فيا ساكن القبر غداً... ما الذي غرَّك من الدنيا ؟!
فأين سُكَّانها الذين بنوا مدائنها، وشقوا أنهارها، وغرسوا أشجارها، وأقاموا فيها دهوراً ؟!؛
فاغتروا بقوتهم فركبوا الذنوبا!!
سَلْهُم... ماذا صنع التراب بأبدانهم، والهوام بأجسادهم، والديدان بعظامهم وأوصالهم؟
سَلْهُم... عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون؟ وعن الأعين التي كانوا بها ينظرون؟
سَلْهُم... عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة ما صنع بها الديدان؟
محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفَّرت الوجوه، وغيَّرت المحاسن، وكسرت الفقار، وأبانت الأعضاء، ومزَّقت الأشلاء
فأين حجَّابُهم...؟! وأين خدمهم وعبيدهم...؟! أين دارهم الفيحاء... ؟! أين رقاق ثيابهم... ؟!
أين طيبهم... ؟! أين بخورهم...؟! أين كسوتهم لصيفهم وشتائهم... ؟!
فمنهم والله الموسَّع له في قبره، المُنعَّم فيه، ومنهم والله المُضيَّق عليه في قبره، المُعذَّب فيه.
فـيـا لـلــقـبــور... ظاهرها تراب وبواطنها حسرات، ظاهرها بالتراب والحجارة مبنيات، وفي باطنها الدواهي والبليات تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها، ويحق لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها
تالله لقد وَعظَتْ فما تركت لواعظٍ مقالاً، ونادت يا عُمَّار الدنيا لقد عَمَّرتُم داراً موشكة بكم زوالاً، وخربتم داراً أنتم مسرعون إليها انتقالاً.
عَمَّرتُم بيوتاً لغيركم منافعها وسُكْانَها، وخَرَّبْتُم بيوتاً ليس لكم مساكن سواها.
يـا لـلــقـبــور... إنها دار الاستباق، ومستودع الأعمال، وجني الحصاد
إنها محل للعِبَر، رياض من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.(الروح لابن القيم)
فـيـا لـلــقـبــور...إنها أول منازل الآخرة
فقد أخرج الترمذي وابن ماجة عن هانئ مولى عثمان قال:
"كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبلَّ لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا ؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشدّ منه" (صحيح الجامع:1684)
هذا هو القبر...
أول منزل من منازل الآخرة، فالرحلة إلى الدار الآخرة تبدأ مع أول ليلة في القبر، يا لها من ليلة.
يقول الحسن البصري ـ رحمه الله ـ:
يومان وليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهن قط:
ليلة تبيت مع أهل القبور لم تبت ليلة قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة.
أما اليومان: يوم يأتيك البشير من الله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
ويوم تعطى كتابك إما بيمينك وإما بشمالك.
فتعالى أخي الفاضل وتعالي أختي الفاضلة ... نعيش أنا وأنت بقلوبنا
ما يحدث في أول ليلة في القبر؟ وما يكون فيها من أهوال؟
أولاً:كـلام الـقـبـر لابــن آدم:
تخيل أخي الكريم ... إذا وضعك أبناؤك وأحباؤك في قبرك، وأغلقوا عليك فأحكموا الإغلاق، ثم تركوك وحيداً وانصرفوا عنك، وأنت تسمع قرع نعالهم، ذهبوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، تركوك في هذا الجو المخيف المفزع، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرجت يدك لم تكد تراها، ظلمة مخيفة، سكون قاتل، جو موحش.
وفي هذا الجو الموحش، والسكون القاتل، والظلمة المخيفة، تجد مَن يُحدِّثُك ويُكلِّمُك ، يا له من هول يشيب له الولدان، مَن المتكلم؟ إنه القبر... فإذا كان العبد صالحاً قال له القبر: مرحباً وأهلاً
وإذا كان عاصياً قال له القبر: لا مرحباً ولا أهلاً.
فقد أخرج الترمذي بسند فيه مقال عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
"دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصلاه، فرأى ناساً كأنهم يكتشرون (1)، قال: أما إنكم لو أكثرتم ذكر هادم اللذات لشغلكم عما أرى، فأكثروا من ذكر هادم اللذات -الموت- فإنه لم يأتِ على القبر يوماً إلا تكلم فيه، يقول: أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحدة، أنا بيت التراب، أنا بيت الدود، فإذا دُفِن العبد المؤمن قال له القبر: مرحباً وأهلاً، أما إن كنت لأحبَّ من يمشي على ظهري إلي فإذا وُلِيتُك اليوم وصِرتَ إلي، فسترى صنيعي بك. قال: فيتسعُ له مدَّ بصرِه، ويفتح له باب إلى الجنة.
وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر: لا مرحباً ولا أهلاً، أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إلي فإذا وُلِيتُك اليوم وصِرتَ إلي فسترى صنيعي بك، قال:
فيلتئم عليه حتى تلتقي عليه وتختلف أضلاعه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابعه فأدخل بعضها في جوف بعض، قال: ويقيض الله له سبعون تنيناً، لو أن واحداً منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئاً ما بقيت الدنيا، فينهشنَّه ويخدشنَّه حتى يُفضى به إلى الحساب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار"
(ضعيف الجامع:1231)
(1) ـ يكتشرون: يضحكون، والكشر ظهور الأسنان للضحك.
