لا يزال الشيطان ببني آدم يوسوس لهم حتى يهلكهم بالوقوع في المعاصي والذنوب والآثام ، يهون لهم أمر المعصية ، ويصغر في عيونهم كبير الذنب ، وعظيم المعصية ، وقد قيل : لا تنظر إلى صغر المعصية ، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت .
ومن وسوسة الشيطان ما يبثه في روع المصلي والمتوضئ ، فلا يزال بالعبد في وضوئه حتى يفوته خير كثير ، فيبقى العبد يتابع الشيطان في نزغه ونزعه حتى يفسد عليه دينه ، ولا يزال به في صلاته حتى يخرج منها ولم يعقل منها شيء ، فترمى في وجهه وتقول : ضيعك الله كما ضيعتني ، فترد علبه .
ومن وسوسة الشيطان أنه يلقي في قلب العبد الغضب ، فلا يزال به حتى يطلق زوجته أو يضربها ضرباً مؤلماً أو يُسمعها من الكلام ما تتمنى معه الموت ، أو ربما سفك دماً ، ألا فلا تنساق أيها المسلم مع عدوك اللدود ، فإنه لا يريد منك إلا الفراق ، وقطع الصلة والطلاق ، فاحذر عدوك أشد الحذر .
قال الله تعالى : { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأعراف200 ] .
وقال الله عز وجل : { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ فصلت36 ] .
ومعنى ينزغنك : يصيبنك أو يلقين ويعرض لك عند الغضب وسوسة بما لا يحل .
فاستعذ بالله أي : اطلب النجاة من ذلك بالله .
فأمر تعالى أن يدفع الوسوسة بالالتجاء إليه والاستعاذة به ، ولله المثل الأعلى .
فلا يستعاذ من الخلق إلا بالخالق جل وعلا .
وقد حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه : ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا ؟ قال : أجاهده .
قال : فإن عاد ؟ قال : أجاهده .
قال : فإن عاد ؟ قال : أجاهده .
قال : هذا يطول ، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبها ومنعك من العبور ما تصنع ؟ قال : أكابده وأرده جهدي .
قال : هذا يطول عليك ، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك .
فلما يئس الشيطان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالإغراء والإضلال أخذ يشوش عليهم أوقاتهم بتلك الألقيات .
والوساوس : الترهات ، فنفرت عنها قلوبهم وعظم عليهم وقوعها عندهم ، فجاءوا كما في الصحيح فقالوا : يا رسول الله ، إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به ، قال : " أو قد وجدتموه " ؟ قالوا : نعم ، قال : " ذلك صريح الإيمان " .
رغماً للشيطان حسب ما نطق به القرآن في قوله تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } .
فالخواطر التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها الشبهة فهي التي تدفع بالإعراض عنها ، وعلى مثلها يطلق اسم الوسوسة [ تفسير القرطبي 7/348 ] .
الشيطان ينزغ بين الناس ، يفرق بينهم ، ويضرم بينهم نار العداوة والبغضاء ، ويُذكرهم بأمور حصلت قديماً حتى يثأر بعضهم من بعض ، وهذه قصة فيها عبرة للمعتبرين : قال عصام بن المصطلق : دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي عليهما السلام ، فأعجبني سمته وحسن روائه ، فأثار مني الحسد ما كان يجنه صدري لأبيه من البغض ، فقلت : أنت ابن أبي طالب ! قال نعم ، فبالغت في شتمه وشتم أبيه ، فنظر إلي نظرة عاطف رءوف ، ثم قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [ الأعراف 199-201 ] ، ثم قال لي : خفض عليك ، استغفر الله لي ولك ، إنك لو استعنتنا أعناك ، ولو استرفدتنا أرفدناك ، ولو استرشدتنا أرشدناك ، فتوسم في الندم على ما فرط مني فقال : { قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [ يوسف92 ] أمن أهل الشام أنت ؟ قلت : نعم ، فقال : شنشنة _ عادة أو طبيعة _ أعرفها من أخزم _ وكان أخزم عاقا لأبيه ، فمات وترك بنين عقوا جدهم وضربوه وأدموه ، فقال ذلك ، أي إنهم أشبهوا أباهم في العقوق _ حياك الله وبياك ، وعافاك ، وآداك _ أعانك _ ، انبسط إلينا _ لا تخجل _ في حوائجك وما يعرض لك ، تجدنا عند أفضل ظنك إن شاء الله ، قال عصام : فضاقت علي الأرض بما رحبت ، ووددت أنها ساخت بي ، ثم تسللت منه لواذاً _ استتاراً _ وما على وجه الأرض أحب إلي منه ومن أبيه .
وقد روى الحاكم عن سليمان بن صدر قال : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد غضب أحدهما ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " فقال الرجل : أمجنوناً تراني ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأعراف200 ] " [ في ظلال القرآن 8/ 134 ] .
استعمل سلاحك :
الشيطان قد أعلنها حرباً تنبثق من خليقة الشر فيه ، ومن كبريائه وحسده وحقده على الإنسان ! وأنه قد استصدر بها من الله إذناً ، فأذن فيها سبحانه لحكمة يراها ! ولم يترك الإنسان فيها مجرداً من العدة ، فقد جعل له من الإيمان جُنة ، وجعل له من الذكر عُدَّة ، وجعل له من الاستعاذة سِلاحاً ، فإذا أغفل الإنسان جُنَّتَه وعُدَّتَه وسِلاَحَه فهو إذن وحده الملوم !
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا غفل وسوس " .
شياطين الإنس :
نحن نعرف عن وسوسة الناس الشيء الكثير ، ونعرف منها ما هو أشد من وسوسة الشياطين !
رفيق السوء الذي يتدسس بالشر إلى قلب رفيقه وعقله من حيث لا يحتسب ومن حيث لا يحترس ، لأنه الرفيق المأمون !
وحاشية الشر التي توسوس لكل ذي سلطان ، حتى تتركه طاغية جباراً مفسداً في الأرض ، مهلكاً للحرث والنسل !
والنمام الواشي الذي يزين الكلام ويزحلقه ، حتى يبدو كأنه الحق الصراح الذي لا مرية فيه .
وبائع الشهوات الذي يدخل من منافذ الغريزة في إغراء لا تدفعه إلا يقظة القلب وعون الله .
وعشرات من الموسوسين الخناسين الذين ينصبون الأحابيل ويخفونها ، ويدخلون بها من منافذ القلوب الخفية التي يعرفونها أو يتحسسونها . . وهم شر من الشياطين وأخفى منهم دبيباً !
والإنسان عاجز عن دفع الوسوسة الخفية . ومن ثم يدله الله على عُدته وجُنته وسلاحه في المعركة الرهيبة !
ضعف وسوسة الشياطين :
وهناك لفتة ذات مغزى في وصف الوسواس بأنه { الخناس } ، فهذه الصفة تدل من جهة على تخفيه واختبائه حتى يجد الفرصة سانحة فيدب ويوسوس ، ولكنها من جهة أخرى توحي بضعفه أمام من يستيقظ لمكره ، ويحمي مداخل صدره . فهو سواء كان من الجنة أم كان من الناس إذا ووجه خنس ، وعاد من حيث أتى ، وقبع واختفى ، أو كما قال الرسول الكريم في تمثيله المصور الدقيق : " فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا غفل وسوس " .
وهذه اللفتة تقوي القلب على مواجهة الوسواس . فهو خناس . ضعيف أمام عدة المؤمن في المعركة .
