اقطع الحبل
يحكى أن رجلًا من هواة تسلق الجبال، قرر تحقيق حلمه في تسلق أعلى جبال العالم وأخطرها، وبعد سنين طويلة من التحضير وطمعٍ في أكبر قدر من الشهرة والتميز قرر القيام بهذه المغامرة وحده. وبدأت الرحلة كما خطط لها ومعه كل ما يلزمه لتحقيق حلمه.
مرت الساعات سريعة ودون أن يشعر، وفاجأه الليل بظلامه وكان قد وصل تقريبًا إلى نصف الطريق حيث لا مجال للتراجع، فالرجوع أشد صعوبة علي النفس من إكمال الرحلة وبالفعل لم يعد أمام الرجل سوى مواصلة طريقه الذي ما عاد يراه وسط هذا الظلام الحالك وبرده القارص ولا يعلم ما يخبئه له هذا الطريق المظلم من مفاجآت، وبعد ساعات أخرى أكثر جهدًا وقبل وصوله إلى القمة، إذ بالرجل يفقد اتزانه ويسقط من أعلى قمة الجبل؛ بعد أن كان على بُعد لحظات من تحقيق حلم العمر أو ربما أقل من لحظات!
وكانت أهم أحداث حياته تمر بسرعة أمام عينيه وهو يرتطم بكل صخرة من صخور الجبل. وفى أثناء سقوطه تمسك الرجل بالحبل الذي كان قد ربطه في وسطه منذ بداية الرحلة وكان خطّاف الحبل معلقًا بقوة من الطرف الآخر بإحدى صخور الجبل، فوجد الرجل نفسه يتأرجح في الهواء، لا شيء تحت قدميه سوي فضاء لا حدود له ويديه المملوءة َبالدم، ممسكة بالحبل بكل ما تبقى له من عزم وإصرار.
وسط هذا الظلام الحالك والبرد الشديد، التقط الرجل أنفاسه كمن عادت له الروح، وقلبه يخفق بشدة ويده ماسكة بالحبل والخلد يبحث عن أي أملٍ في النجاة.
وفي يأس به رائحة الأمل، صرخ الرجل: إلهي، إلهي، يا مغيث أغثني... يا مغيث أغثني!!!
لكنه لا يسمع سوى رجع الصدى.
ولما تلاشى رجع الصدى ساد الهدوء... وفجأة... اخترق هذا الهدوء صوت يجيبه: لبيك.. ماذا تريدني أن أفعل؟
أنقذني !! فأجابه الصوت: أتؤمن حقًا أني قادرٌ علي إنقاذك؟؟
بكل تأكيد
إذن فاقطع الحبل الذي أنت ممسكٌ به إن كنت تريد النجاة!!
فحدّث نفسه قائلاً.. الحبل..؟؟ الذي هو ملاذي وسر نجاتي...؟؟ إنني أغرق وهذه هي القشة التي أتعلق بها ولا أجد غيرها.
وبعد لحظة من التردد لم تطل، ازداد تشبثا بحبله... ولم يقطع الحبل.
وفي اليوم التالي، عثر فريق الإنقاذ علي جثة رجل ممسك بيده حبل وقد جمده البرد تمامًا... على ارتفاع متر واحد من سطح الأرض!!!
متر واحد فقط من سطح الأرض؟!!
كثيرًا ما نتعلق بما نقول عنه [حبال الهواء ذائبة].
هذا المعني وجدته في القرآن الكريم في أكثر من موضع، فمن الناس من قطع الحبل ومنهم من تشبث به.
إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام:
فإبراهيم عليه السلام قطع كل الحبال يوم أن وضعه قومه في المنجنيق ليلقوا به في النار، وتمسك بحبل الله المتين وهو يردد ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾. روى البخاري وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِىَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ ﴿ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 174].
ها هو ينقطع عن أهله مهاجرًا لله رب العالمين ﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [العنكبوت: 26] لا حبل سوى حبل الله ولا طريق سوى طريق الله ﴿ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [ الصافات: 83-84] بقلب سليم خالص مخلص خاشع خاضع متذلل بين يدي ربه تبارك وتعالى.
