴿على﴾
        تفيد الاستعلاء، رفعهم إلى أعلى عليِّين، رفع قدرهم، ورفع مكانتهم، ورفع اسمهم.. ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) ﴾
        ( سورة الشرح)
        ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) ﴾
        هم الأذكياء، هم المتفوِّقون، هم العقلاء، هم الناجحون، هم الفائزون. اتباع منهج الله عز وجل أساس الوِقاية من أخطار الدنيا والآخرة :
        أخواننا الكرام، هذا المقطع من سورة البقرة يُمَثِّل المؤمنين، لأنك كائن أودعت فيك الشهوات سبب حركتك، والشهوات تحتاج إلى منهج، إلى هدى من الله، فهناك خطر كبير أن تندفع بدافعٍ من شهواتك من دون منهج، هذا الخطر كيف يُتَّقى ؟
        ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) ﴾
        من أراد الوِقاية من أخطار الدنيا والآخرة، من أراد الوقاية من مصائب الدنيا، ومن نارِ جهنم، فعليه باتباع هذا المنهج.. ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ (2) ﴾
        من عند الله.. ﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) ﴾
        خصائص المتقين :
        هؤلاء المتَّقون أولى خصائصهم: يؤمنون بالغيب الذي له آثار عن طريق العقول، وبالغيب الذي ليس له آثار إلاّ عن طريق الإخبار، وبغيبٍ استأثر الله به لا يعلمه أحدٌ إلا هو؛ الإيمان بالغيب.. وأعظم شيءٍ في هذا الغيب الله جلَّ جلاله ؛ بعد أن آمنت به لا بدَّ من أن تتصل به.. وإلا ليس للإيمان معنى، لو فرضنا أنَّ شخصاً مصاباً بمرض جلدي، وعلاجه الوحيد هو التعرض لأشعة الشمس، بقي جالساً في غرفة مظلمة قميئة، وفيها رطوبة عالية، وفيها عفونة، قال: أنا مؤمن بالشمس، الشمس ساطعةٌ، الشمس مضيئةٌ، الشمس شافيةٌ.. فما معنى هذا الكلام ؟ اخرج من هنا، ما دام لا يوجد حركة فإن هذا الكلام كله (خزعبلات)، ما لم تخرج إلى أشعة الشمس ليشفى هذا المرض فهذا كلام (فارغ ).
        ﴿ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ (3)﴾
        التقيت مرة في سهرة مع شخص يحمل دكتوراه في العلوم، ودكتوراه في الآداب، وله مؤلَّفات، ذكي وطليق اللسان، ومتحدث لبق، والله أنا أعجبت به، قال لي في آخر السهرة: لكن أنا لا أصلي، سبحان الله سقط من عيني، كل هذا العلم، وكل هذا الفهم، ولا تُصلي ؟!
        كيف ؟ الثمن ؟ الطريق ؟ السبب ؟.. ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (78) ﴾

        ( سورة غافر )
        ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) ﴾
        تؤمن، فتنفق، فتصلي، هذا هو الدين كله. الإيمان بالله يرفع الإنسان و يعلي شأنه و يحفظه :
        الدين الذي أنت مؤمنٌ به ليس حلقةً في فراغ بل حلقة في سلسلة، أرسل الله عزّ وجل سيدنا عيسى، وسيدنا موسى، وسيدنا إبراهيم، وسيدنا نوح.
        ﴿ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (78) ﴾
        ( سورة غافر)
        ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ (4) ﴾
        كل الخلق عباده..
        البداية:

        ﴿ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (3) ﴾
        والنهاية: ﴿ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى (5) ﴾
        إيمانك يرفعك، يُعلي قدرك، يرفع شأنك، يعزُّك، يحفظك.. ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ (5) ﴾
        دقق.. الهدى قيود. التقيد بالقيم الدينية يجعلك حراً والتفلُّت منها يجعلك مقيداً محروماً :
        يوجد عندك منظومة قيم ؛ هذه حرام، هذه لا تجوز، هذه معاونة على المنكر، المنهج مئة ألف بند، وفي كل بند أمر ونهي، ومباح ومندوب، وسنة مؤكدة، وغير مؤكدة، ومستحب، الهُدى كله قيود لكنه يجعلك حراً.. دقق.. مُواطنٌ ينضبط بكل الأنظمة فهو حُر، جالس في بيته مرتاح، يرغب أن يسافر، أو أن يقيم، أو أن يأخذ تأشيرة خروج، فهو يذهب أينما شاء، لأنه قيد نفسه بالقوانين فصار حراً ؛ أما لو ارتكب أحدهم مخالفة كبيرة لَفَقَدَ حُريَّته، هناك أشياء فيها علاقة عكسية، التقيد بالقيم الدينية يجعلك حراً، والتفلُّت منها يجعلك مقيداً محروماً.
        ﴿ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) ﴾
        ( سورة الأحقاف)
        أي أن آخرته إما كآبة، ومرض نفسي، أو في السجن. ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ (5) ﴾
        الهدى يرفعك، التفلت يسقطك ويضلّك. الإيمان بالله والاتصال به أساس الوقاية من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة :
        أولئك الذين أرادوا الوقاية من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة بحثوا عن المنهج فوجدوه في كتاب الله، فآمنوا بالله غيباً، واتصلوا به عن طريق الإنفاق مما رزقهم، وآمنوا بسلسلة الرسالات، وآمنوا بالآخرة هذا اليوم الفصل، قال تعالى :
        ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) ﴾
        فما قولكم إذا كنا ممن تنطبق علينا هذه الآيات ؟ والله هذا هو الفوز العظيم، هذا هو العقل، هذا هو التفوق، أن تكون من الصفوة المختارة ممن رضي الله عنهم، ممن ألقى في قلوبهم الهدى، ممن دلَّهم عليه، هذا هو الفوز، هذا هو النجاح، هذا هو التفوق، هذا هو الفَلاح. ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) ﴾
        لماذا قـلت لكم في الدرس الماضي: إن هذه السورة مباركة، وكان يقول بعض الصحابة: " كان أحدنا إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ في أعيُّننا ".
        الآيات المكية آيات كونية، لها شرح هادئ، قضايا دقيقة جداً مفصَّلة، أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بهذا الدرس، وأن ينقلب إلى واقع وإلى سلوك، إيمان بالغيب، إنفاق، اتصال بالله، هذا هو الفلاح، وهذا هو النجاح. والحمد لله رب العالمين

        التعديل الأخير تم بواسطة بذور الزهور; الساعة 14-09-2014, 10:58 PM.

        تعليق


        • #5
          الدرس الخامس من تفسير البقرة لنابلسى


          بسم الله الرحمن الرحيم

          الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
          أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الخامس من سورة البقرة.

          حديث الله تعالى عن الكفار والمؤمنين في الآيات التالية:
          مع قوله تعالى في الآية السادسة:
          ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) ﴾
          تكلَّم الله عن المؤمنين في الآيات السابقة عندما قال: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) ﴾
          هؤلاء الصِنْفُ الأول.الإيمان والكفر نموذجان متقابلان، متعاكسان، متناقضان:
          الصِنف الثاني:
          ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) ﴾
          يمكن أن يُقَسَّم البشر على اختلاف أجناسهم، وأعراقهم، وألوانهم، وانتماءاتهم، وأقاليمهم، وأَمْصارهم، وقبائلهم، وطوائفهم، وملَلِهم، ونِحَلِهم إلى قسمين: مؤمنٍ وكافرٍ؛ مؤمنٍ عرف الله، واستقام على أمره، وأقبل عليه، وانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، فسعد في الدنيا والآخرة، وحقق الغاية من خلقه، وحقق الحكمة من وجوده؛ وكافرٍ غَفَل عن الله، وتَفَلَّت من منهجه الله، وأساء إلى خلقه، فشقي في الدنيا والآخرة، ولن تجد صنفاً ثالثاً، الثالث منافق، وهو في الأصل كافر، لكن مصالحه تقتضي أن يظهر ما لا يبطن، إن المنافقين هم الكافرون، فالتقسيم الحقيقي: مؤمن وكافر.
          الإيمان تصديق، الكُفر تكذيب، الإيمان كشف، الكفر غطاء، الإيمان إقبال، الكفر إعراض، الإيمان شُكر، الكفر جحود؛ نموذجان متقابلان، متعاكسان، متناقضان؛ الإيمان تصديق، الكفر تكذيب، الإيمان إشهار وكشـف، الكفر غِطاء، الإيمان إقبال، الكفر إعراض، الإيمان شكر، الكفر جحود.المنتفع لا يُناقَش لأنه يدافع عن منافِعِهِ لا عن أفكاره:

          يُستثْنى صنفٌ من الكفار، صنف كفر لنقص المعلومات فلما توافرت له آمن، كَفرَ لأن المعلومات وصلت إليه مشوَّهةً فلما صححت له آمن، أما هذا الذي تخبر عنه الآية :
          ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) ﴾
          المقصود هو الكافر المنتَفِعُ بكفره، الذي يعبد شهوته، ومن لوازم عبادة شهوته أن يكفر بالله، فكفره مَصْلَحِيّ، كفره متعـلقٌ باختياره، كفره متعلقٌ بمصالحه، كفره متعلقٌ بشهواته، كفره متعلقٌ بمكانته، كفره متعلقٌ بمكاسبه؛ هو الكافر الذي اتخذ الكفر وسيلةً إلى مكاسبه. دققوا، الإنسان قد تغيب عنه الحقائق فإذا تجلَّت له آمن، هذا الإنسان ليس معنياً بهذه الآية، الإنسان أحياناً قد تأتيه الحقائق عن الدين مشوَّهةً فإذا صححت له هذه الحقائق آمن، هذا الإنسان ليس معنياً بهذه الآية، الإنسان أحياناً قد يغفل فإذا ما صحا آمن، هؤلاء ليسوا معنيين بهذه الآية، أما الذي اتخذ الكفر وسيلةً للدنيا، الذي انتفع بكفره، الذي هيَّأ له كفره مكانةً عالية، أو مكسباً كبيراً، أو مالاً وفيراً، أو منصباً رفيعاً، أو مكانةً مرموقة، هذا الإنسان سواءٌ عليه أأنذرته أم لـم تنذره لا يؤمن، لأنه لا يبحث عن الحقيقة، ولا يرجوها، ولا يتمنَّاها، ولا تعنيه إطلاقاً.
          ذكرت مرةً مثلاً وسأُعيده، لأنه مناسبٌ لهذا المعنى، مثل افتراضي؛ إنسان فقير جداً يعمل عَتَّالاً على دابة، فلما ماتت هذه الدابة فَقَدَ دخله كلياً؛ دفنها، وأقام عليها بناءً وقبةً خضراء، وأعطاها اسماً من اختراعه، وزعم أن هناك ولياً مدفوناً في هذا المكان، وجاءه الناس زُرافاتٍ ووحدانا يتبركون بهذا الولي، ويعطونه العطايا الكثيرة، فهذا الإنسان انتفع بهذه الكذبة، وهذا الدجل انتفاعاً لم يكن يخطر له على بال؛ هل في الأرض قوةٌ يمكن أن تُقنعه أن المدفون هنا دابة ؟ لا، قناعته أشد من قناعة الذي يناقشه، لكنه ليس من صالحه إطلاقاً أن يعترف أن المدفون في هذا المكان دابة، هو يقاتل من أجل دَجَلِه، يقاتل من أجل فكرته، يقاتل من أجل كذبه، يقاتل من أجل الخُرافة التي نشرها بين الناس، هو يدافع عن مصلحته، يدافع عن دخلِه، يدافع عن مكانته، يدافع عن مكاسبه، فهذا الذي اتَّخذ الكفر وسيلةً للدنيا، هذا الذي هيَّأ له كفره مكانةً عالية، ودخلاً كبيراً، وهيمنةً على الناس عظيمة، هذا سواءٌ عليه أأنذرته أم لم تنذره لا يؤمن؛ هو بعيدٌ جداً عن موضوع الفكر وعن موضوع العقيدة، وعن موضوع المبادئ وعن موضوع الأهداف، أنت في واد وهو في واد؛ المنتفع لا يُناقَش لأنه يدافع عن منافِعِهِ لا عن أفكاره. ليس الذين كفروا هم الذين شوِّهَت لهم المعلومات فكفروا فلما صُحِحَت آمنوا، لا ليسوا هؤلاء، وليسوا هم الذين غابت عنهم الحقائق فلما حصَّلوها آمنوا، ليسوا هؤلاء، إن الذين كفروا هم الذين انتفعوا بكفرهم، والذين وصلوا إلى الدنيا بكفرهم، والذين أطاعهم الناس لكفرهم. المؤمن إنسان مبادئ وقيم بينما الكافر إنسان مصالح وشهوات :