ولكنها من ناحية أخرى معركة طويلة لا تنتهي أبداً . فهو أبداً قابع خانس ، مترقب للغفلة . واليقظة مرة لا تغني عن اليقظات . . والحرب سجال إلى يوم القيامة ؛ كما صورها القرآن الكريم في مواضع شتى ، ومنها هذه الصورة العجيبة في سورة الإسراء : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً{60} وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً{61} قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً{62} قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً{63} وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً{64} إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } وهذا التصوُّر لطبيعة المعركة ودوافع الشر فيها سواء عن طريق الشيطان مباشرة أو عن طريق عملائه من البشر من شأنه أن يشعر الإنسان أنه ليس مغلوباً على أمره فيها . فإن ربه وملكه وإلهه مسيطر على الخلق كله . وإذا كان قد أذن لإبليس بالحرب ، فهو آخذ بناصيته . وهو لم يسلطه إلا على الذين يغفلون عن ربهم وملكهم وإلههم . فأما من يذكرونه فهم في نجوة من الشر ودواعيه الخفية . فالخير إذن يستند إلى القوة التي لا قوة سواها ، وإلى الحقيقة التي لا حقيقة غيرها . يستند إلى الرب الملك الإله . والشر يستند إلى وسواس خناس ، يضعف عن المواجهة ، ويخنس عند اللقاء ، وينهزم أمام العياذ بالله . .
وهذا أكمل تصور للحقيقة القائمة عن الخير والشر . كما أنه أفضل تصور يحمي القلب من الهزيمة ، ويفعمه بالقوة والثقة والطمأنينة .
لا تنسى ذكر الله :
ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال : ( إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضُراط؛ حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضى التأذين أقبل، فإذا ثوب بالصلاة أدبر، فإذا قضى التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، فيقول : اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يذكر حتى يظل الرجل لم يَدْرِ كَمْ صَلَّى ) . فالشيطان ذكره بأمور ماضية، حدث بها نفسه مما كانت في نفسه من أفعاله ومن غير أفعاله، فبتلك الأمور نسى المصلى كم صلى، ولم يدر كم صلى، فإن النسيان أزال مافي النفس من الذكر، وشغلها بأمر آخر حتى نسي الأول " [ مجموع فتاوى ابن تيمية التفسير 6/2 ] .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) . ولما نام هو وأصحابه عن الصلاة في غزوة خيبر قال لأصحابه : ( ارتحلوا فإن هذا مكان حضرنا فيه شيطان ) . وقال : ( إن الشيطان أتى بلالًا فجعل يهديه كما يهدي الصبي حتى نام ) . / وكان النبي صلى الله عليه وسلم وَكَّلَ بلالًا أن يوقظهم عند الفجر، والنوم الذي يشغل عما أمر به والنعاس من الشيطان، وإن كان معفوًا عنه؛ ولهذا قيل : النعاس في مجلس الذكر من الشيطان، وكذلك الاحتلام في المنام من الشيطان، والنائم لا قلم عليه .
الأذان والوسوسة :
قَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ : عَلَى الْأَذَان هَيْبَةٌ يَشْتَدّ اِنْزِعَاجُ الشَّيْطَان بِسَبَبِهَا ، لِأَنَّهُ لَا يَكَاد يَقَعُ فِي الْأَذَان رِيَاء وَلَا غَفْلَةٌ عِنْدَ النُّطْق بِهِ ، بِخِلَافِ الصَّلَاة فَإِنَّ النَّفْس تَحْضُرُ فِيهَا فَيَفْتَحُ لَهَا الشَّيْطَان أَبْوَاب الْوَسْوَسَة . وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو عَوَانَةَ : " الدَّلِيل عَلَى أَنَّ الْمُؤَذِّن فِي أَذَانه وَإِقَامَته مَنْفِيٌّ عَنْهُ الْوَسْوَسَة وَالرِّيَاء لِتَبَاعُدِ الشَّيْطَان مِنْهُ " [ فتح الباري لابن حجر 2/406 ] .
دفع وسوسة الشيطان :
يكون دفع الوسوسة بذكر الله تعالى ، كما قال تعالى { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون }
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى { تذكروا } أي عقاب الله وجزيل ثوابه ووعده ووعيده فتابوا وأنابوا واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب .
أنواع الوسواس :
قال الغزالي الوسواس أصناف :
الأول : يكون من جهة التلبيس بالحق ، كأن يقول أتترك التنعم باللذات ، فإن العمر طويل ، والصبر عنها طول العمر ألمه عظيم . فإذا ذكر العبد عظيم حق الله ، وعظيم ثوابه وعقابه ، وقال لنفسه الصبر عن الشهوات شديد لكن الصبر على النار أشد منه ، ولا بد من أحدهما فإذا ذكر العبد وعد الله تعالى ووعيده وجدد إيمانه ويقينه خنس الشيطان .
الثاني : أن يكون بتحريك الشهوة إلى المعصية ، ودفعها بالعلم بأنها معصية لله تعالى .
الثالث : أن تكون الوسوسة بمجرد الخواطر ، والفكر في أمرٍ غير الصلاة . فإن أقبل الإنسان على ذكر الله اندفعت ، ثم تعود . ويتصور أن يجتمع الوسوسة من هذا النوع مع الذكر ، كأنهما في موضعين من القلب .
مدافعة وسوسة الشيطان في شأن الإيمان :
يتعرض الشيطان لكثير من أهل الإيمان ، وخاصة أهل العلم منهم بوساوس الكفر التي يلقيها إليهم ، من أجل فتنتهم عن دينهم . قال ابن تيمية المؤمن يبتلى بوساوس الكفر التي يضيق بها صدره ، كما ورد ( أن الصحابة قالوا يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به فقال صلى الله عليه وسلم " الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ) " . وفي حديث آخر ( سُئل النبي صلى الله عليه وسلم في الوسوسة قال " تلك محض الإيمان ) " .
يعني أن حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له ، ودفعه عن القلب ، هو من صريح الإيمان ، كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه . وإنما صار صريحاً لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية فدفعوها ، فخلص الإيمان فصار صريحاً ، قال ومن الناس من يجيب تلك الوساوس فيصير كافراً أو منافقاً ، قال والشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه ، والتقرب إليه ، والاتصال به فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض لغيرهم ، ويعرض للخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة ، قال ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم .
ومن وساوس الشيطان في هذا الباب ما نبه إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " ( يأتي الشيطان أحدكم ، فيقول من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول من خلق ربك ؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله وَلْيَنْتَهِ ) " .
الوسوسة الناشئة عن المبالغة في الاحتياط والورع :
الوسوسة نوع من المبالغة في الورع والاحتياط ، حتى يخرج الموسوس من حدّ الورع إلى ما ليس منه ، وهو التشدد في الدين ، والخروج عن سماحته ويسره ، وعن مسلك السلف الصالحين .
قال الهيتمي في شرحه لحديث " ( الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ) " إن الشيء إذا لم يتنازعه دليلان فهو حلال بين أو حرام بين ، وإن تنازعه سبباهما ، فإن كان سبب التحريم مجرد توهم وتقدير لا مستند له ، كترك التزوج من نساء بلد كبير خشية أن يكون له فيها محرم بنسب أو رضاع أو مصاهرة ، وترك استعمال ماء لمجرد احتمال وقوع نجاسة فيه ، ألغي ولم يلتفت إليه بكل حال ؛ لأن ذلك التجويز هوس ، فالورع فيه وسوسة شيطانية ، إذ ليس فيه من معنى الشبهة شيء ، وإن كان له نوع قوةٍ فالورع مراعاته .
ومن أمثلته ( قوله صلى الله عليه وسلم لمن تزوج امرأة فقالت له امرأة إني قد أرضعتكما " وكيف وقد قيل ؟ دعها عنك ) " ( وقوله لزوجته سودة رضي الله تعالى عنها لما اختصم أخوها عبد الله وسعد بن أبي وقاص في ابن وليدة أبيها زمعة فألحقه صلى الله عليه وسلم بأبيها بحكم الفراش ولكنه رأى فيه شبها بينا بعتبة أخي سعد " احتجبي منه يا سودة ) ".
وصف حال بعض أهل الوسوسة :
قال أبو محمد الجويني الشافعي من الذين يعتريهم الوسواس من يركب رأسه ، ويجاوز حدود الأصول ، وقد رأيت منهم من يكرر تحريمته للمكتوبة حتى يشرف وقتها على الانقضاء ، أو تفوته الجمعة مع الإمام ، أو ركعة منها . وإذا تعاطى الماء للطهارة أسرف منه قلةً أو قِلالاً .