وقطع الحبل يوم أن أمر بترك ولده وزوجه في صحراء فقال: ﴿ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾. [إبراهيم: 37].
وقطع إبراهيم وإسماعيل الحبل يوم أن أُمِرَا بالذبح فقالا: ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات 102-107].
هاجر عليها السلام:
وقطعت هاجر عليها السلام الحبل يوم قالت: [قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لَتُعَفِّىَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ، وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهْىَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ، فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، ووَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِى لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَىْءٌ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُ آللَّهُ الَّذِى أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ. قَالَتْ إِذًا لاَ يُضَيِّعُنَا... فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ، يَبْنِى هَذَا الْغُلاَمُ، وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَهْلَهُ] رواه البخاري.
إن الله لا يضيع أهله إنها شريعة الله، قضاء قضي به الله وحُكْمٌ حَكَمَ به الله أنه لا يضيع أهله، لا ضياع مع أمر الله بل الضياع كل الضياع في تضييع أمر الله في ترك شرع الله في القوانين الوضعية في الرأسمالية والاشتراكية والماركسية والعلمانية وفي كل شرع سوي ما شرع الله عز وجل.
قصة مولد موسي عليه السلام:
وقطعت أم موسي الحبل يوم أن حارت برضيعها خوفا عليه من سكين جلاد فرعون...
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 4] تكبر فرعون وتجبر، وجعل أهل مصر شيعًا، كل طائفة في شأن من شئونه. ووقع أشد الاضطهاد والبغي على بني إسرائيل.
ثم تبدأ القصة. ويبدأ التحدي وتنكشف يد القدرة تعمل سافرة بلا ستار:
لقد ولد موسى والخطر محدق به، والموت يتلفت عليه، والشفرة مشرعة على عنقه، تهم أن تحتز رأسه.
وها هي ذي أمه حائرة به، خائفة عليه، تخشى أن يصل نبؤه إلى الجلادين، وترجف أن تتناول عنقه السكين. ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة، عاجزة عن حمايته، عاجزة عن إخفائه، عاجزة عن حجز صوته الفطري أن ينم عليه؛ عاجزة عن تلقينه حيلة أو وسيلة.. ها هي ذي وحدها ضعيفة عاجزة مسكينة. هنا تتدخل يد القدرة، فتتصل بالأم الوجلة القلقة المذعورة، وتلقي في روعها كيف تعمل، وتوحي إليها بالتصرف:
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7] يا لله! يا للقدرة! يا أم موسى أرضعيه. فإذا خفت عليه وهو في حضنك. وهو في رعايتك إذا خفت عليه وفي فمه ثديك، وهو تحت عينيك. إذا خفت عليه ﴿ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾!! ﴿ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ﴾ إنه هنا.. في اليم.. في رعاية اليد التي لا أمن إلا في جوارها، اليد التي لا خوف معها. اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها. اليد التي تجعل النار بردًا وسلامًا [قصة إبراهيم]، وتجعل البحر ملجأ ومناما [يونس وموسي طفلا ونبيا] اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعًا أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ﴾ فلا خوف على حياته ولا حزن على بعده.. ﴿ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾.. وتلك بشارة الغد، ووعد الله أصدق القائلين.
