أغلب المشاكل التي تواجه الأسرة اليوم هي افتقارها للحوار، وانعدام النقاش بين أفرادها، فالأب لا يجلس مع أبنائه إلا السويعات القليلة في اليوم، والأم مشغولة في عملها أيضًا، والأبناء حيارى لا يجدون من يسأل عنهم أو يحاورهم، فيكبرون وتكبر معهم المشاكل، وتترسخ فيهم الأنانية، وقد يفعلون أشياءَ لا يعلم عنها الآباء لانعدام العلاقة وانقطاع الرابطة بينهم منذ الصغر، ولو أن الآباء خصصوا قليلًا من وقتهم في الجلوس مع الأبناء وحوارهم في أمور حياتهم، والتقرب إليهم لتجاوزوا كثيرًا من الأزمات، وحلُّوا كثيرًا من المشاكل التي تقع بينهم، فالحوار مهم جدًّا في الحياة الزوجية والتربية الأسرية، يحتاجه الكبير والصغير، ويرغب فيه جميع الأفراد، وقد جاء أسلوب الحوار مبثوثًا منثورًا في القرآن الكريم، فقد حاور الله تعالى الملائكة عندما أراد خلق آدم في سورة البقرة، ليبيِّن لنا سبحانه أن الحوار هو الذي أوجد بني آدم، فينبغي أن يكون هذا منهج لهم في الحياة، يستخدمونه إذا وجد هناك تنافر في وجهات النظر، أو بعض المشاكل التي تنقص الحياة، وقد جاء الحوار أيضًا في سورة الكهف التي نقرأها كل يوم جمعة؛ لينبه الجميع لأهميته، ويذكِّرهم به كل أسبوع، ويعرض عليهم الحوار الذي دار بين كافر غني يتفاخر بماله وولده، ومؤمن فقير ليس لديه ما يملِك صاحبه الكافر؛ حيث بدأ بقول الكافر: ﴿ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾ [الكهف: 34]، فالكافر يحاور المؤمن مغترًّا بجاهه وماله، ونفره وولده، وجاءه الرد من المؤمن بقوله: ﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ﴾ [الكهف: 37]، ناصحًا ومذكرًا، كيف تكفر بالله الذي أوجدك وأنعم عليك، وأعطاك من النعم ما ليس لك بها يد، آخر القصة التي ذكرها ربنا سبحانه وتعالى، وورد الحوار أيضًا في سورة المجادلة عندما جاءت خولة بنت ثعلبة تشكو زوجها أوس بن الصامت إلى النبي عليه الصلاة والسلام عندما ظاهر منها وجعلها محرمة عليه مثل أمة: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1]، وتمام القصة وحوارها مع النبي عليه الصلاة والسلام منقول محفوظ.
ولكن استوقفني ذلك الحوار الأبوي الراقي، الذي ذكرة ربنا لنا في سورة لقمان، وهو يحاور ابنه، ويعلمه تلك الوصايا العظيمة، على شكل حوار فيه كثير من معاني المحبة والرفق والتودد من لقمان لابنه وهو يعظه، وينبهه على مهمَّات الأمور وأجلِّ الوصايا، وهكذا هي أساليب التربية مع الأبناء إذا غُلفت بغلاف الحب والرفق أثمرت ذلك الانقياد والالتزام، أما إذا كانت مجرد كلمات لا يشعر معها الابن بالحنان والحب، فإنه سرعان ما ينساها أو يحاول التفلُّت منها؛ لأنها خرجت من قلب موحش وبأسلوب خاطئ، ولنتأمل معًا هذا الحوار الودي الأبوي البديع؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ ﴾ [لقمان: 13].
بدأ هذا الحوار بين الأب والابن بأسلوب النداء:
يا بني، وهذه الكلمة من الكلمات التي تقرب الابن إلى أبيه، وتحبِّبه إليه، وتشعره بالأمان، وقوله: ﴿ لابنه ﴾؛ أي: إنه يقصده هو ذاته، وليس شخصًا آخر بهذه المواعظ والنصائح الثمينة، وقوله: ﴿ وهو يعظه ﴾ يدل على أنه اختار الزمان المناسب للوعظ والإرشاد، وهكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يتخول أصحابه بالموعظة خشية السأم والملل، ثم لَما تهيأت النفس لاستقبال النصيحة والموعظة بدأ بالموعظة الأهم، والوصية الكبرى في الحياة وهي قوله تعالى: ﴿ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].
وهي الوصية الأولى بألا يشرك بالله تعالى شيئًا، والأمر بعدم الإشراك بالله يستلزم منه ضده وهو التوحيد، فكان لقمان أول أمره قد أمَر ابنه بتوحيد الله تعالى؛ لأنه الغاية التي أرسل الله من أجلها الرسل، وأنزل الكتب؛ يقول تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]، ولعله علِم أنه سيرد سؤال على الابن: لماذا تأمرني بعدم الإشراك بالله يا أبي، فجاء بالتسبب الذي من أجله أمره بعدم الشرك، فقال: (إن الشرك لظلم عظيم)، تعليل للأمر بعدم الإشراك، إنه لو أشرك فإنك تظلم نفسك غاية الظلم وأعظمه؛ إذ كيف تسوِّي مخلوقًا ناقصًا بالإله القوي القادر الغني سبحانه.
ثم أعقبه بالوصية الثانية بعد التوحيد بالله وعدم الإشراك به، وهي قوله تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [لقمان: 14، 15] ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [لقمان: 14، 15]، بعد أن انتهى لقمان من بيانه لابنه أعظمَ أمر يجب عليه وهو التوحيد، والابن لا يزال مُنصت لأبيه، أعقبه بالحوار بينه وبين ابنه إلى وصية مهمة، وهي الوصية بالوالدين والبر بهما، فطاعة الوالدين تأتي بعد التوحيد؛ لِما لها من منزلة عظيمة في الإسلام، وقد جاءت كثير من الآيات بالوصية بالآباء وبرهما، والتحذير من عقوقهما، وخصوصًا عند كِبرهم، وكأنَّ لقمان يجيب على تساؤل قد يخطر على بال ولده، وهو أيهما أعظم حقًّا الأم أم الأب، ولماذا يجب عليَّ أن أُطيعهما وأبرهما، فأجابه أن كليهما لا بد من برهما، ولكن الأم حقها أعظم لتكبُّدها مشقة الحمل تسعة أشهر، ومكابدتها ألم الحمل والولادة والمخاض، فأنت قد غُذيت من لحمها، وأكلت من جسدها الهزيل، وشاركتها كل عناصرها الغذائية حتى أضعفتَ جسدها، ورق منها عظمُها، لذلك هي تحتاج إلى عناية أكبر، وبر أعظم، ومما يدل على عظم حق الأم ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه بقوله: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ يعني: صحبتي، قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك).
ولقمان وهو يحاور ابنه استدرك أنه من هذا قد يفهم الابن أنه يطيعهم طاعة مطلقة كاملة؟ وكأنه ينظر إلى ابنه وهو يسأله هل نطيعهما في كل شيء؟! فجاء بقوله تعالى: (وإن جاهداك على أن لا تشرك بي شيئًا فلا تطعهما...)، فالطاعة للوالدين تحت طاعة الله ورسوله، وطاعتهما واجبة فيما ليس فيه معصية لله ورسوله، أو مخالفة لأمرهما، أما إذا أمروك بمعصية، فلا تطعهما ولا تمتثل أمرهما؛ قال عليه الصلاة والسلام: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، أيًّا كان هذا المخلوق، ورغم هذا فإنه يجب عليك مصاحبتهم بالمعروف، وبرهما والإحسان إليهما والتودد لهما، ومنه يفهم أن الوالدين حتى وإن كانا كافرين، فإنه يُحسن إليهما ويبرهما، ويخفض لهما جناح الذل والرحمة، فهما سبب وجوده، وماده حياته.
ثم جاءت ثالثة الوصايا في حوار لقمان مع ابنه بقوله تعالى: ﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 16].
