والدتنا تحــــاصرنا.
شذرات من قلم الدكتور:محمد رشيد العويد بعنوان
والدتنا تحاصرنا
والدتنا امراة متدينة ، ولله الحمد ، ملتزمة بالصلاة والصيام وبكل ما يأمرها به إسلامها ، لكنها تغالي كثيراً في ذلك .
وهي ، في الوقت نفسه ، تشدد علينا ، كما تشدد على نفسها ؛ فتأمرنا بالصلوات النوافل جمعيها ، وتمنعنا من الخروج من البيت خوفاً علينا
من كل شيء : من رفاق السوء ، من السيارات المسرعة ، من المجرمين الذين يخطفون ؛ مما جعلنا نشعر كأننا في سجن كبير اسمه البيت .
مع العلم بأن والدي يعيش بعيداً عنا لظروف خاصة .
ثم هي تتدخل في كل شأن من شؤون حياتنا ، وتشك في أي شيء ، وترتاب في أي كتاب نقرؤه ، وهمسة نهمسها ، ومكالمة هاتفية يتحدث فيها أحدنا .
ولقد دفع هذا الحال أخانا الكبير إلى ترك البيت والعيش في بيت مستقل ، هرباً من وصاية أمنا عليه ، وتدخلها في جميع شؤونه ، ورقابتها الشديدة على جميع حركاته وسكناته .
والدتي تقرأ مجلة (( النور )) وأخبرناها أننا سنكتب إليكم محتكمين لرأيكم في ذلك ، فنرجو أن توجهوا خطابكم مباشرة إليها ، وجزاكم الله خيراً .
أبناء الأم التي نحبها وتحبنا
أيتها الأم الفاضلة :
لا شك في أن شدتك التي شكا منها أبناؤك نابعة من حبك لهم ، وحرصك عليهم ، ورغبتك في ألا يمسهم أي سوء ، وألا يصيبهم أي مكروه .
أنا مطمئن إلى نيتك في أن يصبح أبناؤك كما يرضى لهم الله تعالى ، ملتزمين أوامر دينهم ، مقتفين سنّة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، يتمسكون بكل فضيلة ، ويتجنبون كل رذيلة .
ولعل عيش والدهم بعيداً عنهم ، جعل مسؤولياتك مضاعفة ، فأنت تحملين مسؤوليات الأب ومسؤوليات الأم معاً ، وهذا بدوره جعلك أكثر حرصاً ، وأكثر تشدداً ، وأكثر متابعة ومراقبة .
ولا يمكن لأي إنسان منصف إلا أن يقدّر هذا فيك ، ويحمده منك ، ويشكرك عليه ، وبخاصة أن أمهات كثيرات هذه الأيام ينصرفن إلى اهتمامات أخرى على حساب اهتمامهن بأبنائهن ، مثل اهتمامهن بالزيارات والسهرات ، أو الأسواق والأسفار ، وغير هذه وتلك .
وإني لأرجو أن تكون تربيتك لأولادك من العمل الصالح الذي لا ينقطع أجره – إن شاء الله – بعد الوفاة ، مصداقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ) .
ولكن ، مع هذا كله ، أرجو أن تسمحي لي بأن أدعوك إلى أن تتذكري أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان رفيقاً في دعوته ، يأمر الصحابة أن يرفقوا بالناس ، حتى في العبادات ، فحين أطال معاذ رضي الله عنه في صلاته ، وهمّ أحد المصلين خلفه بالانسحاب وترك الصلاة ، وبلغ هذا النبي صلى الله عليه وسلم ، خاطب معاذاً بقوله : ( أفتّان أنت يا معاذ ) ؟!
وكذلك إذا وجدت الأم أنها بموعظتها أولادها تنفّرهم ، أو تضايقهم بتكرارها ، فإن عليها أن تنظر وتتدبر ، وتختار الوقت المناسب ، والظرف المناسب ، حتى تدخل موعظتها قلوبهم .
عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال : ( كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكّرنا في كل خميس ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن ، لوددتُ لو أنك ذكرتنا كل يوم ، فقال : أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكم " من الملل " وإني أتخولكم بالموعظة ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا مخافة السآمة علينا ) حديث صحيح متفق عليه .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( إن الدين يُسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ) رواه البخاري .
ومعنى الحديث : استعينوا على طاعة الله عز وجل بالأعمال في وقت نشاطكم ، وفراغ قلوبكم ، بحيث تستلذون العبادة ولا تسأمون ، وتبلغون مقصودكم ، كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات ، ويستريح هو ودابته في غيرها ؛ فيصل إلى الغاية بغير تعب .
وعن ابن مسعود رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( هلك المتنطعون ) قالها ثلاثاً . رواه مسلم
والمتنطعون : المتشددون في غير موضع التشديد .
وعنه صلى الله عليه وسلم قال : ( روّحوا قلوبكم ساعة فساعة )
رواه أبو داود .
وهكذا ، أختنا الفاضلة ، فإنك تجدين أن الإسلام دين يسر لا عسر ، وتبشير لا تنفير ؛
ومن ثم فإني أقترح عليك ما يلي :
1 ـ ازرعي في نفسك الثقة بأولادك ، وأحسني الظن بهم دائماً ، واجعلي هذه الثقة تظهر في تصرفاتك معهم ، وحسن الظن أساس علاقتك بهم .
وهذا يعني ألا تقفي منهم دائماً موقف الاتهام ، والشك ، والريبة .
2 ـ إذا صارحوك بتقصيرهم فلا تعنّفيهم ، ولا تصرخي فيهم ، ولا تلوميهم .. لأنك إذا فعلت ذلك فإنك ستدفعينهم إلى عدم مصارحتك بعد ذلك وإخفاء كل شيء عنك .
3 ـ لا تأمرينهم بالنوافل ، ولا ترغميهم عليها ، لأنه سيأتي اليوم الذي يسعون فيه إلى هذه النوافل ، ويسألون عنها ، ويحرصون عليها إن شاء الله .
4 ـ غًضّي الطرف عن كثير من أخطائهم إذا علمت أنهم نادمون عليها ، وتجاهلي بعض عثراتهم إذا لم يقصدوا إليها ، ولا تكثري اللوم حتى لا يضيقوا بك وبما توجهينهم إليه ..
5 ـ لا تكوني مثل السيف المصلت فوق رقابهم ، تكتمين أنفاسهم ، وتحصين حركاتهم وسكناتهم ، فيكرهون وجودك معهم ، ويحبون ابتعادهم عنك وابتعادك عنهم .
6 ـ لا تستعجلي نضجهم ومغادرتهم مرحلة الطفولة .. دعيهم يلعبوا ، ويفرحوا ، ويمزحوا ... لأن من أسباب نمو الشخصية السوية .. اكتمال مرحلة الطفولة وعيشها في هناءة وسعادة .
وفقك الله إلى تربية أولادك أفضل تربية ، وسددك في وسائلها وأساليبها ، وحقق أمانيك في أبناء يرضي الله عنهم ، وتقرّ بهم العين
المصدر1:صيد الفوائد.
تعليق