﴿ فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ ﴾... أهذا هو الأمن؟ أهذا هو الوعد؟ أهذه هي البشارة؟ وهل كانت المسكينة تخشى عليه إلا من آل فرعون؟ وهل كانت ترجف إلا أن ينكشف أمره لآل فرعون؟ وهل كانت تخاف إلا أن يقع في أيدي آل فرعون؟ نعم! ولكنها القدرة تتحدى. تتحدى بطريقة سافرة مكشوفة. تتحدى فرعون وهامان وجنودهما. إنهم ليتتبعون الذكور من مواليد قوم موسى خوفًا على ملكهم وعرشهم وذواتهم. ويبثون العيون والأرصاد على قوم موسى كي لا يفلت منهم طفل ذكر.. فها هي ذي يد القدرة تلقي في أيديهم بلا بحث ولا كد بطفل ذكر. وأي طفل؟ إنه الطفل الذي على يديه هلاكهم أجمعين! ها هي ذي تلقيه في أيديهم مجردًا من كل قوة ومن كل حيلة، عاجزًا عن أن يدفع عن نفسه أو حتى يستنجد! ها هي ذي تقتحم به على فرعون حصنه وهو الطاغية السفَّاح المتجبر، ولا تتعبه في البحث عنه في بيوت بني إسرائيل، وفي أحضان نسائهم الوالدات! ثم ها هي ذي تعلن عن مقصدها سافرة متحدية: ﴿ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾ ليكون لهم عدوًا يتحداهم وحزنًا يدخل الهمَّ على قلوبهم ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ [القصص: 8] خاطئين يوم أن تمسكوا بحبال الهوى والمال والسلطان وتركوا حبل الله..ولكن كيف؟ كيف وها هو ذا بين أيديهم، مجردًا من كل قوة، مجردًا من كل حيلة؟ لندع السياق يجيب: ﴿ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 9]
لقد اقتحمت به يد القدرة على فرعون قلب امرأته، بعد ما اقتحمت به عليه حصنه. لقد حمته بالمحبة.ذلك الستار الرقيق الشفيف. لا بالسلاح ولا بالجاه ولا بالمال. حمته بالحب الحاني في قلب امرأة. وتحدت به قسوة فرعون وغلظته وحرصه وحذره.. وهان فرعون على الله أن يحمي منه الطفل الضعيف بغير هذا الستار الشفيف!
﴿ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ﴾..وهو الذي تدفع به القدرة إليهم ليكون لهم فيما عدا المرأة عدوًا وحزنًا! ﴿ لَا تَقْتُلُوهُ ﴾.. وهو الذي على يده مصرع فرعون وجنده! ﴿ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾.. وهو الذي تخبئ لهم الأقدار من ورائه ما حذروا منه طويلًا! ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾.. الله يسخر من ضعفهم من جهلهم أين إلوهيتك يا فرعون؟!!
﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [القصص: 10]..
لقد سمعت الإيحاء قطعت الحبل الذي هو ممسك بطفلها الذي هو سبب نجاته، وألقت بطفلها إلى الماء. ولكن أين هو يا ترى وماذا فعلت به الأمواج؟ ولعلها سألت نفسها: كيف؟ كيف أمنت على فلذة كبدي أن أقذف بها في اليم؟ كيف فعلت ما لم تفعله من قبل أُمٌ؟ كيف طلبت له السلامة في هذه المخافة؟ وكيف استسلمت لذلك الهاتف الغريب؟
والتعبير القرآني يصور لنا فؤاد الأم المسكينة صورة حية: ﴿ فَارِغًا ﴾.. لا عقل فيه ولا وعي ولا قدرة على نظر أو تصريف! ﴿ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ﴾.. وتذيع أمرها في الناس، وتهتف كالمجنونة: أنا أضعته. أنا أضعت طفلي. أنا ألقيت به في اليم اتباعًا لهاتف غريب!
﴿ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾ وشددنا عليه وثبتناها، وأمسكنا بها من الهيام والشرود. ﴿ لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ المؤمنين بوعد الله، الصابرين على ابتلائه، السائرين على هداه، ولم تسكت أم موسى عن البحث والمحاولة!
﴿ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 11] اتبعي أثره، واعرفي خبره، إن كان حيًا، أو أكلته دواب البحر أو وحوش البر.. أو أين مقره ومرساه؟
﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ [القصص: 12] إن القدرة التي ترعاه تدبر أمره، وتكيد به لفرعون وآله؛ فتجعلهم يلتقطونه، وتجعلهم يحبونه، وتجعلهم يبحثون له عن ظئر ترضعه، وتحرم عليه المراضع، لتدعهم يحتارون به؛ وهو يرفض الثديّ كلما عرضت عليه، وهم يخشون عليه الموت أو الذبول! حتى تبصر به أخته من بعيد، فتعرفه وتتيح لها القدرة فرصة لهفتهم على مرضع، فتقول لهم: ﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ ﴾؟ فيتلقفون كلماتها، وهم يستبشرون، يودون لو تصدق فينجو الطفل العزيز المحبوب!