          أيها الأخوة حدثنا ربنا عزَّ وجل عن اليهود كيف أنهم يعرفون النبي، أية معرفةٍ بديهية؛ وأية معرفةٍ يقينية، أية معرفةٍ سهلة، أية معرفةٍ قصيرة من أن تعرف ابنك، فإذا نظر أحدهم إلى ابنه هل يقول له: ما اسمك يا بني ؟ مستحيل، من أنت ؟ ترتيبك الثاني أم الثالث ؟ مستحيل، قال ربنا عزَّ وجل:
          ﴿ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ (146)﴾
          ( سورة البقرة )
          لماذا كفروا ؟ كفروا حسداً، هناك مصالح، لذلك كأن الله عزَّ وجل ينصحنا أن لا نناقش المنتفع بكفره، لا تحاوِرَه: ﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) ﴾
          حاور من لم ينتفع بكفره ففيه خير، معلوماته قليلة، معلوماته مشوَّهة، لو وصل إلى الحقيقة لآمن بها، هذا يأخذ الله بيده إلى الإيمان، أما الذين عناهم الله بهذه الآية فهم المنتفعون بكفرهم، المؤمن إنسان مبدأ، الكافر إنسان مصلحة، المؤمن إنسان قِيَم، الكافر إنسان شهوات، المؤمن يسعى للآخرة، الكافر يسعى للدنيا، مبادئ المؤمن فوق كل مصالحه، مصالح الكافر فوق كل مبادئه. ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا (6) ﴾
          من معاني الكفر كما قلت قبل قليل الجُحود، يقول الله سبحانه وتعالى:﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147) ﴾
          ( سورة النساء )
          من لوازم الإيمان الشكر ومن لوازم الكفر الجحود :
          أي أن من لوازم الإيمان الشكر ومن لوازم الكفر الجحود، فالمؤمن يشكر والكافر يجحد، لذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:(( رأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَراً قَطُّ وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ قَالُوا: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: بِكُفْرِهِنَّ. قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ ( العشير هو الزوج ) وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئاً قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْراً قَطُّ ))
          [البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه ]
          هذا لا ينطبق طبعاً على النساء المؤمنات الصالحات الصادقات، اللواتي يعرفن حق الزوج، واللواتي يَرْعَين الزوج، واللواتي يربين الأولاد. ﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً (5) ﴾
          ( سورة التحريم)
          جنس النساء قبل أن يعرفن الله يَكْفُرْن العشير " مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْراً قَطُّ "، قال لها: ولا يوم الطين، فسكتت، هذه قصة طويلة عن أحد ملوك الأندلس، واسمه ابن عبَّاد، أحب جاريةً وتزوَّجها، وجعلها السيدة الأولى، اشتهت حياة الفقر مرةً وحَنَّت إليها، فطلبت أن تدوس في الطين، فعجن لها الكافورَ والمسك بماء الورد، وقال: هذا هو الطين؛ فلما خسر المُلك، وأخذه منه ابن تاشفين، وأودعه السجن، افتقر، فكانت زوجته تسيء معاملته وتقول له: ما رأيت منك خيراً قط؛ فقال لها مرةً: ولا يوم الطين ؟ فسكتت. كلمة كفر تعني أن هناك إيماناً بالفطرة وهناك جحود باللسان :
          الكفر هو الجحود، والكفر هو التكذيب، والكفر هو الإعراض، والكفر هو الغِطاء، دقق الآن؛ قال بعض الشعراء في الجاهلية: " في ليلةٍ كفر النجومَ غمامُها."
          النجوم: مفعول به مُقَدَّم، غمامُها: أي سحابها، وهي فاعل مؤخَّر؛ أي غَطَّت السحب النجوم؛ فالكفر هو الغطاء والستر؛ الآن منطقياً يظهر معنى جديد، معنى الذي كفر أنه يؤمن بالله بفطرته لكنه غَطَّى هذه الحقيقة، الشيء الموجود يَسْبِق الغطاء، ماذا أنت تغطي ؟ كلمة كفر تعني الغطاء والستر، الستر والغطاء مصدر، فلا بدَّ من شيءٍ تَسْتُره، لا بدَّ من شيءٍ تُغَطِّيه؛ كلمة الكفر تعني تغطية الإيمان، أنت مؤمن لكنَّك تُغَطِّي إيمانك، مؤمن ولكن تَسْتُر إيمانك، مؤمنٌ بفطرتك ولكن مصلحتك تقتضي أن تغطِّي هذه الحقيقة، أن تُعَمِّيها على الناس، لذلك يوم القيامة:

          ﴿ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) ﴾
          ( سورة الأنعام )
          فقال الله عزَّ وجل: ﴿ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ (24) ﴾
          ( سورة الأنعام )
          المعنى دقيق جداً الكفر هو السَتْر والغطاء في أصل اللُّغة، وهذا القرآن بلسانٍ عربيٍ مبين، فالإنسان حينما يكفر يُغَطِّي حقيقةً آمن بها بفطرته، والإنسان حينما يكفر يستر حقيقةً تُدرَك بالبديهة، والشيء المُغَطَّى يسبق الغطاء، والشيء المستور يسبق السِتر، فكلمة كفر تعني أن هناك إيماناً بالفطرة، وهناك جحود باللسان: ﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ (24) ﴾
          ( سورة الأنعام )
          الكفار المنتفعون بكفرهم أنت في واد وهم في واد:
          أيها الأخوة، هؤلاء الكفار المنتفعون بكفرهم:
          ﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) ﴾
          أي أنت في واد، وهم في واد . لقد أسمعت لو ناديت حيـاً ولكن لا حياة لمن تنادي
          ولو ناراً نفخت فيها أضاءت ولـكنَّك تنفخ فـي رماد
          ***

