إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

اللحية هل هي واجبة

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • اللحية هل هي واجبة

    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
    لي مشكلة مع زوجي لم يكن يطلق لحيته اقنعته و كانه اطلقها عن مضض و الان دائما ينقص منها و هي لم تطل كثيرا و لا يريد الخوض في الامر و كانه يقول لي تريدينا ان اطلقها فلا تتدخلي في طولها و اكانه اكلقها لطلبي و ليس يانها واجب و اظن انه يعتبرها غير و اجبة و كانه ينسال اللحية هل هي واجبة و انها مجرد شكل افيدوني بارك الله فيكم و بالنسبة لي و انا اليس النقاب هل استطيع ركوب وحدي سيارة اجرة فبيت اهلي يبعد مشيا عشرونا دقيقة لكنني لا ارتاح في المشي وحدي و اجد التاكسي اسهل و استر لي حيث اصل في خمس دقائق و زوجي ليس لديه الوقت الا يوم واحد في العادة لا نخرج فيه حيث يكون متعب و يريد الراحة فمادا افعل

  • #2
    رد: اللحية هل هي واجبة

    بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    الأُخْتُ السَّائِلَةُ الكَرِيمَةُ
    السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ
    اسْتَئْذِنُكِ في أنْ أرُدَّ عَلَيْكِ في المسَاءِ إنْ شَاءَ اللهُ، وبإذْنِ الله تَجِدِينَ الرَّدّ الوَافِي.
    والسَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ

    زائرنا الكريم نحن معك بقلوبنا
    كلنا آذان صاغيه لشكواك ونرحب بك دائما
    في
    :

    جباال من الحسنات في انتظارك





    تعليق


    • #3
      رد: اللحية هل هي واجبة

      بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
      الأُخْتُ السَّائِلَةُ الكَرِيمَةُ
      السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ
      جَزَاكِ اللهُ خَيْرًا أُخْتنَا الفَاضِلَة عَلَى حِرْصِكِ واهْتِمَامِكِ بأُمُورِ دِينكِ في نَفْسِكِ وزَوْجكِ في زَمَانٍ غَابَ فِيهِ الدِّين كَثِيرًا وحُورِبَ أكْثَر، نَسَألُ اللهَ أنْ يُثَبِّتَكِ ويَرْزُقَكِ الإخْلاَص والهُدَى والتُّقَى والعَفَاف والغِنَى، اللَّهُمَّ آمِينَ.

      أمَّا بخُصُوصِ رُكُوبكِ مُنْفَرِدَة مَعَ سَائِقٍ (خَاصّ أو أُجْرَة) فَلاَ يَجُوز، لأنَّهَا خُلْوَة مُحَرَّمَة، ومَسَافَة تَأخُذ 20 دَقِيقَة سَيْرًا لَيْسَت بالبَعِيدَةِ أو المُرْهِقَة، كَمَا أنَّ عَدَمَ حُبّكِ للسَّيْرِ بمُفْرَدِكِ لَيْسَ بالضَّرُورَةِ التي تُبِيحُ مَحْذُور، ثُمَّ أنَّ الأكْثَر سِتْرًا لَكِ وحِمَايَةً وصِيَانَةً هُوَ مَا اخْتَارَهُ اللهُ العَلِيمُ الحَكِيمُ الخَبِيرُ بِمَا يُصْلِح ويَصْلُح لخَلْقِهِ، فَسَيْرُكِ في الشَّارِع وَسطَ عَشَرَات النَّاس أسْتَر وأحْفَظ لَكِ مِنَ الرُّكُوبِ مَعَ شَخْصٍ وَاحِدٍ أجْنَبِيٍّ عَنْكِ، ونِقَابكِ لا يُبِيح الخُلْوَة، فَالنِّقَاب مَسْألَة والخُلْوَة مَسْألَة أُخْرَى، ولَكِنْ إنْ وُجِدَ في السَّيَّارَةِ امْرَأة أُخْرَى، فَهُنَا تَزُول الخُلْوَة، ونَقُولُ امْرَأة ولَيْسَ رَجُلاً، وفي ذَلِكَ تُرَاجَع الفَتَاوَى التَّالِيَة لمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيلِ:
      خلوة الراكبة مع سائق سيارة الأجرة
      إنفراد سائق الحافلة بالمرأة
      لا يذهب بوالدته إلى المسجد الحرام خوفا عليها ولكنها تذهب مع السائق
      هل لها أن تذهب من الفندق إلى الحرم وتطوف بلا محرم

      أمَّا بخُصُوصِ الرَّدّ عَلَى السُّؤَالِ الخَاصّ باللِّحْيَةِ، فَجَارِي تَحْضِير الإجَابَة بتَفْصِيلِهَا، واللهُ المُسْتَعَانُ.

      وهذا مَا أعْلَمُ، واللهُ تَعَالَى أعْلَى وأعْلَمُ.
      والسَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ

      زائرنا الكريم نحن معك بقلوبنا
      كلنا آذان صاغيه لشكواك ونرحب بك دائما
      في
      :

      جباال من الحسنات في انتظارك





      تعليق


      • #4
        رد: اللحية هل هي واجبة

        بارك الله فيكم

        تعليق


        • #5
          رد: اللحية هل هي واجبة

          بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
          الأُخْتُ السَّائِلَةُ الكَرِيمَةُ
          السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ
          أمَّا بخُصُوصِ سُؤَالكِ عَنِ اللِّحْيَةِ، فَيَجِبُ التَّنْبِيه أوَّلاً عَلَى أمْرَيْنِ:
          الأوَّلُ: طَرِيقَةُ الدَّعْوَة.
          الثَّانِي: وَسَائِلُ الدَّعْوَة.

          فَأمَّا طَرِيقَةُ الدَّعْوَةِ: فَيُخْطِئُ الكَثِيرُونَ في دَعْوَتِهِم النَّاسَ إلى أمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، فَتَأخُذُهُم الحَمَاسَةُ للدِّينِ عَلَى حِسَابِ مُرَاعَاة عَقْل وثَقَافَة ونَفْسِيَّة الآخَرِينَ، فَيُكَلِّمُونَهُم بطَرِيقَةٍ تَجْعَلهُم يَنْفُرُونَ مِنْ تَطْبِيقِ بَعْض الشَّرَائِع حتى مَعَ اقْتِنَاعِهِم بِهَا وبحُكْمِهَا، ومِنْ أبْسَطِ الأمْثِلَة عَلَى ذَلِكَ عِنْدَمَا يُكَلِّم شَخْصٌ شَخْصًا في أمْرٍ هُوَ وَاجِبٌ شَرْعًا، ولَكِنَّهُ يُكَلِّمهُ فِيهِ وكَأنَّهُ هُوَ مَنْ أوْجَبَهُ عَلَيْهِ لا الله، فَنَجِدُ الشَّخْصَ الآخَر يَسْتَنْكِر هذا الأُسْلُوب ويَرْفُضهُ لإحْسَاسِهِ أنَّ مَنْ يُكَلِّمهُ يُرِيدُ أنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ عِنْدِهِ لا مِنْ عِنْدِ الله، فَيُعَانِد ويُكَابِر ويُصِرّ عَلَى مَوْقِفِهِ رَغْمَ قَنَاعَته أنَّ هذا مِنَ الدِّينِ، لَكِنْ نُفُوره مِنَ الطَّرِيقَةِ جَعَلَتْهُ يَنْفُر مِنَ الشَّيْءِ نَفْسه، ولِذَلِكَ فَإنَّ طَرِيقَةَ الدَّعْوَة عَلَيْهَا عَامِل كَبِير جِدًّا، ورُبَّمَا أتَت بنَتَائِج أفْضَل حَتَّى لَوْ يَكُن مَعَهَا دَلِيل شَرْعِيّ طَالَمَا كَانَت طَرِيقَة صَحِيحَة، لِذَا أُخْتنَا الكَرِيمَة فَقَدْ يَكُون زَوْجكِ قَدْ أحَسَّ مِنْكِ -عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْكِ- بأنَّكِ تُحَاوِلِينَ فَرْضَ رَأيكِ وقَنَاعَتكِ عَلَيْهِ، فَنَفَرَ مِنَ الأمْرِ بالكُلِّيَّةِ، فَأنْصَحُكِ في هذا بتَغْيِيرِ الطَّرِيقَة حَتَّى نَتَلاَفَى نُفُوره إنْ كَانَ هذا هُوَ السَّبَب، كَمَا أنْصَحُكِ بتَنْوِيعِ الوَسَائِل وعَدَمِ التَّرْكِيزِ عَلَى وَسِيلَةٍ وَاحِدَةٍ في دَعْوَتِهِ، فَلاَ تَكُون وَسِيلَتكِ الوَحِيدَة هي أنْ تُكَلِّمِيه بنَفْسِكِ دَائِمًا، بَلْ نَوِّعِي الوَسَائِل، فَتَنْوِيعُ الوَسَائِل مَعَ وِحْدَةِ الهَدَف يُعْطِي انْطِبَاعًا أقْوَى ويُرَسِّخ في الذِّهْن أهَمِّيَّة هذا الأمْر.

          أمَّا وَسَائِلُ الدَّعْوَةِ، فهي:
          1- اخْتِيَارُ الوَقْت المُنَاسِب لتَقَبُّلِهِ الكَلاَم مِنْكِ، واخْتِيَارُ العِبَارَات اللَّيِّنَة السَّهْلَة، وشَرْحُ الأمْرِ لَهُ عَلَى أنَّهُ شَرِيعَة الله، والتَّأكِيدُ عَلَى أنَّكِ مَا كَلَّمْتِهِ في ذَلِكَ إلاَّ حُبًّا لَهُ وطَمَعًا مِنْكِ في رِضَا الله عَنْهُ، لا لفَرْضِ رَأيكِ وقَنَاعَتكِ، لأنَّهُ أصْلاً شَرْع الله ولَيْسَ رَأيكِ، والابْتِسَامُ في وَجْهِهِ ابْتِسَامَةً تُرِيحُ قَلْبَهُ، فَلاَ يَفْهَم مِنْهَا أنَّكِ تَضْحَكِينَ سُخْرِيَةً مِنْهُ ولا يَجِدكِ عَابِسَةً في وَجْهِهِ.

          2- الدَّعْوَةُ في أيِّ أمْرٍ يَجِبُ أنْ تُبْنَى وتَقُوم عَلَى دُعَامَتَيّ (التَّرْغِيب والتَّرْهِيب) مَعًا، فَكَمَا تُخَوِّفِينَهُ مِنَ العِقَابِ إذا لَمْ يَفْعَل عَلَيْكِ بشَرْحِ الثَّوَاب والفَوَائِد إذا فَعَلَ، فَلاَ إفْرَاطَ في جَانِبٍ ولا تَفْرِيط، لأنَّ الدَّعْوَةَ بالتَّرْهِيبِ فَقَط مُنَفِّرَة، وبالتَّرْغِيبِ فَقَط مُضَيِّعَة لمَعْنَى الخَوْف والرَّجَاء الَّذِي هُوَ أصْلُ العِبَادَة، قَالَ تَعَالَى [ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ].

          3- العِلْمُ، فَالجَهْلُ لا يُحَارَبُ إلاَّ بالعِلْمِ، والكَلاَمُ المَبْنِي عَلَى الأدِلَّةِ أقْوَى وأشَدّ تَأثِيرًا مِنَ الكَلاَمِ العَادِيّ المُفْتَقِر إلى الدَّلِيلِ، إذْ أنَّ الأوَّلَ يَكُون فِيهِ قَوْل اللهِ وقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأقْوَال العُلَمَاء، فَتُبْنَى في النَّفْسِ قَنَاعَة أنَّ مَا يُقَال هُوَ شَرْع ودِين، أمَّا الثَّانِي فَيُبْنَى في النَّفْسِ أنَّهُ مُجَرَّد كَلاَم لا دَلِيلَ عَلَيْهِ، أو أنَّهُ رَأي خَاصّ بقَائِلِهِ لا يَلْزَم اتِّبَاعَه.

          4- إعْطَاؤُهُ الدُّرُوس والمُحَاضَرَات للشُّيُوخِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا في وُجُوبِ اللِّحْيَة ولَدَيْهم قَبُول عِنْدَهُ، فَلاَ تُعْطِيه مَثَلاً دَرْسًا لشَيْخٍ لا يُحِبُّهُ ولا يَسْمَعُهُ فَيَرْفُض.

          5- إعْطَاؤُهُ فَتَاوَى كِبَار العُلَمَاء في العَالَمِ الإسْلاَمِيّ بخُصُوصِ وُجُوب اللِّحْيَة، ليَقْرَأ تَفَاصِيلهَا ويَعْلَم الإجْمَاع في ذَلِكَ، وأنَّهُ أمْرٌ غَيْر خَاصّ بفَرْدٍ ولا بجَمَاعَةٍ، إنَّمَا هُوَ شَرْع عَلَى الجَمِيعِ.

          6- دَفْعُ بَعْضِ الأقَارِب مِمَّنْ لَهُم كَلِمَة عَلَيْهِ ويَحْتَرِمهُم ويَعْرِفُونَ وُجُوب اللِّحْيَة ليُكَلِّمُوه فِيهَا ويُبَيِّنُوا لَهُ حُكْمهَا، ويُبَيِّنُوا خَطَأ مَا يَفْعَلهُ مِنْ تَقْصِيرٍ مُتَزَايِدٍ فِيهَا يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وأنَّهُ بهذا يَفْتِن غَيْرَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ بَدَلاً مِنْ أنْ يَكُونَ قُدْوَة لَهُم، ويُسِيئ للإسْلاَمِ والمُلْتَحِين.

          7- يُمْكِنُ وَضْع بَعْض المُلْصَقَات في المَنْزِلِ مِمَّا يُبَاع في الأسْوَاقِ للتَّرْغِيبِ في اللِّحْيَةِ، أو حَتَّى كِتَابَة بَعْض الجُمَل باليَدِ ولَصْقهَا مِثْل (طَاعَةُ اللهِ جَالِبَةٌ للرِّزْقِ)، (مَا جُعِلَت السُّنَّة لتُتْرَك)، (خَابَ وخَسِرَ مَنْ خَشِيَ النَّاسَ ولَمْ يَخْشَ الله)، (اللِّحْيَةُ: فَرْضُ الله، سُنَّةُ الرَّسُولِ، زِينَةُ الرِّجَالِ)، ومَا إلى ذَلِكَ.

          8- إرْسَالُ بَعْض الكُتُب التي تَكَلَّمَت في وُجُوبِ اللِّحْيَة لَهُ كَهَدِيَّة، سَوَاء عَبْرَ البَرِيد الإلِكْتِرُونِيّ إنْ كَانَت كُتُبًا إلِكْتِرُونِيَّة، أو إرْسَالهَا بطَرِيقَةٍ عَادِيَّةٍ إنْ كَانَت كُتُبًا وَرَقِيَّة، ويُمْكِنكَ تَنْفِيذ ذَلِكَ بطَرِيقَةٍ تَجْعَلهُ لا يَعْرِف الرَّاسِل، حَتَّى لا يَشْعُر وكَأنَّكِ تُحَاصِرِينَهُ مِنْ كُلِّ الجِهَات، وفي ذَلِكَ نَنْصَحُ بكِتَاب (أدلة تحريم حلق اللحية، وكِتَاب اللحية لماذا - للشَّيْخِ مُحَمَّد إسْمَاعِيل المُقَدِّم)، وكِتَاب (وجوب إعفاء اللحية - للشَّيْخِ مُحَمَّد زَكَرِيَّا الكَانْدَهْلَوِي بتَحْقِيقِ العَلاَّمَة عَبْد العَزِيز بْن بَاز)، وكِتَاب (الرد على من أجاز تهذيب اللحية - للشَّيْخِ حَمُود التّوِيجرِي).

          9- الإكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ لَهُ بالهِدَايَةِ، وهُوَ مِنْ أقْوَى الأسْلِحَة في مُوَاجَهَةِ الشَّيْطَان، ومِنْ أقْوَى السُّبُل في تَحْقِيق المَطَالِب.

          وفي المُشَارَكَاتِ التَّالِيَة بإذْنِ الله أعْرِضُ عَلَيْكِ بَحْثًا يَسِيرًا مَنَّ اللهُ عَلَيَّ بعَمَلِهِ، ونَدْعُو اللهَ أنْ يَكُونَ فِيهِ العِلْم والخَيْر لَكِ ولزَوْجِكِ وللمُسْلِمِينَ جَمِيعًا بإذْنِ الله، اللَّهُمَّ آمِينَ.

          وهذا مَا أعْلَمُ، واللهُ تَعَالَى أعْلَى وأعْلَمُ.
          والسَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ

          زائرنا الكريم نحن معك بقلوبنا
          كلنا آذان صاغيه لشكواك ونرحب بك دائما
          في
          :

          جباال من الحسنات في انتظارك





          تعليق


          • #6
            رد: اللحية هل هي واجبة

            بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
            الأُخْتُ السَّائِلَةُ الكَرِيمَةُ
            السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ
            قَبْلَ اسْتِعْرَاضِ الأدِلَّة وأقْوَال العُلَمَاء سَلَفًا وخَلَفًا في القَوْلِ بوُجُوبِ اللِّحْيَةِ، أنْقِلُ حَدِيثَيْنِ لرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ يَفْهَمُ مِنْهُمَا كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ سَمْعٌ وبَصَرٌ أنَّ مَا مِنْ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم إلاَّ وفِيهِ خَيْرٌ، فَمَا بَالُنَا لَوْ أمَرَنَا بِهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم [ إنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبكُمْ إلى الجَنَّةِ إلاَّ قَدْ أمَرْتُكُمْ بِهِ، ولَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ إلى النَّارِ إلاَّ قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، إنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رَوْعِي: أنَّ نَفْسًا لا تَمُوتُ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وأجْمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أنْ تَطْلُبُوهُ بمَعَاصِي اللهِ، فَإنَّ اللهَ لا يُدْرَكُ مَا عِنْدَهُ إلاَّ بطَاعَتِهِ ] السِّلْسِلَةُ الصَّحِيحَةُ للألْبَانِيِّ، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، ويُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وإنَّ أُمَّتَكُمْ هذه جُعِلَ عَافِيَتُهَا في أوَّلِهَا، وسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيَرْقُقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وتَجِيءُ الفِتْنَةُ فَيَقُولُ المُؤْمِنُ: هذه مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، وتَجِيءُ الفِتْنَةُ فَيَقُولُ المُؤْمِنُ: هذه هذه، فَمَنْ أحَبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ ويُدْخُلَ الجَنَّةَ فَلْتَأتِهِ مَنِيَّتُهُ وهُوَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، وليَأْتِ إلى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أنْ يُؤْتَى إلَيْهِ، ومَنْ بَايَعَ إمَامًا فَأعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وثَمَرَةَ قَلْبِهِ؛ فَلْيُطِعْهُ إنِ اسْتَطَاعَ، فَإنْ جَاءَ آخَرٌ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ ] رَوَاهُ مُسْلِمٌ، الشَّاهِدُ في الحَدِيثَيْنِ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم لَنْ يَأمُرَ إلاَّ بِمَا فِيهِ الخَيْرُ، ومَنْ لَهُ أدْنَى مَعْرِفَةٍ باللُّغَةِ يَعْرِفُ أنَّ (فِعْلَ الأمْرِ) يُفِيدُ الوُجُوبَ والإلْزَامَ، ومَنْ لَهُ أدْنَى مَعْرِفَةٍ بأحَادِيثِ اللِّحْيَةِ يَعْرِفُ أنَّهَا جَاءَتْ كُلُّهَا بصِيَغِ الأمْرِ عَلَى اخْتِلاَفِ الألْفَاظِ والرِّوَايَاتِ، والَّتي تُثْبِتُ في مَجْمُوعِهَا الوُجُوبَ ولَيْسَ الاسْتِحْبَابُ، ومَنْ لَهُ أدْنَى مَعْرِفَةٍ بالقَوَاعِدِ الفِقْهِيَّةِ يَعْرِفُ أنَّ (الأمْرَ يُفِيدُ الوُجُوبَ مَا لَمْ تَأتِ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ إلى الاسْتِحْبَابِ)، ومَنْ يُرَاجِعُ الآثَارَ الطِّبِّيَّةِ السَّيِّئَةِ الَّتي يُحْدِثُهَا حَلْقُ اللِّحْيَةِ، يَعْرِفُ ويَتَأكَّدُ أنَّ الأمْرَ بإطْلاَقِهَا كَانَ لمَصْلَحَةِ المُسْلِمِ أوَّلاً ولَيْسَ لمُجَرَّدِ مُخَالَفَةِ المُشْرِكِينَ فَقَطْ، ليَجْتَمِعَ الدَّلِيلُ النَّقْلِيُّ والعَقْلِيُّ عَلَى إثْبَاتِ وُجُوبِهَا.

