الطلاق الصـــــامت
دخل أبو عبدالعزيز البيت، وكعادته كان متعبًا من العمل، فوجد البيت ساكنًا هادئًا.
ما أجملَ الهدوء! لكن الأمر لَم يكن كما يريد.
سرتْ إلى جسده رعشةٌ خفيفة من قلقٍ، وخالطته الوساوسُ حول زوجته، وسرعان ما بدت الحقيقة، وأصبحت الوساوس حقائقَ موجعة، وواقعًا أليمًا!
نعم، ها هي أم عبدالعزيز، تجلس على الأريكة وكأنها لم تعلم بقدومه، بل لم تلتفت إليه أصلاً، مع إلقائه السلام بصوت يفترض أنها سمعته!
أدرك على الفور أنها قد عادت للخصام، وشرع يعد نفسه لاستقبال ليلة أو ليال من الهدوء القاتل، والصمت المطبق.
أخذ يُفَكِّر في السبب على غيْر تعجُّب، ثم أيقن أنه ولا بد أن يكون قد أخطأ، فلعلَّه قد أبطأ عليها في إحضار طلب، أو تأخر عن إيصالها لمناسبة تراها ضرورية، أو نَسِي غرضًا من أغراض السوق آخر مرة، أو تعددت الأسباب والعقاب واحد عندها.
أدرك الآن أنه سيواجه بعض الأيام الصعبة، فكيف ينام معها، ويعيش في مسكن واحد في ظلِّ هذا الصمت المطبق؟! من أين ستأتيه الرغبةُ في دخول البيت؟ كيف سيستريح من عناء يوم طويل حافلٍ بالعمل ومشكلاته؟
(كيف)؟ و(كيف)؟ أخذته بعيدًا حتى حلَّقَ في عالمه الخاص كعادته عندما تلجأ زوجته لهذا النوع من الانتقام.
حلَّق مع ذكريات زواجه وأيامه الأولى، وكيف كانت زوجته كزهرة نديَّة يفوح عطرُها في أرجاء عشِّه الصغير، فيملؤه بهجة وأُنسًا!
بدت له صورتها في بداية حياتهما الزوجية، بكلِّ ما تحمله ملامحها من مرحٍ وشفافية، وروح الدعابة التي لَم تكن تفارقها حتى وقت خلافاتهما، آن الأوان أن يفكرَ بصورة أكثر إيجابية: ما الذي طرأ عليها وبدَّلها؟ أتُراهم أهلها؟ أم الصديقات؟ وما أدراك ما الصديقات؟ أم الوساوس والهواجس قد تراكمتْ عليها؟! أم قد غلبها شيطانها فأنساها نعمة البيت والأسرة؟!
ذهب إلى نومه - خارج غرفته بالطبع - على وعدٍ منه لنفسه بأن يفكرَ في الصباح في سلوك عمليٍّ؛ ليغيِّر هذه الحال الذي لم يعد يحتملها.
وفي الصباح نسي كلَّ شيءٍ، وعاد لعملِه كأن شيئًا لَم يكن، ثم تكرر هذا الفعل من زوجته، وتكرَّر منه ردُّ الفعل؛ حتى أصبح مألوفًا عنده وعند زوجته مرورُ بعض الأيام دون أيِّ حديث بينهما، واعتاد كلٌّ منهما ذلك!
أيها الزوج الحكيم:
أيتها الزوجة العاقلة:
تعالوا نقفْ مع أنفسِنا وقْفة صدقٍ وتأمُّل في هذا الواقع المُخْزي.
• قد تكون الزوجةُ تربَّت في بيت أهلها على صورةٍ غير صحيحة، أو لَم تُوجَّه قبل زواجها، وتثقَّفِ الثقافة اللازمة لاستقبال الحياة الزوجية بما فيها من مسؤوليات؛ فصار تجاوبها وتفاعلها مع المشكلات على نحوٍ يزيد المشكلة ولا يحلها.
ولعلاج هذا الأمر على الأهل أن يعلِّموا بناتهم، ويهيئوهنَّ قبل الزواج، ويعرفوهنَّ حقوق الزوج، وعلى الزوج أن يحسنَ التصرُّف مع مثل هذا الوضع؛ فيحاول تعليم زوجته، وتبصيرها بحقوقه بأسلوب طيب، والأَوْلى أن يحضرَ لها بعض الهدايا التي تحتوي على ما تحب، ويضع معها بعض النصائح أو الكُتُب أو المطويَّات التي تعلِّم الزوجة وتثقفها، وتمدُّها بالمعلومات اللازمة لإدارة البيت، وحسن التعامل والتصرُّف مع شريك حياتها إن حدث ما لا يرضيها.
• لا بد أن يتعاونَ الزوجُ معها، ويتعلما فن الحوار، بل وفن الإصغاء أيضًا؛ ففي مثل هذه الأوقات لا يمتلك أحدُهما فنَّ ومهارة الحوار الناجح؛ لذلك لا يجد في نفسه الجرأة على فتح هذا الحوار، ويفضل تحمل التعذيب النفسي الواقع عليهما على أن يفتح الحوار، ولو علم كلا الزوجين أهميةَ الحوار المستمر بينهما وخطورة تركه وضرر إهماله على حياتهما الزوجية، لبذلا الجهود في تعلُّمه، وما أكثرَ الكتبَ والمقالات التي تتحدث عن فن الحوار وكيفيَّة الإصغاء!