          نعوذ بالله من الكفر، الناس رجلان مؤمنٌ وكافر، مؤمنٌ يعرف الله وكافرٌ كَذَّبَ بالحق لما جاءه، مؤمن مقبل وكافر معرض، مؤمن شاكر وكافر جاحد، مؤمن يرى ويشهد وكافر أعمى: ﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) ﴾
          (سورة الإسراء)
          وقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) ﴾
          الله تعالى قدّم السمع على البصر:
          كأن الله جلَّ جلاله ينصحنا أن هذا الذي اتخذ الكفر مغنماً، واتخذ الكفر سبيلاً للدنيا أنّ وَقْتُكَ أثمن من أن تُضَيِّعَه معه، ابحث عن إنسانٍ آخر يبحث عن الحقيقة؛ يؤكِّد هذا المعنى قوله تعالى:
          ﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) ﴾
          ( سورة الأعلى)
          لماذا لا يؤمنون ؟ هنا المشكلة: ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ (7) ﴾
          الإنسان له عين وله سمع، قُدِّمَ السمع مبدئياً على البصر: ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ (7) ﴾
          قـال العلماء: " العين لا ترى إلا أمامها، ولا ترى بعد الحواجز، ولا ترى إلا بواسطة، فزاوية الرؤية نحو الأمام، فإذا كان هناك جدار منع الرؤية، ولا بدَّ من نورٍ يتوسَّط بين العين وبين المرئي، ولكن الأُذن تتصل بالجهات الست، الأمام، والخلف، واليمين، واليسار، وفوق، وتحت، بالجهات الست، والأذن لا تحتاج إلى وسيط، وإن كان الهواء هو الوسيط فلولا الهواء ما انتقلت الأمواج الصوتية، ولكننا يمكن أن نغفل الوسيط لكونه دائماً وثابتاً. ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ (7) ﴾
          هذه الغشاوة حُبُّ الدنيا، الشهوات، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (( حُبُّك الشيء يُعمي ويُصِم ))
          [أحمد وأبو داود عن أبي الدرداء]
          الشهوة غشاوة على الأذن وغشاوة على العين:
          لما أحب الشهوة وآثرها على كل شيء، وعبدها من دون الله، وجعلها نهاية آماله، ومحطَّ رحاله كانت هذه الشهوة غشاءً على عينيه، وغشاءً على أذنيه، فهو لا يرى الآيات، ولا يستمع إلى الحق؛ والإنسان إما أن يرى الآيات الدَّالة على عظمة الله، وإما أن يُصغي لكلمة الحق تلقى في أذنه، فالشهوة غشاوة على الأذن، وغشاوة على العين؛ الفكر أو ما يدعى مجازاً العقل الذي في الرأس، هناك عقل في القلب، وعقل في الرأس:
          ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا (179) ﴾
          ( سورة الأعراف )
          إن أردنا أن نسمي ما في الرأس فكراً، الفكر جهاز استدلال، جهاز استنباط، جهاز محاكمة، جهاز اتخاذ قرار، جهاز معرفة، أداة إدراكيَّة منافذها السمع والبصر، فإذا فُتحِ البصر، وفُتِحَ السمع، جاءت المعلومات إلى الدماغ، والدماغ درسها وحللها، وحاكم جُزْئيَّاتها واتخذ قراراً، وكلما تعمَّق هذا القرار في الذهن انتقل إلى القلب ليستقر فيه، فالقلب قلبُ النفس، فيه تستقر الحقائق، حينما يضع الإنسان غشاوةً على عينه وهي الشهوة، وحينما يضع غشاوةً على أذنه وهي الشهوة، حيث السمع والبصر هما مَنْفَذا الحقائق: ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) ﴾
          ( سورة الملك)
          فالإنسان بهذا الحال لن يسمع. منفذا القلب هما السمع والبصر:
          الآن ادعُ إنساناً متفلِّتاً همُّه النساء، همه المال، همُّه الشهوات، همه أن ينغمس في شهوات الدنيا، ادعه إلى درس علم يستحيل أن يستجيب لك، ما لي ولهذا الدرس ماذا أفعل به ؟ كلام فارغ، كلام أعرفه، أنا لا أحبُّ أن أُضَيِّع وقتي، هو في واد وأنت في واد، فالإنسان إذا أحب الشهوات أحب الدنيا، أحب المال، أحب النساء، أحب الانغماس في المُتًع الرخيصة، هذه الشهوة غشاءٌ على عينه وغشاءٌ على سمعه، بقي الفكر بلا معلومات، لم يسمح الإنسان لعينه أن ترى الآيات فيستنبط منها الحقائق، ولم يسمح لأذنه أن تصغي إلى الحق فيعرف الحقيقة، وضع على أذنه غشاوة وعلى عينه غشاوة، فالفكر تعطل، والفكر هو المورِّد للقلب، تعطَّل القلب قال علماء التفسير: هذا خُتْمٌ حكمي؛ أي إذا أغلقنا الأبواب الخارجية للمسجد إغلاقاً محكماً، فهذه الأبواب الداخلية مغلقةٌ حكماً، حتى لو أنها مفتوحة لن يصل إليها إنسان ما دام البابان الخارجيان مُغْلقين، فالأبواب الداخلية مغلقةٌ حُكماً.
          ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ (7) ﴾
          منفَذَا القلب السمع والبصر، وعلى السمع غشاوة، وعلى البصر غشاوة . ﴿ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ (7) ﴾
          والغشاوة هي حبُّ الدنيا. وصف الله عزَّ وجل قلب الكافر بصفاتٍ كثيرة:
          أيها الأخوة الكرام، وصف الله عزَّ وجل قلب الكافر بصفاتٍ كثيرة، وصفه بالخَتْمِ.
          ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ (7) ﴾
          والطبع، والضيق، والمرض، والرَيْن، والموت، والقسـاوة، والانصراف، والحَمِيَّةِ، والإنكار، هذه عشرة أوصـاف لقلب الكافر، والحقيقة يقول سيدنا عمر: " تعاهد قلبك ".﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) ﴾
          ( سورة الشعراء)
          رأس مالِكَ الأوَّل في الآخرة قلبك السليم، هذا القلب الذي استقرت فيه الحقائق، هذا القلب الذي امتلأ شكراً لله، هذا القلب الذي امتلأ حباً لله، وهذا القلب الذي امتلأ تعظيماً لله. (( يا رب أيّ عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك ؟ قال: أحب عبادي إلي تقي القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبني، وأحب من أحبني، وحببني إلى خلقي، قال: يا رب إنك تعلم أنني أحبك، وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك ؟ قال: ذكرهم بآلائي، ونعمائي، وبلائي ))
          [من الدر المنثور عن ابن عباس ]
          الآلاء للتعظيم، النَعْماء للحب، البلاء للخوف؛ معنى ذلك أن القلب السليم فيه تعظيمٌ لله، وحبٌ له، وخوفٌ منه، البلاء يُورِثُ الخوف، والآلاء تورث التعظيم، والنعم تورث الحب؛ فالقلب السليم فيه خوف، وفيه حب، وفيه تعظيم، أما قلب الكافر فيه الختم، والطبع، والضيق، والمرض، والرَين، والموت، والقساوة، والانصراف، والحَمِيَّة، والإنكار: ﴿ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ (22) ﴾
          ( سورة النحل )
          أي تُنكر الحقائق، تَعاف الحقيقة. آيات من القرآن الكريم عن الحمية الجاهلية:
          ذكر لي أخ أنه حدَّث إنساناً بكلامٍ طيبٍ عن الدين، فأجابه: هذه المعلومات لا أهتَمُّ لها، ولا أصغي إليها، ولا أزنها بأي ميزان، إنني أسعى لامرأةٍ جميلة وبيتٍ واسع وسيارةٍ فارهة.
          ﴿ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) ﴾
          ( سورة النحل)
          وقال في الحمية: ﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ (26) ﴾
          ( سورة الفتح )
          تجد عاطفة هَوْجاء، تَعَصُّباً أعمى، انحيازاً غير معقول، يفور بلا سبب، يقسو بلا سبب، يقتل بلا سبب، يغضب بلا سبب، حمِيَّة جاهلية، حمية عمياء، ينجرف انجرافاً مخيفاً بلا أسباب معقولة. ﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ (26) ﴾
          ( سورة الفتح )
          يغضب الإنسان الجاهلي فيرتكب جريمة، يغضب فيقذِف بأبشع الكلمات، يغضب فيُطَلِّق بلا سببٍ وجيه، يغضب فيعتدي، هذه الحمية الجاهلية، من صفات قلب الكافر. آيات أخرى من القرآن الكريم عن الانصراف والقساوة:
          وفي الانصراف قال تعالى:
          ﴿ ثُمَّ انْصَرَفُوا (127) ﴾
          ( سورة التوبة )
          انصرف عن الحق إلى الباطل، انصرف عن المسجد إلى دور اللهو، انصرف عن الحقائق إلى القَصَص، انصرف عن دروس العلم إلى المُسَلْسَلات. ﴿ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) ﴾
          ( سورة التوبة )
          مكانك الطبيعي في أعلى عليين فَغُصْتَ في أسفل سافلين، مكانك الطبيعي في السماء أنت في وحول الأرض انصرفت إلى الدنيا، أخلدْت إلى الأرض، وقال في القساوة : ﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ (22) ﴾
          ( سورة الزمر )
          ما هذا القلب أيها الأخوة ؟ يكبر ويكبر ولا نرى كِبَرَه، فيتصاغر أمامه كل كبير، ويصغر ولا نرى صغره فيتعاظم عليه كل حقير؛ من هم الأنبياء العظام ؟ لهم قلوبٌ كبيرة وَسِعَت هموم الناس، القلب الكبير يحمل هموم المسلمين، لا يرتاح إذا حقق مصالحه المادية فقط، هذه لا تعنيه كثيراً، يعنيه أن يحقق إنجازاً للمسلمين. القلب منظر الرب يتصل بالله فيمتلئ رحمة:
          والقلب أيُّها الأخوة منظر الرَّب:
          (( إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى صَدْرِهِ ))
          [ مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ]
          القلب منظر الرَّب، وقد ورد في الحديث القدسيّ: (( عبدي طهَّرتَ منظر الخلق سنين أفلا طهَّرت منظري ساعة ؟ ))
          [ورد في الأثر]
          القلب بيت الرَّب، والقلب أيها الأخوة يتَّصل بالله فيمتلئُ رحمةً؛ الرحمة إحساس داخلي مُنْعَكَساتها اللين واللطف والخدمة والتواضع؛ قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ (159) ﴾
          ( سورة آل عمران )
          أي بسبب رحمةٍ استقرت في قلبك يا محمد من خلال اتصالك بنا كنت لهم لَيِّناً، فلما كنت ليناً معهم التفوا حولك وأحبّوك، ولو كنت منقطعاً عنا لكان قلبك قاسياً، والقسوة من لوازمها الفظاظة والغِلظة: ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (159) ﴾
          ( سورة آل عمران )
          قوانين، تتصل بالله يمتلئ القلب رحمةً، إذا امتلأ القلب رحمةً كنت ليناً مع الناس رحيماً بهم، منصفاً متواضعاً، مُعطياً كريماً، سخياً عفُوَّاً فأحبك الناس والتفّوا حولك؛ أما إذا كنت منقطعاً عن الله امتلأ قلبك قسوةً. قسوة القلب علامة البُعد ورقَّة القلب علامة الرحمة:
          مؤشِّر الإيمان يتحرك تماماً مع مؤشِّر الرحمة، أنت رحيمٌ بقدر ما أنت مؤمن، وأنت قاسي القلب ـ لا سمح الله ـ بقدر بُعْدِكَ عن الله.
          ﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) ﴾
          ( سورة الزمر)
          وفي آيةٍ أخرى: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ (74) ﴾
          ( سورة البقرة )
          قلب الكافر كالصخر، لا يرحم، ولا يعطف، ولا يتألَّم، يبني مجده على أنقاض الآخرين، يبني غناه على إفقارهم، يبني حياته على موتهم، يبني أمنه على خوفهم، قلبٌ كالصخر؛ فهؤلاء الذين خاضوا حروباً عالمية خَلَّفت خمسين مليون قتيل ـ الحرب العالمية الثانية ـ قلوبهم كالصخر من البعد عن الله؛ كلما ابتعدت عن الله كلما قسا القلب، فقسوة القلب علامة البُعد، ورقَّة القلب علامة الرحمة.
          " يا أمير المؤمنين إن الناس خافوا شدتك "، قال: " والله يا أبا ذر لو يعلم الناس ما في قلبي من الرحمة لأخذوا عباءتي هذه، ولكن هذا الأمر لا يناسبه إلا كما ترى ".
          وقالوا لسيدنا الصديق " أتولي علينا عمراً !؟ " قال: أتخوِّفونني بالله ؟ أقول: يا رب ولَّيْتُ عليهم أرحمهم، هذا علمي به فإن بدَّل وغيَّر فلا علم لي بالغيب ". مواقف تدل على رحمة سيدنا عمر رضي الله عنه:

          " أيُّها الناس: إن الناس خافوا شدتي وبطشي، إن هذه الشدة على أهل البغي والعدوان أما أهل العفة والإيمان فأنا أَلْيَن لهم من أنفسهم، سأضع لهم خدي ليطؤوه بأقدامهم ـ هذا قول سيدنا عمر ـ أيها الناس خمس خصالٍ خذوني بها: لكم عليّ ألا آخذ من أموالكم إلا بحقها، وألاَّ أنفقها إلا بحقها، ولكم عليَّ ألا أُجَمِّركم في البعوث ـ ترسله لمهمة سنة، فيدع زوجته وأولاده ـ ولكم عليّ أن أزيد عطاياكم إن شاء الله تعالى، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا ".
          من رحمة سيدنا عمر أنه كان يتجوَّل في المدينة ليلاً مع سيدنا عبد الرحمن بن عوف فرأوا قافلةً قد استقلَّت في ظاهر المدينة، فقال: تعال نحرسها.
          بكى طفل فقال عمر إلى أمه: أرضعي طفلك؛ أرضعته فسكت، ثم بكى فقام إليها وقال: أرضعي طفلك؛ أرضعته فسكت؛ ثم بكى، فغضب عمر، قال لها: يا أمة السوء أرضعي ابنكِ. فقالت له: وما شأنك بنا ؟ ـ ما دخلك ـ إنني أفطمه. قال: ولِمَ ؟ قالت: لأن عمر لا يعطينا العطاء إلا بعد الفطام ـ أي التعويض العائلي ـ فضرب جبهته، وقال: ويحك يا ابن الخطاب كم قتلت من أطفال المسلمين.
          عندما صلَّى سيدنا عمر صلاة الفجر ما عرف أصحابه قراءته من شدة بكائه من شدة خوفه من الله، قال: يا ربِّ هل قبلت توبتي فأهَنِّئ نفسي، أم رددتها فأعزيها ؟
          قلب رحيم، اشتهى أن يأكل اللحم في عالم الرَّماد، ولكنه قال لبطنه: " قرقر أيها البطن أو لا تقرقر، فو الله لن تذوق اللحم حتى يشبع منه صبية المسلمين ".
          تقرّحت يد السيدة فاطمة من الطحن، ومن سحب الماء بالدلو، وتعبت تعباً شديداً، فشكت إلى زوجها سيدنا علي، قال: اذهبي إلى أبيك واطلبي منه خادمةً ـ كل شيء بيد أبيك ـ فذهبت إليه، فقال: ما الذي جاء بك يا بُنيتي ؟ استحيت وقالت: جئت لأسلِّم عليك؛ عادت إلى البيت وقالت لزوجها: ائتِ معي ـ استحيت أن تطالب أباها بخادمة ـ فجاءت مع سيدنا علي، تكلم سيدنا علي مع النبي عن حاجتها إلى خادمة وعن تعبها وعن مشقتها، فقال: والله يا بُنَيَّتي لا أُؤثرك على فقراء المسلمين، لا أدع أهل الصفة يتضوَّرون جوعاً، قولي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله "، وانتهى الأمر.
          رحمة في القلب شملت المؤمنين جميعاً بدون تمييز.

          (( مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ ))
          [ البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ]
          إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي: (( الراحمون يرحمهم الرحمن ))
          [ الترمذي عن عبد الله بن عمرو]
          مواقف من الكتاب والسنة عن القاسية قلوبهم:
          (( دخلت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت فدخلت فيها النار؛ لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ))
          [ مُتَّفَقٌ عَلَيْه عن ابن عمر]
          قال تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ (22) ﴾
          ( سورة الزمر )
          قد يموت القلب، يقول الله عزّ وجل : ﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) ﴾
          ( سورة الأنعام)
          الذين ماتت قلوبهم: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) ﴾
          ( سورة المطففين)
          هذا الرّان، فالشهوات والمعاصي والأخطاء تجعل طبقة تحول بين القلب وبين معرفة الحقيقة. ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ (88) ﴾
          ( سورة البقرة )
          قلوبهم مُغَلَّفة:
          ﴿ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ (88) ﴾

          ( سورة البقرة )
          كُفْرُهم ومعاصيهم وانحرافهم سبب تغليف قلوبهم. تبدأ أمراض القلب بعد الموت ويتعذَّب صاحبها بها إلى أبد الآبدين:
          وقال تعالى:
          ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً (10) ﴾
          ( سورة البقرة )
          القلب يمرض، القلب المُتَكَبِّر مريض، والقلب الجاحد مريض، والشُح مرض، والأنانية مرض، وأن تظلم الناس مرض، وأن تَبْخَـسَ الناس أشياءهم مرض، هذه كلها أمراض.
          أخواننا الكرام، أمراض الجسم مهما تكن عُضالة؛ سرطان، تَشَمُّع كبد، فشل كلوي تنتهي مع الموت، فإذا كان المرء مؤمناً فإلى الجنة، وتبدأ أمراض القلب بعد الموت ويتعذَّب صاحبها بها إلى أبد الآبدين، فمليون مرض بالجسم ولا مرض واحد بالقلب، والدليل: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) ﴾

          ( سورة الشعراء)
          قلبك السليم رأسُ مالك، هناك كِبْر، وهناك حسد، وبَغْي، وعدوان، واستعلاء، وجحود، وهضم حقوق الآخرين، وهناك أن تَبْخَسَهُم حَقَّهُم، أمراض القلب لا تُعَدُّ ولا تحصى، وكل هذه الأمراض تبدأ آلامها بعد الموت، الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا. ربنا عزّ وجل يعاوننا على الإيمان:
          حدثني أخ: إنسان كان يقود سيارة بسرعةٍ طائشة في الساعة الثانية ليلاً في مدينة مجاورة في بيروت، دهس طفلاً، يبدو أن في قلب هذا السائق حياة، لم يذق طعم النوم عشرين يوماً، تألَّم، زار طبيباً نفسياً فنصحه أن يدفع ديَّةً لأهل الطفل، ليرتاح ضميره وينام، فإذا كان في القلب حياة فهذه نعمةٌ كُبرى، أما إذا كان القلب مغلفاً ومليئاً بالمعاصي عندئذِ انتهى، وقال الله تعالى في الضيق :
          ﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً (125) ﴾
          ( سورة الشعراء )
          وهذه نعمةٌ كُبرى: (( إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.))
          [الترمذي عن أنس بن مالك]
          أي أن ربنا عزّ وجل يعاوننا على الإيمان، فإذا اتخذ الإنسان قراراً صحيحاً يشرح الله له صدره، تجده مبسوطاً، وإذا اتخذ قراراً آخر غير صحيح يضيق صدره: ﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ (7) ﴾
          (سورة الحجرات)
          قلب المؤمن طاهر بفطرته مصطبغ بكمال الله :
          القلب قضية كبيرة.
          (( أعرف في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ))
          [ متفق عليه عن النعمان بن بشير ]
          رأس مالك قلبك، قلب المؤمن نظيف، قلبه صاف، قلبه بريء، قلبه مطمئنٌ لعدالة الله، لا يحمل حقداً على أحد، ولا يحسد، ولا يبغي، ولا يتكبر، قلبه سليم وهو موصول بالله، طاهر بفطرته، مصطبغ بكمال الله، باتصاله بالله، هذا قلب المؤمن، والطبع : ﴿ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) ﴾
          ( سورة المنافقون)
          هذا الطبع حكمي أيضاً، مثلا: انتسب إنسان إلى الجامعة بضغطٍ من أبيه، ولم يحضر أي درس ولا ساعة، وما قَدَّم أي امتحان، ولا قرأ ولا صفحة، هل يفقه هذا شيئاً ؟ لماذا لا يفقه ؟ لأنه أغلق بيده منافذ المعرفة، لو سمع درس يتعلَّم كلمة، لو قرأ كتاباً ليتعلم، لو زار الأستاذ ليتعَلَّم، فلما أعرض عن حضور أي درس، وعن سماع أية محاضرة ولو بالشريط، وعن قراءة أي موضوع، فإنه أغلق بيديه منافذ المعرفة، إذاً ختم قلبُه ختماً حكمياً. ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ (5) ﴾
          ( سورة الصف)
          إذا عُزيت الإزاغة إلى الله، أو عُزيَ الإضلال إلى الله، أو عُزي الخَتْمُ إلى الله، أو عزي (ران على قلوبهم ) إلى الله هذا كله زيغ جزائي مبني على اختيار؛ وأوضح مثل: قلت هذا قبل قليل: طالب لم يقدم أي امتحاناً، ولا حضر ولا مادة ولا قرأ، جاءه إنذار من إدارة الجامعة؛ إنذار ثانٍ، إنذار ثالث، ولم يستجب، صدر قرار بترقين قيده من الجامعة، هل في هذا القرار افتراءٌ عليه ؟ أم هو تجسيدٌ لاختياره ؟ حبُّ الكفار للدنيا واختيارهم للشهوات وإصرارهم عليها جعلها كغشاوةٍ على أعينهم وعلى سمعهم:
          قال تعالى:
          ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ (5) ﴾
          ( سورة الصف)
          إذا عُزي الإضلال إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلالٍ اختياري، وإذا عُزي الخَتْمُ إلى الله فهو الختم الجزائي المبني على سد منافذ المعرفة باختيارك، فقوله تعالى: ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) ﴾
          هو الخَتْمُ الحُكْمِي، لأن: ﴿ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ(7) ﴾
          الختم من صنع أيديهم؛ حبُّهم للدنيا، واختيارهم للشهوات، وإصرارهم عليها جعل هذه الشهوات كغشاوةٍ على أعينهم وعلى سمعهم، ولأن العينين والسمع منافذ للفكر، والفكر موَرِّد للقلب فصار القلب مختوماً عليه حكماً:
          ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) ﴾

          أنواع العذاب:
          يوجد بالقرآن عذاب أليم، ويوجد عذاب مهين، ويوجد عذاب عظيم، هؤلاء الذين أضلّوا الناس وتبعهم الناس على إضلالهم، هؤلاء لهم يوم القيامة عذابٌ مهين، يُعذَّبون أمام أتباعهم الذين أضلّوهم، والعذاب المهين أشدُّ من العذاب الأليم.
          لو كان الإنسان له مكانة كبيرة جداً وأهنته أمام الناس جميعاً، كأَنْ تضربه ضرباً مهيناً أمام أتباعه جميعاً فإن هذا عذاب مهين؛ ويوجد عذاب أليم له ألم حسِّي شديد؛ العذاب المهين معنوي، والعذاب الأليم حِسي، أما العذاب العظيم منسوبٌ لقدرة الله؛ أنت إن أردت أن تعذِّب إنساناً يوجد حدود ينتهي عندها العذاب، مات فلا تستطيع إكمال العذاب، تنتهي قدرتك على تعذيبه بعد أن يموت، لكن الله عزّ وجل قادر على أن يُعَذِّب الإنسان إلى أبد الآبدين: ﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ (56) ﴾

          ( سورة النساء )
          هذا عذاب عظيم، ويوجد عذاب مهين، ويوجد عذاب أليم؛ العذاب المهين أن يعذِّبه أمام من خضعوا له بكفره، أي إنسان أنكر وجود الله عزّ وجل وقال: الشهوة هي كل شيء، يوجد علماء هكذا، يوجد طغاة هكذا، فهؤلاء الذين أضلّوا الناس وحملوهم على الكفر يعذَّبون عذاباً مُهيناً أمام أتباعهم، والذين كفروا وجحدوا يعذَّبون عذاباً عظيماً، أي عذاباً مستمراً لا ينتهي، أما الإنسان إذا عَذَّب فَله حد ينتهي عنده التعذيب، عندما يموت من يعذبه. ملخص لأهم نقاط الدرس:
          أيها الأخوة، افتتح ربنا عزّ وجل هذه السورة العظيمة بوصف المؤمنين، ووصف الكافرين؛ أما المؤمنون فهم:
          ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا (6) ﴾
          الإيمان تصديق، والكفر تكذيب، الإيمان إقبال، الكفر إعراض، الإيمان شكر، الكفر جحود: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا (6) ﴾
          وانتفعوا بكفرهم، وجعلوه مَطِيَّةً لشهواتهم:
          ﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) ﴾

          مكان العقل القلب: ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ (7) ﴾
          لأن مَنفَذي القلب هما السمع والبصر: ﴿ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) ﴾
          والحمد لله رب العالمين
          التعديل الأخير تم بواسطة بذور الزهور; الساعة 14-09-2014, 10:59 PM.