يا له من موقف مهيب، ومشهد عظيم عندما تجد جدران القبر تحدثك.
فقد جاء عند أبي نعيم في "حليته" عن عبيد بن عمير قال:
"يجعل الله للقبر لساناً ينطق به، فيقول: يا ابن آدم كيف نسيتني؟! أما علمت أني بيت الدود،
وبيت الوحدة، وبيت الوحشة".
أخرج ابن المبـارك بسند صحيح في "زوائد الزهد" لنعيم عن أسيد بن عبد الرحمن
ـ رحمه الله ـ قال:
"بلغني أن المؤمن إذا مات وحُمِلَ قال: أسرعوا بي، فإذا وُضِعَ في لحده كلَّمته الأرض فقالت له:
إن كنتُ لأحبك وأنت على ظهري، فأنت الآن أحب إلي، فإذا مات الكافر وحُمِلَ قال: ارجعوا بي، فإذا وُضِعَ في لحده كلَّمته الأرض فقالت: إن كنتُ لأبغضك وأنت على ظهري فأنت الآن أبغض إليّ"
وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عبيد بن عمير أيضاً أنه قال:
"إن القبر ليقول: يا ابن آدم ماذا أعددتَ لي ؟
ألم تعلم أني بيت الغربة، وبيت الوحدة، وبيت الأكلة، وبيت الدود"
وأخرج ابن المبارك كما في "زوائد الزهد" لنعيم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال:"بلغني أن الميت يقعد في حفرته، وهو يسمع خطو مشيِّعيه، ولا يكلمه شيء أول من حفرته، تقول: ويحك ابن آدم!! أليس قد حُذِّرْتَني وحُذِّرْتَ ضيقي، وظُلمتي، ونتنِي، وهَوْلي؟!
هذا ما أعددتُ لك فما أعددتَ لي؟"
أخي الكريم أختي الفاضلة ...
اقرأ هذا الكلام بعيني قلبك، وعش هذه اللحظة، واستعد لها من الآن، فإنها آتية لا ريب، والسعيد من وُعِظ بغيره.
ثانياً: ضـمَّـة الـقــبـر:
بينما الإنسان منَّا في هذه الدهشة وتلك الرهبة، لم يستفق من هذه الكربة وهذا الهول
وإذ بداهية أخرى تقع به حيث يجد جدران القبر تتحرك وتتقارب عليه، ويضيق القبر حتى يضمَّه ويضغط على جانبيه، وهذه الضغطة لا ينجو منها أحدٌ، صالحاً كان أو عاصياً، صغيراً كان أو كبيراً.
فقد أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن للقبر ضغطةً لو كان أحد ناجياً منها لنجا سعدُ بن معاذ " (صحيح الجامع: 2180)
سبحان الله...!!
سعد بن معاذرضي الله عنهالذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم كما عند النسائي من حديث ابن عمر:
"هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضُمَّ ضمةً ثم فُرِّج عنه" (قال الألباني في "مشكاة المصابيح": إسناده صحيح)
وعند الطبراني من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ مرفوعا:ً
" لو نجا أحد من ضمة القبر، لنجا سعد بن معاذ، ولقد ضُمَّ ضمةً، ثم رُخي عنه"
(الصحيحة:1695)و(صحيح الجامع:5306)
فضمة القبر هول شديد رهيب، والأخطر أنه لا ينجو منه أحد حتى الصبي الصغير.
فقد أخرج الطبراني في "الكبير" عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال:
"دفن صبيٌ، فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم لو أفلت أحد من ضمَّة القبر لنجا هذا الصبي"
(صحيح الجامع: 5307)
والسر في هذه الضمَّة كما قال محمد التيمي كما عند ابن أبي الدنيا:
"كان يقال: إن ضمَّة القبر تكون لأن الأرض أصل البشر، وأنها أمّهم، ومنها خلقوا، فغابوا عنها الغيبة الطويلة، فلما ردَّ الله تعالى أولادها ضمتهم ضمة الوالدة التي غاب عنها ولدها، ثم قدموا عليها، فمن كان مطيعاً ضمته برفق، ومن كان عاصياً ضمته بعنف، سخطاً منها عليه.
ورضي الله عن عمر بن الخطاب حيث يقول:
"لو كان لي طلاعُ الأرض ذهباً لافتديت به من هول المطلع"
فهيا نتب الآن ونستقيم على طاعة الواحد الديان حتى ننجو من هول المطلع غداً
ثالثا: سؤال الملكين، ورؤية العبد مكانه في الجنة أو في النار:
وتتوالى المفاجآت، فلا يكاد العبد يفيق ممن داهية إلا وتأتي أخرى على إثرها، فهو ما زال في رعب من منظرهما إذ يسألانه بصوت كالرعد، ينخلع معه القلب ويطير منه العقل سؤالاً محدداً واضحاً صريحاً والسؤال يحتاج إلى إجابة فورية.
