كيف تعلم ولدك مراقبة الله تعالى
(من كتاب مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد في مرحلة الطفولة, إعداد عدنان حسن صالح با حارث)
لقد ركز منهج الإسلام في التربية على إثراء جانب المراقبة لله عز وجل في النفس الإنسانية, فقد تضمن القرآن الكريم كثيرا من الآيات المشيرة إلى هذا المعنى. يقول الله سبحانه وتعالى حاكيا عن لقمان الذي أرشد ولده إلى هذه المراقبة يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ, ويقول أيضا وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖوَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. فحتى الخواطر والخطرات التي ترد على النفس يعلمها الله ويحيط بها, ويقول سبحانه وتعالى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ, أي: أن الله سبحانه وتعالى مع الإنسان أين ما كان بعلمه وقدرته وكمال إحاطته بخلقه
وفي الحديث عندما كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه رديف النبي صلى الله عليه وسلم على الدابة حيث أراد عليه الصلاة والسلام أن يذكي في نفس ابن عمه الصغير هذا الجانب الهام فقال له:
يا غلام أو يا غليم ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن, فقلت: بلى, فقال: احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده أمامك, تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة, وإذا سألت فسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله, قد جف القلم بما هو كائن, فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن ينفعوك بشئ لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه, وإن إرادوا أن يضروك بشئ لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه
بهذا الأسلوب القرآني والنبوي, يتعلق الولد بالله عز وجل, ويقطع جميع العلائق دون الله, فلا يرجو إلا الله, ولا يخاف إلا الله, ولا يسأل إلا الله, فيحفظ الله في خلواته, وعند قوته بتمام الاستقامة على منهجه, فيكون دائم المراقبة لله في الرخاء والشدة
وبهذا المنهج تربى الطفل في عصر النبوة تربية راسخة, جعلته قوة فعالة ثابتة, وأمثلة حقيقية تفوق الخيال, فلا يكاد يفرق بين الرجل الكبير والطفل الصغير, فالكل كبار بأفعالهم وأعمالهم الحميدة
فهذا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبلغ وهو ابن عشر سنين, ويتبعه رغم الآلام والخسائر والمعاناة التي يلقاها المؤمنون في ذلك الوقت في مكة, فلم يمنعه كل هذا – مع صغر سنه – من اتباع الحق, والتمييز بينه وبين الباطل, واختيار الطريق, وتقرير المصير
وهذا أسامة بن زيد, وأسيد بن ظهير, والبراء بن عازب, وزيد بن أرقم, وغيرهم كثير, يعرضون أنفسهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يسمح لهم بالمشاركة في قتال الكفار في غزوة أحد, فيردهم لصغر سنهم
وفي يوم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا .... الآية, فإذا بالفتى يسقط مغشيا عليه من وقع التلاوة على قلبه, فيضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده الشريفة على صدره ويقول له: يا فتى قل لا إله إلا الله, فقالها فبشره بالجنة, وصبيان آخرون في سن السابعة تقريبا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعونه مع الكبار, فيبسط سده ويبايعهم