وقال ابن الجوزي وبعض الموسوسين يغسل الثوب الطاهر مراراً ، وربما لمسه مسلم فيغسله . ومنهم من يغسل ثيابه في دجلة ، لا يرى غسلها في البيت يجزئ .
قال وما كانت الصحابة تعمل هذا ، بل قد صلوا في ثياب فارس لما فتحوها ، واستعملوا أكسيتهم ، والشريعة سمحة سليمة من هذه الآفات .
الشبهة التي تؤدي إلى الوسوسة وكشفها :
تنشأ الشبهة المؤدية إلى الوسوسة من التصور الخاطئ لمعنى الاحتياط واتقاء الشبهات المفهوم من ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، وقوله " من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه " .
وقد جرت كثير من مسائل الفقه على قاعدة الاحتياط ، فظن الموسوسون أن ما هم فيه من أمر الوسوسة داخل في قاعدة الاحتياط ، ورأوا أن ذلك خير من التفريط ، كمن لا يبالي كيف يتوضأ ، ولا بأي ماء توضأ ، ولا بأي مكان صلى ، ولا يبالي ما أصاب ثوبه ، فيحمل الأمور كلها على الطهارة ، ورأوا أن الاستقصاء والتشديد والاجتهاد في الاحتياط خير من ذلك .
وقال ابن القيم في معرض كشف شبهات أهل الوسوسة إن الصراط المستقيم الذي أمرنا باتباعه هو قصد السبيل ، وما خرج عنه فهو من السبل الجائرة ، فالميزان الذي يعرف به الاستقامة والجور هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم " إياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين " ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين .
وأهل الوسواس شددوا على أنفسهم فشدد عليهم حتى استحكم ذلك فيهم وصار صفةً لازمة لهم .
فمن أراد التخلص من هذه البلية فليستشعر أن الحق في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله ، وليعزم على سلوك طريقته عزيمة من لا يشك أنه على الصراط المستقيم ، وأن ما خالفه فهو من تسويل إبليس ووسوسته ، ولينظر في أحوال السلف فليقتدِ بهم .
الأحكام الخاصة بأهل الوسواس :
أ ـ تقدير إزالة النجاسة بثلاث غسلات في حق الموسوس :
المفتى به عند الحنفية كما قال الحصكفي وغيره ، أن طهارة محل النجاسة المرئية بقلعها ، ولا يضر بقاء أثر لازم ، وطهارة محل نجاسة غير مرئية تحصل بغلبة ظن غاسلها طهارة محلها . ويقدر ذلك في حق الموسوس بغسلٍ وعصرٍ ثلاثاً فيما ينعصر .
ب ـ اجتناب البول في مكان الاستحمام خشية الوسواس :
نص الحنفية والشافعية والحنابلة على كراهة البول في مكان الاستحمام لحديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ( لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يغتسل فيه " وفي رواية " ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه ) " . وإنما نهي عن ذلك إذا لم يكن له مسلك يذهب فيه البول ، أو كان المكان صلباً فيوهم المغتسل أنه أصابه منه شيء فيحصل به الوسواس .
جـ ـ الانتضاح بعد الاستنجاء من أجل قطع الوسواس :
ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه يستحب لمن استنجى بالماء أن ينضح فرجه وسراويله قطعاً للوسواس ، ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " جاءني جبريل فقال يا محمد إذا توضأت فانضح ) " .
وصرح الحنفية بأن من يعرض له الشيطان كثيراً لا يلتفت إليه بل ينضح فرجه أو سراويله بماء حتى إذا شك حمل البلل على ذلك النضح ما لم يتيقن خلافه . وعن أحمد لا ينضح .
قال الإمام أحمد فيمن ظن خروج شيء من البول بعد الاستنجاء لا تلتفت إليه ، حتى تتيقن ، وَالْهُ عنه ، فإنه من الشيطان ، فإنه يذهب إن شاء الله .
د ـ أثر بلوغ الشك في نية الطهارة إلى درجة الوسواس :
يصرح الحنابلة أن المتوضئ إن شك في أثناء طهارته أنه نوى أو لم ينو ، يلزمه استئناف الوضوء ؛ لأنه عبادة شك في شرطها وهو فيها فلم تصح كالصلاة ، ولا يصح ما فعله منه . لكن إن كان ذلك الشك من قبيل الوهم كالوسواس فلا يلتفت إليه يعني إنه يستمر في وضوئه ولا يستأنف .
هـ ـ التلفظ بنية الصلاة لدفع الوسواس :
ذهب الحنفية في المختار والشافعية والحنابلة في المذهب إلى أن التلفظ بالنية في الصلاة سنة ليوافق اللسان القلب ؛ ولأنه أبعد عن الوسواس .
وذهب بعض الحنفية وبعض الحنابلة إلى أن التلفظ بالنية مكروه .
وقال المالكية بجواز التلفظ بالنية في الصلاة والأولى تركه إلا الموسوس فيستحب له التلفظ ليذهب اللبس والشك .
و ـ الوسوسة بإتيان ركن من أركان الصلاة :
صرح المالكية بأن شك الموسوس كالعدم فإنه يعمد بما شك فيه ويسجد بعد السلام ، فإذا شك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً بنى على الأربع وسجد بعد السلام .
والموسوس ـ كما قال القاضي عبد الوهاب ـ هو الذي يطرأ ذلك عليه في كل صلاة أو في اليوم مرتين أو مرة ، وأما إذا لم يطرأ له ذلك إلا بعد يوم أو يومين فليس بموسوس .
ومذهب الحنابلة مثل ذلك ، قال ابن قدامة " إذا رفع المصلي رأسه من الركوع ، ثم شك هل ركع أم لا ؟ أو هل أتى بالقدر المجزئ أم لا ؟ لم يعتد بركوعه ، وعليه أن يعود فيركع حتى يطمئن راكعاً ، وهذا ما لم يكن ذلك الشك وسواساً ، فلا يلتفت إليه يعني يستمر في صلاته ولا يأتي بركوعٍ آخر غير الذي شك فيه ، وهكذا بقية الأركان .
ز ـ تخلف المأموم عن إمامه في أركان الصلاة بسبب الوسوسة :
صرح الشافعية بأنه يجب على المأموم متابعة الإمام في أفعال الصلاة .
فإن تخلف عنه بركن واحد لم تبطل صلاته ، وإن تخلف بركنين فعليين بطلت إلا من عذر ، والعذر كأن يكون الإمام سريع القراءة ، والمقتدي بطيء القراءة لعجز خلقي لا لوسوسة ظاهرة ، أما الوسوسة الخفيفة فهي عذر ، وأما الوسوسة الظاهرة وهي التي تؤدي إلى التخلف بركنين فعليين فلا يسقط بها عنه شيء من الفاتحة ، كمتعمد تركها ، فله التخلف لإتمامها إلى أن يقرب إمامه من فراغ الركن الثاني ، وحينئذ يتعين عليه مفارقته إن بقي عليه شيء منها لإتمامه لبطلان صلاته بشروع إمامه فيما بعده .
والأوجه عدم الفرق بين استمرارية الوسوسة بعد ركوع الإمام أو تركه لها بعده أو تفويت إكمالها قبل ركوع إمامه نشأ من تقصيره ، بترديده الكلمات من غير بطء خلقي في لسانه ، سواء أنشأ ذلك من تقصيره في التعلم ، أم من شكه في إتمام الحروف بعد فراغه منها .
الموسوس مغلوب على عقله :
أ - طلاق الموسوس :
نقل ابن عابدين عن الليث في مسألة طلاق الموسوس أنه لا يجوز طلاق الموسوس قال يعني المغلوب في عقله .
ونقل ابن القيم إن المطلق إن كان زائل العقل بجنون أو إغماء أو وسوسة لا يقع طلاقه ، قال وهذا المخلص مجمع عليه بين علماء الأمة .
ب ـ ردة الموسوس :
إن تكلم الموسوس بكلام يقتضي الردة لم يكن في حقه ردة ، صرح بذلك الحنفية ، يعنون المغلوب في عقله .
علاج الوسوسة :
سُئِلَ _ بن حجر الهيتمي _ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ دَاءِ الْوَسْوَسَةِ هَلْ لَهُ دَوَاءٌ ؟
فَأَجَابَ : بِقَوْلِهِ : لَهُ دَوَاءٌ نَافِعٌ وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا جُمْلَةً كَافِيَةً .