            مِنْ أكْثَرِ العُلَمَاء الَّذِينَ يُؤْخَذُ عَنْهُم القَوْل بكَشْفِ وَجْه المَرْأة وتَقْصِير لِحْيَة الرَّجُل، هُوَ الدُّكْتُور يُوسُف القَرَضَاوِي، وخَاصَّةً في كِتَابِهِ الحَلاَل والحَرَام، وللأسَفِ يَنْخَدِع الكَثِيرُونَ بهذا القَوْل الَّذِي يُرَوَّج لَهُ بشِدَّةٍ عَلَى أنَّهُ القَوْل الصَّحِيح والوَسَط وأنَّ مَا سِوَاه هُوَ تَشَدُّد وتَزَمُّت، والحَقِيقَة أنَّ هذا الرَّأي وهذا الكِتَاب ومَا شَابَهَهُمَا مِنْ آرَاءٍ وكُتُبٍ مَرْدُودَةٌ عَلَى أصْحَابِهَا – عَفَا اللهُ عَنَّا وعَنْهُم وغَفَرَ لَنَا ولَهُم - لِمَا فِيهَا مِنْ أخْطَاءٍ، ولَقَدْ نَقَدَهُ أكْثَرُ مِنْ عَالِمٍ مِمَّنْ هُمْ أعْلَمُ مِنَ الشَّيْخِ بالدَّلِيلِ والقِيَاسِ والإجْمَاعِ وغَيْرِ ذَلِكَ، ومِنَ الفِقْهِ ألاَّ يَحْمِلَنَا إعْجَابُنَا وحُبُّنَا لعَالِمٍ أنْ نُوَافِقَهُ عَلَى خَطَأٍ أخْطَأ فِيهِ وخَاصَّةً إذا وَافَقَ ذَلِكَ هَوَانَا، بَلْ مِنَ الفِقْهِ وأدَبِ الخِلاَفِ وحُسْنِ الإتِّبَاعِ عَلَى بَصِيرَةٍ أنْ نَأخُذَ عَنْهُ مَا صَحَّ مِنْهُ ولا نَتَّبِعَهُ فِيمَا زَلَّ فِيهِ، والعَجِيبُ أنَّ الدُّكْتُورَ القَرَضَاوِي نَفْسُه لا يَأخُذُ بالقَوْلِ الَّذِي يَرَاهُ صَوَابًا، فَلاَ يَتْرُكُ لِحْيَتَهُ ويَأخُذُ مَا زَادَ عَنِ القَبْضَةِ، وفِيمَا يَلِي أنْقِلُ مِنْ بَيْنِ رُدُودِ العُلَمَاءِ عَلَى كِتَابِ الدُّكْتُورِ القَرَضَاوِي كَلاَمًا نَفِيسًا للشَّيْخِ صَالِح الفَوْزَان مِنْ كِتَابِهِ الإعْلاَمُ بنَقْدِ كِتَابِ الحَلاَلِ والحَرَامِ؛ الجُزْءُ الخَاصُّ بالرَّدِّ عَلَى الدُّكْتُورِ القَرَضَاوِي في أمْرِ اللِّحْيَةِ، يَقُولُ الشَّيْخُ الفَوْزَان:
            ثُمَّ بَحَثَ المُؤَلِّفُ في مَوْضُوعِ إعْفَاءِ اللِّحْيَةِ في صَفْحَةِ (81‏) مِنَ الطَّبْعَةِ الرَّابِعَةِ لكِتَابِهِ ووَقَعَ مِنْهُ أخْطَاءٌ في هَذا المَوْضُوعِ إلَيْكَ بَيَانُهَا:

            الخَطَأُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ [ ولَيْسَ المُرَادُ بإعْفَائِهَا ألاَّ يَأخُذَ مِنْهَا شَيْئًا أصْلاً، فَذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي إلى طُولِهَا طُولاً فَاحِشًا يَتَأذَّى بِهِ صَاحِبُهَا، بَلْ يَأخُذُ مِنْ طُولِهَا وعَرْضِهَا كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ في حَدِيثٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وكَمَا كَانَ يَفْعَلُ بَعْضُ السَّلَفِ ] اهـ.
            فَقَوْلُهُ: (لَيْسَ المُرَادُ بإعْفَائِهَا ألاَّ يَأخُذَ مِنْهَا شَيْئًا) نَقُولُ عَنْهُ: بَلَى واللهِ إنَّ هَذا هُوَ المُرَادُ بإعْفَائِهَا الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الأحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وقَالَ بِهِ الأئِمَّةُ، قَالَ النَّوَوِيُّ في شَرْحِهِ لصَحِيحِ مُسْلِمِ (3-194‏) [ وأمَّا إعْفَاءُ اللِّحْيَةِ فَمَعْنَاهُ تَوْفِيرُهَا، وهُوَ مَعْنَى (أوْفُوا) في الرِّوَايِة الأُخْرَى، وكَانَ مِنْ عَادَةِ الفُرْسِ قَصُّ اللِّحْيَةِ؛ فَنَهَى الشَّرْعُ عَنْ ذَلِكَ ]؛ إلى أنْ قَالَ [ فَحَصَلَ خَمْسُ رِوَايَاتٍ (أعْفُوا – وأوْفُوا – وأرْخُوا – وأرْجُوا – ووَفِّرُوا)، ومَعْنَاهَا كُلِّهَا تَرْكُهَا عَلَى حَالِهَا، هذا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الحَدِيثِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ ألْفَاظُهُ - اهـ ]، وقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ الشَّوْكَانِيُّ في نَيْلِ الأوْطَارِ (1-131‏)‏.

            وقَوْلُ المُؤَلِّفِ (بَلْ يَأخُذُ مِنْ طُولِهَا وعَرْضِهَا كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ في حَدِيثٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ) نَقُولُ: هَذا الحَدِيثُ الَّذِي أشَارَ إلَيْهِ حَدِيثٌ لا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، لأنَّهُ ضَعِيفٌ جِدًّا، وألْحَقَهُ بَعْضُ العُلَمَاءِ بالمَوْضُوعَاتِ، قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَر في الفَتْحِ [ وهَذا أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ ونَقَلَ عَنِ البُخَارِيِّ أنَّهُ قَالَ في رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ هَارُون (لا أعْلَمُ لَهُ حَدِيثًا مُنْكَرًا إلاَّ هَذا) اهـ، وقَدْ ضَعَّفَ عُمْرَ بْن هَارُونَ مُطْلَقًا جَمَاعَةٌ ] اهـ كَلاَمُ الحَافِظِ، وقَالَ الشَّوْكَانِيُّ في نَيْلِ الأوْطَارِ (1-131‏) [ ولَكِنَّهُ قَدْ أخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرٍو بْنِ شُعَيْبَ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَانَ يَأخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ عَرضِهَا وطُولِهَا) وقَالَ غَرِيبًا، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا بْنَ إسْمَاعِيلَ يَعْنِي البُخَارِيُّ يَقُولُ: عُمَرُ بْنُ هَارُون يَعْنِي المَذْكُورُ في إسْنَادِهِ مُقَارِبُ الحَدِيثِ، ولا أعْرِفُ لَهُ حَدِيثًا لَيْسَ لَهُ أصْلٌ، أو قَالَ: يَنْفَرِدُ بِهِ إلاَّ هَذا الحَدِيثُ، لا نَعْرِفُهُ إلاَّ مِنْ حَدِيثٍ ]، وقَالَ في التَّقْرِيبِ [ إنَّهُ مَتْرُوكٌ ]، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ [ فَعَلَى هَذا أنَّهَا لا تَقُومُ بالحَدِيثِ حُجَّةٌ ](ببَعْضِ اخْتِصَارٍ) اهـ، وقَالَ النَّوَوِيُّ في المَجْمُوعِ شَرْحِ المُهَذَّبِ [ وأمَّا حَدِيثُ عَمْرٍو بْنِ شُعَيْبَ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَانَ يَأخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ عَرْضِهَا وطُولِهَا؛ فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بإسْنَادٍ ضَعِيفٍ لا يُحْتَجُّ بِهِ ] اهـ (1-290).

            وقَوْلُ المُؤَلِّفِ (وكَمَا كَانَ يَفْعَلُ بَعْضُ السَّلَفِ)؛ نَقُولُ: الحُجَّةُ فِيمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لا فِيمَا خَالَفَهُ، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ في نَيْلِ الأوْطَارِ (1-138) عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ المُنْتَقَى [ (وكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذا حَجَّ أو اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا فَضلَ أخَذَهُ)، قَالَ: وقَدِ اسْتَدَلَّ بذَلِكَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ، والرِّوَايَاتُ المَرْفُوعَةُ تَرُدُّهُ ] انْتَهَى، ونَقُولُ أيْضًا: لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أحَدٍ مِنْ سَلَفِ الأُمَّةِ أنَّهُ كَانَ يَأخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ، بَلْ هُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنَ الأمْرِ بإعْفَاءِ اللِّحْيَةِ، نَعَمْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ أنَّهُ إذا حَجَّ أو اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ وأخَذَ مَا زَادَ عَلَى القَبْضَةِ، ولَيْسَ في هذا دَلاَلَةٌ عَلَى الأخْذِ مِنَ اللِّحْيَةِ مُطْلَقًا، وإنَّمَا يَفْعَلُهُ ابْنُ عُمَرَ إذا أدَّى نُسُكًا؛ حَجًّا أو عُمْرَةً مَعَ حَلْقِهِ لشَعْرِ رَأسِهِ أو تَقْصِيرِهِ؛ يَأخُذُ مَا زَادَ عَلَى القَبْضَةِ، فَنُطَالِبُ الأُسْتَاذَ بصِحَّةِ مَا نَقَلَهُ عَنِ السَّلَفِ المُعْتَبَرِينَ مِنْ أخْذِ شَيْءٍ مِنْ لِحَاهُمْ، وأنَّى لَهُ ذَلِكَ.

            الخَطَأُ الثَّانِي: قَوْلُ المُؤَلِّفِ [ وبهذا نَرَى أنَّ في حَلْقِ اللِّحْيَةِ ثَلاَثَةُ أقْوَالٍ: قَوْلٌ بالتَّحْرِيمِ وهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وغَيْرُهُ، وقَوْلٌ بالكَرَاهَةِ وهُوَ الَّذِي ذُكِرَ في الفَتْحِ عَنْ عِيَاضٍ ولَمْ يُذْكَرْ غَيْرُهُ، وقَوْلٌ بالإبَاحَةِ وهُوَ الَّذِي يَقُولُ بِهِ بَعْضُ عُلَمَاءِ العَصْرِ، ولَعَلَّ أوْسَطَهَا وأقْرَبَهَا وأعْدَلهَا وهُوَ القَوْلُ بالكَرَاهَةِ، فَإنَّ الأمْرَ لا يَدُلُّ عَلَى الوُجُوبِ جَزْمًا وإنْ عُلِّلَ بمُخَالَفَةِ الكُفَّارِ، وأقْرَبُ مَثَلٍ عَلَى ذَلِكَ هُوَ الأمْرُ بصَبْغِ الشَّيْبِ مُخَالَفَةً لليَهُودِ والنَّصَارَى، فَإنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَصْبِغُوا، فَدَلَّ عَلَى أنَّ الأمْرَ للاسْتِحْبَابِ، صَحِيحٌ أنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أحَدٍ مِنَ السَّلَفِ حَلْقُ اللِّحْيَةِ، ولَعَلَّ ذَلِكَ لأنَّهُ لَمْ تَكُنْ بِهِمْ حَاجَةٌ لحَلْقِهَا وهي عَادَتُهُمْ ] اهـ.
            نَقُولُ: إنَّ تَرْجِيحَ المُؤَلِّفِ للقَوْلِ بكَرَاهَةِ حَلْقِ اللِّحْيَةِ فَقَطْ تَرْجِيحٌ بَاطِلٌ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ، والأدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ تَقْتَضِي خِلاَفَهُ؛ وتَدُلُّ عَلَى أنَّ الصَّوَابَ هُوَ القَوْلُ الأوَّلُ وهُوَ تَحْرِيمُ حَلْقِ اللِّحْيَةِ، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ في مَرَاتِبِ الإجْمَاعِ صَحِيفَةُ (157) [ واتَّفَقُوا أنَّ حَلْقَ جَمِيعِ اللِّحْيَةِ مُثْلَةٌ لا تَجُوزُ ] اهـ، وقَالَ شَيْخُ الإسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ [ يَحْرُمُ حَلْقُ اللِّحْيَةِ للأحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، ولَمْ يُبِحْهُ أحَدٌ ].

            وأمَّا قِيَاسُ المُؤَلِّفِ الأمْرُ بإعْفَاءِ اللِّحْيَةِ عَلَى الأمْرِ بصَبْغِ الشَّيْبِ في أنَّ كُلاًّ مِنْهُمَا يُفِيدُ الاسْتِحْبَابَ؛ فَهُوَ قِيَاسٌ بَاطِلٌ، لأنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ الفَارِقِ؛ إذِ الأمْرُ بإعْفَاءِ اللِّحْيَةِ لَمْ يَأتِ مَا يَصْرِفُهُ عَنِ الوُجُوبِ إلى الاسْتِحْبَابِ بخِلاَفِ الأمْرِ بصَبْغِ الشَّيْبِ؛ فَقَدْ جَاءَ مَا يَصْرِفُهُ عَنِ الوُجُوبِ إلى الاسْتِحْبَابِ، قَالَ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمِ (14-80) [ وقَالَ القَاضِي: اخْتَلَفَ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ في الخِضَابِ وفي جِنْسِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَرْكُ الخِضَابِ أفْضَلُ، ورَوُوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في النَّهْيِ عَنْ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ، ولأنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يُغَيِّرْ شَيْبَهُ، رُوِيَ هذا عَنْ عُمَرَ وعَلِيِّ وأُبَيْ وآخَرِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وقَالَ آخَرُونَ: الخِضَابُ أفْضَلُ، وخَضَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ ومَنْ بَعْدَهُمْ للأحَادِيثِ الَّتي ذَكَرَهَا مُسْلِمُ وغَيْرُهُ، إلى أنْ قَالَ: قَالَ الطَّبَرِيُّ (الصَّوَابُ أنَّ الآثَارَ المَرْوِيَّةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بتَغْيِيرِ الشَّيْبِ وبالنَّهْيِ عَنْهُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ ولَيْسَ فِيهَا تَنَاقُضٌ، بَلِ الأمْرُ بالتَّغْيِيرِ لِمَنْ شَيْبُهُ كَشَيْبِ أبِي قُحَافَةَ، والنَّهْيُ لِمَنْ لَهُ شِمَطٌ فَقَطْ، قَالَ: واخْتِلاَفُ السَّلَفِ في فِعْلِ الأمْرَيْنِ بحَسْبِ اخْتِلاَفِ أحْوَالِهِمْ في ذَلِكَ، مَعَ أنَّ الأمْرَ والنَّهْيَ في ذَلِكَ لَيْسَ للوُجُوبِ بالإجْمَاعِ، ولهذا لَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ خِلاَفَهُ في ذَلِكَ ] اهـ.

            ونَقُولُ أيْضًا: لَيْسَتِ العِلَّةُ في إعْفَاءِ اللِّحْيَةِ مُخَالَفَةَ الكُفَّارِ فَقَطْ كَمَا في الصَّبْغِ، بَلْ وكَوْنُ إعْفَائِهَا مِنْ خِصَالِ الفِطْرَةِ كَمَا في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وأيْضًا الصَّحَابَةُ والتَّابِعُونَ ومَنْ بَعْدَهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا في مَدْلُولِ الأمْرِ بإعْفَاءِ اللِّحْيَةِ، وقَدِ اخْتَلَفُوا في مَدْلُولِ الأمْرِ بصَبْغِ الشَّيْبِ، فَظَهَرَ مِنْ هذه الوُجُوهِ الفَرْقُ بَيْنَ الأمْرِ بإعْفَاءِ اللِّحْيَةِ والأمْرِ بصَبْغِ الشَّيْبِ، وبَطُلَ قِيَاسُ المُؤَلِّفِ إعْفَاءُ اللِّحْيَةِ عَلَى صَبْغِ الشَّيْبِ.

            وأمَّا تَعْلِيلُهُ عَدَمُ حَلْقِ أحَدٍ مِنَ السَّلَفِ للِحْيَتِهِ بكَوْنِهِمْ لَمْ يَكُنْ بِهِمْ حَاجَةٌ إلَيْهِ وهي عَادَتُهُمْ؛ فَهُوَ تَعْلِيلٌ سَاقِطٌ، يَكْفِي سُقُوطُهُ عَنْ رَدِّهِ، ونَقُولُ: عَدَمُ حَلْقِ أحَدٍ مِنْهُمْ للِحْيَتِهِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ عِنْدَهُمْ، وقَدْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ اللِّحْيَةَ ويُعْلُونَ مِنْ شَأنِهَا كَمَا في قِصَّةِ قَيْس بْن سَعْد رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَقَدْ كَانَ أثطٌ أي أمْرَدٌ لا لِحْيَةَ لَهُ فَقَالَتِ الأنْصَار [ نِعْمَ السَّيِّدَ قَيْس؛ لبُطُولَتِهِ وشَهَامَتِهِ؛ ولَكِنْ لا لِحْيَةَ لَهُ، فَوَاللهِ لَوْ كَانَتِ اللِّحْيَةُ تُشْتَرَى بالدَّرَاهِمِ لاشْتَرَيْنَا لَهُ لِحْيَةً ليَكْمُلَ رَجُلٌ ]، هذا شَأنُ سَلَفِنَا الصَّالِحِ في اللِّحْيَةِ وتَعْظِيمِهَا، وأنَّهَا عَلاَمَةٌ عَلَى كَمَالِ الرُّجُولِيَّةِ، وقَدْ قَرَّرَ العُلَمَاءُ فِيمَنْ جَنَى عَلَى لِحْيَتِهِ فَتَسَاقَطَ شَعْرُهَا ولَمْ يَنْبُتْ أنَّ عَلَى الجَانِي دِيَّةٌ كَامِلَةٌ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ، فَكَيْفَ يُقَالُ بَعْدَ هذا إنَّ حَلْقَهَا لَيْسَ بحَرَامٍ؟ انْتَهَى كَلاَمُ الشَّيْخِ الفَوْزَان.

            أمَّا رَدًّا عَلَى شُبْهَةِ التَّعْلِيلِ بمُشَابَهَةِ الكُفَّارِ، فَأنْقِلُ فَتْوَى اللَّجْنَةِ الدَّائِمَةِ للبُحُوثِ العِلْمِيَّةِ والإفْتَاءِ والَّتي فِيهَا كَلاَمٌ قَيِّمٌ لشَيْخِ الإسْلاَم ابْن تَيْمِيَّة يُثْبِتُ فِيهِ أنَّهُ حَتَّى لَوْ كَانَ الأمْرُ بإطْلاَقِهَا لمُخَالَفَةِ الكُفَّارِ، فَهُوَ للوُجُوبِ عَلَى الدَّوَامِ، تَقُولُ اللَّجْنَةُ:
            حَلْقُ اللِّحْيَةِ حَرَامٌ لِمَا وَرَدَ في ذَلِكَ مِنَ الأحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ والصَّرِيحَةِ والأخْبَارِ ولعُمُومِ النُّصُوصِ النَّاهِيَةِ عَنِ التَّشَبُّهِ بالكُفَّارِ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَر أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ [ خَالِفُوا المُشْرِكِينَ؛ وَفِّرُوا اللِّحَى واحْفُوا الشَّوَارِبَ ] وفي رِوَايَةٍ [ احْفُوا الشَّوَارِبَ واعْفُوا اللِّحَى ]، وفِيهِ أحَادِيثُ أُخْرَى بهذا المَعْنَى، وإعْفَاءُ اللِّحْيَةِ تَرْكُهَا عَلَى حَالِهَا، وتَوْفِيرُهَا إبْقَاءُهَا وَافِرَةٌ مِنْ دُونِ أنْ تُحْلَقَ أو تُنْتَفَ أو يُقَصَّ مِنْهَا شَيْءٌ، حَكَى ابْن حَزْم الإجْمَاعَ عَلَى أنَّ قَصَّ الشَّارِبِ وإعْفَاءَ اللِّحْيَةِ فَرْضٌ، واسْتَدَلَّ بجُمْلَةِ أحَادِيثَ مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ السَّابِقُ وبحَدِيثِ زَيْد بْن أرْقَم أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ [ مَنْ لَمْ يَأخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا ] صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ في الفُرُوعِ [ وهذه الصِّيغَةُ عِنْدَ أصْحَابِنَا - يَعْنِي الحَنَابِلَةُ - تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ ]، قَالَ شَيْخُ الإسْلاَمِ ابْنِ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ اللهُ [ وقَدْ دَلَّ الكِتَابُ والسُّنَّةُ والإجْمَاعُ عَلَى الأمْرِ بمُخَالَفَةِ الكُفَّارِ والنَّهْيِ عَنْ مُشَابَهَتِهِمْ في الجُمْلَةِ؛ لأنَّ مُشَابَهَتَهُمْ في الظَّاهِرِ سَبَبًا لمُشَابَهَتِهِمْ في الأخْلاَقِ والأفْعَالِ المَذْمُومَةِ بَلْ وفي نَفْسِ الاعْتِقَادَاتِ، فَهِيَ تُورِثُ مَحَبَّةً ومُوَالاَةً في البَاطِنِ، كَمَا أنَّ المَحَبَّةَ في البَاطِنِ تُورِثُ المُشَابَهَةَ في الظَّاهِرِ، ورَوَى التِّرْمِذِيُّ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بغَيْرِنَا، لا تَشَبَّهُوا باليَهُودِ ولا بالنَّصَارَى) الحَدِيثُ، وفي لَفْظٍ (مَنْ تَشَبَّهَ بقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ) رَوَاهُ الإمَامُ أحْمَدُ ]، ورَدَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّاب شَهَادَةَ مَنْ يَنْتِفُ لِحْيَتَهُ، وقَالَ الإمَامُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ في التَّمْهِيدِ [ يَحْرُمُ حَلْقُ اللِّحْيَةِ، ولا يَفْعَلُهُ إلاَّ المُخَنَّثُونَ مِنَ الرِّجَالِ ] يَعْنِي بذَلِكَ المُتَشَبِّهِينَ بالنِّسَاءِ، و[ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَثِيرَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ ] رَوَاهُ مُسْلِمُ عَنْ جَابِر، وفي رِوَايَةٍ [ كَثِيفَ اللِّحْيَةِ ]، وفي أُخْرَى [ كَثَّ اللِّحْيَةِ ] والمَعْنَى وَاحِدٌ، ولا يَجُوزُ أخْذُ شَيْءٍ مِنْهَا لعُمُومِ أدِلَّةِ المَنْعِ. انْتَهَى كَلاَمُ اللَّجْنَةِ.

            وأحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أنَّ شُيُوخَنَا وعُلَمَاءَنَا الأفَاضِلَ يَتَّبِعُونَ مَنْهَجًا عِلْمِيًّا صَحِيحًا سَوَاءً في البَحْثِ أو الرَّدِّ، والحَمْدُ للهِ تَعَالَى مَا نَقَدُوا أحَدًا يَوْمًا واسْتَطَاعَ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ بِمَا هُوَ أقْوَى إنْ رَدَّ أصْلاً، وصَدَقَ مَنْ قَالَ أنَّ الإجْمَاعَ لا يَكُونُ إلاَّ عَلَى حَقٍّ، وأخْتِمُ كَلاَمِي بتَوْضِيحٍ هَامٍّ مِنْ خِلاَلِ هذا السُّؤَالِ: أهْلُ الكُفْرِ مُجْمِعُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وهُمْ أكْثَرُ عَدَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ، فَهَلْ إجْمَاعُهُمْ يُؤْخَذُ بِهِ؟ وهَلْ خِلاَفُهُمْ مَعَنَا مُعْتَبَرٌ؟ وهَلْ كَثْرَةُ عَدَدِهِمْ تَشْفَعُ لَهُمْ في البَاطِلِ؟ لا والله، لا بكَثْرَةِ العَدَدِ ولا بكَوْنِهِمْ لَهُمْ رَأيٌ مُخَالِفٌ، فَلَيْسَ كُلُّ خِلاَفٍ يُؤْخَذُ بِهِ، الشَّاهِدُ: لَيْسَ كُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ (مِنْ أهْلِ المَنْطِقِ والكَلاَمِ) أو مِنْ (أهْلِ إتِّبَاعِ الرُّخَصِ وزَلاَّتِ العُلَمَاءِ) أو مِمَّنْ (اجْتَهَدُوا فَأخْطَئُوا) يُعْتَبَرُ كَلاَمُهُمْ خِلاَفًا، ويُنْشَرُ كَلاَمُهُمْ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى أنَّ المَسْألَةَ فِيهَا خِلاَفٌ، ونُكْثِرُ مِنْ ذِكْرِ أسْمَاءَ مَعْرُوفَةٍ أو غَيْر مَعْرُوفَةٍ لمُجَرَّدِ بَيَانِ الخِلاَفِ وإظْهَارِهِ، وهُوَ لَيْسَ بخِلاَفٍ أصْلاً، فَخِلاَفُهُمْ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ بالدَّلِيلِ لا بالاسْتِحْسَانِ والاسْتِنْتَاجِ والتَّحْلِيلِ المَنْطِقِيِّ المُخَالِفِ للنُّصُوصِ، فَلَيْسَ مُجَرَّدُ قِرَاءَةِ الكُتُبِ يُسَمَّى بَحْثًا، ولا اخْتِيَارَ مَا يُوَافِقُ الهَوَى يُسَمَّى بَحْثًا، ولا البَحْثَ عَنِ الأقْوَالِ الشَّاذَّةِ والمَعْلُولَةِ يُسَمَّى بَحْثًا، ثُمَّ يُرَقَّى كُلُّ ذَلِكَ إلى مَرْتَبَةِ الاجْتِهَادِ، فَالاجْتِهَادُ يَكُونُ في النَّصِّ ولَيْسَ مَعَ النَّصِّ، وبأُصُولِهِ وقَوَاعِدِهِ وضَوَابِطِهِ ومِمَّنْ هُمْ أهْلٌ لَهُ، فَمَنْ شَذَّ عَنْ ذَلِكَ لا يَكُونُ كَلاَمُهُ مُعْتَبَرًا سَوَاءٌ كَانَ مِنَ العُلَمَاءِ أو مِنْ دُونِهِمْ، وللهِ دَرُّ القَائِلِ:

            العِلْمُ قَالَ اللهُ قَالَ رَسُولُهُ *** قَالَ الصَّحَابَةُ هُمْ أُولُو العِرْفَانِ

            مَا العِلْمُ نَصْبُكَ للخِلاَفِ سَفَاهَةً *** بَيْنَ النُّصُوصِ وبَيْنَ قَوْلِ فُلاَنِ

            وقَالَ آخَرُ
            ولَيْسَ كُلُّ خِلاَفٍ جَاءَ مُعْتَبَرًا *** إلاَّ خِلاَفٌ لَهُ حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ

            وقَالَ آخَرُ
            العِلْمُ قَالَ اللهُ قَالَ رَسُولُهُ *** قَالَ الصَّحَابَةُ لَيْسَ خِلاَفٌ فِيهْ
            مَا العِلْمُ نَصْبُكَ للخِلاَفِ سَفَاهَةً *** بَيْنَ النُّصُوصِ وبَيْنَ رَأيِ فَقِيهْ

            وفِيمَا يَلِي نَبْدَأُ بإذْنِ الله بتَفْنِيدِ أحَادِيثِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في وُجُوبِ اللِّحْيَةِ لُغَةً وشَرْعًا وإجْمَاعًا، واللهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا يَصِفُونَ.

            وهذا مَا أعْلَمُ؛ واللهُ تَعَالَى أعْلَى وأعْلَمُ.
            والسَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ

            زائرنا الكريم نحن معك بقلوبنا
            كلنا آذان صاغيه لشكواك ونرحب بك دائما
            في
            :

            جباال من الحسنات في انتظارك





            تعليق


            • #7
              رد: اللحية هل هي واجبة

              بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
              الإخْوَةُ والأخَوَاتُ الكِرَامُ
              السَّلامُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ

              الكُلُّ يَعْرِفُ أنَّ الإسْلاَمَ يُحَارَبُ عَلَى مَرِّ العُصُورِ وباخْتِلاَفِ الأمَاكِنِ والثَّقَافَاتِ والأشْخَاصِ، وهَذا قَدْ يَكُونُ مَقْبُولاً مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفِ الإسْلاَمَ أو عَرَفَهُ ورَفَضَهُ، لَكِنْ مِنْ أعْجَبِ الأُمُورِ أنْ نَجِدَ مِنَ المُسْلِمِينَ (أو الأصَحُّ أنْ نَقُولَ: مِنَ المُنْتَسِبِينَ إلى الإسْلاَمِ اسْمًا فَقَطْ) مَنْ يُحَارِبُ الإسْلاَمَ أيْضًا، فَتَارَةً يَدَّعِي أنَّهُ مُفَكِّرٌ مِنْ حَقِّهِ بَلْ مِنَ الوَاجِبِ عَلَيْهِ أنْ يُعْمِلَ عَقْلَهُ في فَهْمِ الدِّينِ بالطَّرِيقَةِ الَّتِي يَرَاهَا، وكَأنَّ اللهَ تَعَالَى أنْزَلَ الدِّينَ وتَرَكَهُ لكُلِّ فَرْدٍ يَفْهَمُهُ بطَرِيقَتِهِ الخَاصَّةِ دُونَ ضَوَابِطٍ أو قُيُودٍ، بَلْ ويَعْتَبِرُ هَذِهِ الضَّوَابِطَ عَائِقًا أمَامَ اسْتِخْدَامِ نِعْمَةَ العَقْلِ وأنَّ اتِّبَاعَِهَا مِنَ التَّشَدُّدِ والتَّضْيِيقِ، حَتَّى وَصَلَ الأمْرُ بأدْعِيَاءِ العَقْلِ هَؤُلاَءِ إلى أنْ قَالُوا في الدِّينِ مَا لَمْ يَقُلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ نَفْسُهُ ولا أيٍّ مِنَ العُلَمَاءِ عَلَى مَرِّ التَّارِيخِ، ثُمَّ تَارَةً يَدَّعِي أنَّهُ مُحَقِّقٌ؛ يَبْحَثُ ويُحَقِّقُ في الأدِلَّةِ، فَيُضَعِّفُ الصَّحِيحَ ويُصَحِّحُ الضَّعِيفَ وِفْقًا لِمَا يُؤَكِّدُ رَأيَهُ لا وِفْقًا للأدِلَّةِ العِلْمِيَّةِ المَعْمُولِ بِهَا في هَذا العِلْمِ، وتَارَةً يَدَّعِي أنَّهُ مُجَدِّدٌ؛ فَيُفَسِّرُ أحْكَامَ الدِّينِ وِفْقَ هَوَاهُ الَّذِي يُسَمِّيهِ (التَّفْسِيرُ المُنَاسِبُ للعَصْرِ)، حَتَّى وَصَلَ الأمْرُ إلى اجْتِرَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى الإفْتَاءِ فحَرَّمُوا الحَلاَلَ وأحَلُّوا الحَرَامَ، وتَارَةً يَدَّعِي أنَّهُ يُحَاوِلُ التَّوْفِيقَ والتَّقْرِيبَ بَيْنَ الدِّيَانَاتِ فَيَقَعُ في الجَهَالاَتِ، وتَارَةً يَسْتَمِعُ بَلْ ويَبْحَثُ عَنِ الشُّبُهَاتِ ليُكَذِّبَهَا فَنَجِدُهُ قَدْ صَدَّقَهَا ووَقَعَ في الضَّلاَلاَتِ، كُلُّ ذَلِكَ لأنَّ هَؤُلاَءِ الصِّنْفَ مِنَ النَّاسِ يَتَّسِمُونَ بصِفَاتٍ أرْبَعٍ (الجَهْلُ – العُجْبُ – الكِبْرُ - المَكْرُ)، فَلَمَّا كَانَ جَاهِلاً عُرِضَ عَلَيْهِ الضَّلاَلُ فَاتَّبَعَهُ؛ لأنَّهُ لا يَمْلكُ عِلْمًا يَسْتَطِيعُ بِهِ أنْ يَرُدَّ الضَّلاَلَ عَنْ نَفْسِهِ وغَيْرِهِ، ولَمَّا كَانَ مُعْجَبًا بالعَقْلِ والشُّهْرَةِ والأضْوَاءِ وحُبِّ الظُّهُورِ؛ أخَذَ يُحَدِّثُ النَّاسَ بضَلاَلاَتِهِ عَلَى أنَّهَا الحَقُّ، فَضَلَّ بنَفْسِهِ وأضَلَّ غَيْرَهُ مَعَهُ، ولَمَّا كَانَ مُتَكَبِّرًا عَلَى اتِّبَاعِ الحَقِّ ولَوْ مَعَ غَيْرِهِ، صَارَ يَرْفُضُ النَّصِيحَةَ، ويَأبَى اتِّبَاعَ الحَقِّ مِمَّنْ هُمْ أعْلَمُ مِنْهُ، ويُجَادِلُ فِيهِ بمِرَاءٍ، ويَتَطَاوَلُ عَلَى العُلَمَاءِ الثِّقَاتِ ويُكَيِّلُ لَهُمُ الشُّبُهَ والاتِّهَامَاتِ البَاطِلَةَ؛ ليُشَكِّكَ في أقْوَالِهِمْ ويُظْهِرُ نَفْسَهُ بمَظْهَرِ العَالِمِ، ومَا هُوَ إلاَّ مُتَعَالِمٌ مُتَثَاقِفٌ أجْهَلُ مِنْ أصْغَرِ طُوَيْلِبِ عِلْمٍ مُبْتَدِئٍ، ومِنْ مَكْرِهِ أنْ يَعْرِضَ أقْوَالَهُ بطَرِيقَةٍ مُلْتَوِيَةٍ تَلْتَبِسُ عَلَى العَامَّةِ وبُسَطَاءِ النَّاسِ وحَتَّى عَلَى بَعْضِ طَلَبَةِ العِلْمِ، فَيَتَكَلَّمُ بالكَلاَمِ المُرْسَلِ والرَّأيِ غَيْرِ المُؤَيَّدِ بالدَّلِيلِ، وذَلِكَ لجَذْبِ النَّاسَ الَّذِينَ يَنْفُرُونَ مِنْ كَثْرَةِ عَرْضِ الأدِلَّةِ وشَرْحِهَا، وإذا عَرَضَ دَلِيلاً فَلاَ يَكُونُ أمِينًا في عَرْضِهِ، فَيَعْرِضُ مَا يُوَافِقُ رَأيَهُ ولا يَعْرِضُ مَا يُخَالِفُهُ، بَلْ ويَقْتَطِعُ مِنْ كَلاَمِ بَعْضِ العُلَمَاءِ أجْزَاءً تَبْدُو وكَأنَّهَا تُثْبِتُ رَأيَهُ، وهِيَ في الحَقِيقَةِ عَكْسُ ذَلِكَ تَمَامًا، ورُبَّمَا جَاءَ بأقْوَالِ أُنَاسٍ غَيْرِ مَعْرُوفِينَ وقَدَّمَهُمْ عَلَى أنَّهُمْ مِنْ أعْلَمِ العُلَمَاءِ (اعْتِمَادًا عَلَى جَهْلِ المُسْتَمِعِ بِهِم)، أو رُبَّمَا نَسَبَ إلى عُلَمَاءٍ ثِقَاتٍ مَا لَمْ يَقُولُوا، أوِ اعْتَمَدَ عَلَى أقْوَالِ الفِرَقِ الضَّالَّةِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَّبِعُ طَرِيقَةَ (قَوْلٌ صَحِيحٌ غَيْرُ صَرِيحٍ: فيَأتِي بقَوْلٍ صَحِيحٍ ولَكِنْ يُفَسِّرُهُ بهَواهِ)، وطَرِيقَةُ (قَوْلٌ صَرِيحٌ غَيْرُ صَحِيحٍ: فَيَأتِي بعِبَارَاتٍ وأدِلَّةٍ صَرِيحَةِ اللَّفْظِ ولَكِنَّهَا مَكْذُوبَةٌ أو ضَعِيفَةٌ أو فَاسِدَةٌ لا يُسْتَدَلُّ بِهَا)، وتَجِدُهُ يُعْمِلُ العَقْلَ كَثِيرًا ولا يَتَّبِعُ الدَّلِيلَ إلاَّ قَلِيلاً، ويَسْتَخْدِمُ المَنْطِقَ أكْثَرَ مِنْ إجْمَاعِ العُلَمَاءِ، وكُلُّ هَمِّهِ أنْ يُثْبِتَ صِحَّةَ مَا وَصَلَ إلَيْهِ بمَنْطِقِهِ وتَفْكِيرِهِ حَتَّى لَوْ خَالَفَ بذَلِكَ الأرْضَ جَمِيعًا، وأغْلَبُ هَؤُلاَءِ المُدَّعِينَ يُظْهِرُونَ أنْفُسَهُمْ عَلَى أنَّهُمْ أتَوْا بِمَا لَمْ يَأتِ بِهِ أحَدٌ مِنْ قَبْلِهِمْ، واكْتَشَفُوا مَا غَابَ حَتَّى عَنِ الصَّحَابَةِ أنْفُسِهِمْ، حَتَّى وَصَلَ الأمْرُ ببَعْضِ هَؤُلاَءِ إلى إعْمَالِ العَقْلِ لرَفْضِ كَثِيرٍ مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ لأنَّهَا لا تُوَافِقُ المَنْطِقَ الَّذِي يَدَّعُونَهُ، وهُوَ مَنْطِقٌ خَرِبٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ الكُفَّارُ أنْفُسُهُمْ والَّذِينَ هُمْ أشَدُّ رَفْضًا للإسْلاَمِ، وبسَبَبِ ذَلِكَ كُلِّهِ يُخَيَّلُ إلى النَّاسِ أنَّهُ عَالِمٌ مِنْ كِبَارِ العُلَمَاءِ، وكَلاَمُهُ هُوَ أحَقُّ الحَقِّ وأصْدَقُ الصِّدْقِ، والحَقِيقَةُ أنَّهُ أوْهَى مِنْ خُيُوطِ العَنْكَبُوتِ.

              ومِنْ شَدِيدِ الأسَفِ أنَّ هَذِهِ النَّوْعِيَّةَ أصْبَحَتْ كَثِيرَةً في مُجْتَمَعَاتِنَا، ومُنْتَشِرَةً في كُلِّ مَجَالاَتِ العُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وغَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ، والأكْثَرُ أسَفًا أنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ انْخَدَعُوا في هَؤُلاَءِ وأخَذُوا في تَقْلِيدِهِمْ واتِّبَاعِهِمْ والالْتِفَافِ حَوْلِهِمْ ونَشْرِ أقْوَالِهِمْ وأفْكَارِهِمْ عَبْرَ كُلِّ الوَسَائِلِ المَرْئِيَّةِ والمَسْمُوعَةِ والمَقْرُوءَةِ، العَادِيَّةِ مِنْهَا والإلِكْتِرُونِيَّةِ، ليَنْتَشِرَ الجَهْلُ والضَّلاَلُ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا تَنْتَشِرُ النَّارُ في الهَشِيمِ.

              وهَؤُلاَءِ المُدَّعُونَ وأتْبَاعُهُمْ (البَبَّغَاوَاتُ المُقَلِّدُونَ) طَرِيقَتُهُمُ المَعْهُودَةُ وحُجَّتُهُمُ البَالِيَةُ هِيَ إرْجَاعُ كُلِّ أمْرٍ لا يُوَافِقُونَ عَلَيْهِ في الدِّينِ إلى العَادَاتِ والتَّقَالِيدِ، فَيَقُولُونَ (هذا الأمْرُ كَانَ عَادَةً ولَيْسَ مِنَ الدِّينِ في شَيْءٍ)، ثُمَّ يَتَّهِمُونَ هَذِهِ العَادَةَ بأفْظَعِ الاتِّهَامَاتِ، وفي النِّهَايَةِ يُطَالِبُونَ بالابْتِعَادِ عَنْهَا ومُحَارَبَتِهَا والقَضَاءِ عَلَيْهَا لأنَّهَا تُسِيءُ إلى الإسْلاَمِ ولَيْسَتْ مِنْهُ، فَقَالُوا عَنِ النِّقَابِ عَادَةً، والحِجَابِ عَادَةً، والخِتَانِ عَادَةً، حَتَّى قَالُوا أنَّ الصِّيَامَ عَادَةً، واليَوْمَ نَحْنُ نَقِفُ مَعَ قَوْلِهِمْ (اللِّحْيَةُ عَادَةٌ ولَمْ يَأمُرْ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ).

              في البِدَايَةِ دَعُونَا نُقَعِّدُ قَاعِدَةً تُسَهِّلُ عَلَيْنَا كَثِيرًا، يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى [ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ]، فَلابُدَّ لِمَنْ يَقُولُ في دِينِ اللهِ مِنْ دَلِيلٍ، والدَّلِيلُ لابُدَّ وأنْ يَكُونَ صَحِيحًا في نَفْسِهِ ويَتَوَافَقَ مَعَ الشَّرْعِ في مُجْمَلِهِ، بمَعْنَى أنَّ مَنْ لا يَمْلكُ دَلِيلاً أو مَنْ لَدَيْهِ دَلِيلٌ يُخَالِفُ الشَّرْعَ فَلا حُجَّةَ في قَوْلِهِ ولا اعْتِبَارَ لرَأيِهِ، ومِنَ المُمْكِنِ للعَامِّيِّ أو لطَالِبِ العِلْمِ أو حَتَّى لقِلَّةٍ قَلِيلَةٍ مِنَ العُلَمَاءِ غَيْرِ الرَّاسِخِينَ في العِلْمِ أنْ يَجْهَلُوا أمْرًا في الدِّينِ إنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِيهِ الدَّلِيلُ أمْ لاَ، وفي هَذِهِ الحَالَةِ لا يَجُوزُ لَهُمْ أنْ يَقْطَعُوا ويَجْزِمُوا بأنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ أو أنَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ أو لَمْ يَفْعَلْ، لأنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ أو أنَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَدْ قَالَ أو قَدْ فَعَلَ أو سَكَتَ عَنْهُ؛ صَارُوا بذَلِكَ يَتَقَوَّلُونَ عَلَى اللهِ بغَيْرِ عِلْمٍ، وللخُرُوجِ مِنْ هَذا المَأزِقِ نَرْجِعُ إلى تَقْسِيمَاتِ النَّاسِ الثَّلاَثَةِ، فَالعَامِّيُّ الَّذِي لَيْسَ لَدَيْهِ إلاَّ مَعْلُومَاتٌ أو لَيْسَ لَدَيْهِ أيَّةُ مَعْلُومَاتٍ؛ لَيْسَ لَهُ بَلْ مَمْنُوعٌ عَلَيْهِ أنْ يَتَكَلَّمَ في الدِّينِ إلاَّ سُؤَالاً وطَلَبًا للعِلْمِ فَقَطْ، وطَالِبُ العِلْمِ لا يَجُوزُ لَهُ الكَلاَمَ إلاَّ فِيمَا صَحَّتْ مَعَهُ أدِلَّتُهُ وكَانَ أهْلاً للكَلاَمِ فِيهِ والتَّرْجِيحِ والقِيَاسِ والمُقَارَنَةِ بَيْنَ كَلاَمِ العُلَمَاء، والعَالِمُ يَجُوزُ لَهُ الاجْتِهَادُ وِفْقَ ضَوَابِطِ الاجْتِهَادِ، وبنَاءً عَلَى هَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ فَإنَّ المَسْألَةَ الَّتِي لا يُعْرَفُ هَلْ لَهَا دَلِيلٌ أمْ لا، فَإنَّ العَامِّيَّ لا يَتَكَلَّمُ فِيهَا إلاَّ للسُّؤَالِ عَنْهَا فَقَطْ، ولَيْسَ لَهُ فِيهَا رَأيٌ، وأمَّا طَالِبُ العِلْمِ فَعَلَيْهِِ أنْ يَبْحَثَ في المَسْألَةِ في كُلِّ فُرُوعِ العِلْمِ حَتَّى يَصِلَ للدَّلِيلِ مِنْ عَدَمِهِ إذا كَانَ أهْلاً للبَحْثِ بضَوَابِطِهِ، أمَّا إذا كَانَ غَيْرَ مُؤَهَّلٍ للبَحْثِ فَهُوَ كَالعَامِّيِّ، يَتَّبِعُ ويَسْألُ ويَتَعَلَّمُ ولَيْسَ لكَلاَمِهِ في المَسْألَةِ وَزْنًا، أمَّا العَالِمُ غَيْرُ الرَّاسِخِ في العِلْمِ فَهُوَ يَسْألُ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْهُ مِنَ العُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، ويَبْحَثُ عَنِ الأدِلَّةِ في مُخْتَلَفِ فُرُوعِ العِلْمِ، ويُقَارِنُ ويَجْتَهِدُ وِفْقَ ضَوَابِطِ الاجْتِهَادِ ووِفْقَ أُصُولِ كُلِّ عِلْمٍ، فَإذَا وَصَلَ لأمْرٍ عَرَضَهُ عَلَى مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْهُ ليُرَاجِعَهُ فِيهِ ويُجِيزَهُ، أمَّا إذا لَمْ يَصِلْ لرَأيٍ أو إذا وَصَلَ ولَمْ يُجِزْهُ في قَوْلِهِ أحَدٌ مِمَّنْ هُمْ أكْثَرُ مِنْهُ عِلْمًا ودِرَايَةً أو أنْكَرُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَعَلَيْهِ إتِّبَاعُهُمْ وعَدَمُ الإصْرَارِ عَلَى رَأيِهِ، إلاَّ إذا ظَهَرَ لَهُ دَلِيلٌ جَدِيدٌ يَدْعَمُهُ، فَتَبْدَأُ الحَلَقَةُ مِنْ جَدِيدٍ، وعَلَى ذَلِكَ لا يَبْقَى لَنَا إلاَّ العَالِمُ الرَّاسِخُ في العِلْمِ المُتَمَرِّسُ فِيهِ؛ أهْلُ الحِلِّ والعَقْدِ والاجْتِهَادِ، الثِّقَةُ المَشْهُودُ لَهُ بالعِلْمِ والفَضْلِ والعَدَالَةِ في اتِّبَاعِ مَنْهَجِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، هذا فَقَطْ هُوَ مَنْ يُؤْخَذُ بكَلاَمِهِ وتَرْجِيحِهِ وقِيَاسِهِ، وهذا فَقَطْ هُوَ مَنْ يُنْظَرُ في خِلاَفِهِ مَعَ غَيْرِهِ، وهذا فَقَط هُوَ صَاحِبُ القَوْلِ المُعْتَبَرِ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ العُلَمَاءِ وعِنْدَ أصْحَابِ الفِطَرِ السَّلِيمَةِ النَّقِيَّةِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ.

              ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ دِينَ اللهِ كَامِلٌ لقَوْلِهِ تَعَالَى [ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ]، والعَوَامُّ دَائِمًا مَا يَفْهَمُونَ هَذِهِ الآيَةَ عَلَى أنَّ المَقْصُودَ بِهَا القُرْآنُ فَقَطْ، لِذَا فَهُمْ لا يُشَكِّكُونَ فِيهِ، لَكِنْ دَائِمًا الشَّكُّ يَكُونُ في سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وهَذا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَكَمَا أنَّ دِينَ اللهِ كَامِلٌ فَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَامِلَةٌ ولا يُمْكِنُ أنْ تَكُونَ إلاَّ هَكَذَا، لأنَّهَا السُّنَّةُ التَّطْبِيقِيَّةُ الشَّارِحَةُ لدِينِ اللهِ، ولا يُمْكِنُ أنْ يَتِمَّ القُرْآنُ والسُّنَّةُ نَاقِصَةً، والمُتَدَبِّرُ للآيَةِ يَجِدُ أنَّ اللهَ قَالَ بكَمَالِ الدِّينِ ولَمْ يَقُلْ كَمَالَ القُرْآنِ، والدِّينُ قُرْآنٌ وسُنَّةٌ، لا يُمْكِنُ أنْ يَنْقُصَ أيُّ مِنْهُمَا، والدَّلِيلُ عَلَى أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْ أمْرًا إلاَّ ودَلَّ عَلَيْهِ في سُنَّتِهِ القَوْلِيَّةِ والفِعْلِيَّةِ هُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ إنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ إلى الجَنَّةِ إلاَّ قَدْ أمَرْتُكُمْ بِهِ، ولَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ إلى النَّارِ إلاَّ قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، إنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رَوْعِي: إنَّ نَفْسًا لا تَمُوتُ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وأجْمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أنْ تَطْلُبُوهُ بمَعَاصِي اللهِ؛ فَإنَّ اللهَ لا يُدْرَكُ مَا عِنْدَهُ إلاَّ بطَاعَتِهِ ]، وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى [ مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا أمَرَكُمُ اللهُ بِهِ إلاَّ قَدْ أمَرْتُكُمْ بِهِ، ومَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا نَهَاكُمْ عَنْهُ إلاَّ قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ ]، وصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لا يَقُولُ إلاَّ وَحْيًا، قَالَ تَعَالَى [ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى 3 إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى 4 عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى 5 ]، واسْتِصْغَارُ بَعْضِ الأُمُورِ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أو رَفْضُهَا أو السُّخْرِيَةُ مِنْهَا ومِنَ المُلْتَزِمِينَ بِهَا هُوَ اسْتِصْغَارٌ ورَفْضٌ وسُخْرِيَةٌ مِنْ وَحْيِ اللهِ تَعَالَى ودِينِهِ وشَرَائِعِهِ، وهُوَ أمْرٌ مُوجِبٌ للكُفْرِ بنَصِّ القُرْآنِ وباتِّفَاقِ أهْلِ العِلْمِ سَلَفًا وخَلَفًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى [ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ 4 فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ 5 أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ 6 وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ 7 وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ 8 وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ 9 وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ 10 قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ 11 ].

              قَالَ الإمَامُ النَّسَفِيُّ في مَتْنِ العَقَائِدِ [ والاسْتِهَانَةُ بمَسَائِلِ الدِّينِ كُفْرٌ، والاسْتِهْزَاءُ بمَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ أيْضًا كُفْرٌ ].

              وقَالَ الشَّيْخُ أبُو الفَيْضِ أحْمَدُ بْنُ الصِّدِّيقِ في إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى حُرْمَةِ التَّمْثِيلِ (ص20) وهُوَ يُعَدِّدُ مُنْكَرَاتِ المُمَثِّلِينَ [ وكَذَلِكَ يُمَثِّلُونَ ذَوِي اللِّحَى بإلْصَاقِ الشَّعْرِ واللِّحَى المُصْطَنَعَةِ، وذَلِكَ مِنْ حَيْثُ وَصْلِ الشَّعْرِ؛ كَبِيرَةٌ مَلْعُونٌ فَاعِلُهَا كَمَا سَبَقَ، ومِنْ حَيْثُ السُّخْرِيَةِ مِنْ أهْلِ اللِّحَى؛ كُفْرٌ وارْتِدَادٌ عَنِ الدِّينِ، لأنَّهُ ازْدِرَاءٌ رَاجِعٌ إلى الشَّرِيعَةِ الآمِرَةِ بإعْفَاءِ اللِّحَى ومُخَالَفَةِ الكُفَّارِ في حَلْقِهَا، إذِ المُلْتَحُونَ مُتَمَسِّكُونَ بدِينِهِمْ وأوَامِرِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَالمُزْدَرِيُّ بِهِمْ لذَلِكَ كَفَرَ باتِّفَاقِ أهْلِ الإسْلاَمِ ].

              ونَقَلَ العَلاَّمَةُ مُحَمَّدٌ زَكَرِيَّا الكَانْدَهْلَوِي عَنْ حَكِيمِ الأُمَّةِ التهانوي رَحِمَهُ اللهُ في وُجُوبِ إعْفَاءِ اللِّحْيَةِ (ص57) [ مَنْ أصَرَّ عَلَى حَلْقِ اللِّحْيَةِ واسْتَحْسَنَهُ، وظَنَّ أنَّ إعْفَاءَ اللِّحْيَةِ عَارٌ ومَزَلَّةٌ، وسَخَرَ بأصْحَابِ اللِّحَى واسْتَهْزَأَ بِهِمْ، لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ إيِمَانُهُ سَالِمًا، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَطْعًا أنْ يَتُوبَ إلى اللهِ ويُجَدِّدَ الإيِمَانَ والنِّكَاحَ، وعَلَيْهِ أنْ يُحِبَّ صُورَةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَخْتَارُهَا لنَفْسِهِ ولجَمِيعِ المُسْلِمِينَ ].

              وقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الخَالِقِ في الحَدِّ الفَاصِلِ بَيْنَ الإيِمَانِ والكُفْرِ (ص43) [ الاسْتِهْزَاءُ بإعْفَاءِ اللِّحْيَةِ أوِ الصَّلاةِ أوِ الحِجَابِ الشَّرْعِيِّ للمَرْأةِِ أوِ المَسْجِدِ أوِ الكَعْبَةِ أو الرَّسُولِ هُوَ كُفْرٌ باللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى، فَكُلُّ مَا يُنْسَبُ إلى اللهِ مِنْ أمْرٍ ونَهْيٍ وذَاتٍ؛ الاسْتِهْزَاءُ بِهِ والاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ كُفْرٌ ونَقْضٌ للإيِمَانِ، وأعْنِي بالذَّاتِ مَا يُنْسَبُ إلى اللهِ مِنْ شَرْعٍ كَالكَعْبَةِ والمَسْجِدِ والمُصْحَفِ، فَالاسْتِهْزَاءُ بالمُسْلِمِ لإسْلامِهِ كُفْرٌ، ولا يَأتِي هَذا مِنْ مُسْلِمٍ أبَدًا ].

              ويَقُولُ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ أحْمَدُ إسْمَاعِيل المُقَدِّم في أدِلَّةِ تَحْرِيمِ حَلْقِ اللِّحْيَةِ (ص 160-162) [ وقَدْ يَكُونُ الاسْتِهْزَاءُ بالمُسْلِمِ مِنْ أجْلِ إسْلاَمِهِ، فَيُسْتَهْزَأُ بِهِ لتَمَسُّكِهِ بشَعِيرَةٍ مِنْ شَعَائِرِ الإسْلاَمِ، أو لعَمَلِهِ عَمَلاً مِنْ أعْمَالِ الإيِمَانِ، فَهُنَا يَتَوَجَّهُ الاسْتِهْزَاءُ إلى الدِّينِ ويَكُونُ هَذا العَمَلُ كُفْرًا، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ (قَالَ رَجُلٌ في غَزْوَةِ تَبُوكَ في مَجْلِسٍ: مَا رَأيْنَا مِثْلَ قُرَّائِنَا هَؤُلاَءِ أرْغَبَ بُطُونًا ولا أكْذَبَ ألْسُنًا ولا أجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ، فَقَالَ رَجُلٌ في المَجْلِسِ: كَذَبْتَ، ولكِنَّكَ مُنَافِقٌ، لأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ونَزَلَ القُرْآنُ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنِ عُمَرٍ: فَأنَا رَأيْتُهُ مُتَعَلِّقًا بحَقَبِ نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ تَنْكُبُهُ الحِجَارَةُ وهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ، ورَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)، وهَذا هُوَ سَبَبُ نُزُولِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ 64 وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ 65 لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ 66)، والاسْتِهْزَاءُ بالمُسْلِمِ لإسْلاَمِهِ كُفْرٌ، لأنَّهُ في حَقِيقَتِهِ اسْتِهْزَاءٌ بالإسْلاَمِ وطَعْنٌ في شَرْعِهِ، ولَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) فَسَمَّاهُمْ كُفَّارًا، وقَالَ عَزَّ وجَلَّ (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ)، ومِنْ هَذا القَبِيلِ قَوْلُ مُجْرِمِي زَمَانِنَا هَذا عَنِ المُؤْمِنِينَ: إنَّهُمْ مُعَقَّدُونَ؛ رَجْعِيُّونَ؛ مُتَزَمِّتُونَ؛ نَسُوا حَيَاتَهُمْ وضَيَّعُوا شَبَابَهُمْ الخ، وبهَذِهِ المَنْزِلَةِ - مُعَادَاةُ المُؤْمِنِ بسَبَبِ تَدَيُّنِهِ - فَإنَّ العَدَاوَةَ إنْ كَانَتْ في أعْرَاضِ الدُّنْيَا بحَقٍّ فَلا شَيْءَ فِيهَا، وإنْ كَانَتْ ببَاطِلٍ فَهِيَ مَعْصِيَةٌ، أمَّا عَدَاوَةُ المُسْلِمِ ومُحَارَبَتُهُ بسَبَبِ تَدَيُّنِهِ وتَمَسُّكِهِ بالإسْلاَمِ فَهِيَ كُفْرٌ وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ومُحَارَبَةٌ للهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى، وفي الحَدِيثِ القُدسِيِّ (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بحَرْبٍ)، وهَذِهِ رِوَايَةُ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أمَّا رِوَايَةُ أُمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَهِيَ (مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ اسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي) ].

              وسُئِلَ الشَّيْخُ مُحَمَّد صَالِحُ المُنَجِّد (مَا حُكْمُ الاسْتِهْزَاءِ باللِّحْيَةِ والثَّوْبِ القَصِيرِ وغَيْرِهَا مِنْ مَظَاهِرِ السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ الَّتِي أُمِرْنَا بِهَا؟ ورَأيُ فَضِيلَتِكُمْ في الَّذِينَ إذا أُمِرُوا بهَذِهِ العِبَادَاتِ أشَارَ بيَدِهِ إلى قَلْبِهِ وقَالَ (التَّقْوَى هَاهُنَا)؟) فَأجَابَ [ المُسْتَهْزِئُ باللِّحْيَةِ أو الثَّوْبِ المُوَافِقِ للسُّنَّةِ في الطُّولِ أو بغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ يَكْفُرُ إذا كَانَ يَعْلَمُ ثُبُوتَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لأنَّهُ يَكُونُ مُسْتَهْزِئًا بقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وفِعْلِهِ، ويَكُونُ في هَذِهِ الحَالَةِ مُعَانِدًا للنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ سَاخِرًا مِنْ سُنَّتِهِ، والَّذِي يَسْخَرُ مِنَ السُّنَّةِ ويَسْتَهْزِئُ بِمَا ثَبَتَ في السُّنَّةِ وهُوَ يَعْلَمُ لَيْسَ بمُسْلِمٍ، قَالَ تَعَالَى (قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ 65 لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)، والَّذِي يَقُولُ إذا دُعِيَ لحُكْمٍ شَرْعِيٍّ (التَّقْوَى في القَلْبِ) ولا يُنَفِّذُّ الحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فهَذا كَذَّابٌ أشِرٌ، فَإنَّ الإيِمَانَ قَوْلٌ وعَمَلٌ ولَيْسَ بالقَلْبِ فَقَطْ، ويَكُونُ كلاَمُهُ السَّابِقُ مُوَافِقًا لقَوْلِ المُرْجِئَةِ المُبْتَدِعَةِ الخَبِيثَةِ الَّتِي تَحْصُرُ الإيِمَانَ بالقَلْبِ دُونَ الجَوَارِحِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ القَلْبُ سَلِيمًا والإيِمَانُ فِيهِ وَافِرٌ لظَهَرَ ذَلِكَ عَلَى الأعْمَالِ، يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ (ألاَ إنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً؛ إذا صَلُحَتْ صَلُحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألاَ وهِيَ القَلْبُ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمُ، ويَقُولُ أيْضًا (إنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وأمْوَالِكُمْ، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وأعْمَالِكُمْ) رَوَاهُ مُسْلِمُ، وعَلَى أيَّةِ حَالٍ فَإنَّ هَذا القَوْلَ مِنْ هَؤُلاءِ المُعَانِدِينَ الرَّافِضِينَ إتِّبَاعَ الحَقِّ وتَنْفِيذَ الأحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ هُوَ عَلامَةٌ عَلَى نَقْصِ إيِمَانِهِمْ ويُرِيدُونَ بذَلِكَ إيِقَافَ الدُّعَاةِ والنَّاصِحِينَ عَنْ دَعْوَتِهِمْ ونَصِيحَتِهِمْ ].

              وأقَلُّ دَلِيلٍ يُثْبِتُ إثْمَ المُسْتَهْزِئِ باللِّحْيَةِ وبالمُسْتَمْسِكِ بِهَا مَا أوْرَدَهُ الإمَامُ مُسْلِمُ في صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ [ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَثِيرَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ ]، فَكَيْفَ بمُسْلِمٍ شَهِدَ (أنْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ) يَسْخَرُ مِنْ شَيْءٍ هُوَ شِعَارُ الأنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ وخَاصَّةً خَاتَمُ الأنْبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حَتَّى وإنْ لَمْ تَكُنْ أمْرًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ؟؟!! وهَذا غَيْضٌ مِنْ فَيْضٍ مِنْ أقْوَالِ العُلَمَاءِ سَلَفًا وخَلَفًا في حُكْمِ المُسْتَهْزِئِ بشَعَائِرِ الإسْلاَمِ والمُسْتَمْسِكِ بِهَا عُمُومًا واللِّحْيَةِ خُصُوصًا، وهَذا وإنْ دَلَّ فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَكَانَةِ وتَعْظِيمِ قَدْرِ اللِّحْيَةِ في الإسْلاَمِ، وبفَضْلِ اللهِ تَعَالَى الأدِلَّةُ عَلَى اللِّحْيَةِ وغَيْرِهَا مِنْ أُمُورِ المَلْبَسِ والمَأكَلِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي لا يَسْتَصْغِرُهَا إلاَّ جَاهِلٌ أو حَاقِدٌ كَثِيرَةٌ وصَحِيحَةٌ وللهِ الحَمْدُ، لا يُنْكِرُ مَعْرِفَتَهَا إلاَّ جَاهِلٌ بِهَا، ولا يُنْكِرُ صِحَّتَهَا وأهَمِّيَّتَهَا ومَكَانَتَهَا إلاَّ مُكَابِرٌ، وهِيَ عَلَى كَثْرَتِهَا وكَثْرَةِ أقْوَالِ العُلَمَاءِ المُعْتَبَرِينَ فِيهَا لَوْ قُمْنَا بسَرْدِهَا فَلَنْ تَكْفِيَ الشُّهُورُ لتَدَبُّرِهَا ومُرَاجَعَتِهَا وفَهْمِهَا، لِذَا سَنَكْتَفِي بأقَلِّ القَلِيلِ مِنْهَا لإثْبَاتِ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أمَرَ باللِّحْيَةِ أمْرًا يُفِيدُ الوُجُوبِ، ويَكْفِي لِمَنْ لَهُ أدْنَى مَعْرِفَةٍ بأحْكَامِ الدِّينِ أنْ يُقَدِّرَ مَكَانَةَ اللِّحْيَةِ في الإسْلاَمِ بمُجَرَّدِ مَعْرِفَتِهِ أنَّهُ في بَابِ الشَّهَادَةِ: حَالِقُ اللِّحْيَةِ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ، فَقَدْ قَالَ أبُو حَامِدِ الغَزَّالِي فِيمَا صَحَّ عَنْهُ في الإحْيَاءِ (2/257) [ ورَدَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وابْنُ أبِي يَعْلَى قَاضِي المَدِينَةِ شَهَادَةَ مَنْ كَانَ يَنْتِفُ لِحْيَتَهُ ]، وفي المُيَسَّرِ عَلَى خَلِيلٍ في الفِقْهِ المَالِكِيِّ [ أنَّ مَنْ تَعَمَّدَ حَلْقَهَا يُؤَدَّبُ، وتُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ ]، وفي بَابِ الدِّيَّاتِ: مَنْ جَنَى عَلَى لِحْيَةِ فَرْدٍ بحَيْثُ لا تَنْبُتُ بَعْدَهَا فَعَلَيْهِ دِيَّةٌ كَامِلَةٌ كَمَا لَوْ كَانَ قَتَلََهُ، وفي العُقُوبَاتِ: يَجُوزُ التَّعْذِيرُ بحَلْقِ شَعْرِ الرَّأسِ لا اللِّحْيَةَ، فَمَنْ بَعْدَ هَذِهِ الأُصُولِ الفِقْهِيَّةِ يَقُولُ بأنَّ اللهَ ورَسُولَهُ لَمْ يَأمُرَا بِهَا ويَسْتَصْغِرُ شَأنَهَا ويَسْخَرُ مِنَ المُتَمَسِّكِ بِهَا؟؟!! وبإذْنِ اللهِ نَسُوقُ الأدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ فِيمَا يَلِي لإثْبَاتِ ذَلِكَ بِمَا لا يَدَعُ مَجَالاً لشَكِّ العَامِيِّ ولادِّعَاءِ الجَاهِلِ، ولَكِنْ قَبْلَ التَّطَرُّقِ إلى هَذِهِ الأدِلَّةِ يَجِبُ الإشَارَةُ إلى أنَّ تَنْفِيذَ الوَاجِبِ لَيْسَ بتَشَدُّدٍ إلاَّ عِنْدَ المُتَسَاهِلِ المُفَرِّطِ المُضَيِّعِ لأحْكَامِ الدِّينِ الَّذِي اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ فَكَانَ أمْرُهُ فُرُطَا، وهَذِهِ مُجَرَّدُ نُقْطَةِ نِظَامٍ في الكَلاَمِ، ولبَيَانِ ذَلِكَ نَنْقِلُ الفَتْوَى التَّالِيَةَ كَمِثَالٍ:
              السُّؤَالُ: قَالَ إمَامُ مَسْجِدِنَا في خُطْبَةِ الجُمُعَةِ بأنَّهُ لا يَنْبَغِي التَّشَدُّدُ بالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ؛ لأنَّ السُّنَّةَ تُفَرِّقُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ, ونَحْنُ يَجِبُ عَلَيْنَا أنْ نَتَّحِدَ، واسْتَدَلَّ بأَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقَالَ [ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، قَالَ: تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ‏،‏ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا أَبَدًا وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا ]، هَلْ هذا صَحِيحٌ؟ مَعَ العِلْمِ بأنَّنَا مُتَّبِعُونَ للسُّنَّةِ، وهُوَ يُسَمِّي المُتَّبِعَ للسُّنَّةِ مُتَشَدِّدًا؟ أفِيدُونَا بَارَكَ اللهُ فِيكُمْ.
              الجَوَابُ:
              الحَمْدُ للهِ؛؛
              أوَّلاً: لَقَدْ قَالَ إمَامُكُمْ مُنْكَرًا مِنَ القَوْلِ وزُورًا، وكَانَ الوَاجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَتَّقِيَ اللهَ رَبَّهُ، وأنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عَنِ الكَلاَمِ فِيمَا يَغْمِسُهُ في الإثْمِ.

              والسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ هِيَ هَدْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأقْوَالُهُ وأفْعَالُهُ، فَكَيْفَ تَكُونُ السُّنَّةُ مُفَرِّقَةً بَيْنَ المُسْلِمِينَ؟! ومَا الَّذِي يُوَحِّدُهُمْ إنْ كَانَتِ السُّنَّةُ تُفَرِّقهُمْ؟! ولَوْ صَدَقَ ذَلِكَ الإمَامُ لقَالَ: إنَّ السُّنَّةَ هِيَ الَّتِي تَجْمَعُ النَّاسَ، وتَلُمُّ شَتَاتَهُمْ.

              قَالَ الإمَامُ أبُو المُظَفَّرِ السَّمْعَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ [ وكَانَ السَّبَبَ في اتِّفَاقِ أهْلِ الحَدِيثِ أنَّهُمْ أخَذُوا الدِّينَ مِنَ الكِتَابِ والسُّنَّةِ وطَرِيقِ النَّقْلِ، فَأوْرَثَهُمُ الاتِّفَاقَ والائْتِلافَ، وأهْلُ البِدْعَةِ أخَذُوا الدِّينَ مِنْ طَرِيقِ المَعْقُولاَتِ، فَأوْرَثَهُمْ الافْتِرَاقَ والاخْتِلاَفَ ] الانْتِصَارُ لأهْلِ الحَدِيثِ ص (47).

              وقَالَ شَيْخُ الإسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ [ سَبَبُ الاجْتِمَاعِ والأُلْفَةِ جَمْعُ الدِّينِ والعَمَلُ بِهِ كُلُّهُ، وهُوَ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ كَمَا أمَرَ بِهِ، بَاطِنًا وظَاهِرًا، وسَبَبُ الفُرْقَةِ تَرْكُ حَظٍّ مِمَّا أُمِرَ العَبْدُ بِهِ، والبَغْيُ بَيْنَهُمْ!! ونَتِيجَةُ الجَمَاعَةِ رَحْمَةُ اللهِ ورضْوَانُهُ وصَلَوَاتُهُ وسَعَادَةُ الدُّنْيَا والآخِرَةُ وبَيَاضُ الوُجُوهِ، ونَتِيجَةُ الفُرْقَةِ عَذَابُ اللهِ ولَعْنَتُهُ وسَوَادُ الوُجُوهِ وبَرَاءَةُ الرَّسُولِ مِنْهُمْ ] مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (1/17)، وقَالَ رَحِمَهُ اللهُ أيْضًا [ مَا كَانَ مَأثُورًا حَصلَتْ لَهُ الأُلْفَةُ، ومَا كَانَ مَعْرُوفًا حَصلَتْ بِهِ المَعْرِفَةُ كَمَا يُرْوَى عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ أنَّهُ قَالَ (إذا قَلَّ العِلْمُ ظَهَرَ الجَفَاءُ، وإذا قَلَّتِ الآثَارُ كَثرَتِ الأهْوَاءُ) ] دَرْءُ تَعَارُضِ العَقْلِ والنَّقْلِ (1/149).

              وكَيْفَ يُسَمَّى المُتَّبِعُ للسُّنَّةِ مُتَشَدِّدًا والمُسْلِمُ مَأمُورٌ بإتِّبَاعِهَا والإقْتِدَاءِ بهَدْيِ صَاحِبِهَا وهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؟! وماذا يَقُولُ هَذا الإمَامُ عَنْ أفْعَالِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عِنْدَمَا اتَّبَعُوا سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ خَيْرَ اتِّبَاعٍ؟! وماذا سَيَكُونُ حُكْمُهُ عَلَى هَذِهِ الوَاقِعَةِ [ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ صَلاَتَهُ قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: إِنَّ جِبْرِيلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا - أَوْ قَالَ: أَذًى - وَقَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا ] رَوَاهُ أبُو دَاوُد وصَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ، فَهَؤُلاَءِ أصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَدْ ألْقَوْا نِعَالَهُمْ في الصَّلاَةِ لمُجَرَّدِ رُؤْيَتِهِمْ لنَبِيِّهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَخْلَعُ نَعْلَهُ، فَكَيْفَ لَوْ كَانَ الأمْرُ سُنَّةً عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أو كَانَ هَدْيًا لَهُ؟!

              ثَانِيًا: إنَّ لَمْزَ مُتَّبِعِي سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ واتِّهَامَهُمْ بالتَّشَدُّدِ أو التَّطَرُّفِ هُوَ مِنَ الإيِذَاءِ والبُهْتَانِ، وقَدْ تَوَعَّدَ اللهُ تَعَالَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَضْلاً أنَّهُ يَكُونُ مُتَشَبِّهًا بالمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سَبَقُوهُ إلى هَذا الفِعْلِ، قَالَ تَعَالَى [ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْماً مُبِينًا ]، وقَالَ تَعَالَى [ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ 29 وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ 30 وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ 31 وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ 32 ]، قَالَ الشَّيْخُ العُثَيْمِين [ (وَإِذَا رَأَوْهُمْ) أي: رَأَى المُجْرِمُونَ المُؤْمِنِينَ قََالُوا: (إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ) ضَالُّونَ عَنِ الصَّوَابِ، مُتَأخِّرُونَ، مُتَزَمِّتُونَ، مُتَشَدِّدُونَ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الألْقَابِ، ولَقَدْ كَانَ لهَؤُلاَءِ السَّلَفِ خَلَفٌ في زَمَانِنَا اليَوْمَ، ومَا قَبْلَهُ، ومَا بَعْدَهُ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ عَنْ أهْلِ الخَيْرِ: إنَّهُمْ رَجْعِيُّونَ، إنَّهُمْ مُتَخَلِّفُونَ، ويَقُولُونَ عَنِ المُلْتَزِمِ: إنَّهُ مُتَشَدِّدٌ، مُتَزَمِّتٌ، وفَوْقَ هَذا كُلِّهِ مَنْ قَالُوا للرُّسُلِ: إنَّهُمْ سَحَرَةٌ أو مَجَانِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)، فَوَرَثَةُ الرُّسُلِ مِنْ أهْلِ العِلْمِ والدِّينِ سَيَنَالُهُمْ مِنْ أعْدَاءِ الرُّسُلِ مَا نَالَ الرُّسُلَ؛ مِنْ ألْقَابِ السُّوءِ والسُّخْرِيةِ، ومَا أشْبَهَ ذَلِكَ، ومِنْ هَذا تَلْقِيبُ أهْلِ البِدَعِ والتَّعْطِيلِ لأهْلِ الإثْبَاتِ مِنَ السَّلَفِ بأنَّهُمْ حَشوِيَّةٌ، مُجَسِّمةٌ، مُشَبِّهَةٌ، ومَا أشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ ألْقَابِ السُّوءِ الَّتِي يُنَفِّرُونَ بِهَا النَّاسَ عَنِ الطَّرِيقِ السَّوِيِّ ] لِقَاءَاتُ البَابِ المَفْتُوحِ (اللِّقَاء رقم 30).

              ثَالِثًا: التَّشَدُّدُ المَذْمُومُ في الدِّينِ هُوَ جَعْلُ المُسْتَحَبِّ وَاجِبًا، أو جَعْلُ المَكْرُوهِ مُحَرَّمًا، وقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنَ الغُلُوِّ في الدِّينِ، كَمَا أنَّهُ حَذَّرَ مِنَ التَّشَدُّدِ فِيهِ، ولَيْسَ مَعْنَى الغُلُوِّ والتَّشَدُّدِ تَطْبِيقُ السُّنَّةِ، بَلْ تَغْيِيرُ أحْكَامِهَا، والتَّشَدُّدُ في إيِجَابِ الأمْرِ أو تَحْرِيمِهِ ولَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ، قَالَ شَيْخُ الإسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ في شَرْحِ حَدِيثِ (لا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ) [ فَفِيهِ نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنِ التَّشَدُّدِ في الدِّينِ بالزِّيَادَةِ عَنِ المَشْرُوعِ، والتَّشْدِيدُ تَارَةً يَكُونُ باتِّخَاذِ مَا لَيْسَ بوَاجِبٍ ولا مُسْتَحَبٍّ بمَنْزِلَةِ الوَاجِبِ والمُسْتَحَبِّ في العِبَادَاتِ وتَارَةً باتِّخَاذِ مَا لَيْسَ بمُحَرَّمٍ ولا مَكْرُوهٍ بمَنْزِلَةِ المُحَرَّمِ والمَكْرُوهِ في الطَّيِّبَاتِ، وعَلَّلَ ذَلِكَ بأنَّ الَّذِينَ شَدَّدُوا عَلَى أنْفُسِهِمْ مِنَ النَّصَارَى شَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ، حَتَّى آلَ الأمْرُ إلى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ المُبْتَدَعَةِ، وفي هَذا تَنْبِيهٌ عَلَى كَرَاهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لمِثْلِ مَا عَلَيْهِ النَّصَارَى مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ المُبْتَدَعَةِ، وإنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ عِبَادِنَا قَدْ وَقَعُوا في بَعْضِ ذَلِكَ مُتَأوِّلِينَ مَعْذُورِينَ، أو غَيْرَ مُتَأوِّلِينَ ولا مَعْذُورِينَ، وفِيهِ أيْضًا تَنْبِيهٌ عَلَى أنَّ التَّشْدِيدَ عَلَى النَّفْسِ ابْتِدَاء يَكُونُ سَبَبًا لتَشْدِيدٍ آخَرٍ يَفْعَلُهُ اللهُ إمَّا بالشَّرْعِ وإمَّا بالقَدَرِ، فَأمَّا بالشَّرْعِ: فَمِثْلَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَخَافُهُ في زَمَانِهِ مِنْ زِيَادَةِ إيِجَابٍ أو تَحْرِيمٍ كَنَحْوِ مَا خَافَهُ لَمَّا اجْتَمَعُوا لصَلاَةِ التَّرَاوِيحِ مَعَهُ، ولَمَّا كَانُوا يَسْألُونَ عَنْ أشْيَاءٍ لَمْ تُحَرَّمْ، ومِثْلَ أنَّ مَنْ نَذَرَ شَيْئًا مِنَ الطَّاعَاتِ وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ نَفْسِ عَقْدِ النَّذْرِ، وكَذَلِكَ الكَفَّارَاتُ الوَاجِبَةُ بأسْبَابٍ، وأمَّا القَدَرُ: فَكَثِيرًا مَا قَدْ رَأيْنَا وسَمِعْنَا مَنْ كَانَ يَتَنَطَّعُ في أشْيَاءٍ فَيُبْتَلَى أيْضًً بأسْبَابٍ تُشَدِّدُ الأُمُورَ عَلَيْهِ في الإيِجَابِ والتَّحْرِيمِ؛ مِثْلَ كَثِيرٍ مِنَ المُوَسْوسِينَ في الطَّهَارَاتِِ: إذا زَادُوا عَلَى المَشْرُوعِ ابْتُلُوا بأسْبَابٍ تُوجِبُ حَقِيقَةً عَلَيْهِمْ أشْيَاءٌ فِيهَا عَظِيمُ مَشَقَّةٍ ومَضَرَّةٍ ] اقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ (103، 104).

              وقَالَ الشَّيْخُ العُثَيْمِين رَحِمَهُ اللهُ في شَرْحِ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ (إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وابْنُ مَاجَه وصَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في صَحِيحِ النَّسَائِيِّ [ وفي هَذا الحَدِيثِ يُحَذِّرُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أُمَّتَهُ مِنَ الغُلُوِّ، ويُبَرْهِنُ عَلَى أنَّ الغُلُوَّ سَبَبٌ للهَلاَكِ؛ لأنَّهُ مُخَالِفٌ للشَّرْعِ؛ ولإهْلاَكِهِ للأُمَمِ السَّابِقَةِ؛ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَحْرِيمُ الغُلُوِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: الوَجْهُ الأوَّلُ: تَحْذِيرُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والتَّحْذِيرُ نَهْيٌ وزِيَادَةٌ، الوَجْهُ الثَّانِي: أنَّهُ سَبَبٌ لإهْلاَكِ الأُمَمِ كَمَا أهْلَكَ مَنْ قَبْلَنَا، ومَا كَانَ سَبَبًا للهَلاَكِ كَانَ مُحَرَّمًا، والنَّاسُ في العِبَادَةِ طَرَفَانِ ووَسَطٌ؛ فَمِنْهُمُ المُفْرِطُ، ومِنْهُمُ المُفَرِّطُ، ومِنْهُمُ المُتَوَسِّطُ، فَدِينُ اللهِ بَيْنَ الغَالِي فِيهِ والجَافِي عَنْهُ، وكَوْنُ الإنْسَانِ مُعْتَدِلاً لا يَمِيلُ إلى هَذا ولا إلى هَذا: هَذا هُوَ الوَاجِبُ؛ فَلا يَجُوزُ التَّشَدُّدُ في الدِّينِ والمُبَالَغَةِ، ولا التَّهَاوُنُ وعَدَمُ المُبَالاَةِ، بَلْ كُنْ وَسَطًا بَيْنَ هَذا وهَذا ] مَجْمُوعُ فَتَاوَى الشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِين (9/367، 368).

              رَابِعًا: الحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ إمَامُكُمْ: فهَذا الحَدِيثُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمُ، ولَيْسَ في صِحَّتِهِ إشْكَالٌ، لكِنَّهُ أُتِيَ مِنْ سُوءِ فَهْمِهِ لَهُ، ولَوْ وَقَفَ عَلَى رِوَايَاتِهِ وكَلاَمِ أهْلِ العِلْمِ لَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَا فَهِمَهُ مِنْهُ، فَقَدْ جَاءَ في رِوَايَةٍ عِنْدَ البُخَارِيِّ (وعَلَّمَهُ شَرَائِعَ الإسْلاَمِ) وهَذِهِ اللَّفْظَةُ تَشْمَلُ بَاقِي الفَرَائِضِ، وتَشْمَلُ المَنْدُوبَاتِ، قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ [ قَوْلُهُ (فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ) أيْ: عَنْ شَرَائِعِ الإسْلاَمِ, ويُحْتَمَلُ أنَّهُ سَألَ عَنْ حَقِيقَةِ الإسْلاَمِ, وإنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ لَهُ الشَّهَادَةَ لأنَّهُ عَلِمَ أنَّهُ يَعْلَمُهَا، أو عَلِمَ أنَّهُ إنَّمَا يَسْألُ عَنِ الشَّرَائِعِ الفِعْلِيَّةِ, أو ذَكَرَهَا ولَمْ يَنْقِلْهَا الرَّاوِي لشُهْرَتِهَا, وإنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الحَجَّ إمَّا لأنَّهُ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ بَعْدُ أو الرَّاوِي اخْتَصَرَهُ, ويُؤَيِّدُ هَذا الثَّانِي مَا أخْرَجَهُ المُصَنِّفُ (أيْ البُخَارِيُّ) في الصِّيَامِ مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرَ عَنْ أبِي سُهَيْلٍ في هَذا الحَدِيثِ قَالَ (فَأخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بشَرَائِعِ الإسْلاَمِ), فَدَخَلَ فِيهِ بَاقِي المَفْرُوضَاتِ بَلْ والمَنْدُوبَاتِ، وقَوْلُهُ (وَذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ) في رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرَ قَالَ (أخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللهُ عَلَيَّ مِنَ الزَّكَاةِ, قَالَ: فَأخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بشَرَائِعِ الإسْلاَمِ), فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الرّوَايَةُ أنَّ في القِصَّةِ أشْيَاءٌ أُجْمِلَتْ, مِنْهَا بَيَانُ نُصُبِ الزَّكَاةِ فَإنَّهَا لَمْ تُفَسَّرْ في الرّوَايَتَيْنِ, وكَذَا أسْمَاءُ الصَّلَوَاتِ, وكَأنَّ السَّبَبَ فِيهِ شُهْرَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ, أو القَصْدُ مِنَ القِصَّةِ بَيَانُ أنَّ المُتَمَسِّكَ بالفَرَائِضِ نَاجٍ وإنْ لَمْ يَفْعَلِ النَّوَافِلَ، فَإنْ قِيلَ: أمَّا فَلاَحُهُ بأنَّهُ لا يُنْقِصُ فَوَاضِحٌ, وأمَّا بأنْ لا يُزِيدَ فَكَيْفَ يَصِحُّ؟ أجَابَ النَّوَوِيُّ بأنَّهُ أثْبَتَ لَهُ الفَلاحَ لأنَّهُ أتَى بِمَا عَلَيْهِ، ولَيْسَ فِيهِ أنَّهُ إذا أتَى بزَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ لا يَكُونُ مُفْلِحاً, لأنَّهُ إذا أفْلَحَ بالوَاجِبِ فَفَلاَحُهُ بالمَنْدُوبِ مَعَ الوَاجِبِ أوْلَى ] فَتْحُ البَارِي (1/108).

              ونَرْجُو مِنَ الإمَامِ أنْ يَتَأمَّلَ لَفْظَةَ (وعَلَّمَهُ شَرَائِعَ الإسْلاَمِ)، كَمَا نَرْجُو أنْ يَتَأمَّلَ نهَايَةَ مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ الحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ، والَّذِي أقَرَّ فِيهِ كَلاَمَ الإمَامِ النَّوَوِيِّ بأنَّ الفَلاَحَ يَكُونُ أوْلَى لِمَنْ جَاءَ بالوَاجِبَاتِ وأضَافَ إلَيْهَا المَنْدُوبَاتِ.

              خَامِسًا: نُوصِيكُمْ بالمُحَافَظَةِ عَلَى أوَامِرِ اللهِ تَعَالَى ورَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، كَمَا نُوصِيكُمْ بالمُحَافَظَةِ عَلَى تَطْبِيقِ السُّنَنِ والمُسْتَحَبَّاتِ، دُونَ غُلُوٍّ وتَشَدُّدٍ، وتَعْلِيمِ ذَلِكَ للنَّاسِ بحِكْمَةٍ وحُسْنِ أُسْلُوبٍ، ولا يَجُوزُ لَكُمْ تَنْفِيرُ النَّاسِ بالتَّشَدُّدِ فِيمَا فِيهِ سِعَةٌ، أو بجَعْلِ المُسْتَحَبَّاتِ وَاجِبَاتٍ، أو بالتَّشَدُّدِ في النَّكِيرِ عَلَى النَّاسِ، وخَاصَّةً خَاصَّتُهُمْ كَإمَامِ المَسْجِدِ أوِ المُفْتِي أو مَنْ لَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ النَّاسِ، واسْتَمِعُوا لهَذِهِ النَّصِيحَةِ الجَامِعَةِ مِنْ عَالِمٍ فَاضِلٍ، قَالَ الشَّيْخُ صَالِحُ الفَوْزَان حَفِظَهُ اللهُ [ يَجِبُ عَلَيْكَ الالْتِزَامُ بسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ والمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا، وألاَّ تَلْتَفَّ إلى عَذْلِ مَنْ يَعْذِلُكَ، أو يَلُومُكَ في هَذا، أمَّا أنَّ الوَالِدَيْنِ يَلُومَانِكَ في تَمَسُّكِكَ بالسُّنَّةِ ويُرِيدَانِ مِنْكَ التَّسَاهُلَ في ذَلِكَ: فَلاَ تُطِعْهُمَا في هَذا الأمْرِ، خُصُوصًا إذا كَانَتْ هَذِهِ السُّنَنُ مِنَ الوَاجِبَاتِِ الَّتِي يَجِبُ التَّمَسُّكُ بِهَا، لا في المُسْتَحَبَّاتِ، وإذا لَمْ يَصِلْ الأمْرُ إلى التَّشَدُّدِ، أمَّا إذا كَانَ الأمْرُ بَلَغَ بِكَ إلى حَدِّ التَّشَدُّدِ: فَلا يَنْبَغِي لَكَ، ولَكِنْ يَنْبَغِي الاعْتِدَالُ والتَّوَسُّطُ في تَطْبِيقِ السُّنَنِ، والعَمَلِ بِهَا، مِنْ غَيْرِ غُلُوٍّ وتَشَدُّدٍ، ومِنْ غَيْرِ تَسَاهُلٍ ولا تَفْرِيطٍ، هَذا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي عَلَيْكَ، وعَلَى كُلِّ حَالٍ أنْتَ مُثَابٌ - إنْ شَاءَ اللهُ - وعَلَيْكَ بالتَّمَسُّكِ بسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وإقْنَاعِ مَنْ يَلُومُكَ في هَذا، خُصُوصًا الوَالِدَيْنِ، عَلَيْكَ أنْ تَتَّبِعَهُمَا وأنْ تُرَغِّبَهُمَا في السُّنَنِ وتُبَيِّنَ لَهُمَا مَا في ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ والخَيْرِ، فَلَعَلَّهُ أنْ يَزُولَ عَنْهُمَا هَذا الاعْتِرَاضُ أو هَذا الاسْتِغْرَابُ، ولَعَلَّهُ أيْضًا أنْ يَكُونَ هَذا العَمَلُ سَبَبًا في الْتِزَامِهِمَا أيْضًا بالسُّنَنِ والاقْتِدَاءِ، وتَكُونُ أنْتَ دَاعِيَةً إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ولا شَكَّ أنَّ الإنْسَانَ الَّذِي يَدْعُو إلى اللهِ يَجِبُ أوَّلُ مَا يَدْعُو أقَارِبَهُ وأقْرَبَ النَّاسِ إلَيْهِ، والوَالِدَانِ مِنْ أقْرَبِ النَّاسِ إلَيْكَ، فَعَلَى كُلِّ حَالٍ إذا كَانَ تَمَسُّكُكَ بالسُّنَنِ لا يَنْتَهِي إلى حَدِّ الإفْرَاطِِ والغُلُوِّ: فَهُوَ أمْرٌ مَحْمُودٌ، وعَلَيْكَ أنْ تَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ، وأنْ تَدْعُوَ إلَيْهِ وَالِدَيْكَ وغَيْرَهُمَا، واللهُ أعْلَمُ ] المُنْتَقَى مِنْ فَتَاوَى الشَّيْخِ الفَوْزَان (2/301، 302).

