علامات حسن الخاتمة وأسبابها بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فإنَّ لخاتمة العبد في هذه الحياة الدنيا شأنٌ عظيم وَخَطْرٌ جليل، وذلك لأنَّ ما بعدها متوقفٌ عليها، حيث يكون جزاء العبد وعاقبتُه بحسب خاتمته حُسْنًا أو سُوءًا، كما جاء في الحديث الصحيح: «إنما الأعمال الخواتيم» رواه البخاري وغيره.
ولأجل ذلك اشتدَّ قلق عباد الله الصالحين وعظم إجلالهم لشأن الخاتمة، واستداموا الأعمال الصالحة وأكثروا التضرع إلى الله تعالى أن يثبتهم عليها إلى أن يلقوه، وسعوا لأن يمتثلوا وصيَّة الله لهم:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ{[آل عمران: 102].
وقد روى مسلمٌ في «صحيحه» عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ قلوب بني آدم كُلَّها بين إصبعين من أصا بع الرحمن كقلب واحدٍ يُصَرِّفه حيث يشاء»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم مُصَرِّفَ القُلوب صَرِّف قلوبنا على طاعتك».
قال بعض السلف: ما أبكى العيون ما أبكاها .
وكان سُفيان يشتد قلقه من السوابق والخواتيم، فكان يبكي ويقول: أخاف أن أكون في أمِّ الكتاب شقيًّا، ويبكي ويقول: أخاف أن أُسلب الإيمان عند الموت. وهذا من شدة خوفه وورعه رحمه الله. وإلا فإن الله هو الكريم الودود، وهو سبحانه الشاكر العليم، لا يضيع عمل عامل من خلقه.
وكان مالك بن دينار يقوم طول ليله قابضًا على لحيته ويقول: يا ربِّ قد علمتَ ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أيِّ الدارين منزل مالك.
ثم إن الخاتمة تتوقف على السوابق، فمن كان في حال سعة أمره وفُسحة أجله مُحسنًا؛ فعاقبته بإذن الله الحسنة، ومَن كان على السوء؛ فعاقبته بمثل ذلك، فقد جرت سنة الله أن لا يعلم من العبد حرصًا على الخير وحُبًّا له إلا وفَّقه إليه، وثَبَّتَه عليه، وختم له به. نسأل الله الكريم من فضله.
ولأهمية هذه المسألة ولزوم بها فقد حَرَّرت هذه الأسطر تذكيرًا لنفسي المقصِّرة ونصيحة للمسلمين والمسلمات. وعلى الله الكريم اعتمادي وإليه تفويضي واستنادي.
أولاً: حُسْنُ الخاتمة
حسن الخاتمة هي: أن يُوفَّق العبد قبل موته للكَفِّ عما يغضب الرب سبحانه، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة.
ومما يدل على هذا المعنى ما صحَّ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أراد الله بعبده خيرًا استعمله» قالوا: كيف يستعمله؟ قال: «يوفِّقه لعمل صالح قبل موته» رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه الحاكم في المستدرك.
ولحسن الخاتمة علامات، منها: ما يعرفه العبد المُحتضر عند احتضاره، ومنها: ما يظهر للناس.
أما العلامة التي يظهر بها للعبد حُسنُ خاتمته فهي ما يُبشَّر به عند موته من رضا الله تعالى واستحقاق كرامته تفضلاً منه تعالى، كما قال جلَّ وعلا: }إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ{[فصلت: 30].
وهذه البشارة تكون للمؤمنين عند احتضارهم، وفي قبورهم، وعند بعثهم من قبورهم.
ومما يدل على هذا أيضًا: ما رواه البخاري ومسلم في «صحيحهما» عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَن أحب لقاء الله أحبَّ الله لقاءه، ومَن كره لقاء الله كره الله لقاءه» فقلت: يا نبي الله أكراهية الموت، فكلنا نكره الموت؟ فقال: «ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بُشِّر برحمة الله ورضوانه وجنَّته أحبَّ لقاء الله، وإن الكافر إذا بُشِّر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه».
وفي معنى هذا الحديث قال الإمام أبو عبيد القاسم ابن سلام: «ليس وجهه عندي كراهة الموت وشدته؛ لأن هذا لا يكاد يخلو عنه أحد، ولكن المذموم من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها، وكراهية أن يصير إلى الله والدار الآخرة»، وقال: «ومما يبين ذلك أن الله تعالى عاب قومًا بحب الحياة فقال: }إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا{[يونس: 7]».
وقال الخطابي: «معنى محبة العبد للقاء الله: إيثاره الآخرة على الدنيا، فلا يحب استمرار الإقامة فيها، بل يستعد للارتحال عنها، والكراهية بضد ذلك».
وقال الإمام النووي رحمه الله: «معنى الحديث: أن المحبة والكراهية التي تعتبر شرعًا هي التي تقع عند النزع في الحالة التي لا تُقبل فيها التوبة، حيث ينكشف الحال للمحتضر، ويظهر له ما هو صائر إليه».