          تعليق


          • #6
            الدرس السادس من تفسير البقرة لنابلسى


            بسم الله الرحمن الرحيم

            الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
            أيها الأخوة الكرام، مع الدرس السادس من سورة البقرة، ومع الآية الثامنة.

            المؤمن والكافر و المنافق:
            أيها الأخوة، بيَّن الله جلَّ جلاله في مطلع هذه السورة الكريمة صفات المؤمنين في آياتٍ قليلة، وبيَّن صفات الكافرين في آيتين، وبيّن صفات المنافقين في ثلاث عشرةَ آية، لماذا ؟ لأن المؤمن واضح، والكافر واضح، المؤمن كان جريئاً آمن بهذا الدين العظيم، وقبض الثمن، ضَحَّى قليلاً وأخذ كثيراً، والكافر كان جريئاً ردَّ الحق ودفع الثمن، المؤمن مُنسجم مع نفسه، والكافر منسجم مع نفسه، المؤمن منسجم مع الحقيقة ومع نفسه، الكافر غير منسجم مع الحقيقة لكنه مُنسجم مع نفسه، فالمؤمن واضح والكافر واضح.
            لكن الإنسان الخطير هو المنافق، لأنه غامض، له ظاهر، وله باطن، له موقف معلن، وله موقف باطن، له شيءٌ يفعله في جلوته، وله شيءٌ يفعله في خلوته، علانيته ليست كسريرته،

            فالمنافق خطر، والمؤمن واضح، والكافر واضح أيضاً، المؤمن انسجم مع الحقيقة ومع نفسه، كان جريئاً وقبل الحق، وضحَّى وقبض الثمن، والكافر انسجم مع نفسه فقط، كان جريئاً، ورد الحق، ودفع الثمن، المؤمن كلُّه خير، كله عطاء، كله إكرام، كله إحسان. الكافر شَرُّه محدود لأنه مكشوف، أذاه محدود لأنه ظاهر، الناس يتقونه لأنه كافر.. أما المنافق فخطره كبير، لأنه يوهم المؤمنين أنه مؤمن وهو مع الكُفَّار، لذلك قال تعالى:

            ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ (145) ﴾
            ( سورة النساء )

            أخذ المنافق ميزات المؤمنين، وعومل كما يُعامَل المؤمنون، أخذ كل امتيازاتهم لأنه أظهر الإيمان، واستفاد من الكُفَّار، وغَشَّ المؤمنين، لذلك فهو في الدَرْك الأسفل من النار، وصف الله المؤمنين في بضع آيات، وفي آيتين فقط وصف الله الكافرين، وفي ثلاث عشرة آية وصف الله المنافقين. النفاق أخطر شيءٍ في حياة المؤمنين :

            أيها الأخوة، يبتلي الله عزَّ وجل المؤمنين ابتلاءاتٍ متعددة، يبتليهم فيمنحهم القوة، ويبتليهم فيضعفهم، المؤمنون مبتلَوْنَ حينما يظهرهم الله على أعدائهم، ومبتلون حينما يستضعفون، فإذا كان الابتلاء استضعافاً كَثُرَ الكفار، لأنهم لا يخافون أحداً.. وإذا كان البلاء قوةً كثر المنافقين، و في مكة المكرَّمة لم يكن هناك منافقون، لأن الإنسان يكفر جهاراً، ويتَّهم النبي جهاراً، ويقول: إنه مجنون، وإنه ساحر، وإنه شاعر، وإنه أَفَّاك، وينام مطمئناً في بيته، ولا يناله أحد بأذى، لأن المؤمنين ضِعاف، يكثر الكافرون مع ضعف المؤمنين، أما في المدينة فقد أصبح للمؤمنين شَوْكَة، وهم قوة، لذلك كثر المنافقين، المنافق كافر لكنه رأى من مصلحته أن يَنْضَمَّ إلى المؤمنين صـورةً وأن يتعاون مع الكافرين حقيقةً، لذلك أخطر شيءٍ في حياة المؤمنين النفاق، المؤمن كما قلت قبل قليل واضح، والكافر واضح، المؤمن انسجم مع الحقيقة، ومع نفسه،

            وكان مصدر عطاءٍ للخلق، والكافر انسجم مع نفسه فقط، لا مع الحقيقة، شره محدود، لأن هويّته معلنة، المؤمن جريء آمن بالحق، وضحَّى، وقبض الثمن، والكافر جريء، ردَّ الحق وكسب بعض المكاسب المؤقَّتة، ودفع ثمنًا باهظاً، لكن المنافق متلوِّن لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء.
            ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ (15) ﴾

            ( سورة البقرة)
            من رُقِيّ النفس أن يتهمها صاحبها دائماً بالنفاق:
            أيها الأخوة الكرام، من رُقِيّ النفس أن يتهمها صاحبها دائماً بالنفاق، اتهام، قال أحد التابعين الأجِلاَّء: التقيت أربعين صحابياً ما منهم واحدٌ إلا وهو يظن نفسه منافقاً، فالمؤمن يتقلب في اليوم الواحد بأربعين حالاً خشية النفاق، والمنافق يَثْبُتُ على حالٍ واحد أربعين عاماً ولا يشعر أنه منافق، النفاق ازدواج،

            النفاق حالة من حالات انفصام الشخصية، له شخصيتان، يتظاهر مع المؤمنين بالتقوى والصلاح، ويطرح أسئلة فقهية دقيقة جداً، يسألك مثلاً: حبة سُمسم بقيت بين أسنانه ما حكم صيامه يا أستاذ ؟ تجده ظاهراً يغلي ورعاً، وله معاصٍ كبيرةٌ جدًّاً يغفلها، كلما جلس مع المؤمنين طرح عليهم أسئلة كثيرة، وفتاوى، وقضايا، ليظهر أمامهم أنه مؤمن، وليأخذ امتيازات المؤمنين، وليكسب مكاسِبَهُم، أما هو في الحقيقة فمع الكافرين، يقول الله جلَّ جلاله: ومن الناس من يقول.. بلسانه.. والقول سهل:

            ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ (8) ﴾
            والله عزَّ وجل كَذَّبَهُم، فقال: ﴿ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) ﴾

            الإنسان لا يقيّم بأقواله بل بأفعاله:
            لا يقيّم الإنسان بأقواله بل يقيَّم بأفعاله، فكم ممن يقول لك: أنا مؤمنٌ باليوم الآخر، فإذا بحثت في أعماله لم تجد عملاً صالحاً واحداً يؤكِّد إيمانه باليوم الآخر، وإذا بحثت في حياته الخاصَّة لم تجد عملاً واحداً يُنبئُ عن أنَّه يخاف النار، يأكل المال الحرام، يجلس مع نساءٍ لا يحللن له، يعتدي على حقوق الآخرين،
            على أعراضهم، على أموالهم، إما صراحةً أو ضمناً بالكذب، والغش، والاحتيال، ويحقق مصالحه، ويَدَّعي أنه مؤمن، والإيمان بريءٌ منه، مثلاً استطاع رجل أن يُخَلِّص بيتاً ثمنه سبعة ملايين بسبعمئة ألف، بأساليب ملتوية غير شرعية، وهو يرتاد المساجد. ترك دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانين حَجَّةً بعد حجة الإسلام.

            فالنفاق أخطر شيء في حياة المؤمنين، ازدواج الشخصية، انفصام الشخصية، موقف معلن، وموقف خفي، شيءٌ يفعله أمام الناس، وشيءٌ يفعله فيما بينه وبين نفسه، سريرته ليست كعلانيته، خلـوته ليست كجلْوته، شيءٌ يفعله في بلده فإذا سافر فعل شيئاً آخر، وكم من امرأةٍ محجَّبةٍ تـراها في الطائرة جاءت من بلدٍ الحجاب فيه إلزامي، فلما ركبت الطائرة خلعت كل شيء، وكأنها لا تؤمن بشيءٍ من الدين، هذا نفاق، يلاحظ الإنسان هذا الازدواج في حياته، إذا كان يفعل فعلاً أمام الناس مقبولاً ويفعل خلافه فيما بينه وبين نفسه، فهذه حالة من النفاق، ولا تنسوا أيها الأخوة أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، أخطر شيءٍ في حياة المؤمن أن تَزِلَّ قدمه إلى النفاق.

            أنواع النفاق:
            ولكن لا أكتمكم أن هنـاك من النفاق ما هو ضعفٌ في الإيمان، أو ضعفٌ أمام الشهوات، هذا المنافق الذي انطلق من ضعفٍ في اليقين، وضعفٍ في الإرادة، لعل الله سبحانه وتعالى يُعالجه فيأخذ بيده إلى الإيمان، وهناك حالاتٌ كثيرة ممن عاصروا النبي عليه الصلاة والسلام كانوا منافقين فتاب الله عليهم، ولكن النفاق الذي يُنْتَفع به لمكاسب دنيوية ـ كما قلت في الدرس الماضي ـ حينما ينتفع الإنسان بالكفر، وحينما يتخذ الكفر وسيلةً لمكاسب مادية، هذا الكافر يصبح مع الكافرين:
            ﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) ﴾
            والمنافق الذي أصله كافر كفراً اعتقادياً، وكفراً سلوكياً، وهو مع المؤمنين في ظاهره، هذا أيضاً لا ينتفع بأية موعظةٍ يتلقَّاها.. ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ (8) ﴾

            قول. النفاق تمثيل متقن جداً :
            الله عزَّ وجل يقول:
            ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (19) ﴾

            ( سورة محمد )

            ما قال: فقل، القول سهل، وكل إنسان ذكي، والآن التمثيل في هذا العصر متفوِّق تفوِّقاً كبيراً، فأذكى الأذكياء يُتْقِن التمثيل، وبإمكانه أن يوهمك أنه مؤمن، بكلام، وبحركات، وبسكنات، وبتصرفات، وبمواقف، وما هو كذلك ولا سيما في موضوع الزواج، هو يوهم أنه صالح، تقي، ونقي، وعفيف،