إنه الاختبار الذي قال عنه الحبيب المختارصلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري ومسلم من حديث أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنها ـ:
" ولقد أُوحي إليَّ أنكم تفتنون في قبوركم، مثل أو قريباً من فتنة المسيح الدجال"
وفي هذا الامتحان يُسئَل العبد عن ثلاثة أسئلة
ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن البراء بن عازب حينما تكلم النبي صلى الله عليه وسلم عن المؤمن وتعرضه للفتنة في القبر فقال:
"فيأتيه ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان له: مَن ربك؟ ما دينك؟
من نبيك؟ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله عز وجل:
{يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } (إبراهيم: 27)، فيقول:
ربي الله، وديني الإسلام، ونبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم فينادي منادٍ من السماء أن صدق عبدي"
(السلسة الصحيحة: 3/1391)
أخرج ابن حبان والطبراني في "الأوسط" والحاكم في "المستدرك" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" والذي نفسي بيده إن الميت ليسمعُ خفقَ نعالِكم حين تولُّون عنه مدبرين، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، والزكاة عن يمينه، والصوم عن يساره، وكل فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه. فيُؤْتى من قِبَل رأسه فتقول الصلاة: ما قبلي مدخلٌ، فيُؤْتى عن يمينه فتقول الزكاة: ما قبلي مدخلٌ، فيُؤْتى عن يساره فيقول الصيام: ما قبلي مدخلٌ، فيُؤْتى من رجليه فيقول فعل الخيرات: ما قبلي مدخلٌ". فيقال له: اجلس، فيجلِس قد مثلت له الشمس قد دنت للغروب، فيقال: أخبرنا عمَّا نسألك، فيقول: دعني حتى أصلي فيقال له: إنك ستفعل فأخبرنا عما نسألك، فيقول: وعمَّ تسألوني؟ فيقال: أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم، ماذا تقول فيه، وما تشهد عليه؟ فيقول: أمحمدٌ؟ فيقال له: نعم. فيقول: أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه جاءنا بالبيِّنات من عند الله فصدَّقْناه، فيقال له: على ذلك حييت، وعلى ذلك متَّ، وعليه تُبْعث إن شاء الله تعالى، ثم يُفْسح له في قبره سبعون ذراعاً، ويُنوَّر له، ويُفْتح له باب إلى الجنَّة، فيقال له: انظر إلى ما أعدَّ الله لك فيها، فيزداد غبطة وسروراً، ثم تُجْعل نسمتُهُ في النسم الطيب، وهي طير خضر يعلق بشجر الجنَّة، ويُعاد الجسد إلى ما بدأ من التراب وذلك قول الله عز وجل {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } (إبراهيم:27)"
وعند البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" المسلم إذا سُئل في القبر، شهد أن لا إله إلا لله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ }(إبراهيم: 27)"
ويقول طاووس في قولهعز وجل
{يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}قال:لا اله إلا الله، { وَفِي الآخِرَةِ }:المسألة في القبر
وقال قتادة: أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة في القبر.
يا طيب كرامة المؤمن في قبره حين ينادي منادٍ من السماء:" أن صدق عبدي"
ويا طيب مثواه حين يقول الملكان له:
"على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله"
وفي رواية أخرى قال النبيصلى الله عليه وسلم عن العبد الكافر أو الفاجر:
"ويأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقال: محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون ذلك، فيقولان: لا دريت ولا تلوت، فينادي منادٍ من السماء أن كَذِب عبدي" (السلسلة الصحيحة:3/1391)
يتضح مما سبق أن هناك ثلاثة أسئلة محددة سيسأل عنها العبد، وهذه الأسئلة تحتاج إلى إجابة فورية صحيحة، فهيا نستعد لهذه الأسئلة من الآن، فإنه لا يجيب عنها إلا من عاش لها، فعرف ربه وعاش لدينه واتبع رسوله صلى الله عليه وسلم
ـ فعندما يسأل العبد عن ربه
فإنه لا يجيب عن هذا السؤال إلا من عرف ربه في الدنيا وعبده.
فهل تعرفه حقا...؟! معرفة تجعلك لا تعصاه وتعبده كأنك تراه؟
فهل تعرفه حقا...؟! معرفة تدعوك إلى الخضوع له والإذعان؟
فهل تعرفه حقا...؟! معرفة تجعلك تعود إليه كلما أذنبت ترجو رضاه ولا تخشى أحدا سواه؟
ـ وكذلك عندما يُسأل العبد عن دينه
فإنه سيجيب عن دينه الذي يدين لله به, ويخضع له، ويعيش في كنفه، ويلتزم بأوامره، ويتحاكم إليه في كل شئونه.
ـ وكذلك عندما يُسأل عن نبيه
فإنه لا يجيب عن هذا السؤال إلا من عرف النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، واهتدى بهديه واقتفي أثره واستن بسنته، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم إمامهُ وقائدهُ ومرشدهُ ودليلهُ وأستاذهُ ومعلمهُ، أما من كان يقلِّد الناس ويتبع هواه، فإنه يتلعثم في الإجابة؛ لأنه كان بعيداً عن هديه فلا يهتدي لاسمه.