وَإِنْ كَانَ فِي النَّفْسِ مِنْ التَّرَدُّدِ مَا كَانَ - فَإِنَّهُ مَتَى لَمْ يَلْتَفِتْ لِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ بَلْ يَذْهَبُ بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ كَمَا جَرَّبَ ذَلِكَ الْمُوَفَّقُونَ ، وَأَمَّا مَنْ أَصْغَى إلَيْهَا وَعَمِلَ بِقَضِيَّتِهَا فَإِنَّهَا لَا تَزَالُ تَزْدَادُ بِهِ حَتَّى تُخْرِجَهُ إلَى حَيِّزِ الْمَجَانِينِ بَلْ وَأَقْبَحَ مِنْهُمْ ، كَمَا شَاهَدْنَاهُ فِي كَثِيرِينَ مِمَّنْ اُبْتُلُوا بِهَا وَأَصْغَوْا إلَيْهَا وَإِلَى شَيْطَانِهَا الَّذِي جَاءَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { اتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْوَلْهَانُ } أَيْ : لِمَا فِيهِ مِنْ شِدَّةِ اللَّهْوِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ كَمَا بَيَّنْت ذَلِكَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي شَرْحِ مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ ، وَجَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته وَهُوَ أَنَّ مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْوَسْوَسَةِ فَلْيَعْتَقِدْ بِاَللَّهِ وَلْيَنْتَهِ .
فَتَأَمَّلْ هَذَا الدَّوَاءَ النَّافِعَ الَّذِي عَلَّمَهُ مَنْ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى لِأُمَّتِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ حُرِمَهُ فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ ؛ لِأَنَّ الْوَسْوَسَةَ مِنْ الشَّيْطَانِ اتِّفَاقًا ، وَاللَّعِينُ لَا غَايَةَ لِمُرَادِهِ إلَّا إيقَاعُ الْمُؤْمِنِ فِي وَهْدَةِ الضَّلَالِ وَالْحَيْرَةِ وَنَكَدِ الْعَيْشِ وَظُلْمَةِ النَّفْسِ وَضَجَرِهَا إلَى أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ .
وَهُوَ لَا يَشْعُرُ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاِتَّخِذُوهُ عَدُوًّا .
وَجَاءَ فِي طَرِيقٍ آخَرَ فِيمَنْ اُبْتُلِيَ بِالْوَسْوَسَةِ فَلْيَقُلْ : آمَنْت بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ اسْتَحْضَرَ طَرَائِقَ رُسُلِ اللَّهِ سِيَّمَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ طَرِيقَتَهُ وَشَرِيعَتَهُ سَهْلَةً وَاضِحَةً بَيْضَاءَ بَيِّنَةً سَهْلَةً لَا حَرَجَ فِيهَا وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، وَمَنْ تَأَمَّلَ ذَلِكَ وَآمَنَ بِهِ حَقَّ إيمَانِهِ ذَهَبَ عَنْهُ دَاءُ الْوَسْوَسَةِ وَالْإِصْغَاءِ إلَى شَيْطَانِهَا .
وَفِي كِتَابِ ابْنِ السُّنِّيِّ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { مَنْ بُلِيَ بِهَذَا الْوَسْوَاسِ فَلْيَقُلْ : آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ ثَلَاثًا ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُهُ عَنْهُ } .
وَذَكَرَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرُهُ نَحْوَ مَا قَدَّمْته فَقَالُوا : دَوَاءُ الْوَسْوَسَةِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ خَاطِرٌ شَيْطَانِيٌّ ، وَأَنَّ إبْلِيسَ هُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُقَاتِلُهُ ، فَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُ الْمُجَاهِدِ ؛ لِأَنَّهُ يُحَارِبُ عَدُوَّ اللَّهِ ، فَإِذَا اسْتَشْعَرَ ذَلِكَ فَرَّ عَنْهُ ، وَأَنَّهُ مِمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ نَوْعُ الْإِنْسَانِ مِنْ أَوَّلِ الزَّمَانِ وَسَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِحْنَةً لَهُ ؛ لِيُحِقَّ اللَّهُ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ .
وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي فَقَالَ : ذَلِكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ ، فَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِك ثَلَاثًا ، فَفَعَلْت فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي .
وَفِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَطَاءٍ قَالَ : ضَاقَ صَدْرِي لَيْلَةً لِكَثْرَةِ مَا صَبَبْت مِنْ الْمَاءِ ، وَلَمْ يَسْكُنْ قَلْبِي فَقُلْت : يَا رَبِّ عَفْوَك ، فَسَمِعْت هَاتِفًا يَقُولُ : الْعَفْوُ فِي الْعِلْمِ ؛ فَزَالَ ذَلِكَ عَنِّي ا هـ .
وَبِهِ تَعْلَمُ صِحَّةَ مَا قَدَّمْته أَنَّ الْوَسْوَسَةَ لَا تُسَلَّطُ إلَّا عَلَى مَنْ اسْتَحْكَمَ عَلَيْهِ الْجَهْلُ وَالْخَبَلُ وَصَارَ لَا تَمْيِيزَ لَهُ ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ الِاتِّبَاعِ وَلَا يَمِيلُ إلَى الِابْتِدَاعِ .
وَأَقْبَحُ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُوَسْوَسُونَ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ شَيْخِهِ رَبِيعَةَ - إمَامِ أَهْلِ زَمَنِهِ - : كَانَ رَبِيعَةُ أَسْرَعَ النَّاسِ فِي أَمْرَيْنِ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَالْوُضُوءِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ غَيْرَهُ - قُلْت : مَا فَعَلَ .
وَكَانَ ابْنُ هُرْمُزَ بَطِيءَ الِاسْتِبْرَاءِ وَالْوُضُوءِ ، وَيَقُولُ : مُبْتَلًى لَا تَقْتَدُوا بِي .
وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ بُلِيَ بِالْوَسْوَسَةِ فِي الْوُضُوءِ ، أَوْ الصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ إذَا سَمِعَ الذِّكْرَ خَنَسَ ؛ أَيْ : تَأَخَّرَ وَبَعُدَ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ - رَأْسُ الذِّكْرِ وَلِذَلِكَ اخْتَارَ صَفْوَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ - مِنْ أَصْحَابِ التَّرْبِيَةِ وَتَأْدِيبِ الْمُرِيدِ - قَوْلَ ( لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ) لِأَهْلِ الْخَلْوَةِ ، وَأَمَرُوهُمْ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا ، وَقَالُوا : أَنْفَعُ عِلَاجٍ فِي دَفْعِ الْوَسْوَسَةِ الْإِقْبَالُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا شَكَوْت إلَى الدَّارَانِيِّ الْوَسْوَسَةَ فَقَالَ : إذَا أَرَدْت قَطْعَهُ فَمَتَى أَحْسَسْت بِهِ فَافْرَحْ فَإِذَا فَرِحْت انْقَطَعَ عَنْك فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَى الشَّيْطَانِ مِنْ سُرُورِ الْمُؤْمِنِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ إنَّمَا يُبْتَلَى بِهِ مَنْ كَمُلَ إيمَانُهُ ؛ فَإِنَّ اللِّصَّ لَا يَسْرِقُ مِنْ بَيْتِ لِصٍّ مِثْلِهِ ا هـ .
وَهَذَا إنْ سَلِمَ فَهُوَ فِي الْوَسْوَاسِ فِي الْعَقَائِدِ ؛ لِمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَحْضُ الْإِيمَانِ .
عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ ابْنَ عَرَفَةَ قَالَ إنَّمَا يُبْتَلَى بِهِ فِي الدِّينِ مَنْ أَخَذَهُ تَقْلِيدًا دُونَ مَنْ عَرَفَ بَرَاهِينَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَسْوَاسَ شَكٌّ وَهُوَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ الْمُسْتَنِدِ إلَى دَلِيلٍ لِكَوْنِهِ ضِدَّهُ .
