الآداب الإسلامية(اداب الطعام)
إعداد/ سعيد عامر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد
في هذا الموضوع نذكِّر ببعض آداب الطعام، وهو نعمة إلهية كبرى، لفت الله جل في علاه نظر الإنسان إليها في كثير من الآيات القرآنية، لينظر فيها ويعتبر، ويعرف قدرها، ويشكر خالقها، قال الله تعالى *فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُم** ْعبس
وقال عز وجل **وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ** يس
فسبحانه أحسن تدبير الكائنات، فخلق الأرض والسماوات، وأنزل الماء الفرات، فأخرج به الحَبّ والنبات، وقدَّر الأرزاق والأقوات، وأعان على الطاعات والأعمال الصالحات، بأكل الطيبات، وعليه نبَّه رب العالمين في كتابه الحكيم **كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا** المؤمنون
فإذا أكل المرء ليستعين بالطعام على العلم والعمل، ويقوى به على الطاعة كان له ثواب عظيم، بل «وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ»البخاري ، ومسلم
وفرق بين أكل المؤمن وأكل الكافر، فالمؤمن يأكل ليتقوى على عبادة الله، والكافر يأكل كما تأكل الأنعام والكافر يعيش ليأكل، ويحصل على اللذات والشهوات، لكن المؤمن يعيش ليعبد رب الأرض والسماوات، ولعمل الصالحات، وليتزود من الحسنات ؛ ليرضي مولاه، ولذا يجب على المؤمن أن يلتزم هدي رسول الله في طعامه، وهذا من الأدب الذي أطال العلماء في شرحه؛ نظرًا لكثرة الأحاديث الواردة فيه، والإسلام يهتم بجميع نواحي حياة الإنسان، وسوف نجمل هذه الآداب إن شاء الله تعالى في هذه النقاط بدون تفصيل.
غسل اليدين قبل الطعام
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ، وإذا أراد أن يأكل غسل يديه** النسائي، وصححه الألباني وهذا من الحرص على النظافة، وعدم نقل الميكروبات، خاصة إذا كانت اليد غير نظيفة، فضلاً عن أنه اتباع للنبي
استحضار نية التقوي على طاعة الله عز وجل، كما سبق .
التسمية في أوله الأكل باليمين الأكل مما يليه
فعن عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه قال كُنْتُ غُلامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ ، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ«يَا غُلامُ سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ»البخاري ، ومسلم
وعن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ»مسلم
وفي رواية عنه أيضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «لاَ يَأْكُلَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشِمَالِهِ وَلاَ يَشْرَبَنَّ بِهَا فَإِنَّ؛ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِهَا» مسلم
فإن كان له عذر كمرض أو جراحة أو غير ذلك، فلا كراهة في الأكل والشرب بها، ومن ليس له عذر فقد صرح ابن العربي بإثم من أكل بشماله، واحتج بأن كل فعل يُنسب إلى الشيطان حرام، ولذا لِما ثبت أَنَّ رَجُلاً أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ بِشِمَالِهِ فَقَالَ «كُلْ بِيَمِينِكَ» قَالَ لاَ أَسْتَطِيعُ قَالَ «لاَ اسْتَطَعْتَ» مَا مَنَعَهُ إِلاَّ الْكِبْرُ قَالَ فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ**رواه مسلم.
قال النووي وفي هذا الحديث جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعي بلا عذر، وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل حال حتى في حال الأكل، واستحباب تعليم الآكل آداب الأكل إذا خالفه صحيح مسلم بشرح النووي.
وقد عقد البخاري بابًا في صحيحه سماه «باب الأكل مما يليه»، وترجم كذلك «باب من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه إذا لم يعرف منه كراهية» وروى حديثًا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ لِطَعَامٍ صَنَعَهُ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ؛ فَقَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ خُبْزًا وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ؛ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيْ الْقَصْعَةِ قَالَ فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ **البخاري
وقد اختلف الفقهاء فيمن تطيش يده في الصحفة، فيأكل من هنا وهناك، البعض قال بكراهية ذلك، والبعض قال بحرمته، ومنهم من قال إذا اختلفت الأصناف جاز أن يأكل ما شاء من أي ناحية
وطيشان اليد في الإناء، فيه فقدان المروءة، وفيه الحرص والطمع والجشع والشح إلخ وهذا من أقبح القبائح، فضلاً عما فيه من تقزز للغير، يجعلهم يغضبون عليه، ويسخطون، وربما اعتزلوه فلا يأكلون معه بعد ذلك.