              وأخِيًرا: كَمَا أنَّ مِنَ التَّشَدُّدِ المَذْمُومِ أنْ نُنْزِلَ المُسْتَحَبَّ مَنْزِلَةَ الأمْرِ الوَاجِبِ، أوِ المَكْرُوهَ مَنْزِلَةَ المُحَرَّمِ، أو نُلْزِمَ أنْفُسَنَا بِمَا لَمْ يُلْزِمْنَا اللهُ تَعَالَى بِهِ؛ فَكَذَلِكَ مِنَ الجَهْلِ بأُصُولِ الشَّرِيعَةِ أنْ نُهْدِرَ الأصْلَ العَامَّ العَظِيمَ، وهُوَ وُجُوبُ الأُلْفَةِ والمَحَبَّةِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، والاجْتِمَاعِ عَلَى حَبْلِهِ المَتِينِ، وصِيَانَةِ عِرْضِ المُسْلِمِ مِنَ السَّلْبِ والعَيْبِ، فَضْلاً عَنِ العُدْوَانِ والأذَى والضَّرْبِ، مِنَ الجَهْلِ أنْ نُهْدِرَ ذَلِكَ كُلَّهُ لأجْلِ أنَّ هَذا تَمَسَّكَ بأمْرٍ مُسْتَحَبٍّ، وغَيْرُهُ لا يَرَاهُ مُسْتَحَبًّا، أو لا يَلْتَزِمُ بِهِ، وبالمُقَابِلِ العُدْوَانُ عَلَى عِرْضِ المُسْلِمِ أو حَقِّهِ لأجْلِ أنَّهُ أخَلَّ بأمْرٍ يَسْتَمْسِكُ بِهِ غَيْرُهُ، وبمِثْلِ ذَلِكَ يَنَالُ العَدُوُّ اللَّعِينُ مُرَادَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ؛ فَكَيْفَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ في بِلاَدِ المَهْجَرِ والغُرْبَةِ، حَيْثُ يَرَانَا غَيْرُنَا صُورَةً لدِينِنَا، رَوَى الإمَامُ مُسْلِمُ في صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ [ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ ]، قَالَ شَيْخُ الإسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ [ فَأمَّا صِفَةُ الصَّلاَةِ: ومِنْ شَعَائِرِهَا مَسْألَةُ البَسْمَلَةِ؛ فَإنَّ النَّاسَ اضْطَرَبُوا فِيهَا نَفْيًا وإثْبَاتًا: في كَوْنِهَا آيَةً مِنَ القُرْآنِ، وفي قِرَاءَتِهَا، وصُنِّفَتْ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مُصَنَّفَاتٍ يَظْهَرُ في بَعْضِ كَلاَمِهَا نَوْعُ جَهْلٍ وظُلْمٍ مَعَ أنَّ الخَطْبَ فَيِهَا يَسِيرٌ، وأمَّا التَّعَصُّبُ لهَذِهِ المَسَائِلِ ونَحْوِهَا فَمِنْ شَعَائِرِ الفُرْقَةِ والاخْتِلاَفِ الَّذِي نُهِينَا عَنْهَا; إذِ الدَّاعِي لذَلِكَ هُوَ تَرْجِيحُ الشَّعَائِرَ المُفْتَرِقَةِ بَيْنَ الأُمَّةِ، وإلاَّ فهَذِهِ المَسَائِلُ مِنْ أخَفِّ مَسَائِلِ الخِلاَفِ جِدًّا لَوْلاَ مَا يَدْعُو إلَيْهِ الشَّيْطَانُ مِنْ إظْهَارِ شِعَارِ الفُرْقَةِ، .... ثُمَّ قَالَ: ويُسْتَحَبُّ للرَّجُلِ أنْ يَقْصِدَ إلى تَألِيفِ القُلُوبِ بتَرْكِ هَذِهِ المُسْتَحَبَّاتِ، لأنَّ مَصْلَحَةَ التَّألِيفِ في الدِّينِ أعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ فِعْلِ مِثْلِ هَذا، كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ تَغْيِيرَ بِنَاءِ البَيْتِ لِمَا في إبْقَائِهِ مِنْ تَألِيفِ القُلُوبِ، وكَمَا أنْكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى عُثْمَانَ إتْمَامَ الصَّلاَةِ في السَّفَرِ ثُمَّ صَلَّى خَلْفَهُ مُتِمًّا، وقَالَ: الخِلاَفُ شَرٌّ ] مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (22/405-4079). انْتَهَى

              وبَعْدَ هَذا التَّمْهِيدِ والتَّأصِيلِ؛ نَأتِي الآنَ إلى الرَّدِّ عَلَى الشُّبْهَةِ المَزْعُومَةِ بجَهْلٍ وجَهَالَةٍ، ولَنْ نُنَاقِشَ تَفَاصِيلَ الشُّبْهَةِ نَفْسِهَا، ولَكِنْ سَنُبَيِّنُ بإذْنِ اللهِ حُكْمَ اللِّحْيَةِ في الدِّينِ بشَكْلٍ يَسِيرٍ ومُخْتَصَرٍ، لنَعْرِفَ هَلْ هِيَ مِنَ الدِّينِ وهَلْ قَالَ اللهُ ورَسُولُهُ بِهَا أمْ لاَ، وإنْ كَانَتْ مِنَ الدِّينِ فَهَلْ هِيَ مِنَ الوَاجِبَاتِ الَّتِي لا تُتْرَكُ، وفِعْلُهَا لا يُعْتَبَرُ تَشَدُّدًا، وأنَّ المُسِيءَ لفَاعِلِهَا آثِمٌ، أمْ أنَّهَا مِنَ المُسْتَحَبَّاتِ الَّتِي يُمْكِنُ تَرْكُهَا ولا يَصِحُّ الخِلاَفُ عَلَيْهَا والغُلُوُّ فِيهَا، وبالتَّالِي نَرُدُّ عَلَى كُلِّ مَنِ ادَّعَى رَفْضَهَا، ونَدْحَضُ كُلَّ شُبْهَةٍ أُثِيرَتْ أو تُثَارُ حَوْلَهَا، ونَكْشِفُ جَهْلَ قَائِلِهَا والمُصَدِّقِ لَهَا، واللهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا يَصِفُونَ.

              زائرنا الكريم نحن معك بقلوبنا
              كلنا آذان صاغيه لشكواك ونرحب بك دائما
              في
              :

              جباال من الحسنات في انتظارك





              تعليق


              • #8
                رد: اللحية هل هي واجبة

                أدِلَّةُ وُجُوبِ اللِّحْيَةِ مِنَ السُّنَّةِ:
                إنَّ الأوَامِرَ الوَارِدَةَ في الشَّرْعِ عَلَى ثَلاَثَةِ أنْوَاعٍ:
                الأوَّلُ: أنْ يَقْتَرِنَ بالأمْرِ قَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَى أنَّ المُرَادَ بِهِ الوُجُوبُ والفَرْضِيَّةُ, كَقَوْلِِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى [ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ]، فَقَدْ دَلَّتِ الأدِلَّةُ القَطْعِيَّةُ مِنَ الكِتَابِ والسُّنَّةِ وإجْمَاعِ المُسْلِمِينَ عَلَى أنَّ الأمْرَ بإقَامَةِ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ هُوَ أمْرٌ للوُجُوبِ.

                الثَّانِي: أنْ يَقْتَرِنَ بالأمْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ لَيْسَ للوُجُوبِ, كَقَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في صَحِيحِ البُخَارِيِّ [ صَلُّوا قَبْلَ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ, قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً ]، فَقَوْلُهُ (لِمَنْ شَاءَ) دَلِيلٌ عَلَى أنَّ الأمْرَ في قَوْلِهِ (صَلُّوا قَبْلَ المَغْرِبِ) لَيْسَ للوُجُوبِ.

                الثَّالِثُ: أنْ يَرِدَ الأمْرُ مُجَرَّدًا عَنِ القَرَائِنِ , وهُوَ مَا يُسَمِّيهِ العُلَمَاءُ بالأمْرِ المُطْلَقِ, فَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ للوُجُوبِ أو غَيْرِهِ, وحُكْمُ هَذا الأمْرِ أنَّهُ يَكُونُ للوُجُوبِ.
                لِذَا؛ ذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّ صِيغَةَ الأمْرِ حَقِيقَةٌ في الوُجُوبِ لُغَةً وشَرْعًا ومِنْ حَيْثُ العَقْلِ والنَّقْلِ، فإذا وَرَدَ الأمْرُ مُتَجَرِّدًا عَنِ القَرَائِنِ اقْتَضَى الوُجُوبَ.

                ولَمَّا كَانَتْ كُلُّ الأحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي وَرَدَتْ في شَأنِ اللِّحْيَةِ بصِيغَةِ الأمْرِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِهَا لا اسْتِحْبَابِهَا، فَلَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُمَا عَنْ عِدَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وابْنُ عُمَرٍرَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ أمْرَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بإعْفَاءِ اللِّحَى، ومِنْ ذَلِكَ:
                1) مَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرٍرَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ [ خَالِفُوا المُشْرِكِينَ، أحْفُوا الشَّوَارِبَ وأوْفُوا اللِّحَى].
                2) وعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ [ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: أنْهِكُوا الشَّوَارِبَ، وأعْفُوا اللِّحَى ].
                3) وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ [ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وأرْخُوا اللِّحَى، وخَالِفُوا المَجُوسَ ].
                ووَرَدَ هَذا الأمْرُ بألْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، عَدَّهَا النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فَبَلَغَتْ خَمْسَةً، قَالَ النَّوَوِيُّ [ حَصَلَ لِهَذَا الحَديثِ خَمْسُ رِوَايَاتٍ: أَعْفُوا وَأَوْفُوا وَأَرْخُوا وَأَرْجُوا وَوَفِّرُوا, وَمَعْنَاهَا كُلِّهَا: تَرْكُهَا عَلَى حَالِهَا، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أَلْفَاظُهُ, وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْمُخْتَارُ تَرْكُ اللِّحْيَةِ عَلَى حَالِهَا وَأَلاَّ يَتَعَرَّضَ لَهَا بِتَقْصِيرِ شَيْءٍ أَصْلاً ]، والأمْرُ بهذا يُفِيدُ وُجُوبَ المَأمُورِ بِهِ، بحَيْثُ يُثَابُ فَاعِلُهُ ويُعَاقَبُ تَارِكُهُ، ولَيْسَتْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ إلى النَّدْبِ، ومِنْهُ يُعْلَمُ أنَّ حَلْقَ اللِّحْيَةِ مُخَالَفَةٌ صَرِيحَةٌ لأمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.

                ويُمْكِنُ الاسْتِدْلاَلُ عَلَى الوُجُوبِ أيْضًا بالنَّهْيِ الوَارِدِ بصِيغَةِ الأمْرِ، فَإنَّ النَّهْيَ هُوَ طَلَبُ الكَفِّ عَنِ الفِعْلِ، وقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ بصِيغَةِ الأمْرِ، فَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ (أعْفُوا) مَعْنَاهُ: اتْرُكُوهَا وَافِيَةً لا تَقُصُّوهَا؛ كَمَا قَالَ الإمْامُ النَّوَوِيُّ في تَفْسِيرِ (أعْفُوا)، ونَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ ابْنِ دَقِيقِ العِيدِ قَوْلَهُ [ حَقِيقَةُ الإعْفَاءِ التَّرْكُ ]، فَالإعْفَاءُ طَلَبٌ للتَّرْكِ، فَهُوَ نَهْيٌ، والنَّهْيُ يَلْزَمُ اجْتِنَابُهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى [ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا]، وقَدْ ذَهَبَ الجُمْهُورُ مِنْ أهْلِ الأُصُولِ ومِنَ الحَنَفِيَّةِ والشَّافِعِيَّةِ والمُحَدِّثِينَ إلى أنَّ الشَّيْءَ المُعَيَّنَ إذا أُمِرَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ الأمْرُ نَهْيًا عَنِ الشَّيْءِ المُضَادِّ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الضِّدُّ وَاحِدًا (كَمَا إذا أمَرَهُ بالإيِمَانِ فَإنَّهُ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ الكُفْرِ، وإذا أمَرَهُ بالحَرَكَةِ يَكُون نَهْيًا عَنِ السُّكُونِ)، أو كَانَ الضِّدُّ مُتَعَدِّدًا (كَمَا إذا أمَرَهُ بالقِيَامِ فَإنَّهُ يَكُون نَهْيًا عَنِ القُعُودِ والاضْطِجَاعِ والسُّجُودِ وغَيْرِ ذَلِكَ)، فَالكَفُّ عَنِ الضِّدِّ لازِمٌ للأمْرِ لُزُومًا لا يَنْفَكُّ، إذْ لا يَصْلُحُ الأمْرُ بحَالٍ إلاَّ مَعَ الكَفِّ عَنْ ضِدِّهِ، فَالأمْرُ مُسْتَلْزِمُ ضَرُورَةِ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ لاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ، والحَاصِلُ أنَّ الأمْرَ بإعْفَاءِ اللِّحْيَةِ يُفْهَمُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ حَلْقِهَا أو اسْتِئْصَالِهَا أو تَقْصِيرِهَا.

                ورَغْمَ وُضُوحِ الأدِلَّةِ وصِحَّتِهَا وكَثْرَتِهَا، فَإنَّ هُنَاكَ مَنْ يُجَادِلُ فِيهَا بفَهْمِهِ الخَاطِئِ لَهَا، فَإنْ أقَرَّ بوُجُوبِ اللِّحْيَةِ، نَرَاهُ يُجَادِلُ في طُولِهَا، ويُفَسِّرُ ألْفَاظَ الحَدِيثِ بتَفْسِيرَاتٍ مِنْ صُنْعِ المَنْطِقِ بَعِيدَةً عَنِ اللُّغَةِ وعَنْ حَقِيقَةِ الأمْرِ، ولذَلِكَ دَعُونَا نَرَى هَذِهِ الفَتْوَى للرَّدِّ عَلَى هَذا المَنْطِقِ المَغْلُوطِ:
                السُّؤَالُ: جَاءَ أحَدُ المَشَايِخِ ودَحَضَ فِكْرَةَ عَدَمِ جَوَازِ الأخْذِ مِنَ اللِّحْيَةِ، حَيْثُ اسْتَدَلَّ بأنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ (وَفِّرُوا اللِّحَى) لا يُقْصَدُ بِهِ هُنَا عَدَمُ الأخْذِ مُطْلَقًا؛ لأنَّ الشَّخْصَ قَدْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ مُدَّخَرٌ في البَنْكِ، وقَدْ يَكْثُرُ هَذا المَالُ أو يَقِلُّ، وفي كِلْتَا الحَالَتَيْنِ يُعْتَبَرُ مُوَفِّرًا، ويَسْتَطِيعُ أنْ يَقُولَ إنَّهُ وَفَّرَ مَالَهُ في البَنْكِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنِ المَبْلَغُ المُوَفَّرُ إلاَّ رِيَالاً وَاحِدًا، فَمَا قَوْلُكُمْ في هَذا؟
                الجَوَابُ:
                الحَمْدُ للهِ؛؛
                أوَّلاً: سَبَبُ الإشْكَالِ الَّذِي وَقَعَ في كَلاَمِ الشَّيْخِ المُتَكَلِّمِ في هَذِهِ المَسْألَةِ أو مَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ البَحْثِ المَذْكُورِ في السُّؤَالِ؛ هُوَ أنَّهُ حَمَلَ الاسْتِعْمَالَ اللُّغَوِيَّ في كَلاَمِ الشَّرْعِ عَلَى مَعْنَى عَامِيٍّ؛ أو اسْتِعْمَالٍ عُرْفِيٍّ حَادِثٍ، دُونَ النَّظَرِ لكَلاَمِ أهْلِ اللُّغَةِ في اشْتِقَاقِ الكَلِمَةِ؛ واسْتِعْمَالِ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ لَهَا، وهُنَا كَلاَمٌ لأحَدِ المُخْتَصِّينَ باللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ في بَيَانِ مَعْنَى كَلِمَةِ التَّوْفِيرِ لُغَةً، وعُرْفًا، ووَجْهِ الخَطَأِ في الاسْتِعْمَالِ وصَوَابِهِ، قَالَ الأُسْتَاذُ الدُّكْتُورُ مِكِّي الحسَنِي الجَزَائِرِي وَفَّقَهُ اللهُ:
                جَاءَ في مَعَاجِمِ اللُّغَةِ وكُتُبِهَا:
                1) وَفَرَ الشَّيْءُ يَفِرُ وَفْرًا ووُفُورًا: كَثُرَ واتَّسَعَ فَهُوَ وَافِرٌ (واسْمُ التَّفْضِيلِ أوْفَرُ؛ يُقَالُ: فُلاَنٌ أوْفَرُ مِنْ فُلاَنٍ حَظًّا في النَّجَاحِفَالوَفْرُ: مَصْدَرٌ بمَعْنَى الكَثْرَةُ والاتِّسَاعُ كَالوَفْرَةِ، ويُوصَفُ بِهِ فَيُقَالُ: مَالٌ وَفْرٌ، ومَتَاعٌ وَفْرٌ: أي كَثِيرٌ وَاسِعٌ، كَالوَافِرِ (ومِنَ المُوَلَّدِ: الوَفِيرُ بمَعْنَى الوَافِرُ)، والوَفْرُ: الغِنَى، وتَسْتَعْمِلُ العَامَّةُ (الوَفْرَ) بمَعْنَى مَا اقْتُصِدَ (مَا أمْكَنَ اسْتِبْقَاؤُهُ وعَدَمُ إنْفَاقِهِ - اسْتِهْلاَكِهِ)، ونَرَى أنْ لا أثَرَ لهَذا المَعْنَى في اللُّغَةِ، قَالَ الجَاحِظُ في البُخَلاَءِ (ص264) [ ومَنْ كَانَ سَبَبًا لذَهَابِ وَفْرِهِ: لَمْ تَعْدَمْهُ الحَسْرةُ مِنْ نَفْسِهِ، واللاَّئِمَةُ مِنْ غَيْرِهِ، وقِلَّةُ الرَّحْمَةِ وكَثْرَةُ الشَّمَاتَةِ ]، وَفْرِهِ (= سَعَتِهِ)، أمَّا المَوْفُورُ(= الوَافِرُ) فَهُوَ التَّامُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، يُقَالُ: أتَمَنَّى لَكُمْ مَوْفُورَ الصِّحَّةِ.
                2) وَفَّرَ الشَّيْءَ تَوْفِيرًا: كَثَّرَهُ، وَفَّرَ لفُلاَنٍ طَعَامَهُ: كَمَّلَهُ ولَمْ يَنْقُصْه وجَعَلَهُ وَافِرًا، وَفَّرَ لَهُ الشَّيْءَ تَوْفِيرًا: إذا أَتَمَّهُ ولَمْ يَنْقُصْه، جَاءَ في مُحِيطِ المُحِيطِ [ والعَامَّةُ تَسْتَعْمِلُ التَّوْفِيرَ في النَّفَقَةِ بمَعْنَى التَّقْتِيرُ، وضِدُّ الإسْرَافِ ]، أقُولُ: بَلْ الشَّائِعُ لَدَى العَامَّةِ الآنَ هُوَ اسْتِعْمَالُ التَّوْفِيرَ بمَعْنَى الاقْتِصَادُ في النَّفَقَةِ واخْتِصَارِهَا (لا التَّقْتِيرَ)، ويُمْكِنُ تَوْجِيهُ هَذا الاسْتِعْمَالَ، باعْتِبَارِ أنَّ الاقْتِصَادَ في النَّفَقَةِ يُوَفِّرُ (يُكَثِّرُ) المُتَبَقِّي في حَوْزَةِ المُنْفِقِ.
                3) تَوَفَّرَ الشَّيْءُ: إذا تَحَصَّلَ دُونَ نَقْصٍ، ومِنَ المَجَازِ: تَوَفَّرَ عَلَى كَذَا: صَرَفَ هِمَّتَهُ إلَيْهِ، تَوَفَّرَ عَلَى صَاحِبِهِ: رَعَى حُرُماتِِهِ وبَرَّهُ، حَكَى صَاحِبُ الأغَانِي قَوْلَ بَشَّارٍ [ إنَّ عَدَمَ النَّظَرِ يُقَوِّي ذَكَاءَ القَلْبِ، ويَقْطَعُ عَنْهُ الشُّغْلَ بِمَا يَنْظُرُ إلَيْهِ مِنْ أشْيَاءٍ، فَيَتَوَفَّرُ حِسُّهُ ]، وقَالَ المُرْتَضَى في أمَالِيهِِ [ فَيَتَوَفَّرُ اللَّبَنُ عَلَى الحَلْبِ ]، وقَالَ أبُو عَلِيِّ المَرْزُوقِي في شَرْحِ الحَمَاسَةِ [ وإنَّ العِنَايَةَ مُتَوَفِّرَةٌ مِنْ جِهَتِهِمْ ]، وقَالَ أبُو حَيَّانَ التَّوْحِيدِي في مُقَابَسَاتِهِ [ ولهَذا لا تَتَوَفَّرُ القُوَّتَانِ للإنْسَانِ الوَاحِدِ ]، وبهَذا يَسْتَبِينُ أنَّ: (تَوَفَّرَ الشَّيْءُ) يَعْنِي: وَفَرَ وتَجَمَّعَ.
                4) تَوَافَرَ الشَّيْءُ تَوَافُرًا: كَثُرَ واتَّسَعَ فَهُوَ وَافِرٌ، جَاءَ في مُعْجَمِ مَتْنِ اللُّغَةِ [ وهُمْ مُتَوَافِرُونَ: هُمْ كَثِيرٌ، أو فيهِمْ كَثْرَةٌ، مُتَكَاثِرُونَ ].
                انْتَهَى باخْتِصَارٍ مِنْ مَقَالٍ بعُنْوَانِ (نَحْوَ إتْقَانِ الكِتَابَةِ باللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ)، وقَدْ ذَكَرَ الكَاتِبُ في آخِرِ مَقَالِهِ اسْتِعْمَالاَتٍ للكَلِمَةِ جَانَبَهَا التَّوْفِيقَ، وذَكَرَ الصَّوَابَ في اسْتِعْمَالِهَا، ومِنْهَا:
                قَوْلُهُمْ (كَانَ هَمُّهُ أنْ يُوَفِّرَ أكْبَرَ قَدْرٍ مِنْ دَخْلِهِ)، والصَّوَابُ: كَانَ هَمُّهُ أنْ (يَدَّخِرَ؛ يَسْتَبْقِيَ؛ يَسْتَفْضِلَ) أكْبَرَ قَدْرٍ مِنْ دَخْلِهِ.
                قَوْلُهُمْ (اسْتَطَاعَ أنْ يُوَفِّرَ هَذا المَبْلَغَ الضَّخْمَ في سَنَةٍ وَاحِدَةٍ)، والصَّوَابُ: اسْتَطَاعَ أنْ (يَقْتَصِدَ؛ يَدَّخِرَ) هَذا المَبْلَغَ الضَّخْمَ في سَنَةٍ وَاحِدَةٍ. انْتَهَى.
                وكَمَا لاَحَظْنَا؛ فَإنَّ اسْتِعْمَالاَتِ كَلِمَةِ (وَفَّرَ) ومُشْتَقَّاتِهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنِ الاتِّسَاعِ والكَثْرَةِ وعَدَمِ الإنْقَاصِ، وقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الكَلِمَةُ ببَعْضِ مُشْتَقَّاتِهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهَا في كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى [ قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا ]، قَالَ الطَّبَرِيّ [ (جَزَاءً مّوْفُورًا) أيْ ثَوَابًا مَكْثُورًا مُكَمَّلاً ]، وقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ [ قَالَ مُجَاهِدُ: وَافِرًا، وقَالَ قَتَادَةُ: مُوَفَّرًا عَلَيْكُمْ، لا يُنْقَصُ لَكُمْ مِنْهُ ]، فَمِنَ الوَاضِحِ أنَّ اسْتِعْمَالَ الكَلِمَةِ في هَذِهِ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ هُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قَرَّرَهُ أهْلُ اللُّغَةِ في مَعْنَاهَا، دُونَ مَا ذُكِرَ مِنَ العُرْفِ الحَادِثِ.

