رسالة من الأعماق
لن تنسى مملكة البحر ذلك اليوم الذي عبرت فيه على سطحها سفينة البشر و ألقت في مائها برميلا أصفر لمّاعا
كان أشدّ من اللؤلؤ الطّبيعي بريقا و إمتاعا .فسارعت السّميكة الحمراء إلى قلعة الأسماك صارخة:" مصيبة نزلت من السّماء..لا..لا..بل من سطح الماء".
وأسرع خادم القرش إلى سيّده مبشّرا:" سيّدي القرش. وجدنا كنزا كبير الكرش".
ففرح القرش بهذه الأخبار وقال:" سأقدّمه مهرا لأميرة البحار التي طالما رفضتني وصدّتني، ولكنّ هذه المرّة
ستلبّي الطّلب .و تنقاد إلى بريق الذّهب"
وذاع الخبر في الإبّان .و تسابق الجميع إلى المكان. وكادت تندلع معركة بين الحيتان.واشتدّ بينهم النّزاع
و قد أعمتهم الأطماع.و أحسّت السميكة الحمراء باقتراب الشرّ.ودقّت في ذهنها نواقيس الخطر.فانطلقت على
الفور إلى الوادي المظلم .حيث يعيش الحوت الهرم.
كان الحوت مقعدا لا يغادر واديه.وآثار الشيخوخة بادية عليه.قد أنهكته كثرة السّفرات و طول المسافات.
و لم يبق له من أيام الشّباب و الفتوّة.سوى هيكل ضخم بلا قوّة
فنادته قائلة:" أدركنا يا عمّي الحوت أو نموت.فلقد جاءنا من عالم البشر.كنز جلب الكراهيّة والشرّ.وتناحرت عليه الأسماك.حتّى أوشكت على الهلاك.
وأوقدت بينها فتيل الحرب.من أجل قطعة من الذهب.
فأجابها ساخرا:" يا بنيّتي لقد خبرت البشر منذ سنين.ولطالما صارعت صيّاديهم الجشعين.ورأيت حرصهم على الذّهب والمال.ما يجعلني أجزم باستحالة
رميه لنا في كلّ حال.فكيف يلقون إلينا شيئا ذا قيمة وما جادوا علينا إلاّ بالأشياء السّقيمة. فلا يغرّنكم منه بريق خدّاع. فما كلّ شيء أصفر بذهب لمّاع.
عندها أدركت السّميكة الحمراء خطورة الأمر وما يتهدّد سكّان البحر...فحملت إليهم ما سمعته من معلومات..و لكن الوقت
قد فات. إذ اختلط الماء بالأوحال. وصار حال المملكة إلى أسوأ حال.وأصابتهم الفتنة بسهامها في الصّميم. وسرت فيهم سريان النّار
في الهشيم.ووسط هذا الغليان ،كان القرش يصيح
كمن به هذيان.ويقول:"الكنز ملكي بما فيه. ولن أفرّط فيه".
عندها أطلّت أميرة البحار.كالدرّة من المحار.وقالت:" أيّها القرش السّريع.لن أقبل منك هديّة فيها سمّ قاتل للجميع.فتخلّصوا
من هذا الشرّ المستطير.أرجوكم..فهذا رجائي الأخير".
و فيما هم منصتون باهتمام.انفلت البرميل عنهم و دفعه التيّار إلى الأمام. وألقاه بالقرب من الحوت الوهن. فتأمّله برهة
من الزّمن وقال:" آه..ليتني أستطيع الحراك.فأقدّم شيئا لهذه الأسماك".
فناداه القرش:"مكانك أيّها العجوز المخرّف.و لا يصدرنّ عنك سوء تصرّف.أو أفترسك في الإبّان. وأجعلك عبرة للحيتان".
فاهتزّ الحوت هزّة هيّجت المياه.واستجمع بعزيمة فذّة كلّ قواه. ووثب وثبة كانت الأخيرة.وابتلع البرميل في بطنه الكبيرة.
فقالت السّميكة الحمراء بصوت حزين:" يالهذا الحوت ما أشجعه.و يا لهذا القرش ما أجشعه.فلقد ضحّى بنفسه فداء لنا وابتلع السمّ.ولم يهتمّ".
و في صباح اليوم الموالي كان الحوت الأزرق ملقى على الرّمال وقد سالت من بين فكّيه مادّة سائلة.هي ما احتواها البرميل
من آفة قاتلة.و النّاس حوله دهشون من ضخامة جسمه. ويبحثون في قواميسهم عن اسمه.ويلتقطون له الصّور.غير آبهين
بما في الأمر من عبر.إذ لم يكن خروج الحوت إلى البرّ لإثارة فضول البشر.ولكن ليوصل إليهم رسالة مفادها أنّ البحر بما فيه
من كائناته الحقّ في العيش و له الحقّ في الحيا ة فهل يفهم الإنسان الرّسالة؟...
هذا ما كان الحوت يرجوه من الأعماق.
تعليق