الاجتماع على الطعام لتأليف القلوب
الاجتماع على الطعام، وعدم التفرق، فيه بركة للآكلين، ومحبة وجمعًا للقلوب، وترقيقها، فعن جَابِر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ «طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِى الاِثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الاِثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ»مسلم
وعن وَحْشِىِّ بْنِ حَرْبٍ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَأْكُلُ وَلاَ نَشْبَعُ قَالَ «فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ؟» قَالُوا نَعَمْ قَالَ «فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ»أبو داود ، وحسنه الألباني
وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أحضروا له الطعام قال التمسوا بعض المساكين والفقراء، فلن آكل وحدي.
الأكل من جوانب الطعام
الأكل من جوانب القصعة أو الإناء أو الطبق لحصول البركة، روى أحمد وابن ماجه وصححه الألباني «كلوا من جوانبها ودعوا ذروتها؛ يبارك لكم فيها»
وفي رواية «كلوا باسم الله من حواليها، واعفوا رأسها؛ فإن البركة تأتيها من فوقها»ابن ماجه ، وصححه الألباني
وفي رواية أخرى «إن البركة وسط القصعة، فكلوا من نواحيها، ولا تأكلوا من رأسها»السلسلة الصحيحة للألباني.
عدم النفخ في الطعام الحار، وألا يؤكل حتى يبرد
وقد يكون لذلك أضرار صحية، من ناحية أنه يجلب الأمراض «لا ضرر ولا ضرار» أحمد ، وصححه الألباني ، وهو كذلك تعافه النفس وتأباه، فربما خرج من النفخ رذاذ من لعابه أو ريقه.
إذا سقطت منه لقمة أماط عنها الأذى وأكلها ولا يدعها للشيطان، فعَنْ أنس رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ «إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ؛ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الأَذَى، وَلْيَأْكُلْهَا وَلاَ يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ»مسلم.
التواضع في الجلوس
فعن أَبي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ«لا آكُلُ مُتَّكِئًا» البخاري فعلى المسلم أن يجلس جلسة مريحة لا يُعاب عليه فيها، ولا يترتب عليها ضرر لمن بجواره.
وضع الطعام على السفرة الموضوعة على الأرض
وفي هذا اقتداء برسول الله ، وهو دليل التواضع منه ، وإن لم يكن على الأرض فعلى السفرة التي يقول لها بعض العوام «الطبلية»
فعَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا عَلِمْتُ النَّبِيَّ أَكَلَ عَلَى سُكْرُجَةٍ قَطُّ، وَلاَ خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ، وَلاَ أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ قِيلَ لِقَتَادَةَ فَعَلاَمَ كَانُوا يَأْكُلُونَ؟ قَالَ عَلَى السُّفَرِ**البخاري والخوان المائدة ما لم يكن عليها طعام والسُكْرجة كلمة فارسية، قيل هي القصعة المدهونة، وقيل قصعة ذات قوائم كمائدة صغيرة لم يأكل عليها رسول الله ، قيل لأنها لم تكن تُصنع عندهم، أو استصغاره لها ؛ لأن عادتهم الاجتماع على الطعام وهي تضيق الدائرة
وهل يباح الجلوس أو الأكل على ما يسميه الآن في عصرنا ترابيزة السفرة ؟
الأكل عليها ليس منهيًا عنه، وهو ليس بدعة تضاد الشرع، فليس كل ما ابتُدع منهيًّا عنه، وليس في المائدة إلا رفع الطعام ليتيسر الأكل، وهذا لا كراهة فيه.
عدم الإكثار من الطعام
عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ «الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ»البخاري ، ومسلم
وعن المقدام بن معدي كرب قال سمعت رسول الله يقول «ما ملأ آدمي شرًّا من بطن؛ بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه؛ فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه وثلث لنَفَسه»النسائي ، وصححه الألباني
فالمسلم لا يشبع شبعًا يعوقه عن العبادة والعمل، ولا يجوع جوعًا مفرطًا يؤدي به إلى الهزال والهلاك، فالشبع شرّ، والجوع شر، وخير الأمور الوسط وهذا حال السلف رضوان الله عليهم.