هؤلاء الصبيان الصغار الذين لم يبلغوا الحلم, ولم تصقل خبراتهم بعد, ولم بتعلموا الكثير من العلوم عرفوا معنى الحياة وحقيقتها, وأنها فانية, فقد كان دور الأسرة في ذلك الوقت دورا رائدا ورئيسا في إيجاد هذا الشعور العجيب في قلوب الصغار نحو الله عز وجل, واستشعار معيته ومراقبته لهم مما دفعهم إلى مزيد من التضحيات في سبيل الله سبحانه وتعالى
وهذا هو النوع من الشعور الذي يطالب الأب المسلم بغرسه في نفوس أولاده الصغار, وتربيتهم عليه, حتى تتعلق قلوبهم وأرواحهم بالله عز وجل, فتكون جميع حركاتهم وسكناتهم موافقة لمنهج الله عز وجل. فإن نجح في هذه المهمة في طفولتهم فقد ضمن دوام استقامتهم وسلامتهم من الانحرافات في مستقبل حياتهم إن شاء الله تعالى
ومن أهم العوامل المساعدة على تنمية هذا الشعور عند الولد إشعاره بالانتماء إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, فالأطفال يحبون هذا الشعور, ويرغبون في شئ يعتقدونه ويعملون من أجله ليشعروا بمعنى الحياة وقيمتها, فإذا وجههم الأب إلى هذا النوع من الانتماء يكون قد أشبع في نفوسهم هذا الميل الفطري, الذي لا يشبعه إلا هذا الانتماء العظيم
والأب يسعى دائما بإشعار الولد بمراقبة الله له في كل وقت وفي كل مكان, ويوقظ عنده المسؤولية أمام الله, ويشعره بواجبه تجاهه سبحانه وتعالى. وهذا يمكن تحققه خاصة مع الولد في سن التمييز, إذ يمكنه أن يفكر بصورة مجردة, ويفهم ويدرك تلك المعاني
ويستخدم الأب أسلوب الترغيب والترهيب لينمي في ولده الرغبة والحب لله من جهة, والخشية والخوف من جهة أخرى, فيعيش بين الخوف والرجاء. ويلاحظ الأب عدم الإكثار من تخويف الولد بعذاب الله بصفة مستمرة, خاصة إن لم يكن هناك مبرر لذلك, أو مناسبة للتذكير, بل يركز قدر الإمكان على جانب الترغيب ويعلق قلب الولد بجانب الرجاء فهو أكثر حاجة إليه وأرغب فيه. وإن احتلج إلى الترهيب الذي لابد منه في بعض الأوقات, فعليه أن يستخدمه بأسلوب غير مباشر, فإذا قام الولد بعمل حسن محمود قال له:
إن الله سيحبك من أجل هذا العمل ويدخلك الجنة, فإنك لست كالأولاد الآخرين الذين يعملون السيئات, والذين سيعذبهم الله بالنار
وبهذا الأسلوب يكون الأب قد أثاب ولده على الفعل المحمود, وفي نفس الوقت حذره بصورة غير مباشرة من الفعل القبيح المذموم
وفي مجال الترغيب والترهيب يمكن للأب أن يعرض على ولده الآيات والأحاديث في وصف الجنة والنار ففيها العبرة كلها, والموعظة البالغة التي تنمي في النفس الخشية من الله غز وجل, والرغبة فيما عنده, ويستعين في هذا المجال بكتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري رحمه الله, فقد جمع فيه أحاديث كثيرة في هذا الباب, فينتقي الأب منها أحاديث متنوعة, سهلة العبارة ومفهومة المعنى, فيقرأها على الولد في أوقات متفاوتة ومختلفة, مراعيا أن لا يكون ذهن الولد منشغلا عنه بشاغل, بل يتحين الفرص المناسبة التي يكون فيها الابن مقبلا عليه, فارغ الذهن من الملهيات واللعب, فيعرض عليه هذه الآيات والأحاديث موضحا وشارحا لها بأسلوب حسن سهل, مقتديا في ذلك بالرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام في توجيهه لابن عباس في الحديث المتقدم
وينهج الأب مع ولده أسلوب التذكير الدائم برقابة الله له, وعلمه سبحانه وتعالى بجميع أقواله وأفعاله مستخدما في ذلك طرقا متنوعة, فإذا حدثه الولد – وهو في سن التمييز – حديثا, أو نقل إليه خبرا ما, قال له:
يا بني إن كنت صادقا فإن الله سيحبك, ويجزيك على صدقك أجرا, وسوفأحبك أنا أيضا, أما إن كنت كاذبا فإن الله لن يحبك, وسوف يعاقبك, ولن أحبك أنا أيضا
وإذا ترك الأب الولد الصغير في غرفته منفردا, أو في أي مكان بعيدا عن مراقبة الوالد والأهل, ذكّره بمراقبة الله له, كأن يقول له:
يا بني أتعرف أن الله يراك؟
فيجيبه الولد: نعم يا أبي
فيقول له الأب: إذا فماذا عليك أن تفعل؟
فيرد عليه الولد: لا أفعل شيئا يغضبه
وهنا يحتضنه الأب ويقبله مشعرا له برضاه عن مقالته الحسنة
وبهذه الطريقة من التذكير الدائم بالأساليب المتنوعة تحصل في نفس الطفل شفافية وحساسية مرهفة, تنصدع خشية لله عندما تسمع ذكره, أو تستحضر وجوده, كما قال تعالى واصفا هذا الصنف من الناس إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
أما الولد الكبير الذي قارب البلوغ, وأصبحت قدرته أكبر على فهم الأمور المجردة, وإدراك القضايا الغيبية بصورة أعمق, فإن الأب ينهج معه منهجا آخر, فيسلك معه الأسلوب المباشر فيخاطبه مباشرة بالآيات المباركات التي تركز على جانب المراقبة لله عز وجل, فيتلوها عليه مختارا الأوقات المناسبة, خاصة بعد صلاة الفجر, حيث صفاء الذهن, ورقة الإحساس, وقلة الملهيات والشواغل, فيتلو بعضا من آيات الذكر الحكيم كأن يختار آيات من سورة الأعراف, أو خاتمة سورة المؤمنون, أو سورة ق, أو يختار بعض السور من الجزئين التاسع والعشرين والثلاثين من المصحف الشريف, مراعيا في تلاوته الخشوع والبكاء, فإن أثر التلاوة الخاشعة المصاحبة للبكاء أعظم في نفس الولد, وأكبر وقعا من مجرد التلاوة الجافة, فلا بأس أن يحسن الأب صوته بالتلاوة في خشوع. والمقصود هو إظهار الخشوع والحزن والبكاء عند التلاوة ليكون وقعها على النفس أشد فتتأثر وتنصدع, وقد كان ابن الجوزي رحمه الله عندما كان صغيرا يتأثر ببكاء بعض شيوخه أكثر من تأثره بعلمهم
والولد الذي يشاهد هذا التأثر على أبيه لا شك يتأثر, وكأن لسان حاله يقول:
إن هذا الأمر الذي يبكي والدي له أمر عظيم
وسوف يبقى في نفس الولد أثر هذا الخشوع, ويرتسم في مخيلته, حتى يكبر وينضج, فيتذوق حلاوة الإيمان, ولذة الخشوع, فيكون ذلك مدعاة لدوام استقامته, وتمام توفيقه وسداده
ويضيف الأب إلى آيات القرآن الكريم بعضا من الأحاديث النبوية التي تركز على هذا الجانب وتقويه في نفس المؤمن, ومن هذه الأحاديث قوله عليه الصلاة والسلام وهو يكشف للناس حقيقة من حقائقٍ عالم الغيب التي يهتز لها الوجدان, وينخلع لها القلب عند تخيل حقيقتها وطبيعتها حيث يقول
إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا . والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا
وهذه الآيات والأحاديث لا شك أن لها أثرها على نفس الولد, حتى وإن لم يظهر ذلك في بادئ الأمر, فإنه يُختزن في ذاكرته, ويُنقش في قلبه, ويظهر أثره عند مقاربة البلوغ وبعده على صورة رغبة وميل نحو التدين والتزام الإسلام
وقد كان بعض السلف يعلم أولاده كيف يستحضرون رقابة الله عليهم عن طريق ذكر الله بالقلب, فيعلم ولده أن يقول:
الله معي, الله يراني, الله ناظري
ويكرر ذلك مرارا دون تلفظ, وهذا الأسلوب إن استمر عليه الولد مكّنه ذلك من استحضار مشاهدة الله له, ومراقبته له
أسأل الله العظيم أن يرزقنا مراقبته في السر والعلن, وأن يرزق أبناءنا الهدى والتقى والعفاف والغنى, إنه بكل جميل كفيل, وهوحسبنا ونعم الوكيل
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