، فهؤلاء لا يتحاكمون إلى شرع، بل يتحاكمون إلى العادات والتقاليد، وإلى كلام الناس، يقال لهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فيقولون: بل قال فلان: كذا وكذا، ويقولون: بل قال الآباء كذا وكذا، فهؤلاء يصدق عليهم قول الحق سبحانه وتعالى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }(البقرة:170)
فهيا من الآن نستعد لهذه الأسئلة، حتى نستطيع أن نجيب عنها غدا بمشيئة الله وكرمه.
واحذر أخي... أن تكون عن الله من الغافلين، وعن شرعه من المُعرضين، وعن هدي رسوله من المخالفين، وفي ملذات الدنيا من المنغمسين.
وأُذكِّرك أخي أن الموت يأتي بغتة، وملك الموت لن يُؤجِّلك، وضمة القبر لن ترحمك، فهيا استعد من الآن لهذا اليوم العصيب، وارجع إلى رب العالمين قبل أن يأتيك اليقين، واستكثر الزاد ليوم الميعاد
رابعا: دخـــول الـجـلـيــس:
فعندما يفتح للرجل الصالح باب من النار ثم يغلق عنه، فيقال له: هذا مقعدك لو كنت عصيت الله، ثم يفتح له باباً إلى الجنة يرى مقعده، فيتمنى على الله أن تقوم الساعة، حتى يعود إلى منزله في الجنة.
وأما من عاش لدنياه واتبع هواه وعصى مولاه، فهذا يفتح له باب إلى الجنة حتى يرى قصورها ويشمُّ عبيرَها ثم يغلق عنه، ويقال: هذا مقعدك لو كنت أطعت الله، ثم يفتح له بابٌ إلى النار ويقال: هذا مقعدك لأنك عصيت الله.
إنه لألم وحسرة تعمل في النفوس، كما تعمل الديدان في الأجساد.
- ومع هذه الحسرات وتلكم الكربات والدواهي العظام والتي تأتي تباعاً، فلم يكد هذا العبد المسكين يفيق من واحدة إلا والثانية على إثرها، فلم يستفق من فزع تكليم القبر له، إلا ويجد جدران القبر قد ضمَّته ضمة اختلفت معها أضلاعه، ثم يأتيه الملكان أسودان أزرقان ينتهرانه بصوت كالرعد، فيسألانه فيتلعثم، فيفتح له باب من النار، ويأتيه من حرها وسمومها، ويا ليت الأمر يقف عند هذا...!
لكن يدخل عليه رجل أسود الوجه، قبيح الثياب، نتن الرائحة، فيقول له العبد في ألم وحسرة: من أنت؟! وكأنه يقول له: من أنت أيضاً؟
- ولك أن تتخيل تلك الصورة فمع ظلمة القبر، ووحشة الإنفراد، وتتابع الأهوال، وخوف المجهول، فيدخل على العبد كذلك رجل أسود اللون، كئيب الوجه، قبيح المنظر، وهكذا الذنوب كذلك تكن بهذا القبح، والإنسان منَّا إذا جلس دقائق مع إنسان يكرهه أو مع إنسان رائحته كريهة لمرَّت هذه الدقائق كأنها سنين، فكيف بهذا الجليس كريه الرائحة، أسود الوجه يكون مع هذا الإنسان إلى يوم القيامة؟! إنها داهية من دواهي وأهوال القبر.
- أما العبد الذي عاش لمولاه وخالف هواه، فيتمثل عمله في صورة رجل أبيض الوجه، أبيض الثياب، طيب الرائحة.
كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال كما في حديث البراء بن عازب:
"يمثل له رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرُّك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: وأنت فبشرك الله بخير، من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح..."
فهيا أخي الكريم وهيا أختي الفاضلة ...بادر بفعل الخيرات، فإنها الباقيات الصالحات.
وصدق القائل حيث قال:
وقال آخر:
نــداء:
يا أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، والقبور المظلمة... يا أهل التربة... يا أهل الغربة...
يا أهل الوحدة... يا أهل الوحشة...
أنتم لنا فرط سابق، ونحن لكم تبع لاحق، أما الدور فقد سُكِنت، وأما الأزواج فقد نُكِحت، وأما الأموال فقد قُسِّمت، هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟
أما لو أُذِن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى، فاعمل أخي الكريم وأعملي أختي الفاضلة ما تلقى نفعه بعد موتك، وبادر أيام صحَّتك بالعمل الصالح، فيخشى على مَن فرَّط في ذلك، أن يصل إلى الميعاد بغير زاد.
وأخيرا أيها الأحبة... لابد أن نعلم جميعاً
أن العبد له ربَّاً هو ملاقيه، وبيتاً هو ساكنه، فعليه أن يسترضي ربه قبل أن يلقاه، وعليه أن يُعمِّر بيته قبل أن ينتقل إليه.
واسـأل الله عز وجل أن يُعيذَنـا وإيَّـاكم من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم
وأن يختم لنا بخاتمة السعادة وأن يرزقنا الجنة والزيادة نحن ومن لهم علينا حق وجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.آمين... آمين... آمين.,وصلى اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا والحمد لله رب العالمين
فأين سُكَّانها الذين بنوا مدائنها، وشقوا أنهارها، وغرسوا أشجارها، وأقاموا فيها دهوراً ؟!؛
فاغتروا بقوتهم فركبوا الذنوبا!!