الأكل بثلاث أصابع ولعقها بعد الأكل
فمن سنة النبي أنه كان عليه الصلاة والسلام يأكل بثلاث أصابع، وكان إذا أكل طعامًا لعق أصابعه الثلاث فعن جَابِرٍ بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ«إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى وَلْيَأْكُلْهَا، وَلاَ يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، وَلاَ يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِى فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ»مسلم
عدم ذم الطعام أو عيبه
كان إذا أعجبه الطعام أكله، وإن لم يعجبه تركه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا عَابَ النَّبِيُّ طَعَامًا قَطُّ، إِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلاَّ تَرَكَهُ **البخاري
ولما قُدِّم الضب على مائدته لم يعبه، وإنما ترك أكله فعن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال «فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَهُ عَنْ الضَّبِّ، فَقَلت أَحَرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ لاَ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ»البخاري ، ومسلم.
حمد الله تعالى بعد الطعام والشراب
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ«إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا»مسلم
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قال كَانَ رَسُولُ اللَّهِإِذَا رُفِعَتْ الْمَائِدَةُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ يَقُولُ «الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، غَيْرَ مُوَدَّعٍ وَلاَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبُّنَا» أبو داود ، وصححه الألباني
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ«إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ وَإِذَا سُقِىَ لَبَنًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلاَّ اللَّبَنُ»أبو داود ، وحسنه الألباني
وذلك لأن المسلم يتذكر عند ذلك أن هذا الطعام والشراب من فضل الله وكرمه.
الدعاء لمن أكل عنده
ففي الصحيح أن النبي قال «اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني»مسلم
وهناك آداب ليس عليها بخصوصها أدلة من الكتاب والسنة، ولكنها توافق روح الشريعة، والعرف العام، ومن ذلك ألا ينظر إلى رفاقه بعين المراقبة، وألا ينفض اليد في الإناء، وعدم الأكل والفم مملوء بالطعام، وليحذر الكلام وفي فمه طعام إلخ هذه الآداب
وإلى لقاء في العدد القادم إن شاء الله تعالى، وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا محمد وآله وصحبه والحمد لله رب العالمين
إعداد/ سعيد عامر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد
في هذا الموضوع نذكِّر ببعض آداب الطعام، وهو نعمة إلهية كبرى، لفت الله جل في علاه نظر الإنسان إليها في كثير من الآيات القرآنية، لينظر فيها ويعتبر، ويعرف قدرها، ويشكر خالقها، قال الله تعالى *فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُم** ْعبس
وقال عز وجل **وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ** يس
فسبحانه أحسن تدبير الكائنات، فخلق الأرض والسماوات، وأنزل الماء الفرات، فأخرج به الحَبّ والنبات، وقدَّر الأرزاق والأقوات، وأعان على الطاعات والأعمال الصالحات، بأكل الطيبات، وعليه نبَّه رب العالمين في كتابه الحكيم **كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا** المؤمنون
فإذا أكل المرء ليستعين بالطعام على العلم والعمل، ويقوى به على الطاعة كان له ثواب عظيم، بل «وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ»البخاري ، ومسلم
وفرق بين أكل المؤمن وأكل الكافر، فالمؤمن يأكل ليتقوى على عبادة الله، والكافر يأكل كما تأكل الأنعام والكافر يعيش ليأكل، ويحصل على اللذات والشهوات، لكن المؤمن يعيش ليعبد رب الأرض والسماوات، ولعمل الصالحات، وليتزود من الحسنات ؛ ليرضي مولاه، ولذا يجب على المؤمن أن يلتزم هدي رسول الله في طعامه، وهذا من الأدب الذي أطال العلماء في شرحه؛ نظرًا لكثرة الأحاديث الواردة فيه، والإسلام يهتم بجميع نواحي حياة الإنسان، وسوف نجمل هذه الآداب إن شاء الله تعالى في هذه النقاط بدون تفصيل.
غسل اليدين قبل الطعام
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ، وإذا أراد أن يأكل غسل يديه** النسائي، وصححه الألباني وهذا من الحرص على النظافة، وعدم نقل الميكروبات، خاصة إذا كانت اليد غير نظيفة، فضلاً عن أنه اتباع للنبي
استحضار نية التقوي على طاعة الله عز وجل، كما سبق .