وقد عاد الطفل الغائب لأمه الملهوفة. معافى في بدنه، مرموقًا في مكانته، يحميه فرعون، وترعاه امرأته، وتضطرب المخاوف من حوله وهو آمن قرير ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 13] [في ظلال القرآن بتصرف].
سحرة فرعون:
وإني لأعجب من سحرة فرعون المرتزقة، جاؤوا طالبين الأجرة والقربى ﴿ فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [الشعراء: 41-42] ولكنهم كانوا مرتزقة شرفاء حينما رأوا الحقيقة شاخصة في عصى موسى عليه السلام ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 117-118] حينها قطعوا حبال المال والجاه والقربى من السلطان ﴿ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴾ [الأعراف: 119-122] ولم يبالوا بتقطيع الأيدي والأرجل ولا بتقطيع الأرزاق ولم يلتفتوا إلي مستقبلهم ومستقبل أولادهم في الدنيا لأنهم أمَّنوا مستقبلهم عند الله يوم أن تمسكوا بحبله يوم أن هددهم فرعون واتهمهم بأنهم خرفان يسوقهم موسي دون إذن من فرعون وهل أيها الغبي الإيمان بالله يحتاج إلي إذن ﴿ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 71-74].
يا ليت إعلامنا يحذو حذو سحرة فرعون فيقطعوا حبال المال المغدق عليهم من كل مكان وحبال الشهرة ليبحثوا عن الحقيقة متجردين من كل هوى لأن إجرام الإعلام أثره علي الناس كبير وعلي أنفسهم أكبر وليتذكروا المستخلص من موقف السحرة ﴿ إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى ﴾ ولتكن الأخرى ﴿ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى ﴾ [طه: 75-76].
يحكى أن رجلًا من هواة تسلق الجبال، قرر تحقيق حلمه في تسلق أعلى جبال العالم وأخطرها، وبعد سنين طويلة من التحضير وطمعٍ في أكبر قدر من الشهرة والتميز قرر القيام بهذه المغامرة وحده. وبدأت الرحلة كما خطط لها ومعه كل ما يلزمه لتحقيق حلمه.
مرت الساعات سريعة ودون أن يشعر، وفاجأه الليل بظلامه وكان قد وصل تقريبًا إلى نصف الطريق حيث لا مجال للتراجع، فالرجوع أشد صعوبة علي النفس من إكمال الرحلة وبالفعل لم يعد أمام الرجل سوى مواصلة طريقه الذي ما عاد يراه وسط هذا الظلام الحالك وبرده القارص ولا يعلم ما يخبئه له هذا الطريق المظلم من مفاجآت، وبعد ساعات أخرى أكثر جهدًا وقبل وصوله إلى القمة، إذ بالرجل يفقد اتزانه ويسقط من أعلى قمة الجبل؛ بعد أن كان على بُعد لحظات من تحقيق حلم العمر أو ربما أقل من لحظات!
وكانت أهم أحداث حياته تمر بسرعة أمام عينيه وهو يرتطم بكل صخرة من صخور الجبل. وفى أثناء سقوطه تمسك الرجل بالحبل الذي كان قد ربطه في وسطه منذ بداية الرحلة وكان خطّاف الحبل معلقًا بقوة من الطرف الآخر بإحدى صخور الجبل، فوجد الرجل نفسه يتأرجح في الهواء، لا شيء تحت قدميه سوي فضاء لا حدود له ويديه المملوءة َبالدم، ممسكة بالحبل بكل ما تبقى له من عزم وإصرار.
وسط هذا الظلام الحالك والبرد الشديد، التقط الرجل أنفاسه كمن عادت له الروح، وقلبه يخفق بشدة ويده ماسكة بالحبل والخلد يبحث عن أي أملٍ في النجاة.
وفي يأس به رائحة الأمل، صرخ الرجل: إلهي، إلهي، يا مغيث أغثني... يا مغيث أغثني!!!
لكنه لا يسمع سوى رجع الصدى.
ولما تلاشى رجع الصدى ساد الهدوء... وفجأة... اخترق هذا الهدوء صوت يجيبه: لبيك.. ماذا تريدني أن أفعل؟
أنقذني !! فأجابه الصوت: أتؤمن حقًا أني قادرٌ علي إنقاذك؟؟
بكل تأكيد
إذن فاقطع الحبل الذي أنت ممسكٌ به إن كنت تريد النجاة!!
فحدّث نفسه قائلاً.. الحبل..؟؟ الذي هو ملاذي وسر نجاتي...؟؟ إنني أغرق وهذه هي القشة التي أتعلق بها ولا أجد غيرها.
وبعد لحظة من التردد لم تطل، ازداد تشبثا بحبله... ولم يقطع الحبل.
وفي اليوم التالي، عثر فريق الإنقاذ علي جثة رجل ممسك بيده حبل وقد جمده البرد تمامًا... على ارتفاع متر واحد من سطح الأرض!!!
متر واحد فقط من سطح الأرض؟!!
كثيرًا ما نتعلق بما نقول عنه [حبال الهواء ذائبة].
هذا المعني وجدته في القرآن الكريم في أكثر من موضع، فمن الناس من قطع الحبل ومنهم من تشبث به.
إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام:
فإبراهيم عليه السلام قطع كل الحبال يوم أن وضعه قومه في المنجنيق ليلقوا به في النار، وتمسك بحبل الله المتين وهو يردد ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾. روى البخاري وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِىَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ ﴿ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 174].
ها هو ينقطع عن أهله مهاجرًا لله رب العالمين ﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [العنكبوت: 26] لا حبل سوى حبل الله ولا طريق سوى طريق الله ﴿ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [ الصافات: 83-84] بقلب سليم خالص مخلص خاشع خاضع متذلل بين يدي ربه تبارك وتعالى.
وقطع الحبل يوم أن أمر بترك ولده وزوجه في صحراء فقال: ﴿ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾. [إبراهيم: 37].
وقطع إبراهيم وإسماعيل الحبل يوم أن أُمِرَا بالذبح فقالا: ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات 102-107].
هاجر عليها السلام:
وقطعت هاجر عليها السلام الحبل يوم قالت: [قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لَتُعَفِّىَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ، وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهْىَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ، فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، ووَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِى لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَىْءٌ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُ آللَّهُ الَّذِى أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ. قَالَتْ إِذًا لاَ يُضَيِّعُنَا... فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ، يَبْنِى هَذَا الْغُلاَمُ، وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَهْلَهُ] رواه البخاري.
إن الله لا يضيع أهله إنها شريعة الله، قضاء قضي به الله وحُكْمٌ حَكَمَ به الله أنه لا يضيع أهله، لا ضياع مع أمر الله بل الضياع كل الضياع في تضييع أمر الله في ترك شرع الله في القوانين الوضعية في الرأسمالية والاشتراكية والماركسية والعلمانية وفي كل شرع سوي ما شرع الله عز وجل.
قصة مولد موسي عليه السلام:
وقطعت أم موسي الحبل يوم أن حارت برضيعها خوفا عليه من سكين جلاد فرعون...
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 4] تكبر فرعون وتجبر، وجعل أهل مصر شيعًا، كل طائفة في شأن من شئونه. ووقع أشد الاضطهاد والبغي على بني إسرائيل.
ثم تبدأ القصة. ويبدأ التحدي وتنكشف يد القدرة تعمل سافرة بلا ستار:
لقد ولد موسى والخطر محدق به، والموت يتلفت عليه، والشفرة مشرعة على عنقه، تهم أن تحتز رأسه.