سَلْهُم... ماذا صنع التراب بأبدانهم، والهوام بأجسادهم، والديدان بعظامهم وأوصالهم؟
سَلْهُم... عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون؟ وعن الأعين التي كانوا بها ينظرون؟
سَلْهُم... عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة ما صنع بها الديدان؟
محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفَّرت الوجوه، وغيَّرت المحاسن، وكسرت الفقار، وأبانت الأعضاء، ومزَّقت الأشلاء
فأين حجَّابُهم...؟! وأين خدمهم وعبيدهم...؟! أين دارهم الفيحاء... ؟! أين رقاق ثيابهم... ؟!
أين طيبهم... ؟! أين بخورهم...؟! أين كسوتهم لصيفهم وشتائهم... ؟!
فمنهم والله الموسَّع له في قبره، المُنعَّم فيه، ومنهم والله المُضيَّق عليه في قبره، المُعذَّب فيه.
فـيـا لـلــقـبــور... ظاهرها تراب وبواطنها حسرات، ظاهرها بالتراب والحجارة مبنيات، وفي باطنها الدواهي والبليات تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها، ويحق لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها
تالله لقد وَعظَتْ فما تركت لواعظٍ مقالاً، ونادت يا عُمَّار الدنيا لقد عَمَّرتُم داراً موشكة بكم زوالاً، وخربتم داراً أنتم مسرعون إليها انتقالاً.
عَمَّرتُم بيوتاً لغيركم منافعها وسُكْانَها، وخَرَّبْتُم بيوتاً ليس لكم مساكن سواها.
يـا لـلــقـبــور... إنها دار الاستباق، ومستودع الأعمال، وجني الحصاد
إنها محل للعِبَر، رياض من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.(الروح لابن القيم)
فـيـا لـلــقـبــور...إنها أول منازل الآخرة
فقد أخرج الترمذي وابن ماجة عن هانئ مولى عثمان قال:
"كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبلَّ لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا ؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشدّ منه" (صحيح الجامع:1684)
هذا هو القبر...
أول منزل من منازل الآخرة، فالرحلة إلى الدار الآخرة تبدأ مع أول ليلة في القبر، يا لها من ليلة.
يقول الحسن البصري ـ رحمه الله ـ:
يومان وليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهن قط:
ليلة تبيت مع أهل القبور لم تبت ليلة قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة.
أما اليومان: يوم يأتيك البشير من الله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
ويوم تعطى كتابك إما بيمينك وإما بشمالك.
فتعالى أخي الفاضل وتعالي أختي الفاضلة ... نعيش أنا وأنت بقلوبنا
ما يحدث في أول ليلة في القبر؟ وما يكون فيها من أهوال؟
أولاً:كـلام الـقـبـر لابــن آدم:
تخيل أخي الكريم ... إذا وضعك أبناؤك وأحباؤك في قبرك، وأغلقوا عليك فأحكموا الإغلاق، ثم تركوك وحيداً وانصرفوا عنك، وأنت تسمع قرع نعالهم، ذهبوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، تركوك في هذا الجو المخيف المفزع، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرجت يدك لم تكد تراها، ظلمة مخيفة، سكون قاتل، جو موحش.
وفي هذا الجو الموحش، والسكون القاتل، والظلمة المخيفة، تجد مَن يُحدِّثُك ويُكلِّمُك ، يا له من هول يشيب له الولدان، مَن المتكلم؟ إنه القبر... فإذا كان العبد صالحاً قال له القبر: مرحباً وأهلاً
وإذا كان عاصياً قال له القبر: لا مرحباً ولا أهلاً.
فقد أخرج الترمذي بسند فيه مقال عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
"دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصلاه، فرأى ناساً كأنهم يكتشرون (1)، قال: أما إنكم لو أكثرتم ذكر هادم اللذات لشغلكم عما أرى، فأكثروا من ذكر هادم اللذات -الموت- فإنه لم يأتِ على القبر يوماً إلا تكلم فيه، يقول: أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحدة، أنا بيت التراب، أنا بيت الدود، فإذا دُفِن العبد المؤمن قال له القبر: مرحباً وأهلاً، أما إن كنت لأحبَّ من يمشي على ظهري إلي فإذا وُلِيتُك اليوم وصِرتَ إلي، فسترى صنيعي بك. قال: فيتسعُ له مدَّ بصرِه، ويفتح له باب إلى الجنة.
وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر: لا مرحباً ولا أهلاً، أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إلي فإذا وُلِيتُك اليوم وصِرتَ إلي فسترى صنيعي بك، قال:
فيلتئم عليه حتى تلتقي عليه وتختلف أضلاعه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابعه فأدخل بعضها في جوف بعض، قال: ويقيض الله له سبعون تنيناً، لو أن واحداً منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئاً ما بقيت الدنيا، فينهشنَّه ويخدشنَّه حتى يُفضى به إلى الحساب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار"
(ضعيف الجامع:1231)
(1) ـ يكتشرون: يضحكون، والكشر ظهور الأسنان للضحك.
يا له من موقف مهيب، ومشهد عظيم عندما تجد جدران القبر تحدثك.