وَقَالَ الْعَارِفُ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ : إذَا كَثُرَ عَلَيْك الْوَسْوَاسُ فَقُلْ : سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْخَلَّاقِ { إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } ، أَذْهَبَ اللَّهُ عَنَّا سَائِرَ الْمَضَارِّ وَالْمَخَاوِفِ وَالْفِتَنِ ، وَأَنَالَنَا كُلَّ خُلُقٍ حَسَنٍ ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِ وِلَايَةِ أَهْلِ النِّعَمِ وَالْمِنَنِ إنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ [ الفتاوى الفقهية الكبرى 2/51 ] .
التخلص من وسوسة الشيطان :
يتم التخلص من هذه الوسوسة وذلك في النقاط التالية :
الأولى :
تحريك جذوة الإيمان التي في فؤادك بأن ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، قال تعالى : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) التكوير/29 ، وما الموت إلا من قضاء الله وقدره الذي لا حيلة لابن آدم في دفعه ، أو الحيلولة
دون وقوعه ، قال تعالى : ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) يونس /49 ، وقال تعالى : ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) النساء / 78
وإذا كان كذلك فإن الخوف من الموت لا يؤخر ولا يقدم ، ولن تجني منه سوى النكد والأسى ، فلن يأتيك أجلك إلا إذا أراد الله في وقته المعلوم ، لن يتقدم عن ذلك ، سواءً خفت من الموت أو لم تخف ، وسواءً فكرت في نهايتك كيف ستكون أم لا ، كل مافي الأمر أنك لن تجني من خوفك هذا إلا ضيق الصدر ونكد المعاش ، وهذا خلاف ما أراد الله للمؤمنين من الحياة الهانئة المستقرة المطمئنة قال تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل /97 .
الثانية :
تذكر لطف الله بعباده المؤمنين ورحمته بهم ، فإنه الودود الرحيم الغفور ، الذي سبقت رحمته غضبه ، يمن على العاصين بالمغفرة الواسعة ، قال تعالى : ( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ) النساء /147
والمؤمن موعود بالجنة إذا مات ، فلا يحول بينه وبين الجنة إلا الموت ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (ما من عبد يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار ) رواه مسلم 47
الثالثة :
كن دائم التوكل على الله تعالى في كل أمورك ، واعلم أن في التوكل قطعاً لدابر الوسوسة وحسماً لمادتها ، وإذا عزمت على فعل فلا تلتفت إلى الخلف ، وإذا شعرت بهذه الهواجس فالجأ إلى الله تعالى بالاستعاذة قال تعالى : ( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) الأعراف/200
الرابعة :
ارفع رأسك للأمام وابدأ حياتك اليومية بكل ثبات ويقين ، وباشر كل أعمالك بنشاط وطمأنينة ، فكم في هذه الدنيا من المبشرات التي تبعث الأنس والطمأنينة في النفوس لتألف نظرة مشرقة متفائلة ، تعيد للإنسان الأمل وتزرع في النفس اليقين .
الخامسة :
عليك بكثرة الدعاء أن يطرد الله عنك هذه الوساوس ، ادعه بكل خشوع وتضرع ، مظهراً له العجز والفقر ، وثق تماماً أنه يجيبك على ذلك ، قال تعالى : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) البقرة /186
وأما الذين يموتون بسبب الحوادث ؛ فلا يدل موتهم بهذه الطريقة على سوئهم أبداً ، بل ربما مات بهذه الطريقة من هو في عداد الصالحين ، وتأمل هذا الحديث النبوي الشريف الذي سيعينك على إزالة هذا الإشكال ، قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) رواه البخاري
فانظر إلى من يموت بالغرق ، أو يموت بالحرق ، أو من يموت بالهدم أليس كل ذلك مما يفزع ، ولكن ذلك لم يدل على سوئهم ، بل سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم شهداء ، وهي قمة الكرامة والشرف ، فليس طريقة الموت مؤشراً على سوء الميت ، ولكن الله تعالى بحكمته يقضي أن يموت بعض الناس بهذا ،ربما لكي يرفع منازلهم في الجنة ، أو ليكفر عنهم ذنوبهم ، أو لحِكم أخرى لا نعلمها .
السادسة :
البعد عن المعاصي والمخالفات التي هي سبب تسلط إبليس على بني آدم ، قال الله
تعالى: ( إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ) النحل/ 99 .
فالوسوسة نوع من المرض ، عافانا الله وإياك منه ، وهي من تسلط الشيطان على الإنسان ليُدْخِل عليه الهم والحزن والكرب والضيق .
والوسوسة أنواع ، فمن ذلك : الوسوسة في الطلاق ، فيظن الموسوس أنه طلق زوجته ، ويحدِّث نفسه بالطلاق ، ويعتريه الشك هل تلفظ بالطلاق أم لا ؟ هل طلق أو لا ، ويبقى في حيرة من أمره ، مع أنه لا يريد طلاق زوجته ولا يرغب في ذلك .
وبعضهم إذا تكلم بكلمة معينة أو لم يَرُدَّ على زوجته ، ظن أن الطلاق يقع بذلك ، وأن هذا كناية عن الطلاق ، وكل هذا وهم لا حقيقة له ، وربما شعر أن الكلمات خرجت من فمه وأنه سمعها . فمثل هذا المبتلى حتى لو فرض أنه تكلم بكلام مسموع ، فما دام أنه موسوس ، ولم يُرِد الطلاق إرادة حقيقية ، فلا يقع طلاقه ، هذا معنى كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله المنقول في فتاوى إسلامية .
ومن وسوسة الشيطان ما يبثه في روع المصلي والمتوضئ ، فلا يزال بالعبد في وضوئه حتى يفوته خير كثير ، فيبقى العبد يتابع الشيطان في نزغه ونزعه حتى يفسد عليه دينه ، ولا يزال به في صلاته حتى يخرج منها ولم يعقل منها شيء ، فترمى في وجهه وتقول : ضيعك الله كما ضيعتني ، فترد علبه .
ومن وسوسة الشيطان أنه يلقي في قلب العبد الغضب ، فلا يزال به حتى يطلق زوجته أو يضربها ضرباً مؤلماً أو يُسمعها من الكلام ما تتمنى معه الموت ، أو ربما سفك دماً ، ألا فلا تنساق أيها المسلم مع عدوك اللدود ، فإنه لا يريد منك إلا الفراق ، وقطع الصلة والطلاق ، فاحذر عدوك أشد الحذر .
قال الله تعالى : { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأعراف200 ] .
وقال الله عز وجل : { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ فصلت36 ] .
ومعنى ينزغنك : يصيبنك أو يلقين ويعرض لك عند الغضب وسوسة بما لا يحل .
فاستعذ بالله أي : اطلب النجاة من ذلك بالله .
فأمر تعالى أن يدفع الوسوسة بالالتجاء إليه والاستعاذة به ، ولله المثل الأعلى .
فلا يستعاذ من الخلق إلا بالخالق جل وعلا .
وقد حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه : ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا ؟ قال : أجاهده .
قال : فإن عاد ؟ قال : أجاهده .
قال : فإن عاد ؟ قال : أجاهده .
قال : هذا يطول ، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبها ومنعك من العبور ما تصنع ؟ قال : أكابده وأرده جهدي .
قال : هذا يطول عليك ، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك .
فلما يئس الشيطان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالإغراء والإضلال أخذ يشوش عليهم أوقاتهم بتلك الألقيات .
والوساوس : الترهات ، فنفرت عنها قلوبهم وعظم عليهم وقوعها عندهم ، فجاءوا كما في الصحيح فقالوا : يا رسول الله ، إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به ، قال : " أو قد وجدتموه " ؟ قالوا : نعم ، قال : " ذلك صريح الإيمان " .
رغماً للشيطان حسب ما نطق به القرآن في قوله تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } .
فالخواطر التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها الشبهة فهي التي تدفع بالإعراض عنها ، وعلى مثلها يطلق اسم الوسوسة [ تفسير القرطبي 7/348 ] .