وها هي ذي أمه حائرة به، خائفة عليه، تخشى أن يصل نبؤه إلى الجلادين، وترجف أن تتناول عنقه السكين. ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة، عاجزة عن حمايته، عاجزة عن إخفائه، عاجزة عن حجز صوته الفطري أن ينم عليه؛ عاجزة عن تلقينه حيلة أو وسيلة.. ها هي ذي وحدها ضعيفة عاجزة مسكينة. هنا تتدخل يد القدرة، فتتصل بالأم الوجلة القلقة المذعورة، وتلقي في روعها كيف تعمل، وتوحي إليها بالتصرف:
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7] يا لله! يا للقدرة! يا أم موسى أرضعيه. فإذا خفت عليه وهو في حضنك. وهو في رعايتك إذا خفت عليه وفي فمه ثديك، وهو تحت عينيك. إذا خفت عليه ﴿ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾!! ﴿ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ﴾ إنه هنا.. في اليم.. في رعاية اليد التي لا أمن إلا في جوارها، اليد التي لا خوف معها. اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها. اليد التي تجعل النار بردًا وسلامًا [قصة إبراهيم]، وتجعل البحر ملجأ ومناما [يونس وموسي طفلا ونبيا] اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعًا أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ﴾ فلا خوف على حياته ولا حزن على بعده.. ﴿ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾.. وتلك بشارة الغد، ووعد الله أصدق القائلين.
﴿ فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ ﴾... أهذا هو الأمن؟ أهذا هو الوعد؟ أهذه هي البشارة؟ وهل كانت المسكينة تخشى عليه إلا من آل فرعون؟ وهل كانت ترجف إلا أن ينكشف أمره لآل فرعون؟ وهل كانت تخاف إلا أن يقع في أيدي آل فرعون؟ نعم! ولكنها القدرة تتحدى. تتحدى بطريقة سافرة مكشوفة. تتحدى فرعون وهامان وجنودهما. إنهم ليتتبعون الذكور من مواليد قوم موسى خوفًا على ملكهم وعرشهم وذواتهم. ويبثون العيون والأرصاد على قوم موسى كي لا يفلت منهم طفل ذكر.. فها هي ذي يد القدرة تلقي في أيديهم بلا بحث ولا كد بطفل ذكر. وأي طفل؟ إنه الطفل الذي على يديه هلاكهم أجمعين! ها هي ذي تلقيه في أيديهم مجردًا من كل قوة ومن كل حيلة، عاجزًا عن أن يدفع عن نفسه أو حتى يستنجد! ها هي ذي تقتحم به على فرعون حصنه وهو الطاغية السفَّاح المتجبر، ولا تتعبه في البحث عنه في بيوت بني إسرائيل، وفي أحضان نسائهم الوالدات! ثم ها هي ذي تعلن عن مقصدها سافرة متحدية: ﴿ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾ ليكون لهم عدوًا يتحداهم وحزنًا يدخل الهمَّ على قلوبهم ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ [القصص: 8] خاطئين يوم أن تمسكوا بحبال الهوى والمال والسلطان وتركوا حبل الله..ولكن كيف؟ كيف وها هو ذا بين أيديهم، مجردًا من كل قوة، مجردًا من كل حيلة؟ لندع السياق يجيب: ﴿ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 9]
لقد اقتحمت به يد القدرة على فرعون قلب امرأته، بعد ما اقتحمت به عليه حصنه. لقد حمته بالمحبة.ذلك الستار الرقيق الشفيف. لا بالسلاح ولا بالجاه ولا بالمال. حمته بالحب الحاني في قلب امرأة. وتحدت به قسوة فرعون وغلظته وحرصه وحذره.. وهان فرعون على الله أن يحمي منه الطفل الضعيف بغير هذا الستار الشفيف!
﴿ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ﴾..وهو الذي تدفع به القدرة إليهم ليكون لهم فيما عدا المرأة عدوًا وحزنًا! ﴿ لَا تَقْتُلُوهُ ﴾.. وهو الذي على يده مصرع فرعون وجنده! ﴿ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾.. وهو الذي تخبئ لهم الأقدار من ورائه ما حذروا منه طويلًا! ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾.. الله يسخر من ضعفهم من جهلهم أين إلوهيتك يا فرعون؟!!
﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [القصص: 10]..
لقد سمعت الإيحاء قطعت الحبل الذي هو ممسك بطفلها الذي هو سبب نجاته، وألقت بطفلها إلى الماء. ولكن أين هو يا ترى وماذا فعلت به الأمواج؟ ولعلها سألت نفسها: كيف؟ كيف أمنت على فلذة كبدي أن أقذف بها في اليم؟ كيف فعلت ما لم تفعله من قبل أُمٌ؟ كيف طلبت له السلامة في هذه المخافة؟ وكيف استسلمت لذلك الهاتف الغريب؟
والتعبير القرآني يصور لنا فؤاد الأم المسكينة صورة حية: ﴿ فَارِغًا ﴾.. لا عقل فيه ولا وعي ولا قدرة على نظر أو تصريف! ﴿ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ﴾.. وتذيع أمرها في الناس، وتهتف كالمجنونة: أنا أضعته. أنا أضعت طفلي. أنا ألقيت به في اليم اتباعًا لهاتف غريب!
﴿ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾ وشددنا عليه وثبتناها، وأمسكنا بها من الهيام والشرود. ﴿ لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ المؤمنين بوعد الله، الصابرين على ابتلائه، السائرين على هداه، ولم تسكت أم موسى عن البحث والمحاولة!
﴿ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 11] اتبعي أثره، واعرفي خبره، إن كان حيًا، أو أكلته دواب البحر أو وحوش البر.. أو أين مقره ومرساه؟
﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ [القصص: 12] إن القدرة التي ترعاه تدبر أمره، وتكيد به لفرعون وآله؛ فتجعلهم يلتقطونه، وتجعلهم يحبونه، وتجعلهم يبحثون له عن ظئر ترضعه، وتحرم عليه المراضع، لتدعهم يحتارون به؛ وهو يرفض الثديّ كلما عرضت عليه، وهم يخشون عليه الموت أو الذبول! حتى تبصر به أخته من بعيد، فتعرفه وتتيح لها القدرة فرصة لهفتهم على مرضع، فتقول لهم: ﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ ﴾؟ فيتلقفون كلماتها، وهم يستبشرون، يودون لو تصدق فينجو الطفل العزيز المحبوب!
وقد عاد الطفل الغائب لأمه الملهوفة. معافى في بدنه، مرموقًا في مكانته، يحميه فرعون، وترعاه امرأته، وتضطرب المخاوف من حوله وهو آمن قرير ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 13] [في ظلال القرآن بتصرف].
سحرة فرعون:
وإني لأعجب من سحرة فرعون المرتزقة، جاؤوا طالبين الأجرة والقربى ﴿ فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [الشعراء: 41-42] ولكنهم كانوا مرتزقة شرفاء حينما رأوا الحقيقة شاخصة في عصى موسى عليه السلام ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 117-118] حينها قطعوا حبال المال والجاه والقربى من السلطان ﴿ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴾ [الأعراف: 119-122] ولم يبالوا بتقطيع الأيدي والأرجل ولا بتقطيع الأرزاق ولم يلتفتوا إلي مستقبلهم ومستقبل أولادهم في الدنيا لأنهم أمَّنوا مستقبلهم عند الله يوم أن تمسكوا بحبله يوم أن هددهم فرعون واتهمهم بأنهم خرفان يسوقهم موسي دون إذن من فرعون وهل أيها الغبي الإيمان بالله يحتاج إلي إذن ﴿ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 71-74].
يا ليت إعلامنا يحذو حذو سحرة فرعون فيقطعوا حبال المال المغدق عليهم من كل مكان وحبال الشهرة ليبحثوا عن الحقيقة متجردين من كل هوى لأن إجرام الإعلام أثره علي الناس كبير وعلي أنفسهم أكبر وليتذكروا المستخلص من موقف السحرة ﴿ إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى ﴾ ولتكن الأخرى ﴿ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى ﴾ [طه: 75-76].
تعليق