وأما علامات حسن الخاتمة فهي كثيرة، وقد تتبعها العلماء رحمهم الله باستقراء النصوص الواردة في ذلك، ونحن نورد هنا بعضًا منها، فمن ذلك:
* النطق بالشهادتين عند الموت:
ودليله ما رواه الحاكم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة».
* ومنها: الموت برشح الجبين أي: يكون على جبينه عرق عند الموت.
لِمَا رواه بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «موت المؤمن بعرق الجبين» رواه أحمد والترمذي.
* ومنها: الموت ليلة الجمعة أو نهارها.
لقوله صلى الله عليه وسلم «ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر» رواه أحمد والترمذي.
* ومنها: الاستشهاد في ساحة القتال في سبيل الله، أو موته غازيًا في سبيل الله، أو موته بمرض الطاعون أو بداء البدن كالاستسقاء ونحوه، أو موته غرقًا.
ودليل ما تقدَّم ما رواه مسلم في «صحيحه» عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تعدُّون الشهيد فيكم؟» قالوا: يا رسول الله، من قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيد، قال: «إن شهداء أُمَّتِي إذًا لقليل» قالوا: فمَنْ يا رسول الله؟ قال: «مَنْ قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البَطْن فهو شهيد، والغريق شهيد».
* ومنها: الموت بسبب الهدم، لما رواه البخاري ومسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال: «الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله».
* ومن علامات حسن الخاتمة: وهو خاص بالنساء: موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها، أو وهي حاملٌ.
ومن أدلة ذلك ما رواه الإمام أحمد وغيره بسند صحيح عن عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن الشهداء، فذكر منهم: «والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة، يجرها ولدها بسرره إلى الجنة» يعني: بحبل المشيمة الذي يقطع عنه.
* ومنها: الموت بالحرق وذات الجنب.
ومن أدلته أنه صلى الله عليه وسلم عدَّد أصنافًا من الشهداء فذكر منهم الحريق، وصاحب ذات الجنب: وهي وَرَمٌ حار يعرض في الغشاء المستبطن للأضلاع. والحديث رواه أبو داود في «سننه».
* ومنها: الموت بداء السل، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم أنه شهادة.
ومنها أيضًا: ما دلَّ عليه ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: «مَن قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومَن قُتِل دون أهله فهو شهيد، ومَن قُتِل دون دينه فهو شهيد، ومَن قُتِل دون دمه فهو شهيد».
* ومنها: الموت رباطًا في سبيل الله.
لِما رواه مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأُجري عليه رزقه، وأمِنَ الفتَّان».
ومِنْ أسعد الناس بهذا الحديث رجال الأمن وحرس الحدود وبرًّا وبحرًا وجوًّا على اختلاف مواقعهم إذا احتسبوا الأجر ووافتهم المنيَّة على ذلك.
* ومن علامات حُسن الخاتمة: الموت على عمل صالح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم «مَن قال: لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله خُتم له بها دخل الجنة، ومَن صام يومًا ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومَن تصدَّق بصدقة ختم له بها دخل الجنة» رواه الإمام أحمد وغيره.
فهذه نحو من عشرين علامة على حسن الخاتمة عُلمت باستقراء النصوص، وقد نبَّه إليها العلاَّمة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتابه القيِّم «أحكام الجنائز».
وأعلم أخي الكريم أن ظهور شيء من هذه العلامات أو وقوعها للميت، لا يلزم منه الجزمُ بأن صاحبها من أهل الجنة، ولكن يُستبشر له بذلك، كما أن عدم وقوع شيء منها للميت لا يلزم منه الحكم بأنه غير صالح أو نحو ذلك، فهذا كله من الغيب. ولكن يُرجى للمُحسن، ويُخَافُ على المسيء.
أسباب حسن الخاتمة
من أعظمها، أن يلزم الإنسان طاعة الله وتقواه، ورأس ذلك وأساس تحقيق التوحيد، والحذر من ارتكاب المحرَّمات، والمبادرة إلى التوبة مما تلطَّخ به المرء منها، وأعظم ذلك: الشرك كبيره وصغيره. يقول الربُّ جلَّ شأنه:}إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ{[النساء: 48].
* ومنها: أن يلح المرء في دعاء الله تعالى أن يتوفاه على الإيمان والتقوى.
* ومنها: أن يعمل الإنسان جهده وطاقته في إصلاح ظاهره وباطنه، وأن تكون نيَّته وقصده متوجهة لتحقيق ذلك، فقد جرت سنة الكريم سبحانه أن يوفِّق طالب الحق إليه، وأن يثبِّته عليه، وأن يختم له به. نسأل الله لنا ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات حسن الخاتمة كل عام أنتم إلى الله أقرب وعلى طاعته أدوم وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين
تعليق