التسمية في أوله الأكل باليمين الأكل مما يليه
فعن عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه قال كُنْتُ غُلامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ ، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ«يَا غُلامُ سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ»البخاري ، ومسلم
وعن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ»مسلم
وفي رواية عنه أيضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «لاَ يَأْكُلَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشِمَالِهِ وَلاَ يَشْرَبَنَّ بِهَا فَإِنَّ؛ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِهَا» مسلم
فإن كان له عذر كمرض أو جراحة أو غير ذلك، فلا كراهة في الأكل والشرب بها، ومن ليس له عذر فقد صرح ابن العربي بإثم من أكل بشماله، واحتج بأن كل فعل يُنسب إلى الشيطان حرام، ولذا لِما ثبت أَنَّ رَجُلاً أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ بِشِمَالِهِ فَقَالَ «كُلْ بِيَمِينِكَ» قَالَ لاَ أَسْتَطِيعُ قَالَ «لاَ اسْتَطَعْتَ» مَا مَنَعَهُ إِلاَّ الْكِبْرُ قَالَ فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ**رواه مسلم.
قال النووي وفي هذا الحديث جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعي بلا عذر، وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل حال حتى في حال الأكل، واستحباب تعليم الآكل آداب الأكل إذا خالفه صحيح مسلم بشرح النووي.
وقد عقد البخاري بابًا في صحيحه سماه «باب الأكل مما يليه»، وترجم كذلك «باب من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه إذا لم يعرف منه كراهية» وروى حديثًا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ لِطَعَامٍ صَنَعَهُ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ؛ فَقَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ خُبْزًا وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ؛ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيْ الْقَصْعَةِ قَالَ فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ **البخاري
وقد اختلف الفقهاء فيمن تطيش يده في الصحفة، فيأكل من هنا وهناك، البعض قال بكراهية ذلك، والبعض قال بحرمته، ومنهم من قال إذا اختلفت الأصناف جاز أن يأكل ما شاء من أي ناحية
وطيشان اليد في الإناء، فيه فقدان المروءة، وفيه الحرص والطمع والجشع والشح إلخ وهذا من أقبح القبائح، فضلاً عما فيه من تقزز للغير، يجعلهم يغضبون عليه، ويسخطون، وربما اعتزلوه فلا يأكلون معه بعد ذلك.
الاجتماع على الطعام لتأليف القلوب
الاجتماع على الطعام، وعدم التفرق، فيه بركة للآكلين، ومحبة وجمعًا للقلوب، وترقيقها، فعن جَابِر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ «طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِى الاِثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الاِثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ»مسلم
وعن وَحْشِىِّ بْنِ حَرْبٍ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَأْكُلُ وَلاَ نَشْبَعُ قَالَ «فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ؟» قَالُوا نَعَمْ قَالَ «فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ»أبو داود ، وحسنه الألباني
وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أحضروا له الطعام قال التمسوا بعض المساكين والفقراء، فلن آكل وحدي.
الأكل من جوانب الطعام
الأكل من جوانب القصعة أو الإناء أو الطبق لحصول البركة، روى أحمد وابن ماجه وصححه الألباني «كلوا من جوانبها ودعوا ذروتها؛ يبارك لكم فيها»
وفي رواية «كلوا باسم الله من حواليها، واعفوا رأسها؛ فإن البركة تأتيها من فوقها»ابن ماجه ، وصححه الألباني
وفي رواية أخرى «إن البركة وسط القصعة، فكلوا من نواحيها، ولا تأكلوا من رأسها»السلسلة الصحيحة للألباني.
عدم النفخ في الطعام الحار، وألا يؤكل حتى يبرد
وقد يكون لذلك أضرار صحية، من ناحية أنه يجلب الأمراض «لا ضرر ولا ضرار» أحمد ، وصححه الألباني ، وهو كذلك تعافه النفس وتأباه، فربما خرج من النفخ رذاذ من لعابه أو ريقه.
إذا سقطت منه لقمة أماط عنها الأذى وأكلها ولا يدعها للشيطان، فعَنْ أنس رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ «إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ؛ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الأَذَى، وَلْيَأْكُلْهَا وَلاَ يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ»مسلم.