ثم جاء يرغِّبه في عمل الطاعات، ويرهبه من فعل القبائح والمنكرات، ببيان سعة علم الله وشموله، وإنه سبحانه لا يغيب عنه شيء مهما تناهى في صغره، أو اختفى عن الأنظار في أي جهة من جهات الكون الفسيح، وهذ الجواب جاء بعد حوار مع ابنه وسؤال منه؛ حيث قال ابن لقمان لأبيه: يا أبت إن عملت الخطيئة؛ حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال: (يا بني، إنها إن تك مثقال حبة من خردل، فتكن في صخرة)؛ كرَّر لقمان في هذه الوصية النداء، لتجديد السامع، وشد انتباهه؛ لكيلا يسأم أو يمل، وفي هذه الآية أهمية تقريب المعنى للطفل بشيء من المحسوسات، أن أمكن فلقمان ذكر الخردل وهي حبة صغيرة يعرفها الابن، فضرب بيان علم الله بهذه الحبة الصغيرة، وهذا أدعى في رسوخ المعنى في الذهن وعدم نسيانه أبدًا، ويكون أقرب للفَهم والاستيعاب، وفي الآية جواز استعمال الموكدات لبيان أهمية الكلام وبيان خطر ما يقع بعدها، فقد جاء في هذه الآية بثلاثة مؤكدات هي النداء، وأن، وضمير القصة.
وبعدها ذكر الله سبحانه وتعالى الوصية الرابعة بعد التوحيد وطاعة الوالدين، وبيان علم الله تعالى، فقال: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾ [لقمان: 17]، بعد أن علَّم ابنه أصول العقيدة، وفي مقدمتها التوحيد لله وعدم الشرك به، انتقل إلى تعليمية أعظم الأعمال الصالحة البدنية، وبدأها بالصلاة فهي عمود الإسلام، والفرق بين الكفر والإيمان يقول عليه الصلاة والسلام: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر....)، والصلاة هي الصلة بين العبد وربه، فيها يناجي ربه، وتستريح نفسه، ويطمئن قلبه (أرحنا بها يا بلال...)، وأعاد أيضًا تَكرار النداء في هذه الوصية، ليشد انتباه ابنه وينشط سمعه لما سيأتي بعدها، ثم أمره بإقامة الصلاة، ولم يقل يأمره بأداء الصلاة، بل أقم الصلاة، وإقامة الصلاة يكون بأدائها كاملة بشروطها وأركانها وواجباتها، والمواظبة عليها بوقتها وبخشوعها؛ كما أمرنا ربُّنا: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]؛ حيث ربط ربنا سبحانه الفلاح بالخشوع في الصلاة، فقال: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 1، 2]، ثم انتقل لقمان للوصية الخامسة التي بيَّنها لابنه في حواره معه؛ قال تعالى على لسان لقمان: ﴿ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [لقمان: 17]، ثم أمره أن يأمر الناس بالطاعات، ويحضُّهم على الخير، ويدعو إليه بالقول والفعل، فإنه من الطاعات العظيمة التي تحتاج إلى عزم وصبر، وأيضًا أمره أن ينهي الناس عن المعاصي والسيئات بقوله وفعله، فمن النصح للناس منعهم عن الشر وتثبيطهم عن ارتكابه، وهما من العبادات التي تنال بهما الأمة رِفعتها بين الأمم؛ قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]، وذمَّ الله تعالى بني إسرائيل بقوله: ﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 79].
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد فيهما من العلم؛ حتى لا يأمر عن جهل أو ينهى أيضًا عن خير جاهل به، وأيضًا من مقومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الرأفة والرحمة بالناس، والرفق بهم غاية الرفق؛ حتى لا يكون صلفًا فلا يقبل منه الناس، وهذا الذي يطبِّقه لقمان في هذه الوصايا مع ابنه؛ حيث يظهر تودُّده وحبه لابنه وهو يعظه ويوصيه.
ولَمَّا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأمور التي فيها مخالطة للناس، كان لا بد أن يأتي بالوصية السادسة بعدها، وهي قوله تعالى على لسان لقمان لابنه: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17]، فالذي يأمر الناس وينهاهم لا بد أن يقع منهم عليه أذى وصدود وتضجُّر مِن فعله، فأمره بالصبر واحتمال الأذى في ذلك، وبيَّن له أن الصبر على الأذى من عزائم أهل الإيمان وصفاتهم، وأنه من مكارم الأخلاق وأحاسنه، وهو أعظم أجر من الذين لا يصبرون على أذى الناس؛ قال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من الذي لا يخالطهم، ولا يصبر على أذاهم..).
ثم انتقل في الحوار مع ابنه إلى الآداب في التعامل مع الناس، فقال في وصيته السادسة: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ﴾ [لقمان: 18].