                ثَانِيًا: كَلاَمُ أهْلِ العِلْمِ وشُرَّاحِ الحَدِيثِ عَلَى مَعْنَى الكَلِمَةِ الوَارِدَةِ في حَدِيثِ اللِّحْيَةِ لا يَخْرُجُ عَمَّا قَرَّرَهُ أهْلُ اللُّغَةِ، ولا شَكَّ أنَّ هَذا هُوَ الوَاجِبُ: حَمْلُ كَلاَمِ الشَّرْعِ عَلَى مُقْتَضَى لُغَةِ العَرَبِ لا عَلَى الاصْطِلاَحِ الحَادِثِ أو العُرْفِ المُتَأخِّرِ، قَالَ بَدْرُ الدِّينِ العيْنِي [ وقَوْلُهُ (وَفِّرُوا) بتَشْدِيدِ الفَاءِ: أمْرٌ مِنَ التَّوْفِيرِ، وهُوَ الإبْقَاءُ، أيْ: اتْرُكُوهَا مُوَفَّرَةً ] عُمْدَةُ القَارِي شَرْحُ صَحِيحِ البُخَارِيِّ (22/46)، وقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ [ أمَّا قَوْلُهُ (وَفِّرُوا) فَهُوَ بتَشْديدِ الفَاءِ، مِنَ التَّوْفِيرِ، وهُوَ الإبْقَاءُ؛ أيْ اتْرُكُوهَا وَافِرَةً ] فَتْحُ البَارِي شَرْحُ صَحِيحِ البُخَارِيِّ (10/350).

                ثَالِثًا: وَرَدَ الأمْرُ بتَوْفِيرِ اللِّحْيَةِ في السُّنَّةِ بألْفَاظٍ أُخْرَى مُرَادِفَةً لكَلِمَةِ التَّوْفِيرِ، تُؤَكِّدُ مَا سَبَقَ بَيَانُهُ مِنْ مَعْنَاهَا، مِثْلَ: (أعْفُوا) و(أرْخُوا) و(أرْجُوا) و( أوْفُوا)؛ وكُلُّهَا ألْفَاظٌ نَبَوِيَّةٌ جَاءَتْ في أحَادِيثٍ صَحِيحَةٍ تَحْمِلُ المَعْنَى نَفْسَهُ: وهُوَ تَرْكُ اللِّحْيَةِ وعَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهَا بحَلْقٍ أو قَصٍّ، قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ رَحِمَهُ اللهُ [ وعَفَا القَوْمُ: كَثُرُوا، وفي التَّنْزِيلِ (حَتَّى عَفَوْا) أَي: كَثُرُوا، وعَفَا النَّبْتُ والشَّعَرُ وغَيْرُهُ يَعْفُو فَهُوَ عَافٍ: كَثُرَ وطَالَ، وفي الحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَمَرَ بإعْفَاءِ اللِّحَى: هُوَ أَنْ يُوَفَّرَ شَعَرُهَا ويُكَثَّرَ ولا يُقَصَّرَ كَالشَّوارِبِ، مِنْ عَفَا الشَّيْءُ: إذا كَثُرَ ]لِسَانُ العَرَبِ (15/72).

                وبِمَا سَبَقَ يَتَبَيَّنُ خَطَأُ ذَلِكَ التَّكَلُّفِ في تَوْجِيهِ مَعْنَى (التَّوْفِيرِ) في الحَدِيثِ، وأنَّهُ أقْرَبُ إلى تَحْرِيفِهِ، أو تَحْمِيلِهِ مَعَانِي حَادِثَةٍ، أو اسْتِعْمَالاَتٍ عُرْفِيَّةٍ لا يَجُوزُ حَمْلُ كَلاَمِ الشَّرْعِ عَلَيْهَا.

                وقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ العُلَمَاءِ إلى جَوَازِ الأخْذِ مِنَ اللِّحْيَةِ، اعْتِمَادًا عَلَى حَدِيثِ (أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَانَ يَأخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ طُولِهَا وعَرْضِهَا)، وهُوَ حَدِيثٌ لَمْ يَصِحْ بكُلِّ رِوَايَاتِهِ، ولا يُحْتَجُّ بِهِ في مُقَابَلَةِ الأحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تَأمُرُ بالإعْفَاءِ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ عَنِ الصَّحَابِيِّ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وأنَّهُ كَانَ يَأخُذُ مَا زَادَ عَنِ القُبْضَةِ [ وَكَانَ ابْنُ عُمَرٍ إِذَا حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ ]، وفي ذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ العَلاَّمَةُ ابْنُ بَاز [ مَنِ احْتَجَّ بفِعْلِ ابْنِ عُمَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنَّهُ كَانَ يَأخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ في الحَجِّ مَا زَادَ عَلَى القُبْضَةِ، فهَذا لا حُجَّةَ فِيهِ، لأنَّهُ اجْتِهَادٌ مِنِ ابْنِ عُمَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، والحُجَّةُ في رِوَايَتِهِ لا في اجْتِهَادِهِ، وقَدْ صَرَّحَ العُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللهُ: أنَّ رِوَايَةَ الرَّاوِي مِنَ الصَّحَابَةِ ومَنْ بَعْدَهُمُ الثَّابِتَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ هِيَ الحُجَّةُ، وهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى رَأيِهِ إذا خَالَفَ السُّنَّةَ ] فَتَاوَى ومَقَالاَتُ الشَّيْخِ ابْنِ بَاز (8/370)، وقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنٍ بْنِ قَاسِم في رِسَالَتِهِ تَحْرِيمُ حَلْقِ اللِّحَى (ص11) [ ورَخَّصَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ في أخْذِ مَا زَادَ عَنِ القُبْضَةِ لفِعْلِ ابْنِ عُمَرٍ، وأكْثَرُ العُلَمَاءِ يَكْرَهُهُ، وهَذا أظْهَرُ لِمَا تَقَدَّمَ، وقَالَ النَّوَوِيُّ: والمُخْتَارُ تَرْكُهَا عَلَى حَالِهَا وألاَّ يُتَعَرَّضُ لَهَا بتَقْصِيرِ شَيْءٍ أصْلاً ... وقَالَ في الدُّرِّ المُخْتَارِ: وأمَّا الأخْذُ مِنْهَا وهِيَ دُونَ القُبْضَةِ فَلَمْ يُبِحْهُ أحَدٌ ].

                زائرنا الكريم نحن معك بقلوبنا
                كلنا آذان صاغيه لشكواك ونرحب بك دائما
                في
                :

                جباال من الحسنات في انتظارك





                تعليق


                • #9
                  رد: اللحية هل هي واجبة

                  أقْوَالُ المَذَاهِبِ في اللِّحْيَةِ:
                  صَرَّحَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ بالتَّحْرِيمِ، ونَصَّ البَعْضُ عَلَى الكَرَاهَةِ، وهِيَ حُكْمٌ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى المَحْظُورِ، لأنَّ المُتَقَدِّمِينَ يُعَبِّرُونَ بالكَرَاهَةِ عَنِ التَّحْريمِ كَمَا نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ ذَلِكَ في جَامِعِ بَيَانِ العُلُومِ وفَضْلِهِ عَنِ الإمَامِ مَالِكٍ وغَيْرِهِ، أمَّا إنْ أُرِيدَ بِهِ كَرَاهَةُ التَّنْزِيهِ فَيَكُونُ هَذا قَوْلاً ضَعِيفًا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَصْرِيحُ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ بالتَّحْرِيمِ، والمُعْتَبَرُ مِنَ الأقْوَالِ في حِكَايَةِ الخِلاَفِ وأقْوَالِ المَذَاهِبِ هُوَ القَوْلُ الصَّحِيحُ الرَّاجِحُ في المَذْهَبِ، أمَّا القَوْلُ الضَّعِيفُ فَلا يُعْتَبَرُ في الخِلاَفِ، ولا يَصِحُّ أنْ يُحْكَى إلاَّ مَقْرُونًا ببَيَانِ ضَعْفِهِ، ولِذَا لَمَّا تَعَرَّضَ العُلَمَاءُ الَّذِينَ كَتَبُوا الفِقْهَ عَلَى المَذَاهِبِ لمَسْألَةِ حَلْقِ اللِّحْيَةِ؛ لَمْ يَحْكُوا عَنِ المَذَاهِبِ إلاَّ تَحْرِيمَهُ، ولَمْ يَلْتَفِتُوا إلى مَا سِوَاهُ لعَدَمِ صِحَّةِ نِسْبَتِهِ إلى المَذَاهِبِ، وجَاءَ في حَاشِيَةِ الدَّرْدِيرِ [ والفَتْوَى إنَّمَا تَكُونُ بالقَوْلِ المَشْهُورِ أوِ الرَّاجِحِ مِنَ المَذَاهِبِ، وأمَّا القَوْلُ الشَّاذُّ والمَرْجُوحُ فَلا يُفْتَى بِهِمَا، ولا يَجُوزُ العَمَلُ بِهِمَا ].

                  المَذْهَبُ الحَنَفِيُّ
                  قَالَ العَلاَّمَةُ ابْنُ عَابِدِين مِنْ أعْيَانِ الحَنَفِيَّةِ في الدُّرِّ المُخْتَارِ شَرْحُ تَنْوِيرِ الأبْصَارِ في كِتَابِ الحَظْرِ والإبَاحَةِ [ ويَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ قَطْعُ لِحْيَتِهِ ]، وقَالَ في كِتَابِ الصَّوْمِ [ وصَرَّحَ في النِّهَايَةِ بوُجُوبِ قَطْعِ مَا زَادَ عَنِ القُبْضَةِ بالضَّمِّ، ومُقْتَضَاهُ الإثْمُ بتَرْكِهِ إلاَّ أنْ يُحْمَلَ الوُجُوبُ عَلَى الثُّبُوتِ، وأمَّا الأخْذُ مِنْهَا وهِيَ دُونَ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ المَغَارِبَةِ ومُخَنَّثَةُ الرِّجَالِ فَلَمْ يُبِحْهُ أحَدٌ، وأخْذُ كُلِّهَا فِعْلٌ يَهُودُ الهِنْدِ ومَجُوسِ الأعَاجِمِ ]، وقَالَ في الوَسِيلَةِ الأحْمَدِيَّةِ [ مَسْألَةُ: هَلْ يَجُوزُ حَلْقُ اللِّحْيَةِ كَمَا يَفْعَلُهُ الجَوَالفيونَ؟ الجَوَابُ: لا يَجُوزُ، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ (أحْفُوا الشَّوَارِبَ، وأعْفُوا اللِّحَى) أيْ قُصُّوا الشَّوَارِبَ واتْرُكُوا اللِّحَى كَمَا هِيَ ولا تَحْلِقُوهَا ولا تُنْقِصُوهَا عَنِ القَدْرِ المَسْنُونِ وهِيَ القُبْضَةُ ]، ومِثْلَ ذَلِكَ في أكْثَرِ كُتُبِ الحَنَفِيَّةِ كَفَتْحِ القَدِيرِ وشَرْحِ الزَّيْلَعِيِّ عَلَى الكَنْزِ.

                  المَذْهَبُ المَالِكِيُّ
                  قَالَ الحَافِظُ أبُو عُمَرٍ بْنِ عَبْدِ البَرِّ في التَّمْهِيدِ [ ويَحْرُمُ حَلْقُ اللِّحْيَةِ، ولا يَفْعَلُهُ إلاَّ المُخَنَّثُونَ مِنَ الرِّجَالِ ]، وقَالَ العَلاَّمةُ الدَّسُوقِيُّ في حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ خَليلٍ [ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ حَلْقُ لِحْيَتِهِ أو شَارِبِهِ، ويُؤَدَّبُ فَاعِلُ ذَلِكَ ]، وقَالَ القُرْطُبِيُّ [ لا يَجُوزُ حَلْقُ اللِّحْيَةِ ولا نَتْفُهَا ولا قَصُّهَا ]، وقَالَ الخَطَّابُ في شَرْحِ المُخْتَصَرِ [ وحَلْقُ اللِّحْيَةِ لا يَجُوزُ ]، وكَذَا قَالَ أبُو الحَسَنِ في شَرْحِ الرِّسَالَةِ، وقَالَ النَّفرَاوِيُّ في شَرْحِهِ عَلَى رِسَالَةِ ابْن أبِي زَيْدٍ مَا نَصُّهُ [ وفي قَصِّ الشَّارِبِ وإعْفَاءِ اللِّحَى مُخَالَفَةٌ لفِعْلِ الأعَاجِمِ، فَإنَّهُمْ كَانُوا يَحْلقُونَ لِحَاهُمْ ويَعْفُونَ الشَّوَارِبَ، وآلُ كِسْرَى أيْضًا كَانَتْ تَحْلِقُ لِحَاهُمْ وتُبْقِي الشَّوَارِبَ، فَمَا عَلَيْهِ الجُنْدُ في زَمَانِنَا مِنْ أمْرِ الخَدَمِ بحَلْقِ لِحَاهُمْ لاشَكَّ في حُرْمَتِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الأئِمَّةِ لمُخَالَفَتِهِ لسُنَّةِ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ولمُوَافَقَتِهِ لفِعْلِ الأعَاجِمِ والمَجُوسِ، والعَوَائِدُ لا يَجُوزُ العَمَلُ بِهَا إلاَّ عِنْدَ عُدْمِ نَصٍّ للشَّرْعِ مُخَالِفٍ لَهَا، وإلاَّ كَانَتْ فَاسِدَةً يَحْرُمُ العَمَلُ بِهَا، ألا تَرَى لَوِ اعْتَادَ النَّاسُ فِعْلَ الزِّنَا أو شُرْبَ الخَمْرِ لَمْ يَقُلْ أحَدٌ بجَوَازِ العَمَلِ بِهَا، وقَدْ أمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَمَا في المُوَطَّأِ أنْ تُعْفَى اللِّحْيَةُ أيْ يُوَفَّرُ شَعْرُهَا أو تَبْقَى مِنْ غَيْرِ إزَالَةٍ لشَيْءٍ مِنْهَا ]، وقَالَ أيْضًا [ فَقَدْ ظَهَرَ لَكَ مِنْ ذَلِكَ أنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ حُرْمَةُ حَلْقِ اللِّحْيَةِ، وأنَّ القَوْلَ بالكَرَاهَةِ مَرْدُودٌ ولا يُأخَذُ بِهِ ]، وقَالَ العَلاَّمَةُ العَدَوِِي في حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ أبِي الحَسَنِ عَلَى رِسَالَةِ ابْنِ أبِي زَيْدٍ مَا نَصُّهُ [ وفي المُوَطَّأِ عَنِ ابْنِ عُمَرٍ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أمَرَ بإحْفَاءِِ الشَّوَارِبِ، وإعْفَاءِ اللِّحَى ... إلى أنْ قَالَ: ويَحْرُمُ إزَالَةُ شَعْرِ العَنْفَقَةِ كَمَا يَحْرُمُ إزَالَةُ شَعْرِ اللِّحْيَةِ ]، والعَنْفَقَةُ هي الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الشِّفَّةِ السُّفْلَى مَعَ شَعْرِ الذَّقْنِ.

                  المَذْهَبُ الشَّافِعِيُّ
                  قَالَ الشَّيْخُ أحْمَدُ بْنُ قَاسِمِ العَبَّادِيِّ في آخِرِ فَصْلِ العَقِيقَةِ مِنْ حَاشِيَتِهِ عَلَى تُحْفَةِ المحْتَاجِ بشَرْحِ المِنْهَاجِ للسَّادَةِ الشَّافِعِيَّةِ [ قَالَ ابْنُ رَفْعَةٍ في حَاشِيَةِ الكَافِيَةِ: إنَّ الإمَامَ الشَّافِعِيَّ قَدْ نَصَّ في الأُمِّ عَلَى تَحْرِيمِ حَلْقِ اللِّحْيَةِ، وكَذَلِكَ نَصَّ الزَّرْكَشِيُّ والحَلِِيمِيُّ في شُعَبِ الإيِمَانِ، وأُسْتَاذُهُ القَفَّالُ الشَّاشِيُّ في مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ عَلَى تَحْرِيمِ حَلْقِ اللِّحْيَةِ، وقَالَ الأذْرَعِيُّ: الصَّوَابُ تَحْرِيمُ حَلْقِهَا جُمْلَةً لغَيْرِ عِلَّةٍ بِهَا ]، وقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ إسْمَاعِيلُ الأنْصَارِيُّ عَنِ الغَزَّالِي والنَّوَوِيُّ رَحِمَهُمَا اللهُ وغَيْرِهِمَا أنَّهُمْ قَالُوا [ ونَتْفُهَا في أوَّلِ نَبَاتِهَا تَشَبُّهٌ بالمُرْدِ، ومِنَ المُنْكَرَاتِ الكِبَارِ ] رِسَالَةُ تَحْرِيمِ حَلْقِ اللِّحَى (ص7)، وقَالَ العَلاَّمَةُ أبُو شَامَة رَحِمَهُ اللهُ [ وقَدْ حَدَثَ قَوْمٌ يَحْلقُونَ لِحَاهُمْ، وهُوَ أشَدُّ مِمَّا نُقِلَ عَنِ المَجُوسِ مِنْ أنَّهُمْ كَانُوا يَقُصُّونَهَا ] فَتْحُ البَارِي (10/351).

                  المَذْهَبُ الحَنْبَلِيُّ
                  نَصَّ فُقَهَاءُ المَذْهَبِ الحَنْبَلِيِّ عَلَى تَحْرِيمِ حَلْقِ اللِّحْيَةِ، ومِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بأنَّ المُعْتَمَدَ حُرْمَةُ حَلْقِهَا كَمَا قَالَ السَّفَارِينِي في غِذَاءِ الألْبَابِ والإقْنَاعِ وشَرْحِ المُنْتَهَى وغَيْرِهَا [ لا يُكْرَهُ أخْذُ مَا زَادَ عَلَى القُبْضَةِ ولا أخْذُ مَا تَحْتَ حَلْقِهِ ... إلى أنْ قَالَ: والمُعْتَمَدُ في المَذْهَبِ حُرْمَةُ حَلْقِ اللِّحْيَةِ ]، ومِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بالحُرْمَةِ ولَمْ يَحْكِ خِلاَفًا كَصَاحِبِ الإنْصَافِ، وقَالَ شَيْخُ الإسْلاَمِ أبُو العَبَّاسِ أحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الحَلِيمِ بْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ [ ويَحْرُمُ حَلْقُ لِحْيَتِهِ ]، وقَالَ أيْضًا [ ويَحْرُمُ حَلْقُ اللِّحْيَةِ للأحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، ولَمْ يُبِحْهُ أحَدٌ ]، وقَالَ في الفُرُوعِ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرٍ (خَالِفُوا المُشْرِكِينَ ...) [ هَذِهِ الصِّيغَةُ عِنْدَ أصْحَابِنَا تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ ]، وقَالَ العَلاَّمَةُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ في تَهْذِيبِ السُّنَنِ في كَلاَمِهِ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ (عَشْرٌ مِنَ الفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ وإعْفَاءُ اللِّحْيَةِ ...) الحَدِيثُ - مَا نَصُّهُ [ وأمَّا إعْفَاءُ اللِّحْيَةِ فَهُوَ إرْسَالُهَا وتَوْفِيرُهَا، كُرِهَ لَنَا أنْ نَقُصَّهَا كَفِعْلِ بَعْضِ الأعَاجِمِ، وكَانَ مِنْ زَِيِّ آلِ كِسْرَى قَصُّ اللِّحَى وتَوْفِيرُ الشَّوَارِبِ، فَنَدَبَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أُمَّتَهُ إلى مُخَالَفَتِهِمْ في الزِّيِّ والهَيْئَةِ ]، وقَالَ صَاحِبُ شَرْحُ المُنْتَهَى [ يَحْرُمُ حَلْقُ اللِّحْيَةِ ]، ومِمَّنْ نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ حَلْقِهَا أيْضاً صَاحِبُ دَلِيلِ الطَّالِبِ وصَاحِبُ الرَّوْضِ المُرْبِعِ وصَاحِبُ كَشَّافِ القِنَاعِ.