            و بعد القِران يظهر لك إنساناً آخر، وهي توهمه أنها تحفظ كلام الله، ولها شيخةٌ تأخذ عنها العلم، وتخاف من الله، وتتحجَّب أمامه، فإذا دخل وقتٌ آخر رأيتها امرأة أخرى، فالتمثيل الآن متقن جداً، أي أن الخبرات التمثيلية في أعلى درجة، والتمثيل نفاق في الحقيقة، أوضح شيء أن الممثل قد يأخذ دور إنسان صالح، وهو كذلك، وقد يأخذ دور إنسان سيّئ، وهو كذلك، على كلٍ هناك إتقان للأدوار، فالنفاق، والتمثيل يلتقيان، المنافق ممثل، والنفاق أنواع، والتمثيل أنواع، وهناك تمثيل متقن جداً، وتمثيل غير متقن.
            ذكرت لكم مرة أنه تمثيلية في معهد شرعي عن سيدنا بلال،

            وعن أمية بن خلف: هو مَن عذب سيدنا بلالاً، وكان مالكه في الجاهلية، كيف يعذِّبه ويقول بلالٌ: أحدٌ أحد، فهذا الذي يمثل دور أمية، قال له: لن أرفع عنك العذاب حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، طبعاً تمثيل غير متقن، لأنه قال: صلى الله عليه وسلم، المنافق ممثِّل، ممثل ذكي جداً. أعمال الإنسان تؤكد مكانته:

            الآن..
            ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) ﴾
            يقيّم الإنسان من أعماله فقط، أعماله تؤَكِّدُ مكانته، لذلك تجد إنساناً يؤمن بشيء علانيةً، ولكن أفعاله لا تؤكد ذلك، ليس في فعل المنافق فعلٌ واحد،
            يؤكد أنه مؤمن بالجنة، هو لا يعمل لها.. وليس في فعل المنافق فعلٌ واحدٌ يخاف من مؤمن يؤكد أنه بالنار، لأنه لا يتقيها.. هؤلاء الذين ينغمسون إلى قمة رؤوسهم في المال الحرام أين هي الجنة والنار في حياتهم ؟ والله لو أن الإنسان آمن أن هناك ناراً سيدخلها إلى أبد الآبدين لعدَّ إلى المليون قبل أن يأكل درهماً حراماً، ولو آمن أن هناك حساباً عسيراً..
            ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) ﴾

            (سورة الحجر)
            ﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ﴾
            ( سورة المدثر)

            الإيمان عمل و التزام:
            حينما لا تجد في عمل الإنسان عملاً يؤكِّد أنه يتقي النار، ولا تجد في عمل الإنسان عملاً يؤكِّد أنه يرغب في الجنة فهذا نوعٌ من النفاق، وحينما تستقر حقيقة الإنسان في قلب المؤمن تُعَبِّرُ هذه الحقيقة عن ذاتها بخدمة الآخرين، يتحرك نحو خدمة الخلق، يحاسب نفسه حساباً دقيقاً، إذاً الإيمان عمل، والإيمان التزام..
            ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا (72) ﴾
            ( سورة الأنفال )

            الإيمان حركة، لا يوجد إيمان سكوني أبداً، مؤمن ساكن !! مؤمن مقيم على معصية !! ومؤمن لا يعمل الصالحات !! ليس هذا مؤمناً، الإيمان الحقيقي ما أكَّده العمل، الإيمان إقرارٌ باللسان، وعملٌ بالأركان، والإيمان ما استقر في القلب، وصدَّقه اللسان، وأكَّده العمل، قناعةٌ في القلب، وإقرارٌ باللسان، وعمل بالأركان، هذا هو الإيمان، لذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (7) ﴾
            ( سورة البينة )

            ورد أكثر من مئتي مرة قارناً العمل الصالح بالإيمان: ﴿ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (7) ﴾
            الله جلَّ جلاله كَرَّم المؤمنين فجعل عدوهم عدواً له وجعل إكرامهم إكراماً له:
            ﴿ يخادعون الله ﴾

            والحقيقة هم يخادعون المؤمنين، لم يؤمنوا بالله إيماناً يحملهم على طاعته، فهم يخادعون المؤمنين، ولكن الله جلَّ جلاله كَرَّم المؤمنين فجعل مخادعتهم مخادَعةً له، وجعل عدوهم عدواً له، وجعل إكرامهم إكراماً له.. ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ (53) ﴾
            ( سورة الزمر)
            الياء ياء النسب، هذه نسبة تشريف وتكريم، شرَّف الله المؤمن بأن نسبه إلى ذاته، لذلك المنافق يُخادع المؤمنين فقط، لكن الله عزَّ وجل جعل مخادعة المؤمنين مخادعةً له، فعدوّ المؤمن عدوٌ لله، والذي يُخادعه يخادع الله، والذي يُكْرِمُه يكرم الله، " من أكرم أخاه فكأنما أكرم ربه " ، من أكرم أخاه المؤمن فكأنما أكرم ربه، وهذا أعلى أنواع التشريف.. ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) ﴾

            من حرم نفسه الخير فقد خدعها:
            كيف خدعوا أنفسهم ؟ حرموها الخير، فلو أن إنساناً يوجد معه كيلو من المعدن الخسيس، الرخيص جداً لا يساوي ليرة، أقنع الناس بذكاء وبجهدٍ جهيد، وبحِيَل أن هذا المعدن ذهب، فصدقه الناس، وأكبروا هذه الثروة، من الخاسر، الناس أم هو ؟ طبعاً هو وحده الخاسر، لأنه اطمأن إلى قناعتهم، وهو في الحقيقة لا يملك شيئاً، كذلك المنافق يخدع المؤمنين، ويشعر بنشوة أنه استطاع أن يخدعهم، وأن يقنعهم أنه مؤمن.. وماذا إذا أقنعتهم ؟ أنت لست مؤمناً.. ولا تأخذ من امتيازات المؤمنين شيئاً أقنعتني في النهاية أنَّك تحمل أعلى شهادة، وأنت لا تقرأ ولا تكتب،

            هل تستطيع أن تنتفع بأميتك ؟ أقنعتني بجلسةٍ عابرة أن معك شهادة عليا، وأنت لا تقرأ ولا تكتب، هل تستطيع أن تنتفع بأُمِّيَّتِك ؟ لا تنتفع بها أبداً، إذاً كيف يخادعون أنفسهم ؟ فالمنافق هو ارتاح عندما أقنع المؤمنين أنه مؤمن، ونجحت الخطة، ولكن ما قيمة هذا النجاح ؟ نجحت خطتك لكنك لست مؤمناً، لن تنجو من عذاب الله، ولا من عقابه.. ولا من تأديبه، لن تنجو من إتلاف مالك، ولا من تأديبٍ في صحتك، ولا من تأديبٍ في أهلك، ما أخذت شيئاً من ميزات المؤمنين، أقنعتهم أنك مؤمن وصدَّقوك، أنت في الحقيقة تخدع نفسك، مثلك كالنعامة حينما يتبعها عدوٌ لها فتغمس رأسها في الرمل، عندئذٍ لا ترى، هل هي ذكيَّة ؟ هي في منتهى الغباء، فحينما غمست رأسها في الرمل فلم تراه، اطمأنت فجاء عدوها، وقد ثبتت في مكانها فأكلها، هل خدعت عدوها، أم خدعت نفسها ؟ طبعاً خدعت نفسها.


            علاقة كل إنسان مع الله عز وجل:

            الملخَّص أنك إذا استطعت أن تخدع الناس، وأن توهمَهم أنك مؤمن، والناس ببساطة أو بسذاجة صدقوك، وأثنوا على إيمانك، وأنت لست كذلك، فعلاقتك مع الله، وسوف يعرضك الله عزَّ وجل لامتحاناتٍ صعبةٍ ولعقاباتٍ شديدةٍ، ولن تأخذ شيئاً من امتيازات المؤمنين، فمن خدع الآخر ؟ قال الابن لأبيه: أنا أقنعك أن هؤلاء ثلاث دجاجات، وهي في الواقع دجاجتان، قال له أبوه أنا سوف آكل واحدة، وسوف تأكل أمك واحدة، وأنت كُل الثالثة.. كلام فارغ لا معنى له..

            ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) ﴾
            إنهم ساذَجون، أغبياء، أوهمتني أنك مؤمن وأنت لست مؤمناً، ماذا حققت ؟ علاقتك مع من ؟ مع الله، وأبلغ شيءٍ في هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (( لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ))
            [ البخاري ومسلم عن أم سلمة]

            طليق اللسان، سريع البديهة يقلب الحق إلى باطل، بذكاءٍ بارع.. جاء أحدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقنعه بشيء فحكم له النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (( لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا ))
            [ البخاري ومسلم عن أم سلمة]

            لم يستفد شيئاً، هذا معنى قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) ﴾

            الله عز وجل يحول بين المرء و نفسه و يعلم خواطره و نواياه و بواعثه وأهدافه :

            لو دُعيت إلى طعام نفيس جداً، وأنت في درجة عالية من الجوع، فأوهمت الذي دعاك أنَّك أكلت طعاماً أنفس من هذا قبل قليل، فقال لك: إذاً لا تؤاخذني فلا تكثر منه، أنت خدعته أم هو الذي خدعك ؟ ماذا استفدت من هذا الكلام ؟ حرمت نفسك من هذا الطعام، أوهمته أنك أكلت طعاماً نفيساً قبل قليل، وأنت من يومين لم تأكل، والطعام طيِّب جداً، عندما أوهمته فكفَّ هو عن دعوتك إلى الطعام، وجلست أنت تتلوى جوعاً، والطعام النفيس أمامك، من خدع الآخر ؟ أنت خدعت نفسك فقط.
            ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) ﴾
            ﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) ﴾

            هذا هو الغباء بعينه، وهذا هو الحُمق بعينه، لا تتظاهر بما ليس فيك، علاقتك مع الله، لا تخفى عليه خافية، أنت مكشوفٌ أمامه تماماً، خواطرك يعلمها، يحول بين المرء وقلبه، خواطرك، نواياك، بواعثُك، أهدافك، طموحاتك، احتيالك.. ﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) ﴾
            ( سورة إبراهيم)

            علاقة الإنسان مع الله وحده ولن ينجو من عذاب الله إلا بطاعته :
            والله أيها الأخوة، أرى كل يوم إنساناً يُقْنِع الناس بشيء، وهو على خلاف ذلك، فيسقط، ولا ينجو من عذاب الله أبداً، ولن ينجو، نقيم حفلاً، عقد قرانٍ، ندعو كل العلماء، والعلماء ببساطةٍ يقفون ويثنون على هاتين الأسرتين الكريمتين الأصيلتين إلخ.. والأسرتان ليستا كذلك، لو أن إنساناً مدحك هل تنجو من عذاب الله ؟ يقولون لك: دعونا فلاناً، وألقى كلمة، وفلاناً ألقى كلمة، فلما صار العرس، نساءٌ كاسيات عاريات، وزِّعَت الخمور، وجيء بالراقصات، وجيء بالمصوِّرين، قبل يومين، عقد الرجال.. أسرتان عريقتان، أصيلتان، والطيبون للطيبات، وبعد يومين النساء كاسيات عاريات، والخمور توزَّع، والراقصات ترقص، وكل المعاصي والآثام في هذا العقد.. أنت حينما أتيت بهؤلاء ليلقوا كلمات ماذا فعلت ؟ أوهمت الناس أنك جيد، أنك صالح، علاقتك مع الله وحده، ولن تنجو من عذاب الله إلا بطاعته، وأما إيهامك للناس أنَّك مؤمن هذا لا يقدِّم ولا يؤخِّر.

