الأقصى يا مسلمون 10 / 4 / 1431
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُم لِلَّذِينَ أَحسَنُوا في هَذِهِ الدُّنيَا حَسَنَةٌ وَأَرضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّهُ مَعَ مُرُورِ الأُمَّةِ الإِسلامِيَّةِ بِمَرَاحِلَ مِنَ الضَّعفِ وَالهَوَانِ ، فَإِنَّهَا لم تَمُرَّ بِمَرحَلَةٍ كَمَا هِيَ عليهِ اليَومَ ؛ إِذ سَامَهَا الذُّلَّ مَن ضُرِبَت عَلَيهِمُ الذِّلَّةُ وَالمَسكَنَةُ ، شِرذِمَةٌ مِنَ اليَهُودِ المُغتَصِبِينَ ، تَحُوطُهُم عُصَابَاتٌ مِنَ النَّصَارَى الحَاقِدِينَ ، بِتَعَاوُنٍ مِنَ أَصحَابِ المَصالِحِ الخَاصَّةِ وَالمُنَافِقِينَ ، يَدُوسُونَ الحِمَى وَيُدَنِّسُونَهُ في حِينِ غَفلَةٍ مِنَ المُسلِمِينَ ، وَيُبَالِغُونَ في إِهَانَةِ المُقَدَّسَاتِ في زَمَنِ تَفرِيطٍ مِنهُم في الدِّينِ ، وَمَا تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ الغَضَبِيَّةُ مُنذُ أَكثَرَ مِن سِتِّينَ عَامًا ، تُؤذِي عِبَادَ اللهِ وَتَعبَثُ في مَسرَى رَسُولِ اللهِ ، وَتَعمَلُ عَلَى تَعمِيقِ الحَفرِيَّاتِ حَولَ المَسجِدِ الأَقصَى المُبَارَكِ لِهَدمِهِ ، مُنطَلِقَةً مِن نُبُوءَةٍ تَسعَى لِتَحقِيقِهَا بِهَدمِ المَسجِدِ وَبِنَاءِ هَيكَلِهَا المَزعُومِ مَكَانَهُ ، لإِقَامَةِ مَملَكَةِ دَاوُودَ الكُبرَى مِنَ النِّيلِ إِلى الفُرَاتِ .
وَإِنَّهُ وَإِن عَزَّ السَّبِيلُ إِلى تِلكَ الدِّيَارِ المُقَدَّسَةِ ، وَحِيلَ بَينَنَا وَبَينَ الذَّودِ عَن حِمَاهَا لأَمرٍ قَضَاهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ وَلِحِكَمٍ يَعلَمُهَا العَلِيمُ الخَبِيرُ ، فَإِنَّهُ لا يَفُوتُنَا أَن نُبَيِّنَ مَا لِلمَسجِدِ الأَقصَى مِن مَكَانَةٍ عَظِيمَةٍ ؛ إِذْ هُوَ الأَرضُ الَّتي بَارَكَ اللهُ ـ تَعَالى ـ فِيهَا وَفِيمَا جَاوَرَهَا ، وَجَعَلَهُ أَوَّلَ مَسجِدٍ بُنيَ لَهُ في الأَرضِ بَعدَ المَسجِدِ الحَرَامِ ، وَأَسرَى بِعَبدِهِ إِلَيهِ وَأَكرَمَهُ بإِمَامَةِ الأَنبِيَاءِ فِيهِ ، وَكَانَتِ القِبلَةُ إِلَيهِ في الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ وَفي أَوَّلِ الإِسلامِ ، وَشَرَعَ ـ سُبحَانَهُ ـ شَدَّ الرِّحَالِ إِلَيهِ لِلعِبَادَةِ ، وَضَاعَفَ أَجرَ الصَّلاةِ فِيهِ عَلَى الصَّلاةِ في غَيرِهِ إِلاَّ الحَرَمَينِ المَكِّيِّ وَالمَدَنيِّ ، كَمَا جَعَلَ الصَّلاةَ فِيهِ سَبَبًا لِتَكفِيرِ الذُّنُوبِ ، وَقَدَّرَ أَن يَؤُوبَ إِلَيهِ أَهلُ الإِيمَانِ في آخِرِ الزَّمَانِ ، وَأَن تَكُونَ المَلاحِمُ عَلَى أَرضِهِ وَيَعُودَ إِلَيهِ الخَلقُ وَمِنهُ يُحشَرُونَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ عَن إِبرَاهِيمَ : " وَنَجَّينَاهُ وَلُوطًا إِلى الأَرضِ الَّتي بَارَكنَا فِيهَا لِلعَالَمِينَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَلِسُلَيمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجرِي بِأَمرِهِ إِلى الأَرضِ الَّتي بَارَكنَا فِيهَا " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ عَن مُوسَى ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ : " يَا قَومِ ادخُلُوا الأَرضَ المُقَدَّسَةَ الَّتي كَتَبَ اللهُ لَكُم " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " سُبحَانَ الَّذِي أَسرَى بِعَبدِهِ لَيلاً مِنَ المَسجِدِ الحَرَامِ إِلى المَسجِدِ الأَقصَى الَّذِي بَارَكنَا حَولَهُ لِنُرِيَهُ مِن آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ " وَعَن زَيدِ بنِ ثَابِتٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " طُوبى لِلشَّامِ " قُلنَا : لأَيٍّ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " لأَنَّ مَلائِكَةَ الرَّحمَنِ بَاسِطَةٌ أَجنِحَتَهَا عَلَيهَا " رَوَاهُ أَحمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ ، وَعَن أَبي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيُّ مَسجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ ؟ قَالَ : " المَسجِدُ الحَرَامُ " قُلتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : " ثُمَّ المَسجِدُ الأَقصَى " قُلتُ : كَم كَانَ بَينَهُمَا ؟ قَالَ : " أَربَعُونَ " ثُمَّ قَالَ : " حَيثُمَا أَدرَكَتكَ الصَّلاةُ فَصَلِّ وَالأَرضُ لَكَ مَسجِدٌ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ ، وَعَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ المَدِينَةَ صَلَّى نَحوَ بَيتِ المَقدِسِ سِتَّةَ أَو سَبعَةَ عَشَرَ شَهرًا ... الحَدِيثَ ، رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ : مَسجِدُ الحَرَامِ وَالمَسجِدُ الأَقصَى وَمَسجِدِي هَذَا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : وَفي هَذَا الحَدِيثِ فَضِيلَةُ هَذِهِ المَسَاجِدِ وَمَزِيَّتُهَا عَلَى غَيرِهَا ؛ لَكُونِهَا مَسَاجِدَ الأَنبِيَاءِ ، وَلأَنَّ الأَوَّلَ قِبلَةٌ لِلنَّاسِ وَإِلَيهِ حَجُّهُم ، وَالثَّاني كَانَ قِبلَةَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ ، وَالثَّالِثُ أُسِّسَ عَلَى التَّقوَى .
وَعِندَ أَحمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابنِ مَاجَه وَغَيرِهِم أَنَّهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ قَالَ : " إِنَّ سُلَيمَانَ بنَ دَاوُدَ لَمَّا بَنى بَيتَ المَقدِسِ سَأَلَ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ خِلالاً ثَلاثَةً : سَأَلَ اللهَ حُكمًا يُصَادِفُ حُكمَهُ فَأُوتِيَهُ ، وَسَأَلَ اللهَ مُلكًا لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِن بَعدِهِ فَأُوتِيَهُ ، وَسَأَلَ اللهَ حِينَ فَرَغَ مِن بِنَاءِ المَسجِدِ أَن لا يَأتِيهِ أَحدٌ لا يُنهِزُهُ إِلاَّ الصَّلاةُ فِيهِ أَن يُخرِجَهُ مِن خَطِيئَتِهِ كَيَومَ وَلَدَتهُ أُمُّهُ ، أَمَّا اثنَتَانِ فَقَد أُعطِيَهُمَا ، وَأَرجُو أَن يَكُونَ قَد أُعطِيَ الثَّالِثَةَ " وَعَن أَبي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عَنِ الصَّلاةِ في بَيتِ المَقدِسِ أَفضَلُ أَو في مَسجِدِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ ؟ فَقَالَ : " صَلاةٌ في مَسجِدِي هَذَا أَفضَلُ مِن أَربَعِ صَلَوَاتٍ فِيهِ ، وَلَنِعمَ المُصَلَّى هُوَ ، أَرضُ المَحشَرِ وَالمَنشَرِ ، وَلَيَأتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ وَلَقِيدُ سَوطِ أَو قَالَ قَوسِ الرَّجُلِ حَيثُ يَرَى مِنهُ بَيتَ المَقدِسِ خَيرٌ لَهُ أَو أَحَبُّ إِلَيهِ مِنَ الدُّنيَا جَمِيعًا " وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَن عَبدِاللهِ بنِ حَوَالَةَ الأَزدِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " يَا بنَ حَوَالَةَ ، إِذَا رَأَيتَ الخِلافَةَ قَد نَزَلَت أَرضَ المُقَدَّسَةَ فَقَد دَنَتِ الزَّلازِلُ وَالبَلابِلُ وَالأُمُورُ العِظَامُ ، وَالسَّاعَةُ يَومَئِذٍ أَقرَبُ مِنَ النَّاسِ مِن يَدِي هَذِهِ مِن رَأسِكَ "