                  المَذْهَبُ الظَّاهِرِيُّ
                  قَالَ الإمَامُ ابْنُ حَزْمٍ رَحِمَهُ اللهُ في مَرَاتِبِ الإجْمَاعِ [ واتَّفَقُوا أنَّ حَلْقَ جَمِيعِ اللِّحْيَةِ مُثْلَةٌ لا تَجُوزُ ]، وقَالَ في المُحَلَّى [ وأمَّا فَرْضُ قَصِّ الشَّارِبِ وإعْفَاءِ اللِّحْيَةِ فَإنَّ عَبْدَ اللهِ بْنِ يُوسُفَ ثَنَا قَالَ: ثَنَا أحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ؛ ثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ بْنُ عِيسَى؛ ثَنَا أحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ؛ ثَنَا أحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ؛ ثَنَا مُسْلِمٌ بْنُ الحَجَّاجِ؛ ثَنَا سَهْلٌ بْنُ عُثْمَانَ؛ ثَنَا زَيْدٌ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ عُمَرٍ بْنِ مُحَمَّدٍ؛ ثَنَا نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ (خَالِفُوا المُشْرِكِينَ، أحْفُوا الشَّوَارِبَ وأعْفُوا اللِّحَى) ].

                  فَتَاوَى بَعْضِ العُلَمَاءِ المُعَاصِرِينَ:
                  قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الجَلِيلِ عِيسَى [ حَلْقُ اللِّحْيَةِ حَرَامٌ عِنْدَ الجُمْهُورِ، مَكْرُوهٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ ].
                  قَالَ الشَّيْخُ عَلِيُّ مَحْفُوظ [ اتَّفَقَتِ المَذَاهِبُ الأرْبَعَةُ عَلَى وُجُوبِ تَوْفِيرِ اللِّحْيَةِ وحُرْمَةِ حَلْقِهَا والأخْذِ القَرِيبِ مِنْهُ ] الإبْدَاعُ في مَضَارِّ الابْتِدَاعِ (ص423)، وقَالَ بَعْدَ أنْ نَقَلَ نُصُوصَ المَذَاهِبِ الأرْبَعَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ [ ومِمَّا تَقَدَّمَ تَعْلَمُ أنَّ حُرْمَةَ حَلْقِ اللِّحْيَةِ هِيَ دِينُ اللهِ وشَرْعُهُ الَّذِي لَمْ يَشْرَعْهُ لخَلْقِهِ سِوَاهُ، وأنَّ العَمَلَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ سَفَهٌ وضَلالَةٌ، أو فِسْقٌ وجَهَالَةٌ، أو غَفْلَةٌ عَنْ هَدْيِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ].
                  وقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ سُلْطَانُ المَعْصُومِي الحجندي في عَقْدِ الجَوْهَرِ الثَّمِينِ [ إنَّ حَلْقَ اللِّحْيَةِ واسْتِئْصَالِهَا يُكْرَهُ تَحْرِيماً كَمَا يَفْعَلُهُ الإفْرنْجُ والمُتَفَرْنِجَةُ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلى الإسْلاَمِ ]، وقَالَ بَعْدَ سَوْقِ أدِلَّتِهِ [ وذَلِكَ مَذْهَبُ الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ ].
                  وقَالَ الشَّيْخُ أحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ البَنَّا الشَّهِيُر بالسَّاعَاتِي في تَعْلِيقِهِ عَلَى كِتَابِهِ الفَتْحُ الرَّبَّانِيُّ لتَرْتِيبِ مُسْنَدِ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلِ الشَّيْبَانِي [ وأمَّا إزَالَتُهَا بالحَلْقِ فَهُوَ حَرَامٌ، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَتِ الظَّاهِرِيَّةُ والحَنَابِلَةُ والجُمْهُورُ ].
                  وقَالَ مُحَدِّثُ الشَّامِ الشَّيْخُ نَاصِرُ الدِّينِ الألْبَانِيِّ في آدَابِ الزِّفَافِ بَعْدَ أنْ سَاقَ أدِلَّةَ تَحْرِيمِ حَلْقِ اللِّحْيَةِ [ مِمَّا لا رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ مَنْ سَلمَتْ فِطْرَتُهُ وحَسنَتْ طَوِيَّتُهُ أنَّ كُلاًّ مِنَ الأدِلَّةِ السَّالِفَةِ الذِّكْرِ كَافٍ لإثْبَاتِ وُجُوبِ إعْفَاءِ اللِّحْيَةِ وحُرْمَةِ حَلْقِهَا، فَكَيْفَ بِهَا مُجْتَمِعَةٌ ].
                  وقَالَ الشَّيْخُ أبُو بَكْرِ الجَزَائِرِي [ وأمَّا اللِّحْيَةُ فَيُوَفِّرُهَا حَتَّى تَمْلأََ وَجْهَهُ وتَرْوِيهِ لقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ (جُزُّوا الشَّوَارِبَ وأرْخُوا اللِّحَى)، وقَوْلِهِ (خَالِفُوا المُشْرِكِينَ، أحْفُوا الشَّوَارِبَ وأعْفُوا اللِّحَى) بمَعْنَى وَفِّرُوهَا وكَثِّرُوهَا، فَيَحْرُمُ بذَلِكَ حَلْقُهَا ] مِنْهَاجُ المُسْلِم (ص129).
                  قَالَ الشَّيْخُ حَسَنُ عَبْدُ اللهِ العَدَوِي الأزْهَرِيِّ [ ومِنْ هَذا تَعْلَمُ أنَّ حُرْمَةَ حَلْقِ اللِّحْيَةِ هِيَ دِينُ اللهِ وشَرْعُهُ، ولَمْ يَشْرَعِ اللهُ لخَلْقِهِ سِوَى هَذا، وإنَّ القَوْلَ بغَيْرِ ذَلِكَ خَطَأٌ وسَفَهٌ وغَبَاوَةٌ، أو فِسْقٌ وضَلالَةٌ، أو عِنَادٌ وجَهَالَةٌ، أو غَفْلَةٌ عَنْ هَدْيِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، عَلاَمَ يَعْتَمِدُونَ؟ وبأيِّ شَيْءٍ يَسْتَدِلُّونَ؟ لا كِتَابٌ ولا سُنَّةٌ ولا إجْمَاعٌ ولا قِيَاسٌ صَحِيحٌ، يَا قَوْمَ ألَيْسَ اللهُ يَقُولُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) ويَقُولُ (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) ].
                  أفْتَى الشَّيْخُ جَادُ الحَقِّ عَلِي جَاد الحَقِّ مُفْتِي الدِّيَارِ المِصْرِيَّةِ وشَيْخُ الأزْهَرِ الأسْبَقِ بعَدَمِ جَوَازِ إجْبَارِ المُجَنَّدِينَ عَلَى حَلْقِ لِحَاهُمْ، وقَالَ بَعْدَ أنْ سَاقَ أدِلَّةَ تَحْرِيمِ حَلْقِ اللِّحْيَةِ [ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ: كَانَ إطْلاَقُ الأفْرَادِ المُجَنَّدِينَ اللِّحَى إتِّبَاعًا لسُنَّةِ الإسْلاَمِ، فَلاَ يُؤَاخَذُونَ عَلَى ذَلِكَ في ذَاتِهِ، ولا يَنْبَغِي إجْبَارُهُمْ عَلَى إزَالَتِهَا أو عِقَابُهُمْ بسَبَبِ إطْلاَقِهَا، إذْ (لا طَاعَةَ لمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ)، وهُمْ مُتَّبِعُونَ لسُنَّةٍ عَمَلِيَّةٍ جَرَى بِهَا الإسْلاَمُ، ولَمَّا كَانُوا في إطْلاقِهِمُ اللِّحَى مُقْتَدِينَ برَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ لَمْ يَجُزْ أنْ يُؤَثَّمُوا أو يُعَاقَبُوا، بَلْ مِنَ الصَّالِحِ العَامِّ تَرْغِيبُ الأفْرَادِ المُجَنَّدِينَ وغَيْرِهِمْ في الالْتِزَامِ بأحْكَامِ الدِّينِ، فَرِائِضِهِ وسُنَنِهِ، لِمَا في ذَلِكَ مِنْ حَفْزِ هِمَّتِهِمْ ودَفْعِهِمْ لتَحَمُّلِ المَشَاقِّ والالْتِزَامِ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ حَيْثُ يَعْمَلُونَ بإيِمَانٍ وإخْلاَصٍ، وتَبَعاً لهَذا: لا يُعْتَبَرُ امْتِنَاعُ الأفْرَادِ الَّذِينَ أطْلَقُوا اللِّحَى عَنْ إزَالَتِهَا رَافِضِينَ عَمْداً لأوَامِرٍ عَسْكَرِيَّةٍ، لأنَّهُ بافْتِرَاضِ وُجُودِ هَذِهِ الأوَامِرِ فَإنَّهَا فِيمَا يَبْدُو لا تَتَّصِلُ مِنْ قَرِيبٍ أو بَعِيدٍ بمُهِمَّةِ الأفْرَادِ أو تُقَلِّلُ مِنْ جُهْدِهِمْ، وإنَّمَا قَدْ تُكْسِبُهُمْ سِمَاتِ وخُشُونَةَ الرِّجَالِ، وهَذا مَا تَتَطَلَّبُهُ مِنْهُمُ المَهَامُّ المَنُوطَةُ بِهِمْ، ولا يُقَالُ إنَّ مُخَالَفَةَ المُشْرِكِينَ تَقْتَضِي الآنَ حَلْقَ اللِّحَى لأنَّ كَثِيراً مِنْ غَيْرِ المُسْلِمِينَ في الجيُوشِ وخَارِجِهَا يُطْلِقُونَ اللِّحَى، لأنَّهُ شَتَّانَ بَيْنَ مَنْ يُطْلِقُهَا عِبَادَةً إتِّبَاعاً لسُنَّةِ الإسْلاَمِ وبَيْنَ مَنْ يُطْلِقُهَا لمُجَرَّدِ التَّجَمُّلِ وإضْفَاءِ سِمَاتِ الرُّجُولَةِ عَلَى نَفْسِهِ، فَالأوَّلُ مُنْقَادٌ لعِبَادَةٍ يُثَابُ عَلَيْهَا إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، والآخَرُ يَرْتَدِيهَا كَالثَّوْبِ الَّذِي يَرْتَدِيهِ ثُمَّ يَزْدَرِيهِ بَعْدَ أنْ تَنْتَهِي مُهِمَّتُهُ، ولَقَدْ عَابَ اللهُ النَّاهِينَ عَنْ طَاعَتِهِ وتَوَعَّدَهُمْ (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى 9 عَبْدًا إِذَا صَلَّى 10 أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى 11 أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى 12 أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى 13 أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى 14 كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ 15 نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ 16 فَلْيَدْعُ نَادِيَه 17 سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ 18 كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ 19) ].
                  نُسِبَ إلى الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ مُتْوَلِّي الشَّعْرَاوِي قَوْلُهُ [ اللِّحْيَةُ فَرْضٌ، والرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أمَرَنَا بذَلِكَ فَقَالَ (قُصُّوا الشَّارِبَ وأعْفُوا اللِّحْيَةَ)، والَّذِي يَزْعُمُ خِلاَفَ ذَلِكَ نَقُولُ لَهُ أنَّهُ ثَابِتٌ بالسُّنَّةِ، وهُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ أنْ يَكُونَ الشَّيْءُ ثَابِتًا بالسُّنَّةِ وأنْ يَكُونَ الشَّيْءُ سُنَّةً، وسُنِّيَّةُ الحُكْمِ هِيَ المُبَاحُ والمَكْرُوهُ والمَنْبُوذُ وغَيْرُهَا، وسُنَّةُ الحُكْمِ إنْ تَرَكْتَهُ لا تُعَاقَبُ عَلَيْهِ، إنَّمَا سُنِّيَّةُ الدَّلِيلِ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا لأنَّ سُنِّيَّةَ الدَّلِيلِ هِيَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَاجِبٌ، فَمَثَلاً حُكْمُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا القُرْآنُ، فَالمَغْرِبُ نُصَلِّيهِ ثَلاَثَ رَكَعَاتٍ بالسُّنَّةِ، لأنَّهَا سُنَّةُ دَلِيلٍ، وهَذا ثَابِتٌ بالسُّنَّةِ (صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي)، وأحْكَامُ الصَّلاَةِ فَوَّضَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ رَسُولَهُ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنْ يُبَيِّنَ للنَّاسِ أحْكَامَهَا، كَذَلِكَ مُمْكِنٌ أنْ تَكُونَ السُّنَّةُ إقْرَارًا أو قَوْلاً أو صِفَةً، فَاللِّحْيَةُ سُنِّيَّةُ دَلِيلٍ، وبذَلِكَ فَهِيَ لَيْسَتْ سُنِّيَّةَ حُكْمٍ لا أُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا وأُثَابُ عَلَى فِعْلِهَا، لا؛ بَلْ تَرْكُهَا مَعْصِيَةً، وأقُولُ لبَعْضِ النَّاسِ ألاَّ يَتَسَرَّعُوا ويَقُولُوا أنَّ اللِّحْيَةَ لَيْسَتْ فَرْضًا فَيَرْتَكِبُ إثْمًا، ولَكِنْ فَلْيَقُلْ إنَّهَا فَرْضٌ ولا أقْدِرُ عَلَى إطْلاَقِهَا، فَيَكُونُ عَاصِيًا بَدَلاً مِنْ أنْ يَكُونَ كَافِرًا بالحُكْمِ ]، هَذا وإنْ لَمْ يَكُنْ القَوْلُ قَوْلَهُ، فَلا شَكَّ أنَّ مَعْنَاهُ يُوَافِقُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الأدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ رَغْمَ اسْتِشْهَادِهِ بحَدِيثِ قَصِّ الشَّارِبِ الضَّعِيفِ عِنْدَ غَيْرِهِ والَّذِي رُبَّمَا صَحَّ عِنْدَهُ.
                  نَقَلَ العَلاَّمَةُ مُحَمَّدٌ زَكَرِيَّا الكَانْدَهْلَوِي عَنْ حَكِيمِ الأُمَّةِ التّهانوي قَوْلَهُ [ ويَشْتَدُّ الأسَفُ عِنْدَمَا نَرَى طَلَبَةَ العُلُومِ الدِّينِيَّةِ مُبْتَلِينَ بهَذِهِ المَعْصِيَةِ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أسْفَارًا، وجَرِيمَتُهُمْ هَذِهِ أشَدُّ مِنْ جَرِيمَةِ غَيْرِهِمْ، لأنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا في الكِتَابِ والسُّنَّةِ ثُمَّ يَخْتَارُونَ العَمَلَ السَّيِّئَ المُعَارِضَ لكِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لأنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَحِقُّونَ بذَلِكَ المَوَاعِيدَ الَّتِي وَرَدَتْ في عُلَمَاءِ السُّوءِ الَّذِينَ لا يَعْمَلُونَ بعُلُومِهِمْ، وإثْمُهُمْ يَتَعَدَّى إلى غَيْرِهِمْ، فَإنَّ الجَهَلَةَ يَعْمَلُونَ بمِثْلِ عَمَلِهِمْ، ويَسْتَدِلُّونَ بأعْمَالِهِمْ، فَهَؤُلاَءِ يَتَسَبَّبُونَ في إشَاعَةِ المُنْكَرِ، ومَعْلُومٌ أنَّ مَنْ تَسَبَّبَ لمَعْصِيَةٍ يَعُودُ وَبَالُهَا عَلَيْهِ، ويَجِبُ عِنْدِي عَلَى القَائِمِينَ بأُمُورِ المَدَارِسِ الإسْلاَمِيَّةِ والمَعَاهِدِ الدِّينِيَّةِ أنْ يُخْرِجُوا مِنَ المَدْرَسَةِ مَنِ ارْتَكَبَ هَذِهِ المَعْصِيَةَ أوِ اخْتَارَ لنَفْسِهِ أيَّةَ هَيْئَةٍ خِلاَفَ الشَّرِيعَةِ الغَرَّاءِ، إلاَّ أنْ يَتُوبَ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ ويَتْرُكَ هَذا الذَّنْبَ، وإنَّمَا أشَرْتُ لإخْرَاجِ مِثْلِ هَؤُلاَءِ مِنَ المَدَارِسِ والمَعَاهِدِ الدِّينِيَّةِ لأنَّهُمْ إذا تَخَرَّجُوا يَقْتَدِي النَّاسُ بِهِمْ، واقْتِدَاءُ هَؤُلاَءِ مُهْلِكٌ للأُمَمِ ].

                  وإلى هَذا الحَدِّ نَقِفُ، وبِهِ نَكْتَفِي، وهُوَ غَيْضٌ مِنْ فَيْضٍ، فَبِبَيَانِ صَحِيحِ السُّنَّةِ في أمْرِ اللِّحْيَةِ، وأقْوَالِ العُلَمَاءِ المُعْتَبَرِينَ وإجْمَاعِهِمْ عَلَى اخْتِلاَفِ مَذَاهِبِهِمْ وزَمَانِهِمْ ومَكَانِهِمْ تَسْقُطُ كُلُّ حُجَّةٍ تَقُولُ بأنَّ اللِّحْيَةَ لَيْسَتْ مِنَ الدِّينِ، أو أنَّهَا لَيْسَتْ بوَاجِبٍ، وأنَّ المُسْتَمْسِكَ بِهَا والدَّاعِيَ إلَيْهَا والمُدَافِعَ عَنْهَا مُتَشَدِّدٌ، هَذا ومَا تَوْفِيقُنَا إلاَّ باللهِ القَائِلِ [ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ]، ولَوْلاَ أنَّنَا لا نُرِيدُ الإطَالَةَ في هَذِهِ النُّقْطَةِ أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ والتَّوَسُّعَ فِيهَا، لأوْرَدْنَا فِيهَا مَا هُوَ أكْثَرُ؛ مِنْ كَلاَمِ كِبَارِ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ عَلَى مَرِّ التَّارِيخِ وتَفْصِيلاَتِهِمْ الفِقْهِيَّةِ العَالِيَةِ، الَّتِي إنْ دَلَّتْ عَلَى شَيْءٍ فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أمْرَيْنِ كُلاًّ مِنْهُمَا أخْطَرُ مِنَ الآخَرِ:
                  الأمْرُ الأوَّلُ: مَكَانَةُ اللِّحْيَةِ في الدِّينِ، وأنَّهَا لَيْسَتْ مُجَرَّدَ شَعْرٍ يَنْبُتُ فَحَسْبُ.
                  الأمْرُ الثَّانِي: ضَرَاوَةُ الحَرْبِ ضِدَّ شَعَائِرِ الإسْلاَمِ، سَوَاءٌ الحَرْبُ الَّتِي تَسْتَهْدِفُ في مُجْمَلِهَا وتَنَوُّعِ مَوْضُوعَاتِهَا وأسَالِيبِهَا إبْعَادَ النَّاسِ عَنِ الدِّينِ كَافَّةً، أوِ الحَرْبُ الَّتِي تَسْتَهْدِفُ مَوْضُوعَاتٍ بعَيْنِهَا لمُحَاوَلَةِ القَضَاءِ عَلَيْهَا نَظَرًا لأهَمِّيَتِهَا ومَكَانَتِهَا في الدِّينِ؛ كَالحَرْبِ الضَّرُوسِ في كُلِّ زَمَانٍ ومَكَانٍ وبشَتَّى الوَسَائِلِ عَلَى اللِّحْيَةِ والحِجَابِ.

                  فَإنْ كَانَ الأمْرُ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ مِنَ الأهَمِّيَّةِ بمَكَانٍ أنْ يُفْهَمَ وتُدْرَسَ جَوَانِبُهُ، لنُطَبِّقَ شَرْعَ اللهِ فِيهِ أوَّلاً؛ ثُمَّ لنَرُدَّ عَلَى المُتَثَاقِفِينَ المُتَعَالِمِينَ مِنَ المُسْلِمِينَ وغَيْرِهِمْ إذا مَا أثَارُوا شُبُهَاتِهِمْ الوَاهِيَةَ، فاللهُ تَعَالَى لَمْ يَشْرَعِ الشَّرَائِعَ إلاَّ لنَعْبُدَهُ بِهَا، ونَتَدَبَّرَهَا ونُطَبِّقَهَا، لا أنْ نَجْعَلَهَا مَوَادًّا للسُّخْرِيَةِ مِمَّنْ يُطَبِّقُونَهَا أو مَوَادًّا جَيِّدَةً للجِدَالِ مِنْ بَابِ حُبِّ الظُّهُورِ والكَلاَمِ بغَيْرِ عِلْمٍ عَلَى اللهِ ورَسُولِهِ، وقَدْ قَالَ تَعَالَى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ 168 إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ 169 وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَاأَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ 170 وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ 171]، وقَالَ رَسُولُهُ المُصْطَفَى المُجْتَبَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [إنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أحَدٍ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأ مقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ]، وقَالَ [ مِنْ أفْرَى الفِرَى مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أقُلْ ].

                  وهذا مَا أَعْلَمُ؛ واللهُ تَعَالَى أعْلَى وأعْلَمُ.
                  والسَّلامُ عَلَيْكُم ورَحْمَةُ الله وبَرَكَاتُهُ

                  زائرنا الكريم نحن معك بقلوبنا
                  كلنا آذان صاغيه لشكواك ونرحب بك دائما
                  في
                  :

                  جباال من الحسنات في انتظارك





                  تعليق

                  المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                  حفظ-تلقائي
                  x
                  إدراج: مصغرة صغير متوسط كبير الحجم الكامل إزالة  
                  x
                  أو نوع الملف مسموح به: jpg, jpeg, png, gif
                  x
                  x
                  يعمل...
                  X