(من كتاب مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد في مرحلة الطفولة, إعداد عدنان حسن صالح با حارث)
لقد ركز منهج الإسلام في التربية على إثراء جانب المراقبة لله عز وجل في النفس الإنسانية, فقد تضمن القرآن الكريم كثيرا من الآيات المشيرة إلى هذا المعنى. يقول الله سبحانه وتعالى حاكيا عن لقمان الذي أرشد ولده إلى هذه المراقبة يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ, ويقول أيضا وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖوَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. فحتى الخواطر والخطرات التي ترد على النفس يعلمها الله ويحيط بها, ويقول سبحانه وتعالى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ, أي: أن الله سبحانه وتعالى مع الإنسان أين ما كان بعلمه وقدرته وكمال إحاطته بخلقه
وفي الحديث عندما كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه رديف النبي صلى الله عليه وسلم على الدابة حيث أراد عليه الصلاة والسلام أن يذكي في نفس ابن عمه الصغير هذا الجانب الهام فقال له:
يا غلام أو يا غليم ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن, فقلت: بلى, فقال: احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده أمامك, تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة, وإذا سألت فسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله, قد جف القلم بما هو كائن, فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن ينفعوك بشئ لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه, وإن إرادوا أن يضروك بشئ لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه
بهذا الأسلوب القرآني والنبوي, يتعلق الولد بالله عز وجل, ويقطع جميع العلائق دون الله, فلا يرجو إلا الله, ولا يخاف إلا الله, ولا يسأل إلا الله, فيحفظ الله في خلواته, وعند قوته بتمام الاستقامة على منهجه, فيكون دائم المراقبة لله في الرخاء والشدة
وبهذا المنهج تربى الطفل في عصر النبوة تربية راسخة, جعلته قوة فعالة ثابتة, وأمثلة حقيقية تفوق الخيال, فلا يكاد يفرق بين الرجل الكبير والطفل الصغير, فالكل كبار بأفعالهم وأعمالهم الحميدة
فهذا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبلغ وهو ابن عشر سنين, ويتبعه رغم الآلام والخسائر والمعاناة التي يلقاها المؤمنون في ذلك الوقت في مكة, فلم يمنعه كل هذا – مع صغر سنه – من اتباع الحق, والتمييز بينه وبين الباطل, واختيار الطريق, وتقرير المصير
وهذا أسامة بن زيد, وأسيد بن ظهير, والبراء بن عازب, وزيد بن أرقم, وغيرهم كثير, يعرضون أنفسهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يسمح لهم بالمشاركة في قتال الكفار في غزوة أحد, فيردهم لصغر سنهم
وفي يوم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا .... الآية, فإذا بالفتى يسقط مغشيا عليه من وقع التلاوة على قلبه, فيضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده الشريفة على صدره ويقول له: يا فتى قل لا إله إلا الله, فقالها فبشره بالجنة, وصبيان آخرون في سن السابعة تقريبا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعونه مع الكبار, فيبسط سده ويبايعهم
