الخوف وآثاره التربوية
خافي على ابنك ينصلِحْ وينصَعْ:
الخوفُ على الأبناء مِن الوسائل المُهمَّة التي تؤدي إلى صلاحِهم، والخَوف ضروري لبِناء شخصية سوية، ولحِماية الطفل من الأخطار، وأَقصِد الخوف الطبيعي المعقول: أخافُ على ابني من المَزالِقِ فأسلُك سبُلَ الوقاية، وأدلُّه على الخير، وأُبعِده عن مواطن الشبُهات والزلل والخطر، وأُبعِده عن رفقاء السوء وعمَّن يُزيِّن له المعاصي، وأُعلِّمه كيف يَحمي نفسه.
ويَنبغي المُحافَظة على خمسة أشياء، ومُراعاتها والخوف من عدمها؛ ليُصبِح الأبناء رجالاً صالِحين، وهي المُسمَّاة في الشرع: "الضرورات الخمس".
القواعد الأساسية الواجب مُراعاتها في التربية:
1- خافي على دين ابنك أن يهتزَّ أو يَضعُفَ أو يَفتر؛ لأنَّ الدِّين أهم مُقوِّمات الصلاح، تَفقَّدي إيمانه ومعتقداته وصلاته وصيامه، وقوِّمي أخلاقه ومعاملاته، ولأن الدِّين لا ينفكُّ أبدًا عن الخلق ولا ينفصل عن الأعمال الدنيوية اربطي الدِّين بالحياة في كل توجيه، فينشأ الولد على طاعة الله، ويُصبِح سلوكه مُرضيًا ومتَّزنًا وراشِدًا.
والدِّين يُربَط بالحياة على طول اليوم، وفي كل اللحظات المناسِبة، فاغتنمي أية فرصة لتثبيت العقيدة والأخلاق الإسلامية والقيَمِ في أعماق ابنِك، وإليك الطريقة:
كلَّما صادفتْكِ مواقف أو مُشكِلات حلِّيها كما جاء في الشرع، مثلاً: إذا قام ابنُكِ من مجلسه ليشربَ ثم عاد فوجَد أخاه جالسًا مكانه، وحدثت بينهما مشادَّة واختصما إليك، فاحكمي بينهما بالشرع؛ (وشرعُنا فيه كل شيء)، والمكان للأول منهما، وجاء في الحديث أنه من قام لحاجة فهو أولى بالمكان الذي تركه، وهذه الطريقة في المعالجة تربِط الدِّين بالحياة، وتَجعل الإسلام هو الفيصَل في أي مُشكِلة، وهو الدستور السائد في البيت وفي كل مكان.
ومن أجل تحقيق ذلك، اقرَئي كثيرًا في كتب الحديث وفي التفاسير، واستَوعِبي الأحكام، أو اقرَئي في كتب الآداب النبوية، والأخلاق، وشخصيَّة المُسلِم، ثمَّ انقُليها لأطفالِك، كلٌّ في مناسبتِه ووقته الدقيق، وبطريقة غاية في اللُّطف، مثلاً: إذا سمعتِ ابنكِ يَشتُم فانهَريه على الفور، وأَخبِريه أنَّ الشتمَ مِن شيَمِ اللِّئامِ، والكريم لا يَشتمُ، والمؤمِن ليس بطعَّانٍ ولا لعَّانٍ ولا فاحِشٍ ولا بَذيء، هذه الكلمات القليلة - في مُناسَبتِها - تكفي لردعِ أي سلوك لو استمرَّت الأم عليها، ولكن إذا استمرَّ الطفلُ بالسبِّ، وجَبَ علينا معاملته بشدة، فاضرِبيه على شفتِه ضربةً خَفيفةً، وإذا استمرَّ ضعي القليل من الفلفل في فمه، أشعِريه بأنه يفعل شيئًا مَشينًا لا يَليقُ بالمسلم ولا بالإنسان الواعي المثقَّف المُحترَم، وكوني جادةً في تقويمه، ومع الأيام يُصبِح خلقُه القرآن، ويصبح الدِّين مرجعه الرئيسي.
اختاري مُقرِئًا مميَّزًا في أدائه وضبطه واسمَعي أشرطته المسجَّلة في حضور ابنك؛ ليتعوَّد سَماع القرآن، وليحفظ الآيات ويُتقِن تلاوتَها مجوَّدةً، واحكي له قصص الأنبياء، حتى إذا كبِر وفهِم فسِّري له سورًا كاملة، أو اختاري الآيات الشائقة منها؛ مثل الكهف، والأنبياء، والأحزاب؛ إذ فيها قصص حلوة، وفيها عِظات مُهمَّة، فتَسوقين العِظَة مع القصة، فتَرسُخ العقيدة في أذهان الأبناء.