ذَلِكُم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ شَيءٌ ممَّا فُضِّلَ بِهِ المَسجِدُ الأَقصَى وَخُصَّ بِهِ بَيتُ المَقدِسِ ، وَمَا زَالَ المُسلِمُونَ عَلَى مَرِّ عُصُورِهِم يَعُونَ ذَلِكَ جَيِّدًا وَتَنطَوِي عَلَيهِ صُدُورُهُم ، وَلَكِنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى بِمَكرِهِم وَدَهَائِهِم استَطَاعُوا عَبرَ الضَّخِّ الإِعلامِيِّ المُتَكَرِّرِ وَالمُرَاوَغَاتِ السِّيَاسِيَّةِ المُتَتَابِعَةِ أَن يُحَوِّلُوا قَضِيَّةَ احتِلالِ بَيتِ المَقدِسِ مِن قَضِيَّةٍ إِسلامِيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مُسلِمٍ عَلَى وَجهِ الأَرضِ ، إِلى قَضِيَّةٍ قَومِيَّةٍ تَنحَصِرُ في العَرَبِ ، ثم إِلى قَضِيَّةٍ إِقلِيمِيَّةٍ تَخُصُّ الشَّرقَ الأَوسَطَ ، ثم مَا زَالُوا حَتى حَصَرُوهَا في أَهلِ فِلِسطِينَ ، وَحَتى طَوَّعُوا الدُّوَلَ المُجَاوِرَةَ لِخِدمَةِ أَهدَافِهِم الاستِعمَارِيَّةِ ، وَالَّتي مَا فَتِئُوا يُظهِرُونَهَا وَيُطَبِّقُونَهَا يَومًا بَعدَ آخَرَ ، بِتَشدِيدِ الحِصَارِ وَالتَّفَنُّنِ في تَجوِيعِ أَهلِ الأَرضِ المُبَارَكَةِ ، وَقَتلِهِم صَبرًا وَغَدرًا ، وَحَشرِهِم بِالجُدُرِ العَازِلَةِ فَوقَ الأَرضِ وَالسِّيَاجَاتِ الفُولاذِيَّةِ تَحتَ الأَرضِ ، وَلَكِنَّ كُلَّ هَذَا التَّضيِيقِ عَلَى المُسلِمِينَ في الأَرضِ المُقَدَّسَةِ ، وَتَخَاذُلَ أَهلِ القَرَارِ وَصَمتَ مَن بِأَيدِيهِمُ الحَلُّ وَالعَقدُ ، لا يُعفِي الأُمَّةَ مِن وَاجِبِهَا تِجَاهَ مُقَدَّسَاتِهَا ، بَل إِنَّ الوَاجِبَ عَلَيهَا يَزدَادُ تَأَكُّدًا وَيَشتَدُّ تَعَيُّنًا ، عَلَى العُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ وَالكُتَّابِ وَالخَاصَّةِ وَالعَامَّةِ ، فَالعُلَمَاءُ وَالدُّعَاةُ عَلَيهِم إِبرَازُ فَضَائِلِ المَسجِدِ الأَقصَى ، وَتَكثِيفُ التَّوعِيَةِ وَالاجتِهَادُ لإِظهَارِ الحَقَائِقِ ، وَفَضحُ اليَهُودِ وَتَعرِيَةُ مَن يَقِفُ وَرَاءَهُم ، وَبَيَانُ حُكمِ مَن يُعِينُهُم عَلَى ظُلمِهِم أَو يُسَوِّغُ لهم إِجرَامَهُم ، وَإِحيَاءُ عَقِيدَةِ الوَلاءِ لِلمُؤمِنِينَ وَالبَرَاءَةِ مِنَ الكَافِرِينَ ، وَالكُتَّابُ عَلَيهِم نَشرُ تَارِيخِ الأُمَّةِ المَجِيدِ وَبَثُّهُ ، وَأَن يُجَاهِدُوا بِأَقلامِهِم وَيَفضَحُوا مُخَطَّطَاتِ الأَعدَاءِ ، وَأَن يُوَاجِهُوا أَقلامَ المُنَافِقِينَ الأَقزَامَ ، الَّتي تَعمَلُ عَلَى خِدَاعِ النَّاسِ وَتَزوِيرِ الحَقَائِقِ وَطَمسِهَا ، وَتَحسِينِ صُورَةِ الأَعدَاءِ وَتَزيِينِهَا ، وَتَشوِيهِ سُمعَةِ المُرَابِطِينَ في بَيتِ المَقدِسِ وَتَقبِيحِهَا ، وَأَمَّا جُمهُورُ المُسلِمِينَ فَوَاجِبُهُم إِحيَاءُ قَضِيَّةِ المَسجِدِ الأَقصَى في قُلُوبِهِم ، وَتَنَاوُلُهَا في مَجَالِسِهِم وَمُنتَدَيَاتِهِم ، وَاجِبٌ عَلَى الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ وَالمُعَلِّمِينَ وَالمُعَلِّمَاتِ أَن يَغرِسُوا في نُفُوسِ أَولادِهِم وَطُلاَّبِهِم فَضَلَ الأَقصَى وَمَحَبَّةَ مَن يُدَافِعُونَ عَنهُ ، وَبُغضَ مَن يَعتَدُونَ عَلَيهِ مِنَ اليَهُودِ وَمَن يُعِينُهُم عَلَى ذَلِكَ ، وَقَبلَ ذَلِكَ وَبَعدَهُ فَإِنَّ أَهَمَّ وَاجِبٍ على الجَمِيعِ هُوَ إِصلاحُ مَا بَينَهُم وَبَينَ اللهِ بِالتَّوبَةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيهِ بِالطَّاعَةِ ، حَتى تَتَغَيَّرَ حَالُهُم مِن ذُلٍّ إِلى عِزٍّ ، وَيَتَبَدَّلَ وَضعُهُم مِن ضَعفٍ إِلى قُوَّةٍ ، وَيُصبِحَ تَفَرُّقُهُم اجتِمَاعًا وَتَمَزُّقُهُم إِلفَةً وَاتِّحَادًا ، وَقَد قَالَ ـ تَعَالى ـ : " إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم " وَوَاجِبٌ لا يُعذَرُ أَحَدٌ بِتَركِهِ وَلا التَّقصِيرِ فِيهِ ، وَهُوَ الإِلحَاحُ في الدُّعَاءِ وَكَثرَةُ التَّضَرُّعِ إِلى المَولى أَن يَنصُرَ المُسلِمِينَ في القُدسِ عَلَى أَعدَائِهِم ، وَأَن يَحفَظَ المَسجِدَ الأَقصَى مِن ظُلمِ اليَهُودِ وَيُطَهِّرَهُ مِن رِجسِهِم ، وَأَن يَكفِيَ المُسلِمِينَ شَرَّ أَعوَانِهِم وَبَطشَهُم وَخِيَانَتَهُم . أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللهَ لا يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ . فَتَرَى الَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأتيَ بِالفَتحِ أَو أَمرٍ مِن عِندِهِ فَيُصبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا في أَنفُسِهِم نَادِمِينَ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ مِن أَكبَرِ المَصَائِبِ وَأَشَدِّ العَظَائِمِ وَأَشنَعِ الأَخطَاءِ ، مَا يَعِيشُهُ فِئَامٌ مِنَ المُسلِمِينَ اليَومَ مِن تَبَلُّدِ قُلُوبِهِم تِجَاهَ قَضَايَا الأُمَّةِ ، وَالنَّظرِ إِلَيهَا نَظرَةَ مَن لا يَعنِيهِ الأَمرُ شَيئًا ، مُتَأَثِّرِينَ في ذَلِكَ بِمَا يَطرُقُهُ أَقزَامُ الإِعلامِ وَيَعمَلُونَ عَلَى بَثِّهِ لَيلَ نَهَارَ ، مِن إِحيَاءِ الوَطَنِيَّاتِ المُفَرِّقَةِ ، وَحَشرِ الأُمَّةِ في جَحِيمِ الإِقلِيمِيَّاتِ الضَّيِّقَةِ ، وَإِمَاتَةِ الشُّعُورِ الإِسلامِيِّ بِوَحدَةِ الجَسَدِ وَالاشتِرَاكِ في القَضَايَا المَصِيرِيَّةِ ، وَهِيَ الإِمَاتَةُ المَقصُودَةُ تَمهِيدًا لِتَفرِيقِ الصُّفُوفِ وَإِضعَافِ القُوَّةِ ، وَالتَّمَكُّنِ مِن هَدمِ الأَقصَى بِسُهُولَةٍ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ طَرقَ قَضَايَا المُسلِمِينَ وَإِحيَاءَهَا في قُلُوبِهِم ، وَلا سِيَّمَا قَضِيَّةُ الأَقصَى وَبَيتِ المَقدِسِ ، إِنَّهُ لَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ حَسبَ استِطَاعَتِهِ ، وَللهِ الأَمرُ مِن قَبلُ وَمِن بَعدُ ، وَنَصرُ المُسلِمِينَ عَلَى اليَهُودِ مُتَحَقِّقٌ وَلا مَحَالَةَ ، وَظُهُورُهُم عَلَيهِم حَاصِلٌ وَإِن كَرِهَ الكَافِرُونَ ، وَحَدِيثُ محمدٍ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَاقِعٌ طَالَ الزَّمَانُ أَو قَصُرَ ، رَوَى مُسلِمٌ عَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ قَالَ : " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتى يُقَاتِلَ المُسلِمُونَ اليَهُودَ فَيَقتُلَهُم المُسلِمُونَ ، حَتى يَختَبِئَ اليَهُودِيُّ مِن وَرَاءِ الحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولَ الحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ : يَا مُسلِمُ ، يَا عَبدَاللهِ ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلفِي فَتَعَالَ فَاقتُلْهُ ، إِلاَّ الغَرقَدَ فَإِنَّهُ مِن شَجَرِ اليَهُودِ "
" ذَلِكَ وَلَو يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنهُم وَلَكِن لِيَبلُوَ بَعضَكُم بِبَعضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعمَالَهُم
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُم لِلَّذِينَ أَحسَنُوا في هَذِهِ الدُّنيَا حَسَنَةٌ وَأَرضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّهُ مَعَ مُرُورِ الأُمَّةِ الإِسلامِيَّةِ بِمَرَاحِلَ مِنَ الضَّعفِ وَالهَوَانِ ، فَإِنَّهَا لم تَمُرَّ بِمَرحَلَةٍ كَمَا هِيَ عليهِ اليَومَ ؛ إِذ سَامَهَا الذُّلَّ مَن ضُرِبَت عَلَيهِمُ الذِّلَّةُ وَالمَسكَنَةُ ، شِرذِمَةٌ مِنَ اليَهُودِ المُغتَصِبِينَ ، تَحُوطُهُم عُصَابَاتٌ مِنَ النَّصَارَى الحَاقِدِينَ ، بِتَعَاوُنٍ مِنَ أَصحَابِ المَصالِحِ الخَاصَّةِ وَالمُنَافِقِينَ ، يَدُوسُونَ الحِمَى وَيُدَنِّسُونَهُ في حِينِ غَفلَةٍ مِنَ المُسلِمِينَ ، وَيُبَالِغُونَ في إِهَانَةِ المُقَدَّسَاتِ في زَمَنِ تَفرِيطٍ مِنهُم في الدِّينِ ، وَمَا تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ الغَضَبِيَّةُ مُنذُ أَكثَرَ مِن سِتِّينَ عَامًا ، تُؤذِي عِبَادَ اللهِ وَتَعبَثُ في مَسرَى رَسُولِ اللهِ ، وَتَعمَلُ عَلَى تَعمِيقِ الحَفرِيَّاتِ حَولَ المَسجِدِ الأَقصَى المُبَارَكِ لِهَدمِهِ ، مُنطَلِقَةً مِن نُبُوءَةٍ تَسعَى لِتَحقِيقِهَا بِهَدمِ المَسجِدِ وَبِنَاءِ هَيكَلِهَا المَزعُومِ مَكَانَهُ ، لإِقَامَةِ مَملَكَةِ دَاوُودَ الكُبرَى مِنَ النِّيلِ إِلى الفُرَاتِ .
وَإِنَّهُ وَإِن عَزَّ السَّبِيلُ إِلى تِلكَ الدِّيَارِ المُقَدَّسَةِ ، وَحِيلَ بَينَنَا وَبَينَ الذَّودِ عَن حِمَاهَا لأَمرٍ قَضَاهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ وَلِحِكَمٍ يَعلَمُهَا العَلِيمُ الخَبِيرُ ، فَإِنَّهُ لا يَفُوتُنَا أَن نُبَيِّنَ مَا لِلمَسجِدِ الأَقصَى مِن مَكَانَةٍ عَظِيمَةٍ ؛ إِذْ هُوَ الأَرضُ الَّتي بَارَكَ اللهُ ـ تَعَالى ـ فِيهَا وَفِيمَا جَاوَرَهَا ، وَجَعَلَهُ أَوَّلَ مَسجِدٍ بُنيَ لَهُ في الأَرضِ بَعدَ المَسجِدِ الحَرَامِ ، وَأَسرَى بِعَبدِهِ إِلَيهِ وَأَكرَمَهُ بإِمَامَةِ الأَنبِيَاءِ فِيهِ ، وَكَانَتِ القِبلَةُ إِلَيهِ في الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ وَفي أَوَّلِ الإِسلامِ ، وَشَرَعَ ـ سُبحَانَهُ ـ شَدَّ الرِّحَالِ إِلَيهِ لِلعِبَادَةِ ، وَضَاعَفَ أَجرَ الصَّلاةِ فِيهِ عَلَى الصَّلاةِ في غَيرِهِ إِلاَّ الحَرَمَينِ المَكِّيِّ وَالمَدَنيِّ ، كَمَا جَعَلَ الصَّلاةَ فِيهِ سَبَبًا لِتَكفِيرِ الذُّنُوبِ ، وَقَدَّرَ أَن يَؤُوبَ إِلَيهِ أَهلُ الإِيمَانِ في آخِرِ الزَّمَانِ ، وَأَن تَكُونَ المَلاحِمُ عَلَى أَرضِهِ وَيَعُودَ إِلَيهِ الخَلقُ وَمِنهُ يُحشَرُونَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ عَن إِبرَاهِيمَ : " وَنَجَّينَاهُ وَلُوطًا إِلى الأَرضِ الَّتي بَارَكنَا فِيهَا لِلعَالَمِينَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَلِسُلَيمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجرِي بِأَمرِهِ إِلى الأَرضِ الَّتي بَارَكنَا فِيهَا " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ عَن مُوسَى ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ : " يَا قَومِ ادخُلُوا الأَرضَ المُقَدَّسَةَ الَّتي كَتَبَ اللهُ لَكُم " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " سُبحَانَ الَّذِي أَسرَى بِعَبدِهِ لَيلاً مِنَ المَسجِدِ الحَرَامِ إِلى المَسجِدِ الأَقصَى الَّذِي بَارَكنَا حَولَهُ لِنُرِيَهُ مِن آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ " وَعَن زَيدِ بنِ ثَابِتٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " طُوبى لِلشَّامِ " قُلنَا : لأَيٍّ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " لأَنَّ مَلائِكَةَ الرَّحمَنِ بَاسِطَةٌ أَجنِحَتَهَا عَلَيهَا " رَوَاهُ أَحمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ ، وَعَن أَبي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيُّ مَسجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ ؟ قَالَ : " المَسجِدُ الحَرَامُ " قُلتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : " ثُمَّ المَسجِدُ الأَقصَى " قُلتُ : كَم كَانَ بَينَهُمَا ؟ قَالَ : " أَربَعُونَ " ثُمَّ قَالَ : " حَيثُمَا أَدرَكَتكَ الصَّلاةُ فَصَلِّ وَالأَرضُ لَكَ مَسجِدٌ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ ، وَعَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ المَدِينَةَ صَلَّى نَحوَ بَيتِ المَقدِسِ سِتَّةَ أَو سَبعَةَ عَشَرَ شَهرًا ... الحَدِيثَ ، رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ : مَسجِدُ الحَرَامِ وَالمَسجِدُ الأَقصَى وَمَسجِدِي هَذَا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : وَفي هَذَا الحَدِيثِ فَضِيلَةُ هَذِهِ المَسَاجِدِ وَمَزِيَّتُهَا عَلَى غَيرِهَا ؛ لَكُونِهَا مَسَاجِدَ الأَنبِيَاءِ ، وَلأَنَّ الأَوَّلَ قِبلَةٌ لِلنَّاسِ وَإِلَيهِ حَجُّهُم ، وَالثَّاني كَانَ قِبلَةَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ ، وَالثَّالِثُ أُسِّسَ عَلَى التَّقوَى .
وَعِندَ أَحمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابنِ مَاجَه وَغَيرِهِم أَنَّهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ قَالَ : " إِنَّ سُلَيمَانَ بنَ دَاوُدَ لَمَّا بَنى بَيتَ المَقدِسِ سَأَلَ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ خِلالاً ثَلاثَةً : سَأَلَ اللهَ حُكمًا يُصَادِفُ حُكمَهُ فَأُوتِيَهُ ، وَسَأَلَ اللهَ مُلكًا لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِن بَعدِهِ فَأُوتِيَهُ ، وَسَأَلَ اللهَ حِينَ فَرَغَ مِن بِنَاءِ المَسجِدِ أَن لا يَأتِيهِ أَحدٌ لا يُنهِزُهُ إِلاَّ الصَّلاةُ فِيهِ أَن يُخرِجَهُ مِن خَطِيئَتِهِ كَيَومَ وَلَدَتهُ أُمُّهُ ، أَمَّا اثنَتَانِ فَقَد أُعطِيَهُمَا ، وَأَرجُو أَن يَكُونَ قَد أُعطِيَ الثَّالِثَةَ " وَعَن أَبي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عَنِ الصَّلاةِ في بَيتِ المَقدِسِ أَفضَلُ أَو في مَسجِدِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ ؟ فَقَالَ : " صَلاةٌ في مَسجِدِي هَذَا أَفضَلُ مِن أَربَعِ صَلَوَاتٍ فِيهِ ، وَلَنِعمَ المُصَلَّى هُوَ ، أَرضُ المَحشَرِ وَالمَنشَرِ ، وَلَيَأتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ وَلَقِيدُ سَوطِ أَو قَالَ قَوسِ الرَّجُلِ حَيثُ يَرَى مِنهُ بَيتَ المَقدِسِ خَيرٌ لَهُ أَو أَحَبُّ إِلَيهِ مِنَ الدُّنيَا جَمِيعًا " وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَن عَبدِاللهِ بنِ حَوَالَةَ الأَزدِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " يَا بنَ حَوَالَةَ ، إِذَا رَأَيتَ الخِلافَةَ قَد نَزَلَت أَرضَ المُقَدَّسَةَ فَقَد دَنَتِ الزَّلازِلُ وَالبَلابِلُ وَالأُمُورُ العِظَامُ ، وَالسَّاعَةُ يَومَئِذٍ أَقرَبُ مِنَ النَّاسِ مِن يَدِي هَذِهِ مِن رَأسِكَ "