هؤلاء الصبيان الصغار الذين لم يبلغوا الحلم, ولم تصقل خبراتهم بعد, ولم بتعلموا الكثير من العلوم عرفوا معنى الحياة وحقيقتها, وأنها فانية, فقد كان دور الأسرة في ذلك الوقت دورا رائدا ورئيسا في إيجاد هذا الشعور العجيب في قلوب الصغار نحو الله عز وجل, واستشعار معيته ومراقبته لهم مما دفعهم إلى مزيد من التضحيات في سبيل الله سبحانه وتعالى
وهذا هو النوع من الشعور الذي يطالب الأب المسلم بغرسه في نفوس أولاده الصغار, وتربيتهم عليه, حتى تتعلق قلوبهم وأرواحهم بالله عز وجل, فتكون جميع حركاتهم وسكناتهم موافقة لمنهج الله عز وجل. فإن نجح في هذه المهمة في طفولتهم فقد ضمن دوام استقامتهم وسلامتهم من الانحرافات في مستقبل حياتهم إن شاء الله تعالى
ومن أهم العوامل المساعدة على تنمية هذا الشعور عند الولد إشعاره بالانتماء إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, فالأطفال يحبون هذا الشعور, ويرغبون في شئ يعتقدونه ويعملون من أجله ليشعروا بمعنى الحياة وقيمتها, فإذا وجههم الأب إلى هذا النوع من الانتماء يكون قد أشبع في نفوسهم هذا الميل الفطري, الذي لا يشبعه إلا هذا الانتماء العظيم
والأب يسعى دائما بإشعار الولد بمراقبة الله له في كل وقت وفي كل مكان, ويوقظ عنده المسؤولية أمام الله, ويشعره بواجبه تجاهه سبحانه وتعالى. وهذا يمكن تحققه خاصة مع الولد في سن التمييز, إذ يمكنه أن يفكر بصورة مجردة, ويفهم ويدرك تلك المعاني
ويستخدم الأب أسلوب الترغيب والترهيب لينمي في ولده الرغبة والحب لله من جهة, والخشية والخوف من جهة أخرى, فيعيش بين الخوف والرجاء. ويلاحظ الأب عدم الإكثار من تخويف الولد بعذاب الله بصفة مستمرة, خاصة إن لم يكن هناك مبرر لذلك, أو مناسبة للتذكير, بل يركز قدر الإمكان على جانب الترغيب ويعلق قلب الولد بجانب الرجاء فهو أكثر حاجة إليه وأرغب فيه. وإن احتلج إلى الترهيب الذي لابد منه في بعض الأوقات, فعليه أن يستخدمه بأسلوب غير مباشر, فإذا قام الولد بعمل حسن محمود قال له:
إن الله سيحبك من أجل هذا العمل ويدخلك الجنة, فإنك لست كالأولاد الآخرين الذين يعملون السيئات, والذين سيعذبهم الله بالنار
وبهذا الأسلوب يكون الأب قد أثاب ولده على الفعل المحمود, وفي نفس الوقت حذره بصورة غير مباشرة من الفعل القبيح المذموم
وفي مجال الترغيب والترهيب يمكن للأب أن يعرض على ولده الآيات والأحاديث في وصف الجنة والنار ففيها العبرة كلها, والموعظة البالغة التي تنمي في النفس الخشية من الله غز وجل, والرغبة فيما عنده, ويستعين في هذا المجال بكتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري رحمه الله, فقد جمع فيه أحاديث كثيرة في هذا الباب, فينتقي الأب منها أحاديث متنوعة, سهلة العبارة ومفهومة المعنى, فيقرأها على الولد في أوقات متفاوتة ومختلفة, مراعيا أن لا يكون ذهن الولد منشغلا عنه بشاغل, بل يتحين الفرص المناسبة التي يكون فيها الابن مقبلا عليه, فارغ الذهن من الملهيات واللعب, فيعرض عليه هذه الآيات والأحاديث موضحا وشارحا لها بأسلوب حسن سهل, مقتديا في ذلك بالرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام في توجيهه لابن عباس في الحديث المتقدم
وينهج الأب مع ولده أسلوب التذكير الدائم برقابة الله له, وعلمه سبحانه وتعالى بجميع أقواله وأفعاله مستخدما في ذلك طرقا متنوعة, فإذا حدثه الولد – وهو في سن التمييز – حديثا, أو نقل إليه خبرا ما, قال له:
