استحيوا من الله حق الحياء
روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"
استحيوا من الله حق الحياء.
قال: قلنا:
يا رسول الله، إنا نستحي والحمد لله،
قال:
ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك استحيا من الله حق الحياء".
قال المباركفوري في شرح الحديث: قوله:
" استحيوا من الله حق الحياء "
أي:
حياء ثابتاً ولازماً صادقاً .
قال المناوي: وقيل:
اي اتقوا الله حق تقاته.
"قلنا:
يا رسول الله، إنا نستحي"
ولم يقولوا:
حق الحياء اعترافاً بالعجز عنه،
"والحمد لله"
أي:
على توفيقنا به،
"قال:
ليس ذاك"
أي:
ليس حق الحياء ما تحسبونه، بل أن يحفظ جميع جوارحه عما لا يرضي،
"
ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس"
أي:
عن استعماله في غير طاعة الله،
بأن لا تسجد لغيره، ولا تصلي للرياء، ولا تخضع به لغير الله، ولا ترفعه تكبراً،
"وما وعى"
أي: جمعه الرأس من اللسان والعين والأذن عما لا يحل استعماله،
"وتحفظ البطن"
أي: عن أكل الحرام،
"وما حوى"
أي:
ما اتصل اجتماعه به من الفرج والرجلين واليدين والقلب، فإن هذه الأعضاء متصلة بالجوف، وحفظها بأن لا تستعملها في المعاصي، بل في مرضاة الله تعالى،
"وتتذكر الموت والبلى"
بكسر الباء من بلى الشيء إذا صار خَلِقاً متفتتاً يعني: تتذكر صيرورتك في القبر عظاماً بالية،
"ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا"
فإنهما لا يجتمعان على وجه الكمال حتى للأقوياء، قاله القارئ.
وقال المناوي: ل
أنهما ضرتان، فمتى أرضيت إحداهما أغضبت الأخرى،
"فمن فعل ذلك"
أي: جميع ما ذُكر،
فقد استحيا من الله حق الحياء.
ا.هـ تحفة الأحوذي 7/131.
والحديث أخرجه أيضاً أحمد والبيهقي. قال المناوي: قال الحاكم: صحيح، وأقره الذهبي، وحسنه الألباني. ا.هـ والله أعلم.
والحياء أنواع
من الله ومن الملائكة و من الناس ومن النفس
أولاً : الحياء من الله:
قال الله تعالى:
" أَلَم يَعلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى "
[العلق:14] وقال تعالى:
" مَا قَدَروا اللَّهَ حَقَّ قَدرِهِ "
[الأنعام:91] وقال
" إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيكم رَقِيبًا "
[النساء:1].
فتجرؤ العبد على المعاصي واستخفافه بالأوامر والنواهي الشرعية يدل على عدم إجلاله لربه وعدم مراقبته لربه.
فالحياء من الله يكون باتباع الأوامر واجتناب النواهي. ومراقبة الله في السر والعلن.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
{ استحي من الله تعالى كما تستحي من الرجل الصالح من قومك
}
[صحيح الجامع].
وهذا الحياء يسمى حياء العبودية الذي يصل بصاحبه إلى أعلى مراتب الدين وهي مرتبة الأحسان الذي يحس فيها العبد دائماً بنظر الله إليه وأنه يراه في كل حركاته وسكناته فيتزين لربه بالطاعات.
وهذا الحياء يجعله دائماً يشعر بأن عبوديته قاصرة حقيرة أمام ربه لأنه يعلم أن قدر ربه أعلى وأجل. قال ذو النون:
( الحياء وجود الهيبة في القلب مع وحشة مما سبق منك إلى ربك )
وهذا يسمى أيضاً حياء الإجلال الذي منبعه معرفة الرب عز وجل وإدراك عظم حقه ومشاهدة مننه وآلائه. وهذه هي حقيقة نصب الرسول صلى الله عليه وسلم وإجهاد نفسه في عبادة ربه.
ومن هذا الحياء أيضاً:
حياء الجناية والذنب:
ومثال ذلك ما ذكره ابن القيم في كتابه مدارج السالكين. عندما فر آدم هارباً في الجنة فقال الله تعالى له: (
أفراراً مني يا آدم؟
فقال:
لا بل حياء منك ).
ومن أنواع الحياء من الله:
الحياء من نظر الله إليه في حالة لا تليق:
كالتعري كما في حديث بهز بن حكيم عندما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
( عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ )
فقال:
{ احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك
}
.
قال:
( يا نبي الله إذا كان أحدنا خالياً؟ )
قال:
{ فالله أحق أن يستحي منه الناس
}
.
ولذلك عقد الإمام البخاري باباً سماه:
( التعري عند الاغتسال والاستتار أفضل ).
وقد ورد أن ابن عباس كان يغتسل وهو يرتدي ثوباً خفيفاً حياء من الله أن يتجرد. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول:
( والله إني لأضع ثوبي على وجهي في الخلاء حياء من الله ).
وكان عثمان بن عفان لا يقيم صلبه عند الاغتسال حياء من الله. وجاء رجل إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما فقال له:
أنا رجل عاصي ولا أصبر عن المعصية فعظني.
فقال الحسين:
( افعل خمسة وافعل ما شئت ).
قال الرجل:
هات.
قال الحسين:
( لا تأكل من رزق الله وأذنب ما شئت).
قال الرجل:
كيف ومن أين آكل وكل ما في الكون من رزقه.
قال الحسين:
( اخرج من أرض الله وأذنب ما شئت ).
قال الرجل:
كيف ولا تخفى على الله خافية.
قال الحسين:
( اطلب موضعاً لا يراك الله فيه وأذنب ماشئت ).
قال الرجل:
هذه أعظم من تلك، فأين أسكن.
قال الحسين:
( إذا جائك ملك الموت فادفعه عن نفسك وأذنب ما شئت ).
قال الرجل:
هذا محال
. قال الحسين:
( إذا دخلت النار فلا تدخل فيها وأذنب ما شئت ).
فقال
الرجل:
حسبك، لن يراني الله بعد اليوم في معصية أبداً.
( أدركت أقواماً يستحيون من الله سواد الليل من طول الهجيعة).
قال يحيي بن معاذ:
( من استحى من الله مطيعاً استحى الله منه وهو مذنب ).
أي من غلب عليه خلق الحياء من الله حتى في حال طاعته فهو دائماً يحس بالخجل من الله في تقصيره فيستحي أن يرى من يكرم عليه في حال يشينه عنده.
ثم قال يحيي بن معاذ:
( سبحان من يذنب عبده ويستحي هو ).
وفي الأثر:
( من استحيا الله منه )
ويجدر هنا أن ننبه إلى أن حياء الرب صفة من صفاته الثابتة بالكتاب والسنة وهي كسائر صفاته عز وجل لا تدركها الأفهام ولا تكيفها العقول بل نؤمن بها من غير تشبيه ولا تكييف. وحياء الله عز وجل صفة كمال تدل على الكرم والفضل والجود والجلال. ففي الحديث:
{ أن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً
}
وأيضاً:
{ إن الله يستحي أن يعذب شيبة شاب في الإسلام
.عجيب شأن هذا العبد المسكين لا يستحي من ربه وهو ينعم عليه آناء الليل وأطراف النهار مع فقره الشديد... والرب العظيم يستحي من عبده مع غناه عنه وعدم حاجته إليه.
م / ن موقع الشيخ هانى حلمى حفظه الله
تعليق