ذَلِكُم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ شَيءٌ ممَّا فُضِّلَ بِهِ المَسجِدُ الأَقصَى وَخُصَّ بِهِ بَيتُ المَقدِسِ ، وَمَا زَالَ المُسلِمُونَ عَلَى مَرِّ عُصُورِهِم يَعُونَ ذَلِكَ جَيِّدًا وَتَنطَوِي عَلَيهِ صُدُورُهُم ، وَلَكِنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى بِمَكرِهِم وَدَهَائِهِم استَطَاعُوا عَبرَ الضَّخِّ الإِعلامِيِّ المُتَكَرِّرِ وَالمُرَاوَغَاتِ السِّيَاسِيَّةِ المُتَتَابِعَةِ أَن يُحَوِّلُوا قَضِيَّةَ احتِلالِ بَيتِ المَقدِسِ مِن قَضِيَّةٍ إِسلامِيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مُسلِمٍ عَلَى وَجهِ الأَرضِ ، إِلى قَضِيَّةٍ قَومِيَّةٍ تَنحَصِرُ في العَرَبِ ، ثم إِلى قَضِيَّةٍ إِقلِيمِيَّةٍ تَخُصُّ الشَّرقَ الأَوسَطَ ، ثم مَا زَالُوا حَتى حَصَرُوهَا في أَهلِ فِلِسطِينَ ، وَحَتى طَوَّعُوا الدُّوَلَ المُجَاوِرَةَ لِخِدمَةِ أَهدَافِهِم الاستِعمَارِيَّةِ ، وَالَّتي مَا فَتِئُوا يُظهِرُونَهَا وَيُطَبِّقُونَهَا يَومًا بَعدَ آخَرَ ، بِتَشدِيدِ الحِصَارِ وَالتَّفَنُّنِ في تَجوِيعِ أَهلِ الأَرضِ المُبَارَكَةِ ، وَقَتلِهِم صَبرًا وَغَدرًا ، وَحَشرِهِم بِالجُدُرِ العَازِلَةِ فَوقَ الأَرضِ وَالسِّيَاجَاتِ الفُولاذِيَّةِ تَحتَ الأَرضِ ، وَلَكِنَّ كُلَّ هَذَا التَّضيِيقِ عَلَى المُسلِمِينَ في الأَرضِ المُقَدَّسَةِ ، وَتَخَاذُلَ أَهلِ القَرَارِ وَصَمتَ مَن بِأَيدِيهِمُ الحَلُّ وَالعَقدُ ، لا يُعفِي الأُمَّةَ مِن وَاجِبِهَا تِجَاهَ مُقَدَّسَاتِهَا ، بَل إِنَّ الوَاجِبَ عَلَيهَا يَزدَادُ تَأَكُّدًا وَيَشتَدُّ تَعَيُّنًا ، عَلَى العُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ وَالكُتَّابِ وَالخَاصَّةِ وَالعَامَّةِ ، فَالعُلَمَاءُ وَالدُّعَاةُ عَلَيهِم إِبرَازُ فَضَائِلِ المَسجِدِ الأَقصَى ، وَتَكثِيفُ التَّوعِيَةِ وَالاجتِهَادُ لإِظهَارِ الحَقَائِقِ ، وَفَضحُ اليَهُودِ وَتَعرِيَةُ مَن يَقِفُ وَرَاءَهُم ، وَبَيَانُ حُكمِ مَن يُعِينُهُم عَلَى ظُلمِهِم أَو يُسَوِّغُ لهم إِجرَامَهُم ، وَإِحيَاءُ عَقِيدَةِ الوَلاءِ لِلمُؤمِنِينَ وَالبَرَاءَةِ مِنَ الكَافِرِينَ ، وَالكُتَّابُ عَلَيهِم نَشرُ تَارِيخِ الأُمَّةِ المَجِيدِ وَبَثُّهُ ، وَأَن يُجَاهِدُوا بِأَقلامِهِم وَيَفضَحُوا مُخَطَّطَاتِ الأَعدَاءِ ، وَأَن يُوَاجِهُوا أَقلامَ المُنَافِقِينَ الأَقزَامَ ، الَّتي تَعمَلُ عَلَى خِدَاعِ النَّاسِ وَتَزوِيرِ الحَقَائِقِ وَطَمسِهَا ، وَتَحسِينِ صُورَةِ الأَعدَاءِ وَتَزيِينِهَا ، وَتَشوِيهِ سُمعَةِ المُرَابِطِينَ في بَيتِ المَقدِسِ وَتَقبِيحِهَا ، وَأَمَّا جُمهُورُ المُسلِمِينَ فَوَاجِبُهُم إِحيَاءُ قَضِيَّةِ المَسجِدِ الأَقصَى في قُلُوبِهِم ، وَتَنَاوُلُهَا في مَجَالِسِهِم وَمُنتَدَيَاتِهِم ، وَاجِبٌ عَلَى الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ وَالمُعَلِّمِينَ وَالمُعَلِّمَاتِ أَن يَغرِسُوا في نُفُوسِ أَولادِهِم وَطُلاَّبِهِم فَضَلَ الأَقصَى وَمَحَبَّةَ مَن يُدَافِعُونَ عَنهُ ، وَبُغضَ مَن يَعتَدُونَ عَلَيهِ مِنَ اليَهُودِ وَمَن يُعِينُهُم عَلَى ذَلِكَ ، وَقَبلَ ذَلِكَ وَبَعدَهُ فَإِنَّ أَهَمَّ وَاجِبٍ على الجَمِيعِ هُوَ إِصلاحُ مَا بَينَهُم وَبَينَ اللهِ بِالتَّوبَةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيهِ بِالطَّاعَةِ ، حَتى تَتَغَيَّرَ حَالُهُم مِن ذُلٍّ إِلى عِزٍّ ، وَيَتَبَدَّلَ وَضعُهُم مِن ضَعفٍ إِلى قُوَّةٍ ، وَيُصبِحَ تَفَرُّقُهُم اجتِمَاعًا وَتَمَزُّقُهُم إِلفَةً وَاتِّحَادًا ، وَقَد قَالَ ـ تَعَالى ـ : " إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم " وَوَاجِبٌ لا يُعذَرُ أَحَدٌ بِتَركِهِ وَلا التَّقصِيرِ فِيهِ ، وَهُوَ الإِلحَاحُ في الدُّعَاءِ وَكَثرَةُ التَّضَرُّعِ إِلى المَولى أَن يَنصُرَ المُسلِمِينَ في القُدسِ عَلَى أَعدَائِهِم ، وَأَن يَحفَظَ المَسجِدَ الأَقصَى مِن ظُلمِ اليَهُودِ وَيُطَهِّرَهُ مِن رِجسِهِم ، وَأَن يَكفِيَ المُسلِمِينَ شَرَّ أَعوَانِهِم وَبَطشَهُم وَخِيَانَتَهُم . أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللهَ لا يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ . فَتَرَى الَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأتيَ بِالفَتحِ أَو أَمرٍ مِن عِندِهِ فَيُصبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا في أَنفُسِهِم نَادِمِينَ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ مِن أَكبَرِ المَصَائِبِ وَأَشَدِّ العَظَائِمِ وَأَشنَعِ الأَخطَاءِ ، مَا يَعِيشُهُ فِئَامٌ مِنَ المُسلِمِينَ اليَومَ مِن تَبَلُّدِ قُلُوبِهِم تِجَاهَ قَضَايَا الأُمَّةِ ، وَالنَّظرِ إِلَيهَا نَظرَةَ مَن لا يَعنِيهِ الأَمرُ شَيئًا ، مُتَأَثِّرِينَ في ذَلِكَ بِمَا يَطرُقُهُ أَقزَامُ الإِعلامِ وَيَعمَلُونَ عَلَى بَثِّهِ لَيلَ نَهَارَ ، مِن إِحيَاءِ الوَطَنِيَّاتِ المُفَرِّقَةِ ، وَحَشرِ الأُمَّةِ في جَحِيمِ الإِقلِيمِيَّاتِ الضَّيِّقَةِ ، وَإِمَاتَةِ الشُّعُورِ الإِسلامِيِّ بِوَحدَةِ الجَسَدِ وَالاشتِرَاكِ في القَضَايَا المَصِيرِيَّةِ ، وَهِيَ الإِمَاتَةُ المَقصُودَةُ تَمهِيدًا لِتَفرِيقِ الصُّفُوفِ وَإِضعَافِ القُوَّةِ ، وَالتَّمَكُّنِ مِن هَدمِ الأَقصَى بِسُهُولَةٍ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ طَرقَ قَضَايَا المُسلِمِينَ وَإِحيَاءَهَا في قُلُوبِهِم ، وَلا سِيَّمَا قَضِيَّةُ الأَقصَى وَبَيتِ المَقدِسِ ، إِنَّهُ لَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ حَسبَ استِطَاعَتِهِ ، وَللهِ الأَمرُ مِن قَبلُ وَمِن بَعدُ ، وَنَصرُ المُسلِمِينَ عَلَى اليَهُودِ مُتَحَقِّقٌ وَلا مَحَالَةَ ، وَظُهُورُهُم عَلَيهِم حَاصِلٌ وَإِن كَرِهَ الكَافِرُونَ ، وَحَدِيثُ محمدٍ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَاقِعٌ طَالَ الزَّمَانُ أَو قَصُرَ ، رَوَى مُسلِمٌ عَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ قَالَ : " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتى يُقَاتِلَ المُسلِمُونَ اليَهُودَ فَيَقتُلَهُم المُسلِمُونَ ، حَتى يَختَبِئَ اليَهُودِيُّ مِن وَرَاءِ الحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولَ الحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ : يَا مُسلِمُ ، يَا عَبدَاللهِ ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلفِي فَتَعَالَ فَاقتُلْهُ ، إِلاَّ الغَرقَدَ فَإِنَّهُ مِن شَجَرِ اليَهُودِ "
" ذَلِكَ وَلَو يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنهُم وَلَكِن لِيَبلُوَ بَعضَكُم بِبَعضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعمَالَهُم
تعليق