• لا بد أن تعلم الزوجة أنه لا وجود لشيءٍ اسمه "الكبرياء" بين الزوجين، فلا يحملنها الكِبرُ على ترك الزوج - إلا لمدة يسيرة تهدأ فيها نفسه - وإهماله وعقابه بهذا النوع المؤلِم من الخصام، تحت اسم الكبرياء.
ولتعلم أن العلاقة بينهما ليستْ علاقة الند للندِّ، بل هي علاقة الراعي والمسترعى، فلا ينبغي لها أن تعامله بهذا الأسلوب مهما كبر غلطه، وزاد جُرمه، ولو فكرتْ مع نفسها قليلاً، لعلمتْ أنَّ هذا ليس حلاًّ على الإطلاق، وإنما هو كمَن يعالج الداء بداءٍ أشد منه.
• قد يخاف أحد الزوجَيْن أو كلاهما من المبادرة، ويظنُّ أنه الخاسر إن حاول بَدء الحوار، وأن هذه المبادرة ليستْ إلا دليلاً على عِلْمه بخطئه، وإدراكه أنه وحدَه الذي ارتكب الغلط، أو يظن أنها بمثابة اعتذار رسمي يقدِّمه للطرف الآخر، فيحجم عن البدء؛ خوفًا مِنْ ردِّ فعل الطرف الآخر، فيظل كلاهما صامتًا، والحل في هذه الحالة أن يعلم كلاهما أن الحوار هو الحل، ولا حل سواه، وسواء بدا لشريكه أنه يعتذر أم لا، فلن يكون الصمت أفضل من الكلام، والأَوْلى أن يقومَ بإعداد الحديث مع نفسه قبل البدء، ويتوقع ردود أفعال الطرف الآخر، ويعُد لها جوابًا ليِّنًا يهدِّئ نفسه، ويذهب ضيق صدره بفنٍّ وحِكْمة.
• ليتأمل كلا الزوجين حاله خلال الحياة في ظلِّ هذا الصمت المطبق، وليتأمل الحِكمة من إقامة الأسرة وبناء الحياة الزوجية، هل يتحقق منها شيءٌ إن استمرَّ الحال على هذا النحو السيِّئ؟
فلا شك إذًا أن الوضع غير طبيعي، وعليه أن يعلمَ أنَّ الأمر لا يحتاج إلا للحظات قلائل من الشجاعة الأدبية ومواجهة النفس، والتصرُّف بإيجابيَّة سيصبُّ في صالح جميع أفراد هذه الأُسرة.
• لتعلم الزوجة أولاً، وليعلم الزوج ثانيًا، أنَّ الوضع سيكون على شريكه صعبًا في البداية، ثم لن يلبثَ أن يعتادَ هذا الوضع؛ أي إنه سيفقد قيمته كنوعٍ من العقاب.
فقد يتألَّم ليومٍ أو يومين أو أكثر، ثم بعد ذلك لا يشعر أنه ينقصه شيءٌ على الإطلاق، بل المصيبة أنَّ بعض الأزواج الذين اعتادوا ذلك التصرُّف غير الحكيم من زوجاتهم يشعرون بالشوق في بعض الأحيان للاختلاء بأنفسهم، فيختلقون الأسباب التي تحفز الزوجة على الخصام، فتكون هي المخطئة وهو الكاسب.
ولا شك أنها أخطأت منذ البداية عندما ظنَّت أن هذه وسيلة جيدة لعقاب الزوج، ونسيت أنَّ حقَّه عليها قد فاق حقَّ والديها.
سَلْ نفسك أيها الزوج، وسلي نفسك أيتها الزوجة:
لماذا أجعل العواطف والمشاعرَ التي يبثها الشيطان في نفسي تنسيني هدفي في هذه الحياة، وتلهيني عن الغاية العظيمةِ التي أردتُ تكوين أسرتي الجميلة من أَجْلها؟
ألَم يكن مُرادي هو تحقيق العمارة في الأرض، وعبادة الله، واحتساب أجر تربية أنفس توحِّد الله - جل وعلا؟
ألم أكن أريد تكوين هذه الأسرة؟ عملاً بالحديث الذي جاء فيه رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إني أصبتُ امرأة ذات حسب ومنصب، إلا أنها لا تلد، أفأتزوجها؟" فنهاه، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فنهاه، فقال: ((تزوَّجوا الولود الودود؛ فإنِّي مكاثرٌ بكم))؛ رواه النسائي.
آن الأوان لنلقي الضوء على الجزء المظلم من حياتنا، ونودِّع تلك الأيام التي أطعنا فيها هوى أنفسنا، وانتصر علينا الشيطان الذي قال عنه ربُّنا في كتابه: ﴿ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76].
ليتذكَّر كلُّ واحدٍ منَّا فضلَ شريكه عليه، ولن يخلو الأمرُ من بعض الأفضال؛ سواء للزوج أم الزوجة، ولن يسعك حينها إلا أن تذهبَ إلى شريكك قائلاً له: الحياة أقصر من أن نقضيها في هذا النِّزاع وتلك الخصومة.
أسأل الله - تعالى - أن يصلحَ بيوت المسلمين، وأن يجعلَها عامرة بذِكْره وشُكْره، وأن يهدي قُلُوبهم، ويسل سخيمة صدورهم.
وصلى الله على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم
موقع الألوكة
تعليق