فقد جاء عند أبي نعيم في "حليته" عن عبيد بن عمير قال:
"يجعل الله للقبر لساناً ينطق به، فيقول: يا ابن آدم كيف نسيتني؟! أما علمت أني بيت الدود،
وبيت الوحدة، وبيت الوحشة".
أخرج ابن المبـارك بسند صحيح في "زوائد الزهد" لنعيم عن أسيد بن عبد الرحمن
ـ رحمه الله ـ قال:
"بلغني أن المؤمن إذا مات وحُمِلَ قال: أسرعوا بي، فإذا وُضِعَ في لحده كلَّمته الأرض فقالت له:
إن كنتُ لأحبك وأنت على ظهري، فأنت الآن أحب إلي، فإذا مات الكافر وحُمِلَ قال: ارجعوا بي، فإذا وُضِعَ في لحده كلَّمته الأرض فقالت: إن كنتُ لأبغضك وأنت على ظهري فأنت الآن أبغض إليّ"
وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عبيد بن عمير أيضاً أنه قال:
"إن القبر ليقول: يا ابن آدم ماذا أعددتَ لي ؟
ألم تعلم أني بيت الغربة، وبيت الوحدة، وبيت الأكلة، وبيت الدود"
وأخرج ابن المبارك كما في "زوائد الزهد" لنعيم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال:"بلغني أن الميت يقعد في حفرته، وهو يسمع خطو مشيِّعيه، ولا يكلمه شيء أول من حفرته، تقول: ويحك ابن آدم!! أليس قد حُذِّرْتَني وحُذِّرْتَ ضيقي، وظُلمتي، ونتنِي، وهَوْلي؟!
هذا ما أعددتُ لك فما أعددتَ لي؟"
أخي الكريم أختي الفاضلة ...
اقرأ هذا الكلام بعيني قلبك، وعش هذه اللحظة، واستعد لها من الآن، فإنها آتية لا ريب، والسعيد من وُعِظ بغيره.
ثانياً: ضـمَّـة الـقــبـر:
بينما الإنسان منَّا في هذه الدهشة وتلك الرهبة، لم يستفق من هذه الكربة وهذا الهول
وإذ بداهية أخرى تقع به حيث يجد جدران القبر تتحرك وتتقارب عليه، ويضيق القبر حتى يضمَّه ويضغط على جانبيه، وهذه الضغطة لا ينجو منها أحدٌ، صالحاً كان أو عاصياً، صغيراً كان أو كبيراً.
فقد أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن للقبر ضغطةً لو كان أحد ناجياً منها لنجا سعدُ بن معاذ " (صحيح الجامع: 2180)
سبحان الله...!!
سعد بن معاذرضي الله عنهالذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم كما عند النسائي من حديث ابن عمر:
"هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضُمَّ ضمةً ثم فُرِّج عنه" (قال الألباني في "مشكاة المصابيح": إسناده صحيح)
وعند الطبراني من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ مرفوعا:ً
" لو نجا أحد من ضمة القبر، لنجا سعد بن معاذ، ولقد ضُمَّ ضمةً، ثم رُخي عنه"
(الصحيحة:1695)و(صحيح الجامع:5306)
فضمة القبر هول شديد رهيب، والأخطر أنه لا ينجو منه أحد حتى الصبي الصغير.
فقد أخرج الطبراني في "الكبير" عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال:
"دفن صبيٌ، فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم لو أفلت أحد من ضمَّة القبر لنجا هذا الصبي"
(صحيح الجامع: 5307)
والسر في هذه الضمَّة كما قال محمد التيمي كما عند ابن أبي الدنيا:
"كان يقال: إن ضمَّة القبر تكون لأن الأرض أصل البشر، وأنها أمّهم، ومنها خلقوا، فغابوا عنها الغيبة الطويلة، فلما ردَّ الله تعالى أولادها ضمتهم ضمة الوالدة التي غاب عنها ولدها، ثم قدموا عليها، فمن كان مطيعاً ضمته برفق، ومن كان عاصياً ضمته بعنف، سخطاً منها عليه.
ورضي الله عن عمر بن الخطاب حيث يقول:
"لو كان لي طلاعُ الأرض ذهباً لافتديت به من هول المطلع"
فهيا نتب الآن ونستقيم على طاعة الواحد الديان حتى ننجو من هول المطلع غداً
ثالثا: سؤال الملكين، ورؤية العبد مكانه في الجنة أو في النار:
وتتوالى المفاجآت، فلا يكاد العبد يفيق ممن داهية إلا وتأتي أخرى على إثرها، فهو ما زال في رعب من منظرهما إذ يسألانه بصوت كالرعد، ينخلع معه القلب ويطير منه العقل سؤالاً محدداً واضحاً صريحاً والسؤال يحتاج إلى إجابة فورية.