الشيطان ينزغ بين الناس ، يفرق بينهم ، ويضرم بينهم نار العداوة والبغضاء ، ويُذكرهم بأمور حصلت قديماً حتى يثأر بعضهم من بعض ، وهذه قصة فيها عبرة للمعتبرين : قال عصام بن المصطلق : دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي عليهما السلام ، فأعجبني سمته وحسن روائه ، فأثار مني الحسد ما كان يجنه صدري لأبيه من البغض ، فقلت : أنت ابن أبي طالب ! قال نعم ، فبالغت في شتمه وشتم أبيه ، فنظر إلي نظرة عاطف رءوف ، ثم قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [ الأعراف 199-201 ] ، ثم قال لي : خفض عليك ، استغفر الله لي ولك ، إنك لو استعنتنا أعناك ، ولو استرفدتنا أرفدناك ، ولو استرشدتنا أرشدناك ، فتوسم في الندم على ما فرط مني فقال : { قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [ يوسف92 ] أمن أهل الشام أنت ؟ قلت : نعم ، فقال : شنشنة _ عادة أو طبيعة _ أعرفها من أخزم _ وكان أخزم عاقا لأبيه ، فمات وترك بنين عقوا جدهم وضربوه وأدموه ، فقال ذلك ، أي إنهم أشبهوا أباهم في العقوق _ حياك الله وبياك ، وعافاك ، وآداك _ أعانك _ ، انبسط إلينا _ لا تخجل _ في حوائجك وما يعرض لك ، تجدنا عند أفضل ظنك إن شاء الله ، قال عصام : فضاقت علي الأرض بما رحبت ، ووددت أنها ساخت بي ، ثم تسللت منه لواذاً _ استتاراً _ وما على وجه الأرض أحب إلي منه ومن أبيه .
وقد روى الحاكم عن سليمان بن صدر قال : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد غضب أحدهما ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " فقال الرجل : أمجنوناً تراني ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأعراف200 ] " [ في ظلال القرآن 8/ 134 ] .
استعمل سلاحك :
الشيطان قد أعلنها حرباً تنبثق من خليقة الشر فيه ، ومن كبريائه وحسده وحقده على الإنسان ! وأنه قد استصدر بها من الله إذناً ، فأذن فيها سبحانه لحكمة يراها ! ولم يترك الإنسان فيها مجرداً من العدة ، فقد جعل له من الإيمان جُنة ، وجعل له من الذكر عُدَّة ، وجعل له من الاستعاذة سِلاحاً ، فإذا أغفل الإنسان جُنَّتَه وعُدَّتَه وسِلاَحَه فهو إذن وحده الملوم !
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا غفل وسوس " .
شياطين الإنس :
نحن نعرف عن وسوسة الناس الشيء الكثير ، ونعرف منها ما هو أشد من وسوسة الشياطين !
رفيق السوء الذي يتدسس بالشر إلى قلب رفيقه وعقله من حيث لا يحتسب ومن حيث لا يحترس ، لأنه الرفيق المأمون !
وحاشية الشر التي توسوس لكل ذي سلطان ، حتى تتركه طاغية جباراً مفسداً في الأرض ، مهلكاً للحرث والنسل !
والنمام الواشي الذي يزين الكلام ويزحلقه ، حتى يبدو كأنه الحق الصراح الذي لا مرية فيه .
وبائع الشهوات الذي يدخل من منافذ الغريزة في إغراء لا تدفعه إلا يقظة القلب وعون الله .
وعشرات من الموسوسين الخناسين الذين ينصبون الأحابيل ويخفونها ، ويدخلون بها من منافذ القلوب الخفية التي يعرفونها أو يتحسسونها . . وهم شر من الشياطين وأخفى منهم دبيباً !
والإنسان عاجز عن دفع الوسوسة الخفية . ومن ثم يدله الله على عُدته وجُنته وسلاحه في المعركة الرهيبة !
ضعف وسوسة الشياطين :
وهناك لفتة ذات مغزى في وصف الوسواس بأنه { الخناس } ، فهذه الصفة تدل من جهة على تخفيه واختبائه حتى يجد الفرصة سانحة فيدب ويوسوس ، ولكنها من جهة أخرى توحي بضعفه أمام من يستيقظ لمكره ، ويحمي مداخل صدره . فهو سواء كان من الجنة أم كان من الناس إذا ووجه خنس ، وعاد من حيث أتى ، وقبع واختفى ، أو كما قال الرسول الكريم في تمثيله المصور الدقيق : " فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا غفل وسوس " .
وهذه اللفتة تقوي القلب على مواجهة الوسواس . فهو خناس . ضعيف أمام عدة المؤمن في المعركة .
ولكنها من ناحية أخرى معركة طويلة لا تنتهي أبداً . فهو أبداً قابع خانس ، مترقب للغفلة . واليقظة مرة لا تغني عن اليقظات . . والحرب سجال إلى يوم القيامة ؛ كما صورها القرآن الكريم في مواضع شتى ، ومنها هذه الصورة العجيبة في سورة الإسراء : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً{60} وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً{61} قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً{62} قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً{63} وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً{64} إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } وهذا التصوُّر لطبيعة المعركة ودوافع الشر فيها سواء عن طريق الشيطان مباشرة أو عن طريق عملائه من البشر من شأنه أن يشعر الإنسان أنه ليس مغلوباً على أمره فيها . فإن ربه وملكه وإلهه مسيطر على الخلق كله . وإذا كان قد أذن لإبليس بالحرب ، فهو آخذ بناصيته . وهو لم يسلطه إلا على الذين يغفلون عن ربهم وملكهم وإلههم . فأما من يذكرونه فهم في نجوة من الشر ودواعيه الخفية . فالخير إذن يستند إلى القوة التي لا قوة سواها ، وإلى الحقيقة التي لا حقيقة غيرها . يستند إلى الرب الملك الإله . والشر يستند إلى وسواس خناس ، يضعف عن المواجهة ، ويخنس عند اللقاء ، وينهزم أمام العياذ بالله . .
وهذا أكمل تصور للحقيقة القائمة عن الخير والشر . كما أنه أفضل تصور يحمي القلب من الهزيمة ، ويفعمه بالقوة والثقة والطمأنينة .
لا تنسى ذكر الله :
ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال : ( إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضُراط؛ حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضى التأذين أقبل، فإذا ثوب بالصلاة أدبر، فإذا قضى التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، فيقول : اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يذكر حتى يظل الرجل لم يَدْرِ كَمْ صَلَّى ) . فالشيطان ذكره بأمور ماضية، حدث بها نفسه مما كانت في نفسه من أفعاله ومن غير أفعاله، فبتلك الأمور نسى المصلى كم صلى، ولم يدر كم صلى، فإن النسيان أزال مافي النفس من الذكر، وشغلها بأمر آخر حتى نسي الأول " [ مجموع فتاوى ابن تيمية التفسير 6/2 ] .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) . ولما نام هو وأصحابه عن الصلاة في غزوة خيبر قال لأصحابه : ( ارتحلوا فإن هذا مكان حضرنا فيه شيطان ) . وقال : ( إن الشيطان أتى بلالًا فجعل يهديه كما يهدي الصبي حتى نام ) . / وكان النبي صلى الله عليه وسلم وَكَّلَ بلالًا أن يوقظهم عند الفجر، والنوم الذي يشغل عما أمر به والنعاس من الشيطان، وإن كان معفوًا عنه؛ ولهذا قيل : النعاس في مجلس الذكر من الشيطان، وكذلك الاحتلام في المنام من الشيطان، والنائم لا قلم عليه .
الأذان والوسوسة :
قَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ : عَلَى الْأَذَان هَيْبَةٌ يَشْتَدّ اِنْزِعَاجُ الشَّيْطَان بِسَبَبِهَا ، لِأَنَّهُ لَا يَكَاد يَقَعُ فِي الْأَذَان رِيَاء وَلَا غَفْلَةٌ عِنْدَ النُّطْق بِهِ ، بِخِلَافِ الصَّلَاة فَإِنَّ النَّفْس تَحْضُرُ فِيهَا فَيَفْتَحُ لَهَا الشَّيْطَان أَبْوَاب الْوَسْوَسَة . وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو عَوَانَةَ : " الدَّلِيل عَلَى أَنَّ الْمُؤَذِّن فِي أَذَانه وَإِقَامَته مَنْفِيٌّ عَنْهُ الْوَسْوَسَة وَالرِّيَاء لِتَبَاعُدِ الشَّيْطَان مِنْهُ " [ فتح الباري لابن حجر 2/406 ] .