يا بني إن كنت صادقا فإن الله سيحبك, ويجزيك على صدقك أجرا, وسوفأحبك أنا أيضا, أما إن كنت كاذبا فإن الله لن يحبك, وسوف يعاقبك, ولن أحبك أنا أيضا
وإذا ترك الأب الولد الصغير في غرفته منفردا, أو في أي مكان بعيدا عن مراقبة الوالد والأهل, ذكّره بمراقبة الله له, كأن يقول له:
يا بني أتعرف أن الله يراك؟
فيجيبه الولد: نعم يا أبي
فيقول له الأب: إذا فماذا عليك أن تفعل؟
فيرد عليه الولد: لا أفعل شيئا يغضبه
وهنا يحتضنه الأب ويقبله مشعرا له برضاه عن مقالته الحسنة
وبهذه الطريقة من التذكير الدائم بالأساليب المتنوعة تحصل في نفس الطفل شفافية وحساسية مرهفة, تنصدع خشية لله عندما تسمع ذكره, أو تستحضر وجوده, كما قال تعالى واصفا هذا الصنف من الناس إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
أما الولد الكبير الذي قارب البلوغ, وأصبحت قدرته أكبر على فهم الأمور المجردة, وإدراك القضايا الغيبية بصورة أعمق, فإن الأب ينهج معه منهجا آخر, فيسلك معه الأسلوب المباشر فيخاطبه مباشرة بالآيات المباركات التي تركز على جانب المراقبة لله عز وجل, فيتلوها عليه مختارا الأوقات المناسبة, خاصة بعد صلاة الفجر, حيث صفاء الذهن, ورقة الإحساس, وقلة الملهيات والشواغل, فيتلو بعضا من آيات الذكر الحكيم كأن يختار آيات من سورة الأعراف, أو خاتمة سورة المؤمنون, أو سورة ق, أو يختار بعض السور من الجزئين التاسع والعشرين والثلاثين من المصحف الشريف, مراعيا في تلاوته الخشوع والبكاء, فإن أثر التلاوة الخاشعة المصاحبة للبكاء أعظم في نفس الولد, وأكبر وقعا من مجرد التلاوة الجافة, فلا بأس أن يحسن الأب صوته بالتلاوة في خشوع. والمقصود هو إظهار الخشوع والحزن والبكاء عند التلاوة ليكون وقعها على النفس أشد فتتأثر وتنصدع, وقد كان ابن الجوزي رحمه الله عندما كان صغيرا يتأثر ببكاء بعض شيوخه أكثر من تأثره بعلمهم
والولد الذي يشاهد هذا التأثر على أبيه لا شك يتأثر, وكأن لسان حاله يقول:
إن هذا الأمر الذي يبكي والدي له أمر عظيم
وسوف يبقى في نفس الولد أثر هذا الخشوع, ويرتسم في مخيلته, حتى يكبر وينضج, فيتذوق حلاوة الإيمان, ولذة الخشوع, فيكون ذلك مدعاة لدوام استقامته, وتمام توفيقه وسداده
ويضيف الأب إلى آيات القرآن الكريم بعضا من الأحاديث النبوية التي تركز على هذا الجانب وتقويه في نفس المؤمن, ومن هذه الأحاديث قوله عليه الصلاة والسلام وهو يكشف للناس حقيقة من حقائقٍ عالم الغيب التي يهتز لها الوجدان, وينخلع لها القلب عند تخيل حقيقتها وطبيعتها حيث يقول
إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا . والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا
وهذه الآيات والأحاديث لا شك أن لها أثرها على نفس الولد, حتى وإن لم يظهر ذلك في بادئ الأمر, فإنه يُختزن في ذاكرته, ويُنقش في قلبه, ويظهر أثره عند مقاربة البلوغ وبعده على صورة رغبة وميل نحو التدين والتزام الإسلام
وقد كان بعض السلف يعلم أولاده كيف يستحضرون رقابة الله عليهم عن طريق ذكر الله بالقلب, فيعلم ولده أن يقول:
الله معي, الله يراني, الله ناظري
ويكرر ذلك مرارا دون تلفظ, وهذا الأسلوب إن استمر عليه الولد مكّنه ذلك من استحضار مشاهدة الله له, ومراقبته له
أسأل الله العظيم أن يرزقنا مراقبته في السر والعلن, وأن يرزق أبناءنا الهدى والتقى والعفاف والغنى, إنه بكل جميل كفيل, وهوحسبنا ونعم الوكيل
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تعليق