الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الأحبة في الله: ما أسرع مرور الشهور، وتعاقب السنون، فمنذ بضعة شهور ودعنا ضيفاً كريماً هو شهر رمضان، وها نحن اليوم على وشك استقباله، وفي هذا إشارة إلى قصر الحياة، وسرعة انقضاءها، وأنه ليس للإنسان من هذه الحياة الفانية إلا ما قدمه للحياة الباقية {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}1؛ فمن قدم خيراً أمن وأطمأن في ذلك اليوم الذي أنذرنا الله منه وسماه "يوم الحسرة" {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ}2.
ذلك اليوم الرهيب الذي فيه سيتحسر المتحسرون، ويتندم النادمون على سالف أعمارهم، وما فرطوا فيه من حقوق ربهم، ولكن لن يفيدهم الندم، ولن يجديهم التحسر.
نعم سيتحسرون على تفريطهم في حق الله {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}3 هذه هي النفس الآثمة الظلومة، "التي ما تركت باباً من الذنوب إلا قرعته, ولا باباً من الإساءة إلا ولجته, أن تقول: يا حسرتى! وما أعظم الحسرة إذا خسر أصحابها, وعظمت خسارة أربابها, وخرجوا من الدنيا صفر اليدين من رحمة الله، ما أعظمها من خسارة إذا طويت الصحائف باللعنات، ما أعظمها من خسارة يوم يطبع على القلوب، يوم يتأذن غضب الله علام الغيوب؛ من عظيم الإساءة، وعظيم الذنوب, ما أعظمها من خسارة يوم لا يستطيع الرجوع، يوم لا تنفع المعذرة، ولا تغني الدموع, يوم يتقطع القلب من الألم، ويعتصر من شديد الندم! أن تقول نفس.. ومتى تقول؟ حين تضع آخر أقدامها من أعتاب هذه الدنيا، وتستقبل الدار التي هي غريبة عليها, يوم تنقطع المعاذر, وتغص السكرات في الحناجر, ويصير العبد ذليلاً حقيراً إلى الله الواحد القاهر، {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى} يا حسرتى يوم طال السهر، يا حسرتى يوم ضاعت الأعمار, يا حسرتى على الساعات واللحظات, يا حسرتى على الليل والنهار, يا حسرتى على أصحاب لم ينفعوا, يا حسرتى على أحباب لا يشفعون, يا حسرتى على عمر مضى وزمان ولّى وانقضى, يا حسرتى إذا كشف الديوان بخطيئة اللسان وزلات الجنان, يا حسرتى يوم يعرض على الله حافياً عارياً, يا حسرتى إذا عرض الشباب وما فيه من خطأ وصواب, ولم يفقد العبد فيه زلة ولا حسنة بين يدي الله رب الأرباب, يا حسرتى على ثلاثين عاماً أو أربعين أو خمسين أو ستين حين يلقى العبد بها الله رب العالمين.
{يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} ذهب الليل فما تمتعت عيني بالبكاء فيه من خشية الله, ذهب الليل وما تمتعت قدمي بالوقوف بين يدي الله, يا حسرتى يوم يذهب العمر دون وجود الغنيمة والذخر, يا حسرتى يوم مضى ليله وطلعت شمسه ولم تنعم يداه بالسجود بين يدي الله, يا حسرتى على صلاة أضعتها, يا حسرتى على زكاة منعتها, يا حسرتى على أيام أفطرتها, يا حسرتى على ذنوب فعلتها, يا حسرتى على خطايا تلبست بها, يا حسرتى إذا كشف الديوان، وعظم الوقوف بين يدي الله الواحد الديان! يا حسرتى وهل تغني الحسرات؟! يا حسرتى وهل يؤذن بالرجوع عند الممات؟ يا حسرتى يوم لم أشكر النعم, يا حسرتى يوم لم أشكر الله على دفع النقم, يا حسرتى يوم لم يلهج لساني بذكره, يا حسرتى يوم لم يتلذذ لساني بشكره, يا حسرتاه.. يوم فاز الفائزون, وغنم الغانمون, وجئت صفر اليدين مما هم فيه يتنعمون, يا حسرتى يوم فاز الصالحون بالدرجات, وسموا إليها بنفوس عاليات أبيات, ووقفت في الأخريات أنظر إليهم بتلك الحسرات, يا حسرتى لو كنت مطيعاً على ما فرطت في جنب الله إذ كنت مستطيعاً, يا حسرتى يوم يلفظها اللسان، ويعتقدها الجنان، فيخرج كل حرف منها من كل عضو وأركان، يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله لعظيم حقه عليّ, وجليل منته لديّ, فكم أنعم وتفضل، وكم وهب وأجزل, سبحانه العلي الأكمل، يا حسرتى يوم لم أعظمه حق تعظيمه, ولم أمجده حق تمجيده, يا حسرتى على التفريط في جنب الله, يوم فتحت لي أبواب الخيرات فقلت: هيهات هيهات، ما زالت الأعمار والبقيات {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} يقولها المذنبون, ويوقن معناها المسيئون المخطئون، يا حسرتى ولو كان العبد مطيعاً, يا حسرتى ولو كان العبد خيِّراً ديناً مستقيماً؛ ولذلك سمى الله ذلك اليوم المشهود، واللقاء الموعود؛ بيوم التغابن؛ لأنه ما من نفس إلا وهي في غبن ولو كانت من نفوس الصالحين, في غبن أن لم يفوزوا بالخيرات, ولم يستكثروا من الطاعات, في غبن أن لم يفوزوا بالرحمات ولو كانوا على خيرات وحسنات"4.
فيا أيها الأخوة: أما آن لنا أن نتنبه ونستيقظ من غفلتنا، أما آن لنا أن نندم على أيام وساعات ودقائق لم نستغلها في طاعة الله، أما آن لنا أن نعزم على استغلال ما بقي لنا من أعمارنا قبل أن نندم في ساعة لا ينفع فيها الندم؛ قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي، ولم يزد عملي".
إن حالنا اليوم حال من اشتكى أمره إلى الحسن فقال: "سبقنا القوم على خيلٍ دهم، ونحن على حمر معقرة، فقال: إن كنت على طريقهم فما أسرع اللحاق بهم"5، وقال بلال بن سعد - رحمه الله -: "يقال لأحدنا هل تريد أن تموت؟ فيقول: لا، فيقال له: لِمَ؟ فيقول: حتى أتوب وأعمل صالحاً، فيقال له: اعمل، فيقول: سوف أعمل، فلا يُحب أن يموت، ولا يُحب أن يعمل، فيؤخر عمل الله - تعالى -، ولا يؤخر عمل الدنيا"6.
قدم لنفسك توبة مرجوة قبل الممات وقبل حبس الألسن
بادر بها غلق النفوس فإنها ذخــرٌ وغنمٌ للمنيب المحسن
هذه دعوة أوجهها لنفسي وإخواني وأخواتي لأنْ نقلع عن الذنوب، ونعود إلى الله ونؤوب، قبل أن يأتي يوم يتحسر فيه المتحسرون، ولا تنفع فيه الحسرات ولا الآهات {أن تقول نفسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}7.
نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، وأن يجنبنا معصيته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أسرة تحرير رمضانيات
1 سورة الأعلى (17).
2 سورة مريم (39).
3 سورة الزمر (56).
4 من محاضرة بعنوان "أن تقول نفس يا حسرتى" للشيخ الشنقيطي.
5 الفوائد (ص57).
6 العاقبة في ذكر الموت (91) الإشبيلي.
7 سورة الزمر (56-57).