دفع وسوسة الشيطان :
يكون دفع الوسوسة بذكر الله تعالى ، كما قال تعالى { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون }
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى { تذكروا } أي عقاب الله وجزيل ثوابه ووعده ووعيده فتابوا وأنابوا واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب .
أنواع الوسواس :
قال الغزالي الوسواس أصناف :
الأول : يكون من جهة التلبيس بالحق ، كأن يقول أتترك التنعم باللذات ، فإن العمر طويل ، والصبر عنها طول العمر ألمه عظيم . فإذا ذكر العبد عظيم حق الله ، وعظيم ثوابه وعقابه ، وقال لنفسه الصبر عن الشهوات شديد لكن الصبر على النار أشد منه ، ولا بد من أحدهما فإذا ذكر العبد وعد الله تعالى ووعيده وجدد إيمانه ويقينه خنس الشيطان .
الثاني : أن يكون بتحريك الشهوة إلى المعصية ، ودفعها بالعلم بأنها معصية لله تعالى .
الثالث : أن تكون الوسوسة بمجرد الخواطر ، والفكر في أمرٍ غير الصلاة . فإن أقبل الإنسان على ذكر الله اندفعت ، ثم تعود . ويتصور أن يجتمع الوسوسة من هذا النوع مع الذكر ، كأنهما في موضعين من القلب .
مدافعة وسوسة الشيطان في شأن الإيمان :
يتعرض الشيطان لكثير من أهل الإيمان ، وخاصة أهل العلم منهم بوساوس الكفر التي يلقيها إليهم ، من أجل فتنتهم عن دينهم . قال ابن تيمية المؤمن يبتلى بوساوس الكفر التي يضيق بها صدره ، كما ورد ( أن الصحابة قالوا يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به فقال صلى الله عليه وسلم " الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ) " . وفي حديث آخر ( سُئل النبي صلى الله عليه وسلم في الوسوسة قال " تلك محض الإيمان ) " .
يعني أن حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له ، ودفعه عن القلب ، هو من صريح الإيمان ، كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه . وإنما صار صريحاً لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية فدفعوها ، فخلص الإيمان فصار صريحاً ، قال ومن الناس من يجيب تلك الوساوس فيصير كافراً أو منافقاً ، قال والشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه ، والتقرب إليه ، والاتصال به فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض لغيرهم ، ويعرض للخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة ، قال ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم .
ومن وساوس الشيطان في هذا الباب ما نبه إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " ( يأتي الشيطان أحدكم ، فيقول من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول من خلق ربك ؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله وَلْيَنْتَهِ ) " .
الوسوسة الناشئة عن المبالغة في الاحتياط والورع :
الوسوسة نوع من المبالغة في الورع والاحتياط ، حتى يخرج الموسوس من حدّ الورع إلى ما ليس منه ، وهو التشدد في الدين ، والخروج عن سماحته ويسره ، وعن مسلك السلف الصالحين .
قال الهيتمي في شرحه لحديث " ( الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ) " إن الشيء إذا لم يتنازعه دليلان فهو حلال بين أو حرام بين ، وإن تنازعه سبباهما ، فإن كان سبب التحريم مجرد توهم وتقدير لا مستند له ، كترك التزوج من نساء بلد كبير خشية أن يكون له فيها محرم بنسب أو رضاع أو مصاهرة ، وترك استعمال ماء لمجرد احتمال وقوع نجاسة فيه ، ألغي ولم يلتفت إليه بكل حال ؛ لأن ذلك التجويز هوس ، فالورع فيه وسوسة شيطانية ، إذ ليس فيه من معنى الشبهة شيء ، وإن كان له نوع قوةٍ فالورع مراعاته .
ومن أمثلته ( قوله صلى الله عليه وسلم لمن تزوج امرأة فقالت له امرأة إني قد أرضعتكما " وكيف وقد قيل ؟ دعها عنك ) " ( وقوله لزوجته سودة رضي الله تعالى عنها لما اختصم أخوها عبد الله وسعد بن أبي وقاص في ابن وليدة أبيها زمعة فألحقه صلى الله عليه وسلم بأبيها بحكم الفراش ولكنه رأى فيه شبها بينا بعتبة أخي سعد " احتجبي منه يا سودة ) ".
وصف حال بعض أهل الوسوسة :
قال أبو محمد الجويني الشافعي من الذين يعتريهم الوسواس من يركب رأسه ، ويجاوز حدود الأصول ، وقد رأيت منهم من يكرر تحريمته للمكتوبة حتى يشرف وقتها على الانقضاء ، أو تفوته الجمعة مع الإمام ، أو ركعة منها . وإذا تعاطى الماء للطهارة أسرف منه قلةً أو قِلالاً .
وقال ابن الجوزي وبعض الموسوسين يغسل الثوب الطاهر مراراً ، وربما لمسه مسلم فيغسله . ومنهم من يغسل ثيابه في دجلة ، لا يرى غسلها في البيت يجزئ .
قال وما كانت الصحابة تعمل هذا ، بل قد صلوا في ثياب فارس لما فتحوها ، واستعملوا أكسيتهم ، والشريعة سمحة سليمة من هذه الآفات .
الشبهة التي تؤدي إلى الوسوسة وكشفها :
تنشأ الشبهة المؤدية إلى الوسوسة من التصور الخاطئ لمعنى الاحتياط واتقاء الشبهات المفهوم من ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، وقوله " من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه " .
وقد جرت كثير من مسائل الفقه على قاعدة الاحتياط ، فظن الموسوسون أن ما هم فيه من أمر الوسوسة داخل في قاعدة الاحتياط ، ورأوا أن ذلك خير من التفريط ، كمن لا يبالي كيف يتوضأ ، ولا بأي ماء توضأ ، ولا بأي مكان صلى ، ولا يبالي ما أصاب ثوبه ، فيحمل الأمور كلها على الطهارة ، ورأوا أن الاستقصاء والتشديد والاجتهاد في الاحتياط خير من ذلك .
وقال ابن القيم في معرض كشف شبهات أهل الوسوسة إن الصراط المستقيم الذي أمرنا باتباعه هو قصد السبيل ، وما خرج عنه فهو من السبل الجائرة ، فالميزان الذي يعرف به الاستقامة والجور هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم " إياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين " ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين .
وأهل الوسواس شددوا على أنفسهم فشدد عليهم حتى استحكم ذلك فيهم وصار صفةً لازمة لهم .
فمن أراد التخلص من هذه البلية فليستشعر أن الحق في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله ، وليعزم على سلوك طريقته عزيمة من لا يشك أنه على الصراط المستقيم ، وأن ما خالفه فهو من تسويل إبليس ووسوسته ، ولينظر في أحوال السلف فليقتدِ بهم .
الأحكام الخاصة بأهل الوسواس :
أ ـ تقدير إزالة النجاسة بثلاث غسلات في حق الموسوس :
المفتى به عند الحنفية كما قال الحصكفي وغيره ، أن طهارة محل النجاسة المرئية بقلعها ، ولا يضر بقاء أثر لازم ، وطهارة محل نجاسة غير مرئية تحصل بغلبة ظن غاسلها طهارة محلها . ويقدر ذلك في حق الموسوس بغسلٍ وعصرٍ ثلاثاً فيما ينعصر .
ب ـ اجتناب البول في مكان الاستحمام خشية الوسواس :
نص الحنفية والشافعية والحنابلة على كراهة البول في مكان الاستحمام لحديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ( لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يغتسل فيه " وفي رواية " ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه ) " . وإنما نهي عن ذلك إذا لم يكن له مسلك يذهب فيه البول ، أو كان المكان صلباً فيوهم المغتسل أنه أصابه منه شيء فيحصل به الوسواس .