            تروى طرفة عن شخص دخل على محامٍ.. فكر المحامي أنه إذا أجرى أمام الشخص عدة مكالمات هاتفية يعلو في نظره كثيراً، فاتصل مع شخصيات مهمة، القضية نجحت، القضية نجحت، نجحت، ثم سأل المحامي الشخص عن حاجته، فقال له: لقد أتيت لكي أصل لك سلك الهاتف.. ولأنه لم يكن عنده هاتف !! ممكن أن تتكلم كلاماً، فتتوهم أنك ارتفعت، في الحقيقة سقط الإنسان.

            ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) ﴾

            الصدق منجاة من عذاب الله تعالى:
            إذا علم المنافق أنه منافق فليس منافقاً، المشكلة أنه لا يشعر، يظن نفسه ذكياً، عاقلاً، شاطراً بالتعبير الدارج، وهو ليس كذلك، لا توهم أحداً بشيء، لتكن علاقتُك بالله صادقة، كن مع الله صادقاً، أَخْلِص دينك يكفك القليل من العمل.
            تخلّف سيدنا كعب بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة خطر في بال كعب أن يعتذر له كما يعتذر المنافقون،

            قال: فلما حضر النبي عليه الصلاة والسلام ووقف بين يديه، وقال: والله يا رسول الله لو جلست إلى أحدٍ من الناس لخرجتُ من سخطه، فقد أوتيت جدلاً..(و أنا طليق اللسان ومعي حجة).. ولكنني أخشى أن أرضيك اليوم كذباً، فيسخِّطُك الله علي، وأرجو إن صدقتك اليوم أن يعفو الله عني، رأى الله وحده، ما أراد أن يخدع رسول الله، ثمانون منافقاً أعطوه حججاً قويةً، وأعذاراً قويةً، والنبي استغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، فلما جاء كعب وكان صادقاً معه فقال: أما هذا فقد صدق، بكلمة أما هذا فقد صدق فكل هؤلاء الذين اعتذروا أمامه، وقَبِل اعتذارهم في الظاهر، ووكل سرائرهم إلى الله، ولم يكونوا صادقين، قال: أما هذا فقد صدق، الصدق منجاة، فكن صادقاً، وليس معنى ذلك بأن تفضح نفسك، لست مكلفاً أن تفضح نفسك، ولكن لا تظهر بشيء خلاف ما أنت عليه، واسأل الله السلام، واسأل الله الستر..

            ﴿ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (10) ﴾

            مرض. حبّ الدنيا رأس كل خطيئة :
            حدَّثْتُكم في الدرس الماضي أن متاعب أمراض القلب تبدأ بعد الموت، وإلى أبد الآبدين.

            ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) ﴾
            ( سورة الشعراء)
            ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (10) ﴾

            حب الدنيا مرض، حب الدنيا يعمي ويصِم، حب الدنيا رأس كل خطيئة، لكن ليس من حب الدنيا أن يكون لك بيت تشتريه بمالك الحلال، ليس هذا من حب الدنيا،
            وأن تحب أن تقترن بامرأةٍ صالحة، ليس هذا من حب الدنيا، و أن تحب أن يكون لك دخلٌ حلال، ليس هذا من حب الدنيا، حب الدنيا ما حملك على العدوان، وعلى أخذ ما ليس لك، على أن تعتدي على أموال الآخرين، وعلى أعراضهم، وأن تنافس الناس على الدنيا، وأن تحطِّمَهُم من أجل مصلحتك، هذا هو حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة..
            ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (10) ﴾


            تفاقم أمراض النفس لأن الإنسان في الأساس حركي ديناميكي:

            تتفاقم أمراض النفس لأن الإنسان في الأساس حركي.. ديناميكي.. إن عمل عملاً طيباً قاده لعملٍ أطيب، وإن عمـل عملاً سيئاً قاده لعملٍ أسوأ.. نظرةٌ، فابتسامةٌ، فسلام، فكلامٌ، فموعدٌ، فلقاء..
            ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا (32) ﴾

            ( سورة الإسراء )

            ﴿ لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ (21) ﴾
            ( سورة النور )

            فالإنسان حركي فإذا مرض قلبه فإن هذا المرض ينقله إلى مرضٍ آخر، مثلاً يوجد في قلبه مشكلة، أدوية القلب تَرَكَت قرحةً في المعدة، فمرض القلب نقله إلى مرضٍ في المعدة، تطورت القرحة إلى ورمٍ خبيث في المعدة.. انظر بدأ بمرض في القلب فانتقل إلى المعدة ثم انتقل إلى ورم خبيث، هذه الحالات كثيرة جداً.. المرض ينتقل إلى مرض أشد دائماً، حتى في المركبات إذا كان هناك خطأ ينتقل لخطأ أكبر، فرضاً إنسان هبط ضغطه،
            فإذا بقي الضغط منخفضاً ست ساعات فإن الكلية تتوقف، كان بالضغط أصبح بالكلية، هذه طبيعة الأمراض، الأمراض تتفجَّر من مرض إلى مرض، ارتفع السكر.. فقد بصره.. ارتفع السكر.. خثرة في الدماغ.. سببت الخثرة شللاً، الشلل سبب تقرحاً في الجلد..

            حياة الكافر سلسلة انفجارية:
            ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا (10) ﴾

            من مرض إلى مرض، كان بالنظر فأطلق البصر، إطلاق البصر نقله إلى الحديث اللطيف مع الجنس الآخر، نقله الحديث إلى لقاء، واللقاء انتهى به إلى الزنا، والزنا انتهى به إلى السجن، ثم إلى مرض الإيدز، بدأ من نظرة.. هكذا سمعت أن سائقاً ركبت معه امرأة.. سألها: إلى أين ؟

            قالت له: إلى حيث تشاء، فهِم، وعدَّ هذا مغنماً كبيراً، وبعد أن انتهى أعطته رسالةً، وظرفاً فيه مال، فتح الظرف.. وجد خمسة آلاف دولار.. ورسالة مكتوب فيها: مرحباً بك في نادي الإيدز، نقلت له المرض، ذهب ليصرف المبلغ، فإذا هو مزور، فأودِع في السجن.
            ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا (10) ﴾

            حياة الكافر سلسلة انفجارية، يأكل مالاً حراماً، يسرق، يتورَّط مع السرقة إلى جريمة قتل، حكموه ثـلاثين سنة.. انتهى.. بدأ بالسرقة وانتهى بالقتل، لا يُصلي، طَلَّق زوجته لسبب تافِه، طلقها وعنده خمسة أولاد.. هي أصرت ألا ترجع.. ذهبت إلى أهلها، واعتصمت بهم، بقي أولاده بلا مربية، كان في شيء، وصار في شيء آخر، الكافر أعمى، والمنافق أعمى ينتقل من طور إلى طور، حياته كلَّها متفجِّرات، وألغام.. ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا (10) ﴾

            الكذب أكبر صفة تُهلك الإنسان :

            معنى آخر:
            ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (10) ﴾
            وهو حب الدنيا..
            ﴿ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا (10) ﴾
            حينما أصرَّوا عليها أطلقهم الله إليها، كانت شهوةً بإمكانهم أن يتوبوا منها فصارت واقعاً.. ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) ﴾
            عذاب أليم، فأكبر صفة تُهلك الإنسان هي الكذب، ورد في الحديث الصحيح: (( يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلالِ كُلِّهَا إِلا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ ))
            [أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه ]
            لا يمكن للمؤمن أن يكذب أبداً، ولا أن يخون، قد يُخْطئ المؤمن فهو مذنب توَّاب، أما أن يكذب فلا.. أن يخون مستحيل.. (( ألا لا إيمان لمن لا أمانةَ له، ولا دين لمن لا عهد له ))
            [رواه البغوي عن أنس رضي الله عنه ]
            ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) ﴾

            عذابهم أليم لأنهم يخدعون الناس.. الخطر الكبير الذي يهدد المسلمين هو من أدعياء الدين لا من أعداء الدين :
            الحقيقة أيُّها الأخوة: من أين تأتي الأخطار للمسلمين ؟ من أنفسهم، لأن الحق لا يتعدد، والحق واحد، مستحيل أن تقع معركةٌ بين حقَّين أبداً، فالحق لا يتعدد، وإن وقعت معركةٌ بين حقٍ وباطل، فالمعركة قصيرة جداً، لأن الله مع الحق، أما بين باطلين فإن المعركة لا تنتهي، وأكبر خطر يُهَدد المسلمين ليس من أعداء الدين.. فأعداء الدين مكشوفون.. وإنما الخطر هو من أدعياء الديّن ـ المنافقون ـ.
            الأخطار التي أهلكت المسلمين ليست من أعداء الديّن، بل من أدعياء الديّن، والأعداء أيُّها الأخوة أعداء المسلمين في العالَم، ولاسيما في العالَم الغربي كشفوا أن هذا الديّن أقوى

            وأكبر من أن يُواجَه، ماذا فعلوا ؟ أرادوا أن يفجِّروه من داخله عن طريق المنافقين، فكل إنسان يغيِّر في عقيدة المسلمين، يُحل لهم الحرام، يحرِّم عليهم الحلال، يُبتدع في الدين شيئاً ما أنزل الله به من سلطان، هذا منافق يفجِّر الديّن من داخله، والآن الخطة واضحة جداً ومكشوفة، يحاول أعداء الديّن أن يفجِّروا حياة المسلمين من داخلهم، كم من أعمالٍ إرهابية ما فعلها المؤمنون، ولكن فعلها المنافقون ليُّشوِّهوا سمعة الدين، وليجعلوا المسلم إرهابياً، وهو أبعد الناس عن هذه الصفة أبداً، دائماً يتهددنا الخطر من المنافقيّن، هؤلاء يندَّسون بين المؤمنين، ويفعلون ما لا تُحمدُ عُقباه،

            والحديث عن هذا الموضوع طويل، فكم من أعداء ألِدَّاء للدين تزيّوا بزي المؤمنين، وفعلوا أعمالاً إجرامية أُلصقت بالمؤمنين، هذا سلوك واضح متكرر مكشوف، لذلك الخطر الكبير الذي يهدد المسلمين ليس من أعدائهم، فأعداؤهم مكشوفون،..الحـق لا يتعدد.. إنما هـو من المنافقين الذين يرضون المؤمنين..