نهى لقمان ابنه عن الميل بوجهه عن الناس احتقارًا لهم، والتفاخر عليهم بأي صورة من صور الاحتقار، سواء كان بالقول أو الفعل، أو الإشارة، وأن يعامل الناس سواسية كأنه واحد منهم، أو فرد في جماعتهم، فعن عبدِاللَّهِ بن مسعُودٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لا يَدْخُل الجَنَّةَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مَنْ كِبرٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُه حَسَنًا، ونعلهُ حَسَنَةً؟ قَالَ: إِنَّ اللَّه جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبْرُ: بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ.
والوصية السابعة هي قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]، وينهاه عن المشي بين الناس بطرًا مختالًا، معجبًا بنفسه، بل لا بد أن يكون متواضعًا لهم، مساويًا لمشيتهم، ثم علَّل ذلك النهي والتساؤل الذي قد يقع في ذهنه وهو قوله: لماذا نهيتني عن المشي فرحًا، فقال: إن الله لا يحب كل مختال متبختر فخور، بل يبغضه ويَقليه، وقد ذكر لنا ربُّنا قصة قارون كيف خرج على الناس في زينته، متفاخرًا مبتهجًا متكبرًا بما يملِكه من الذهب والفضة والأموال، فكيف كانت عاقبته، وما هو مصيره، خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها؛ قال تعالى عنه: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ﴾ [القصص: 79 - 81].
وجاءت الوصية الثامنة بشقَّيها وهي قول لقمان لابنه: ﴿ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 19]، أمر لقمان ابنه أن يمشي مشية سوية، ليس فيها كبر أو بطر أو تفاخر، وأمره أيضًا أن يخفض من صوته، وألا يرفع صوته عند الحديث مع الناس، فإن أقبح الأصوات ما كان مرتفعًا لغير حاجة، وقد شبَّهه بصوت الحمار المرتفع لشدته وتأثيره في نفس الإنسان، فالاعتدال في الصوت أمر ينبغي أن يتحلى به المؤمن حتى في الصلاة وفي التعبد، يقول الحق سبحانه: ﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 110].
وقوله: (من صوتك..) فيه التبعيض، فليس كل صوت عالٍ مبغوض مذموم، فقد يحتاج الناس إلى رفع الصوت بأمر بمعروف أو نهي عن منكر، فلا بأس به، وخفضُ الصوت بحيث لا يُسمع ليس محمودًا أيضًا، فالإنسان يقدِّر الأمر، وينظر إلى أيهما أصلح، والاعتدال في كل الحالات مطلوب مرغوب، وهو من سمات هذه الأمة المباركة: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143].
فهذه وصايا جاءت في سورة لقمان ذكرها ربُّنا لما فيها من آداب تربوية، وفوائد علمية جمة، وذكر حوار لقمان مع ابنه ليكون الحوار بين الأبناء والآباء منهج ثابت لا يحيدون عنه، وركن أساس من أركان الأسرة الصالحة السعيدة، ولينبِّهنا ربنا أن العقائد والأعمال الصالحة والآداب العالية، لا تنبت هكذا في القلوب فجأة، وإنما تُبنى بالحوار والنقاش الجاد بين الأبناء والآباء في جو يملؤه الحب، ويحوطه الرفق، فهذا صلى الله عليه وسلم كان كثير من حياته حوار وإقناع، فهذا شاب جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا؟! فقام الصحابة عليه، فأشار إليهم النبي عليه الصلاة والسلام أن دعوه، ثم حاوره وناقَشه هل ترضاه لأمك، هل ترضاه لأختك، والشاب يُجيب: لا، فقال له: والناس لا يرضونه لأهليهم. فأقنعه بالحوار البنَّاء والنقاش المثمر، حتى أصبح الزنا من أبغض الأمور إليه، وكذلك الأعرابي الذي بال في المسجد كيف تعامل معه النبي عليه الصلاة والسلام، وحاوره محاوره الأب المشفق الناصح، وكيف كانت ردة فعله بعدها.
هذا ونسأل الله أن يعلِّمنا ما جهِلنا، ويفتح علينا ما استُغلق على أفهامنا.
محمد على الخلاقي
تعليق