إنه الاختبار الذي قال عنه الحبيب المختارصلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري ومسلم من حديث أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنها ـ:
" ولقد أُوحي إليَّ أنكم تفتنون في قبوركم، مثل أو قريباً من فتنة المسيح الدجال"
وفي هذا الامتحان يُسئَل العبد عن ثلاثة أسئلة
ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن البراء بن عازب حينما تكلم النبي صلى الله عليه وسلم عن المؤمن وتعرضه للفتنة في القبر فقال:
"فيأتيه ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان له: مَن ربك؟ ما دينك؟
من نبيك؟ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله عز وجل:
{يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } (إبراهيم: 27)، فيقول:
ربي الله، وديني الإسلام، ونبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم فينادي منادٍ من السماء أن صدق عبدي"
(السلسة الصحيحة: 3/1391)
أخرج ابن حبان والطبراني في "الأوسط" والحاكم في "المستدرك" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" والذي نفسي بيده إن الميت ليسمعُ خفقَ نعالِكم حين تولُّون عنه مدبرين، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، والزكاة عن يمينه، والصوم عن يساره، وكل فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه. فيُؤْتى من قِبَل رأسه فتقول الصلاة: ما قبلي مدخلٌ، فيُؤْتى عن يمينه فتقول الزكاة: ما قبلي مدخلٌ، فيُؤْتى عن يساره فيقول الصيام: ما قبلي مدخلٌ، فيُؤْتى من رجليه فيقول فعل الخيرات: ما قبلي مدخلٌ". فيقال له: اجلس، فيجلِس قد مثلت له الشمس قد دنت للغروب، فيقال: أخبرنا عمَّا نسألك، فيقول: دعني حتى أصلي فيقال له: إنك ستفعل فأخبرنا عما نسألك، فيقول: وعمَّ تسألوني؟ فيقال: أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم، ماذا تقول فيه، وما تشهد عليه؟ فيقول: أمحمدٌ؟ فيقال له: نعم. فيقول: أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه جاءنا بالبيِّنات من عند الله فصدَّقْناه، فيقال له: على ذلك حييت، وعلى ذلك متَّ، وعليه تُبْعث إن شاء الله تعالى، ثم يُفْسح له في قبره سبعون ذراعاً، ويُنوَّر له، ويُفْتح له باب إلى الجنَّة، فيقال له: انظر إلى ما أعدَّ الله لك فيها، فيزداد غبطة وسروراً، ثم تُجْعل نسمتُهُ في النسم الطيب، وهي طير خضر يعلق بشجر الجنَّة، ويُعاد الجسد إلى ما بدأ من التراب وذلك قول الله عز وجل {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } (إبراهيم:27)"
وعند البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" المسلم إذا سُئل في القبر، شهد أن لا إله إلا لله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ }(إبراهيم: 27)"
ويقول طاووس في قولهعز وجل
{يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}قال:لا اله إلا الله، { وَفِي الآخِرَةِ }:المسألة في القبر
وقال قتادة: أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة في القبر.
يا طيب كرامة المؤمن في قبره حين ينادي منادٍ من السماء:" أن صدق عبدي"
ويا طيب مثواه حين يقول الملكان له:
"على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله"
وفي رواية أخرى قال النبيصلى الله عليه وسلم عن العبد الكافر أو الفاجر:
"ويأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقال: محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون ذلك، فيقولان: لا دريت ولا تلوت، فينادي منادٍ من السماء أن كَذِب عبدي" (السلسلة الصحيحة:3/1391)
يتضح مما سبق أن هناك ثلاثة أسئلة محددة سيسأل عنها العبد، وهذه الأسئلة تحتاج إلى إجابة فورية صحيحة، فهيا نستعد لهذه الأسئلة من الآن، فإنه لا يجيب عنها إلا من عاش لها، فعرف ربه وعاش لدينه واتبع رسوله صلى الله عليه وسلم
ـ فعندما يسأل العبد عن ربه
فإنه لا يجيب عن هذا السؤال إلا من عرف ربه في الدنيا وعبده.
فهل تعرفه حقا...؟! معرفة تجعلك لا تعصاه وتعبده كأنك تراه؟
فهل تعرفه حقا...؟! معرفة تدعوك إلى الخضوع له والإذعان؟
فهل تعرفه حقا...؟! معرفة تجعلك تعود إليه كلما أذنبت ترجو رضاه ولا تخشى أحدا سواه؟
ـ وكذلك عندما يُسأل العبد عن دينه
فإنه سيجيب عن دينه الذي يدين لله به, ويخضع له، ويعيش في كنفه، ويلتزم بأوامره، ويتحاكم إليه في كل شئونه.
ـ وكذلك عندما يُسأل عن نبيه
فإنه لا يجيب عن هذا السؤال إلا من عرف النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، واهتدى بهديه واقتفي أثره واستن بسنته، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم إمامهُ وقائدهُ ومرشدهُ ودليلهُ وأستاذهُ ومعلمهُ، أما من كان يقلِّد الناس ويتبع هواه، فإنه يتلعثم في الإجابة؛ لأنه كان بعيداً عن هديه فلا يهتدي لاسمه.
، فهؤلاء لا يتحاكمون إلى شرع، بل يتحاكمون إلى العادات والتقاليد، وإلى كلام الناس، يقال لهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فيقولون: بل قال فلان: كذا وكذا، ويقولون: بل قال الآباء كذا وكذا، فهؤلاء يصدق عليهم قول الحق سبحانه وتعالى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }(البقرة:170)
فهيا من الآن نستعد لهذه الأسئلة، حتى نستطيع أن نجيب عنها غدا بمشيئة الله وكرمه.