            المؤمن يقرِّب و يصل والمنافق يبعد ويقطع:

            مثال ذلك: إذا قلنا قولهم:.. القرآنٌ الكريم، إنه كلام رب العالمين، لكن قطع اليد وحشية، لا بدّ من وسيلة ردعٍ أخرى غير قطع اليد، ماذا فعلوا ؟ هدِّموا أحكام القرآن، هل غاب عن الله عزّ وجل أن هذه الوسيلة وحشية، ولا بدَّ من وسيلة أخرى ؟ أي حينما يتزيّا الإنسان بزي الدين، ويهاجم القرآن،

            يهاجم السنة، يهاجم رسول الله بشكل أو بآخر، إما بادعائه الموضوعية، أو بالبحث العلمي الدقيق، أو بالنظرة الحضارية، هذا منافقٌ يهدِّم الدين بمعولٍ خطير تحت هذه الأغطية المضحكة، وهو لا يشعر، لذلك فالخطر القاسي الذي يهدد المؤمنين هو من أدعياء الدين لا من أعداء الدين، وللإمام الشافعي كلمة تناسب هذا المقام يقول: " لأن أرتزق بالرقص أهون من أن أرتزق بالدين ".
            الارتزاق بالرقص ارتزاق، ولكن الراقص لا يُقتدى به أبداً، أما هذا الذي يرتزق بالدين يوهم الناس أنه مؤمن، يوجِّه النصوص لمصلحته، يأخذ المال الذي لا يحق له أن يأخذه، يعطي أسوأ سمعةٍ للناس حول الديّن، فإذا انصرف الناس عن الدين فبسبب هذا الإنسان المنافق الذي نفَّر الناس من الدين، المؤمن يقرِّب، والمنافق يبعد، المؤمن يصل، والمنافق يقطع، المؤمن يحبِّب، والمنافق ينفِّر، المؤمن يوصل، المنافق يقطع.. ﴿ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ (27) ﴾

            (سورة البقرة: آية " 27 " )

            المؤمن يَقَرِّب، المنافق يُبَعِّد.. مهمة المنافق دائماً إفساد النفوس و البيئة :
            ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) ﴾
            هذا الماء غير فاسد، لأنه لا لون له، ولا طعم، ولا رائحة، كيف نفسده ؟ إذا غيَّرنا لونه، أو طعمه، أو رائحته، وإفساد الشيء إخراجه عن صفاته الأساسية، إفساد الفتاة إخراجُها عن العِفَّة والحياء، إفساد الموظَّف إخراجه عن خدمة المواطنين، إفساد القاضي إخراجه عن العدل، إفساد الطبيب إخراجه عن النصح للمريض، إفساد المُحامي أن يكذب على موكِّليه، إفساد المدرِّس أن يعطي المعلومات الصغيرة في وقتٍ مديد، أي لم يعلمهم شيئاً، أخذ مبلغاً من المال ولم يُعلِّم شيئاً، فكل حرفة، وكل شخصية، وكل هوية لها طريقٌ قويم، ولها طريقٌ فاسد، فالمنافق يريد شهوات الدنيا فيفسد المرأة بإغرائها أن تُسْفِر، وأن تعرض مفاتنها للناس في الطريق، يُغْري إنساناً أن يأخذ المال الحرام، (عندك أولاد والناس كلّها هكذا ).. أفسدهم، فالمنافق مهمَّته دائماً إفساد النفوس، أو حتى إفساد البيئة، إفساد الهواء، إفساد الماء.. ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ (11) ﴾
            الإنسان مأمور أن يزيد الصلاح صلاحاً:
            الحقيقة الإنسان مُكلَّف أن يزيد الصلاح صلاحاً، مثلاً: بئر ماء هناك احتمال أن يتهدم، ننزل فيه قميصاً معدنياً، فالبئر صالح للاستخدام لكنك زدته، المؤمن يزيده الصلاح صلاحاً، أما لو أبقيته كما هو ما أفسدته، أما لو هدمته فقد أفسدته، صار هناك إفساد، وعدم إفساد، وأن تزيد في الصلاح، المؤمن مُكَلَّف أن يزيد في الصلاح فإذا أفسد فقد أفسد مرتين، مرة لأنه تَركَ الفساد، ومرة لأنه أفسد الشيء، وأنت في الأصل مأمور أن تزيد الصلاح صلاحاً، فالمؤمن يصلح بين الناس، يصلح البيئة.
            قبل خمسين عاماً كما أذكر كان الناس يشربون من هذه الأنهار، نهر يمشي في دمشق، وماؤه يُشْرَب، ما كان أحد يجرؤ أن يلقي فيه شيئاً، الآن تُصب كل المجاري في الأنهار، وازن بين نبع بردى وبين مصبه، ما الذي طرأ عليه في سيره إلى مصبه ؟ روافد كلُّها مياه سوداء، فإفساد الشيء إخراجه عن صفته الأصيلة، فهذا إفساد للماء، إفساد للمزروعات بهذه الهرمونات، فالمزارع يهمُّه الربح يرش هرموناً محرَّماً يمنع استيراده، فيأتي به تهريباً، ويرشه فيصبح الإنتاج بحجم أكبر، وألوان أزهى، ولكن هذا الهرمون مُسرطن، هذه المبيدات كلُّها تُمَلِّح التربة، وتسبب أمراضاً للنباتات، وأمراضاً للإنسان، وأما العلف فهناك طحين لحم الجيف والدم المجفف، وهي أشياء محرَّمة بالأساس، سبب جنون البقر، جنَّ البقر من جنون البشر، أطعموا البقر طحيناً.. لحم الجيف.. فماذا حصل ؟ اضطروا أن يحرقوا ثلاثة عشر مليون بقرة، ثمنها ثلاثة وثلاثون مليار جنيه إسترليني، أفسدوا اللحوم، أفسدوا الهواء، حتى هذه المحطات الكثيرة جداً في الهواء تُسَبِّب فساداً في الاتصالات، الأمراض تأتي للإنسان من كثرة هذا البَثْ في الهواء، الضجيج، الماء الملوَّث، التربة الملوَّثة بالملوحة الزائدة، وبالمبيدات الكيماوية، كل ذلك لماذا ؟ لأن هدف الإنسان الربح فقط.. حب المال يجعل الإنسان يفسد في الأرض :

            ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (10) ﴾
            المرض حبُّ المال، من أجل حب المال نفعل كل شيء، لذلك يغيرون خلق الله عزّ وجل، هل من الممكن أن تضع مادة في بعض المواد الغذائية، وهي مادة كيميائية محضة لا يقبلها الجسم لتُبَيِّض هذا الإنتاج فيزداد سعره ؟. ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (10) ﴾
            حب المال جعلهم يفسدون هذا الإنتاج.. ﴿ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) ﴾
            طبعاً يصلحون جيوبَهم، يصلحون معيشتهم وحدهم، ويبحثون عن مصالحهم الضَيِّقة. كل منافق يرى ربحه هو الصلاح ولو على حساب كل شيء:
            أخواننا الكرام، أول صفةً للمؤمن أنَّه يُصلح والمنافق يفسد، بمطلق معنى هذه الكلمة: يُفسد كل شيء، يفسد علاقةً بين زوجين، علاقةً بين شريكين، علاقةً بين جارين، علاقةً بين أمٍ وابنها، علاقةً بين ابنٍ وأبيه، مهمَّة المنافق دائماً إفسادُ العلاقات، مهمة المنافق تحقيق الربح ولو على حساب إفساد البيئة، يُفسد البيئة، ويفسد الهواء، ويفسد الماء، ويفسد المزروعات، ويفسد الصناعة، ويبث الأفكار غير الصحيحة إفساداً للعقائد، يُفسد العقيدة، يُفسد علاقة الإنسان بالله عزَّ وجل، يغريه بأشياء محرَّمة.. (ما فيها شيء يا أخي أنت عايش خارج العصر )؟ يجب أن تتنوَّر، أن ترى ماذا يجري في العالَم، ركب لك صحناً ؟.. لئلا تبقى منعزلاً عن العالم، فإذا دخل الصحن إلى البيت صار شيءٌ آخر، ربما ترك الصلاة، ربما فعل المُنكرات، ربما طلَّق زوجته، طبعاً لم تعد تعجبه، فلذلك الإفساد واسع ؛ إفساد عقائد، إفساد أخلاق، إفساد علاقات، إفساد بيئة، إفساد صناعة، إفساد زراعة، إفساد ماء، إفساد هواء.. ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ (11) ﴾

            هم وَقِحون يركبون رؤوسَهم، يقولون: ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) ﴾
            يرى الصلاح في الفساد، يرى ربحه هو الصلاح ولو على حساب كل شيء.. ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) ﴾
            المؤمن مُبارك يجمع ولا يُفَرِّق، يُصلح ولا يُفسد:
            المؤمن مُبارك يجمع ولا يُفَرِّق، يُصلح ولا يُفسد، يقرِّب ولا يُبَعِّد، يحبب ولا ينفر، دمَغَهم ربنا عزّ وجل عندما قال : ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) ﴾

            وفي درسٍ آخر إن شاء الله تعالى نتابع صفات المنافقين، صفات المنافقين دقيقة جداً، ويجب أن نعلمها بدقةٍ بالغة لئلا تزل أقدامنا إلى بعض هذه الصفات، المؤمن ينجو، والكافر شرُّه محدود لأنه مكشوف لكن الخطر من المنافقين. والحمد لله رب العالمين
            التعديل الأخير تم بواسطة بذور الزهور; الساعة 14-09-2014, 10:53 PM.

            تعليق


            • #7
              تفسير الفاتحة للنابلسى

              https://forums.way2allah.com/showthread.php?t=160231
              موجودعلى الرابط اعلاه

              تعليق


              • #8
                رد: تفسير سورةالبقرة للنابلسى

                السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
                اهلا ومرحبا بكم معنا في الفريق
                ولكن نعتذر منكم لا نقوم بوضع الدرس هكذا
                فا المشرفيين والمراقبين هم من يضعوا الدورس في هذا القسم للتفريغ
                ويقوموا بتقسيم الدرس إلى مقاطع
                ويقوم الأعضاء بحجز ما يناسبهم

                اما بالنسبه لما وضعتموه فيتم وضعه في قسم زاد الداعيه في قسم
                تفريغ الدروس
                فنعتذر منكم فسيتم نقل الدرس إلى هناك إن شاء الله

                أما إذا اردتم الأشتراك معنا في الفريق
                اهلا ومرحبا بكم معنا
                وتجدوا هنا ما هو جديد ومتاح للحجز
                ₪۝₪ فهرس قسم التفريغ ₪۝₪ هنا تجد ما تحتاجه بإذن الله (( متجدد ))
                جُزيتم الجنة
                اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
                اللهم ارحم أمي وجميع موتى المسلمين

                بريرة رضى الله عنها

                تعليق


                • #9
                  رد: تفسير سورةالبقرة للنابلسى

                  السلام عليكم
                  أنا مع الأخت في هذا وسيتم النقل

                  تعليق

                  يعمل...
                  X