]
لا نبعث هذه الرسالة إلى الأم العاملة التي أرقها شظف العيش وكثرة الحاجيات وبدقة 'الضروريات ', فاضطرت عن غير رغبة إلى الخروج للعمل, واختارت وظيفة تتناسب مع عفتها وأنوثتها, وكل ذلك لتقف جنباً لجنب مع زوجها المسكين الذي هو الآخر يبذل كل قطرة من عرقه في سبيل أن يبقى هذا البيت راسخاً لا يتزعزع, ولا يكون عيالهم عالة يسألون الناس.
لا نبعث بهذه الرسالة إلى هذه الأم الصادقة ..
ولكننا نبعثها إلى كل أم خرجت وتركت بيتها, وخلفت ورائها جبلاً يهتز لا يقيمه إلا هي, خرجت وتركت خلفها أطفالاً حيارى لا يرشد حيرتهم إلا هي, خرجت عن غير حاجة أو حتى ضرورة وتركت أطفالها عند أحد الأقارب أو الجيران, أو تركتهم يعانون الوحدة في البيت.
إنها رسالة عاجلة تبعثها لكل أم طبيبة تركت الطب من أجل أطفالها, فها هي الأم الفاضلة تحكي لنا قصتها ..
طبيبة تحكي قصتها فتقول ..
سافرت مع زوجي إلى إحدى دول الخليج حيث كانت الحياة بنا ضيقة, والمتطلبات كثيرة في بلدنا التي كنا نعيش فيها ولم نكن نستطيع أن نتكفل بها .. زوجي طبيب وأنا طبيبة, والطبيب جيد الأجرة كما تعرفون, ولهذا السبب وبالإضافة إلى أني لم أكن أحب أن أجلس فترات طويلة في البيت من الملل, ولم أكن أحب أيضاً أن أنخلع عن مهنتي التي درستها في الجامعة أعوام طويلة.
لهذه الأسباب جميعها عملت مع زوجي كطبيبة في نفس المستشفى التي كان يعمل بها, وكان مرتبي وحدي أربعة آلاف وخمسمائة ريال شهرياً, وكنت أدخر منه جزءاً كبيراً, هذا بالإضافة إلى مرتب زوجي الكبير, ولكني كان عندي ثلاثة أطفال في سن الطفولة, كلهم لم يدخلوا المدرسة الفارق بين كل واحد والآخر سنة واحدة.
في بداية الأمر كنت أتركهم في حضانة, أو بوضوح أكثر عند امرأة جارة لي كانت تستخدم بيتها كحضانة لأبناء المغتربات أمثالي الاتي كن يعملن في وظائف, فكنت أترك أطفالي عند هذه المرأة خلال فترة العمل, ولكي أصدقكم القول كان قلبي يتقطع خلال فترة العمل وكنت دائماً أفكر فيهم كيف حالهم, أم ماذا يفعلون, أم هل جرح منهم أحد, هل يبكي منهم أحد, خاصة وأن أصغرهم كان في الثانية والنصف من عمره.
وفي أحد الأيام رجعت مبكراً من العمل, ودخلت البيت ففوجئت بصاعقة, طفلي الصغير ذو السنتان والنصف يجلس على الدرج ويبكي ويصرخ بصوت مرتفع ولا يأبه به أحد, حملته إليّ وضممته إلى صدري وربت على ظهره, وهو يقول : أمي .. أمي ..
ومن هذه اللحظة قررت ألا أتركهم عند هذه المرأة القاسية التي لم تكن حفيظة عليهم, وأنا الآن أقول في نفسي بالتأكيد إن لم أكن أنا حفيظة عليهم فكيف تكون أم أخرى حفيظة, وإن قسا صدرى أنا فكيف يحن صدر أم أخرى, ولكني رغم ذلك كله لم أترك العمل, بل ظل الحال على ما كان عليه ولكني قررت أن أتركهم في البيت وحدهم بدلاً من أن أتركهم عند أحد لن يهتم بهم.
وبالفعل تركنا المنزل الذي كنا نقطن فيها وذهبنا إلى منزل آخر, وقررت أن أتركهم وحدهم فيه خلال فترة العمل, ولكن قبل أن أخرج وأغادر البيت قال لي طفلي كلمة, لا يزال صداها يتردد في مسامعي حتى الآن ولم يكن يفارقني أبداً طوال فترة العمل, قال لي طفلي الصغير ذي الثلاث سنوات ونصف: ' معقول يا أمي تذهبي إلى العمل وتتركينا وحدنا ؟؟ ' تعجبت من هذه الكلمة الاستنكارية من طفلي الصغير, وتأثرت بها جداً وخفق قلبي ودمعت عيني, ولكني بعد لم أقرر أن أترك العمل, فكنت أذهب إلى العمل وأترك أطفالي الصغار أغلق كل الأبواب إلا باب غرفتهم وباب الحمام وأترك لهم شيئاًَ من الماء مع شيء من المأكولات, وأترك البيت أنا وزوجي, وأغلق بابه خلفهم.
ولكن مع استمرار الوضع بهذه الصورة, كنت كل يوم أرجع من العمل لأجد مصيبة جديدة خيمت على البيت .. فتارة أجد أن أطفالي الصغار يستعملون الكبريت ويشعلون بعض القصاصات, وتارة أجدهم قد استغلوا الحمام للعب برش المياه, فأرجع من العمل وكل أولادي منغمسين في الماء, وتارة أجد جدران المنزل قد امتلأت بالقاذورات وبالتلوين, إضافة إلى ذلك كله أنني كان يراودني تنازع شديد طوال فترة العمل, وضيق شديد, وقلق أشد, وكنت أخشى أن أكون سبباً في فساد أبنائي أو ضياعهم أو إصابتهم بأي ضرر, كما أن كلمة طفلي عمر ظلت تتردد في مسامعي حيناً بعد حين وتفجعني في المنام .. ' يا أمي معقول تذهبي إلى العمل وتتركينا وحدنا ...''
وأخيراً أخذت القرار بأن أكون امرأة عاملة ولكن في بيتي, وأن أترك العمل وأترك الطب وأترك المهنة التي تعلمتها طوال عمري, وذلك بعد مرور عام كامل مر علي كالسنين الطويلة أخذت بعده القرار وتركت العمل ..
لامني الكثير من صديقاتي وقلن لي : ' طبيبة تترك عملها ... ؟؟ ' ولكني رغم ذلك أصررت وما ذاك إلا لأني آثرت أن أقوم بدوري الأول الذي خلقني الله من أجله خاصة ولم أكن أحتاج بالضرورة إلى العمل فمرتب زوجي كان يكفي ويزيد, وبالفعل, فعلت وأنا اليوم عمري جاوز الخمسين سنة وأبنائي خمسة أربعة أولاد وبنت واحدة, من حيث التعليم كلهم بفضل الله جامعيين منهم المهندس والمحاسب والمدرس, وبفضل الله كلهم يحافظون على الصلاة بل اثنان من أبنائي أصبح كل واحد منهما إمام لأحد المساجد وحفظا القرآن وهما الآن يعلمان الناس في المساجد ويخطبان الجمع.
وما كتبت هذه الرسالة في هذه العجالة لكي أيتها الأم العاملة إلا لتسلكي دربي وتقتفي أثري فالله أسأل الإخلاص في القول والعمل
منقووووووووووول
[/SIZE]
تعليق