وتَخوَّلي أبناءك بالموعظة؛ أي: كلما وجدتِ الوقت مناسبًا ألقي كلمتك وامشي، وإذا وجدت غلطًا أو مُخالفةً عالِجي الموضوع فورًا، ولا تُكثِري من قولك: "حرام، سيحرِقك اللهُ بالنار، افعل ذلك لتحظى بالجنة"؛ فالصغار يَملُّون، ويُحبُّون المنافع العاجلة، والجنة مؤجَّلة وفي عالم الغَيبِ، وهذا شيء صعب الفهم على الصغار؛ ولذا استَعملي مع هذا الأسلوب أسلوبًا آخَر:
اربطي توجيهاتك بالذوق والأصول، واهتمِّي بالقيَم التي تؤمِن بها كل الشرائع وكل الشعوب الراقية، والتي تُوافِق الأعراف المحترمة، وهذا ما فعله الرسول، انظُري كيف شرَح الوضوء للصحابة: ((لو أن نهرًا بباب أحدِكم يغتسل منه كل يوم، هل يبقى مِن دَرَنِه شيء؟))، تحدَّثَ عن العبادة بمثال دُنيويٍّ بحتٍ، ولاحِظي كيف أقنعَ الرجلَ بترك الزنا: ((أترضاه لأمك؟ أترضاه لأختك؟...))، أقنعَه عن طريق القيم التي يُحبُّها كل أصيل، ويَأباها كلُّ لئيم، ولم يقل: حرام، وستَذهب للنار، وإياك إياك، وسيَحبط عملُك كله... فافعلي مثله في توجيهاتك لأبنائك ينقادوا لك.
وهناك قيَمٌ كثيرة يَنبغي علينا زرعها في أبنائنا، مثل: "العدل، الصدق، التقوى، الاستقامة، الرحمة..."، وأعطيك مثالاً لزرع "الرحمة": إذا رأيتِ ابنكِ يؤذي حيوانًا، فأسرعي واستخلصي الحيوان من بين يدَيهِ، وامسَحي عليه برفق، وافحصيه باهتمام، وأَبْدِي أسفكِ؛ لأنه تعرَّض للإيذاء، واستغفِري اللهَ بصَوتٍ مَسموعٍ، ثم التَفِتي إلى ابنك برفقٍ واسأليه: "لمَ فعلتَ ذلك؟ هل آذاك؟"، ثم بادِري إلى إيقاظ ضميره على مدى الأيام التالية، فاحكي له (قصصًا ومعلومات حقيقية) عن الحيوانات كيف تَشعُر وتتألَّم، وكيف أمرَنا الله بالإحسان إليها في قتلِها ولو كانت مؤذية، فكيف نؤذيها وهي أليفة؟! والإيذاء - بلا سبب - يُغضِب الله، واللهُ خلَقَ بعض الحيوانات زينة، ولتُخلِّصنا من الحشرات المؤذية، ولنَستمتِعَ بشكلها وأصواتها، فهي مُفيدة وجميلة، أحضري له كتبًا عنها مزوَّدة بالصور الملوَّنة، وكلما رأيتِ حيوانًا أبدي إعجابك بحلاوة شكلِه وخفَّةِ حركته، واجعَليه يلمسُ بعضها، ويلعب معها، وسيَجِد متعةً في ذلك، وسيُحبُّ الحيوانات ويتوقَّف عن إيذائها.
وأنصحكِ أخيرًا بالاستمرار في التوجيه وتعديل السلوك والتنبيه إلى الأخطاء؛ فالصغار يُقدِّمون المتعة على الموعِظة، ويُعجِبهم تقليد سلوك الآخرين أكثر من الالتزام بما عَلِموه، وسيَعودون بالتالي إلى إيذاء الحيوانات، أو لأي سلوك مَشين، فذكِّريهم بالبرِّ والمرحمة كلما اقترَفوا ذنبًا، وإن الذكرى تنفَع المؤمنين، ولا تَنسيْ أطفالك من دعائك المستمر ليَستقيموا لك.
2- خافي على حياة ابنك:
أبدَيتُ قلقي على ولدي ذي الخمسة عشر عامًا وأنا أُراقبه وهو يَعبُر شارعًا رئيسيًّا مزدحمًا تسير فيه السيارات بسرعة، وتمتَمتُ: "حَماك الله يا بُني"، سمعتني صديقتي فوجدتْها فرصة لتقدم إلي النصيحة فقالت: "إلى متى سوف تَستمرِّين في القلق عليه؟ دعيه ولا تسألي عنه ينصلح ويتعلم ويُصبح رجلاً"!