واحذر أخي... أن تكون عن الله من الغافلين، وعن شرعه من المُعرضين، وعن هدي رسوله من المخالفين، وفي ملذات الدنيا من المنغمسين.
وأُذكِّرك أخي أن الموت يأتي بغتة، وملك الموت لن يُؤجِّلك، وضمة القبر لن ترحمك، فهيا استعد من الآن لهذا اليوم العصيب، وارجع إلى رب العالمين قبل أن يأتيك اليقين، واستكثر الزاد ليوم الميعاد
رابعا: دخـــول الـجـلـيــس:
فعندما يفتح للرجل الصالح باب من النار ثم يغلق عنه، فيقال له: هذا مقعدك لو كنت عصيت الله، ثم يفتح له باباً إلى الجنة يرى مقعده، فيتمنى على الله أن تقوم الساعة، حتى يعود إلى منزله في الجنة.
وأما من عاش لدنياه واتبع هواه وعصى مولاه، فهذا يفتح له باب إلى الجنة حتى يرى قصورها ويشمُّ عبيرَها ثم يغلق عنه، ويقال: هذا مقعدك لو كنت أطعت الله، ثم يفتح له بابٌ إلى النار ويقال: هذا مقعدك لأنك عصيت الله.
إنه لألم وحسرة تعمل في النفوس، كما تعمل الديدان في الأجساد.
- ومع هذه الحسرات وتلكم الكربات والدواهي العظام والتي تأتي تباعاً، فلم يكد هذا العبد المسكين يفيق من واحدة إلا والثانية على إثرها، فلم يستفق من فزع تكليم القبر له، إلا ويجد جدران القبر قد ضمَّته ضمة اختلفت معها أضلاعه، ثم يأتيه الملكان أسودان أزرقان ينتهرانه بصوت كالرعد، فيسألانه فيتلعثم، فيفتح له باب من النار، ويأتيه من حرها وسمومها، ويا ليت الأمر يقف عند هذا...!
لكن يدخل عليه رجل أسود الوجه، قبيح الثياب، نتن الرائحة، فيقول له العبد في ألم وحسرة: من أنت؟! وكأنه يقول له: من أنت أيضاً؟
- ولك أن تتخيل تلك الصورة فمع ظلمة القبر، ووحشة الإنفراد، وتتابع الأهوال، وخوف المجهول، فيدخل على العبد كذلك رجل أسود اللون، كئيب الوجه، قبيح المنظر، وهكذا الذنوب كذلك تكن بهذا القبح، والإنسان منَّا إذا جلس دقائق مع إنسان يكرهه أو مع إنسان رائحته كريهة لمرَّت هذه الدقائق كأنها سنين، فكيف بهذا الجليس كريه الرائحة، أسود الوجه يكون مع هذا الإنسان إلى يوم القيامة؟! إنها داهية من دواهي وأهوال القبر.
- أما العبد الذي عاش لمولاه وخالف هواه، فيتمثل عمله في صورة رجل أبيض الوجه، أبيض الثياب، طيب الرائحة.
كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال كما في حديث البراء بن عازب:
"يمثل له رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرُّك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: وأنت فبشرك الله بخير، من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح..."
فهيا أخي الكريم وهيا أختي الفاضلة ...بادر بفعل الخيرات، فإنها الباقيات الصالحات.
وصدق القائل حيث قال:
العين تبكى على الدنيا وقد علمت
أن السـلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها
إلا التي كانت قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طـاب مسكنه
وإن بناها بشر خـاب بانـيها
فلا تركن إلى الدنيا وزخرفهـا
فلا شك أن الموت يفنينا ويفنيها
تزوَّد من الـدنيا فإنك راحل
وسارع إلى الخيرات فيمن يسارع
فما المال والأهلون إلا ودائع
ولابـد يـوماً أن ترد الـودائع
مـا ينفع الإنسـان في قبره
إلا الـتقى والعـمـل الصـالح
يا أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، والقبور المظلمة... يا أهل التربة... يا أهل الغربة...
يا أهل الوحدة... يا أهل الوحشة...
أنتم لنا فرط سابق، ونحن لكم تبع لاحق، أما الدور فقد سُكِنت، وأما الأزواج فقد نُكِحت، وأما الأموال فقد قُسِّمت، هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟
أما لو أُذِن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى، فاعمل أخي الكريم وأعملي أختي الفاضلة ما تلقى نفعه بعد موتك، وبادر أيام صحَّتك بالعمل الصالح، فيخشى على مَن فرَّط في ذلك، أن يصل إلى الميعاد بغير زاد.
وأخيرا أيها الأحبة... لابد أن نعلم جميعاً
أن العبد له ربَّاً هو ملاقيه، وبيتاً هو ساكنه، فعليه أن يسترضي ربه قبل أن يلقاه، وعليه أن يُعمِّر بيته قبل أن ينتقل إليه.
واسـأل الله عز وجل أن يُعيذَنـا وإيَّـاكم من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم
وأن يختم لنا بخاتمة السعادة وأن يرزقنا الجنة والزيادة نحن ومن لهم علينا حق وجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.آمين... آمين... آمين.,وصلى اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا والحمد لله رب العالمين
تعليق