التواضع في الجلوس
فعن أَبي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ«لا آكُلُ مُتَّكِئًا» البخاري فعلى المسلم أن يجلس جلسة مريحة لا يُعاب عليه فيها، ولا يترتب عليها ضرر لمن بجواره.
وضع الطعام على السفرة الموضوعة على الأرض
وفي هذا اقتداء برسول الله ، وهو دليل التواضع منه ، وإن لم يكن على الأرض فعلى السفرة التي يقول لها بعض العوام «الطبلية»
فعَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا عَلِمْتُ النَّبِيَّ أَكَلَ عَلَى سُكْرُجَةٍ قَطُّ، وَلاَ خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ، وَلاَ أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ قِيلَ لِقَتَادَةَ فَعَلاَمَ كَانُوا يَأْكُلُونَ؟ قَالَ عَلَى السُّفَرِ**البخاري والخوان المائدة ما لم يكن عليها طعام والسُكْرجة كلمة فارسية، قيل هي القصعة المدهونة، وقيل قصعة ذات قوائم كمائدة صغيرة لم يأكل عليها رسول الله ، قيل لأنها لم تكن تُصنع عندهم، أو استصغاره لها ؛ لأن عادتهم الاجتماع على الطعام وهي تضيق الدائرة
وهل يباح الجلوس أو الأكل على ما يسميه الآن في عصرنا ترابيزة السفرة ؟
الأكل عليها ليس منهيًا عنه، وهو ليس بدعة تضاد الشرع، فليس كل ما ابتُدع منهيًّا عنه، وليس في المائدة إلا رفع الطعام ليتيسر الأكل، وهذا لا كراهة فيه.
عدم الإكثار من الطعام
عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ «الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ»البخاري ، ومسلم
وعن المقدام بن معدي كرب قال سمعت رسول الله يقول «ما ملأ آدمي شرًّا من بطن؛ بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه؛ فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه وثلث لنَفَسه»النسائي ، وصححه الألباني
فالمسلم لا يشبع شبعًا يعوقه عن العبادة والعمل، ولا يجوع جوعًا مفرطًا يؤدي به إلى الهزال والهلاك، فالشبع شرّ، والجوع شر، وخير الأمور الوسط وهذا حال السلف رضوان الله عليهم.
الأكل بثلاث أصابع ولعقها بعد الأكل
فمن سنة النبي أنه كان عليه الصلاة والسلام يأكل بثلاث أصابع، وكان إذا أكل طعامًا لعق أصابعه الثلاث فعن جَابِرٍ بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ«إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى وَلْيَأْكُلْهَا، وَلاَ يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، وَلاَ يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِى فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ»مسلم
عدم ذم الطعام أو عيبه
كان إذا أعجبه الطعام أكله، وإن لم يعجبه تركه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا عَابَ النَّبِيُّ طَعَامًا قَطُّ، إِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلاَّ تَرَكَهُ **البخاري
ولما قُدِّم الضب على مائدته لم يعبه، وإنما ترك أكله فعن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال «فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَهُ عَنْ الضَّبِّ، فَقَلت أَحَرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ لاَ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ»البخاري ، ومسلم.
حمد الله تعالى بعد الطعام والشراب
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ«إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا»مسلم
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قال كَانَ رَسُولُ اللَّهِإِذَا رُفِعَتْ الْمَائِدَةُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ يَقُولُ «الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، غَيْرَ مُوَدَّعٍ وَلاَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبُّنَا» أبو داود ، وصححه الألباني
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ«إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ وَإِذَا سُقِىَ لَبَنًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلاَّ اللَّبَنُ»أبو داود ، وحسنه الألباني
وذلك لأن المسلم يتذكر عند ذلك أن هذا الطعام والشراب من فضل الله وكرمه.
الدعاء لمن أكل عنده
ففي الصحيح أن النبي قال «اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني»مسلم
وهناك آداب ليس عليها بخصوصها أدلة من الكتاب والسنة، ولكنها توافق روح الشريعة، والعرف العام، ومن ذلك ألا ينظر إلى رفاقه بعين المراقبة، وألا ينفض اليد في الإناء، وعدم الأكل والفم مملوء بالطعام، وليحذر الكلام وفي فمه طعام إلخ هذه الآداب
وإلى لقاء في العدد القادم إن شاء الله تعالى، وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا محمد وآله وصحبه والحمد لله رب العالمين
تعليق