وكان قولُها فرصة لي أنا الأخرى لأُعبِّر عن استيائي من إهمال الأمَّهات لأولادهنَّ الذُّكور، أملاً بأن يَصنع التسيُّب منهم رجالاً، فأجبتُها: "ألا يَقلقون على الرجالِ؟ ألا يتعرَّض الرجال للحوادث كسائر الناس (من العجزة والأطفال)؟!"، وأضفتُ بثِقة: "ولماذا تَستغرِبين منِّي - أنت بالذات - وقد دعسَت السيارات قريبَكِ الطبيب (قبل أيام) في طريق مُزدَحِمة كهذه؟ لقد دعستْه السيارات وهو رجل وأب لعدة أطفال - أي: كبير مُدرِك - ودعسَتْه وهو "دكتور في الجراحة" ويَعرِف كم تُزهِق حوادث السيارات من الأَرواحِ، فكيف لا أخاف على ولدي الفتيِّ؟".
دهشتُ لما هزَّت صديقتي رأسَها مُقتِنعة، فتابعتُ: "لو أنِّي أخاف على ولدي خوفًا غير طبيعي لحبستُه في المنزل ومنعته من الخروج إلا للضرورة أو بصحبة والده، ولكني أدرك أن ولدي أضحى بالغًا عاقلاً راشدًا، فأكتفي بالإشراف عليه، وأُحذِّره وأنبِّههُ للأخطار، وأُعلِّمه كيف يستعمل الأدوات والآلات، وكيف يَحمي نفسه، ثم أدعو له وأتوكَّل على الله، وكلَّما كبر خفَّفتُ من ملاحَظاتي حتى يأتيَ يوم يعتمِد فيه على نفسه بالكامل، ولا يكون منِّي إلا التذكرة إن سَها، والنصيحة إن أخطأَ".
ونصيحتي بأن تَخافي على حياةِ ابنكِ وتَحرِصي على سلامة حواسِّه وأطرافه من الآفات والعاهات والتشوُّهات، ففقد الأطراف يعني موتَها، والموت مُصابٌ كبير، وهو مؤلِم نفسيًّا ومُعطِّل عن الإنجاز، فاحرصي على حياة أطرافه، واحميه من الأخطار، وحذِّريه مما يُؤذيه؛ الوقوف على حوافِّ الشرفات، واللعب بالآلات الحادة (مثل المفكات)، وأيضًا الآلات الكهربائية التي تَفرُم وتقطَع، وكم من طفل فقد إصبعه أو أصيب في عينه جراء تقليده لوالدته، اجلسي معه وقطعي الفاكهة أمامه ليتعلَّم طرق الاستعمال الصحيحة للأدوات والآلات لكيلا يؤذي نفسه، فيتعلم كيف يُمسِك السكين ليُقشِّر البرتقالة، وكيف يَستعمِل الكبريت، ومتى يُدير مِفتاح الفرنِ لإيقاده، وعلِّميه كيف يقطع الشارع بأمان، وألا يفتح أبواب المركبات وهي تسير، ولا يلعب بالمقود.
إن السلامة والخِلقة الكاملة تُتيح للأبناء فرصًا أفضل في الحياة، وتُعينهم على العمل والتقوى، والناس يُخطئون الحسابات ويَشترون لأبنائهم السيارات الفارهة وهم حديثو عهدٍ بالقيادة، وإهمال الأبناء وتركهم ليَقودوا السيارات قبل أن يتمكَّنوا - أو قبلَ بُلغوهم الحُلُمَ والسنَّ القانونية - يشجِّع الطيش والجهل في شخصياتهم، ويؤدي إلى عواقبَ وخيمةٍ، وكم كَثُرت حوادث السيارات هذه الأيام، وكم كثرت العاهاتُ والوَفَياتُ من جرَّائها.
وأيضًا خافي عليه من السفر وحيدًا، وهذا من السُنَّة، والمحبَّذ أن يسافر الناس معًا في "ركبٍ"، والركب ثلاثة، ومكروه أن يسافر المرء وحدَه: ((الراكب شَيطان، والراكبان شَيطانان، والثلاثة ركب))، والناس يتركون أولادهم وحدهم على الطرقات السريعة يَتنقَّلون - بلا ضرورة - بين المدنِ أو بين الدول وعلى مسافات شاسِعة، ويَطول السفر لأيام، وأحيانًا يكون بلا هدف، فيتعرَّضون للمَخاطِرِ بسبب النُّعاس أو السرعة، فيؤذون أنفسهم، وقد يطمَعُ بهم مَن في قلبه مرض فيأخذ مالهم، أو يُسيء إليهم بأي شكل، فيَجرُّهم لما لا تُحمَد عُقباه، والمحافظة على سلامة نفسياتهم مُهمٌّ جدًّا، وما يتعرَّضون له من الانفعالات قد لا ينسونه أبدًا، ويبقى ملازمًا لهم يَضرُّهم ويُسيء إليهم طيلة حياتهم.
تعليق