جـ ـ الانتضاح بعد الاستنجاء من أجل قطع الوسواس :
ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه يستحب لمن استنجى بالماء أن ينضح فرجه وسراويله قطعاً للوسواس ، ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " جاءني جبريل فقال يا محمد إذا توضأت فانضح ) " .
وصرح الحنفية بأن من يعرض له الشيطان كثيراً لا يلتفت إليه بل ينضح فرجه أو سراويله بماء حتى إذا شك حمل البلل على ذلك النضح ما لم يتيقن خلافه . وعن أحمد لا ينضح .
قال الإمام أحمد فيمن ظن خروج شيء من البول بعد الاستنجاء لا تلتفت إليه ، حتى تتيقن ، وَالْهُ عنه ، فإنه من الشيطان ، فإنه يذهب إن شاء الله .
د ـ أثر بلوغ الشك في نية الطهارة إلى درجة الوسواس :
يصرح الحنابلة أن المتوضئ إن شك في أثناء طهارته أنه نوى أو لم ينو ، يلزمه استئناف الوضوء ؛ لأنه عبادة شك في شرطها وهو فيها فلم تصح كالصلاة ، ولا يصح ما فعله منه . لكن إن كان ذلك الشك من قبيل الوهم كالوسواس فلا يلتفت إليه يعني إنه يستمر في وضوئه ولا يستأنف .
هـ ـ التلفظ بنية الصلاة لدفع الوسواس :
ذهب الحنفية في المختار والشافعية والحنابلة في المذهب إلى أن التلفظ بالنية في الصلاة سنة ليوافق اللسان القلب ؛ ولأنه أبعد عن الوسواس .
وذهب بعض الحنفية وبعض الحنابلة إلى أن التلفظ بالنية مكروه .
وقال المالكية بجواز التلفظ بالنية في الصلاة والأولى تركه إلا الموسوس فيستحب له التلفظ ليذهب اللبس والشك .
و ـ الوسوسة بإتيان ركن من أركان الصلاة :
صرح المالكية بأن شك الموسوس كالعدم فإنه يعمد بما شك فيه ويسجد بعد السلام ، فإذا شك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً بنى على الأربع وسجد بعد السلام .
والموسوس ـ كما قال القاضي عبد الوهاب ـ هو الذي يطرأ ذلك عليه في كل صلاة أو في اليوم مرتين أو مرة ، وأما إذا لم يطرأ له ذلك إلا بعد يوم أو يومين فليس بموسوس .
ومذهب الحنابلة مثل ذلك ، قال ابن قدامة " إذا رفع المصلي رأسه من الركوع ، ثم شك هل ركع أم لا ؟ أو هل أتى بالقدر المجزئ أم لا ؟ لم يعتد بركوعه ، وعليه أن يعود فيركع حتى يطمئن راكعاً ، وهذا ما لم يكن ذلك الشك وسواساً ، فلا يلتفت إليه يعني يستمر في صلاته ولا يأتي بركوعٍ آخر غير الذي شك فيه ، وهكذا بقية الأركان .
ز ـ تخلف المأموم عن إمامه في أركان الصلاة بسبب الوسوسة :
صرح الشافعية بأنه يجب على المأموم متابعة الإمام في أفعال الصلاة .
فإن تخلف عنه بركن واحد لم تبطل صلاته ، وإن تخلف بركنين فعليين بطلت إلا من عذر ، والعذر كأن يكون الإمام سريع القراءة ، والمقتدي بطيء القراءة لعجز خلقي لا لوسوسة ظاهرة ، أما الوسوسة الخفيفة فهي عذر ، وأما الوسوسة الظاهرة وهي التي تؤدي إلى التخلف بركنين فعليين فلا يسقط بها عنه شيء من الفاتحة ، كمتعمد تركها ، فله التخلف لإتمامها إلى أن يقرب إمامه من فراغ الركن الثاني ، وحينئذ يتعين عليه مفارقته إن بقي عليه شيء منها لإتمامه لبطلان صلاته بشروع إمامه فيما بعده .
والأوجه عدم الفرق بين استمرارية الوسوسة بعد ركوع الإمام أو تركه لها بعده أو تفويت إكمالها قبل ركوع إمامه نشأ من تقصيره ، بترديده الكلمات من غير بطء خلقي في لسانه ، سواء أنشأ ذلك من تقصيره في التعلم ، أم من شكه في إتمام الحروف بعد فراغه منها .
الموسوس مغلوب على عقله :
أ - طلاق الموسوس :
نقل ابن عابدين عن الليث في مسألة طلاق الموسوس أنه لا يجوز طلاق الموسوس قال يعني المغلوب في عقله .
ونقل ابن القيم إن المطلق إن كان زائل العقل بجنون أو إغماء أو وسوسة لا يقع طلاقه ، قال وهذا المخلص مجمع عليه بين علماء الأمة .
ب ـ ردة الموسوس :
إن تكلم الموسوس بكلام يقتضي الردة لم يكن في حقه ردة ، صرح بذلك الحنفية ، يعنون المغلوب في عقله .
علاج الوسوسة :
سُئِلَ _ بن حجر الهيتمي _ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ دَاءِ الْوَسْوَسَةِ هَلْ لَهُ دَوَاءٌ ؟
فَأَجَابَ : بِقَوْلِهِ : لَهُ دَوَاءٌ نَافِعٌ وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا جُمْلَةً كَافِيَةً .
وَإِنْ كَانَ فِي النَّفْسِ مِنْ التَّرَدُّدِ مَا كَانَ - فَإِنَّهُ مَتَى لَمْ يَلْتَفِتْ لِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ بَلْ يَذْهَبُ بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ كَمَا جَرَّبَ ذَلِكَ الْمُوَفَّقُونَ ، وَأَمَّا مَنْ أَصْغَى إلَيْهَا وَعَمِلَ بِقَضِيَّتِهَا فَإِنَّهَا لَا تَزَالُ تَزْدَادُ بِهِ حَتَّى تُخْرِجَهُ إلَى حَيِّزِ الْمَجَانِينِ بَلْ وَأَقْبَحَ مِنْهُمْ ، كَمَا شَاهَدْنَاهُ فِي كَثِيرِينَ مِمَّنْ اُبْتُلُوا بِهَا وَأَصْغَوْا إلَيْهَا وَإِلَى شَيْطَانِهَا الَّذِي جَاءَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { اتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْوَلْهَانُ } أَيْ : لِمَا فِيهِ مِنْ شِدَّةِ اللَّهْوِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ كَمَا بَيَّنْت ذَلِكَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي شَرْحِ مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ ، وَجَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته وَهُوَ أَنَّ مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْوَسْوَسَةِ فَلْيَعْتَقِدْ بِاَللَّهِ وَلْيَنْتَهِ .
فَتَأَمَّلْ هَذَا الدَّوَاءَ النَّافِعَ الَّذِي عَلَّمَهُ مَنْ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى لِأُمَّتِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ حُرِمَهُ فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ ؛ لِأَنَّ الْوَسْوَسَةَ مِنْ الشَّيْطَانِ اتِّفَاقًا ، وَاللَّعِينُ لَا غَايَةَ لِمُرَادِهِ إلَّا إيقَاعُ الْمُؤْمِنِ فِي وَهْدَةِ الضَّلَالِ وَالْحَيْرَةِ وَنَكَدِ الْعَيْشِ وَظُلْمَةِ النَّفْسِ وَضَجَرِهَا إلَى أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ .
وَهُوَ لَا يَشْعُرُ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاِتَّخِذُوهُ عَدُوًّا .
وَجَاءَ فِي طَرِيقٍ آخَرَ فِيمَنْ اُبْتُلِيَ بِالْوَسْوَسَةِ فَلْيَقُلْ : آمَنْت بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ اسْتَحْضَرَ طَرَائِقَ رُسُلِ اللَّهِ سِيَّمَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ طَرِيقَتَهُ وَشَرِيعَتَهُ سَهْلَةً وَاضِحَةً بَيْضَاءَ بَيِّنَةً سَهْلَةً لَا حَرَجَ فِيهَا وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، وَمَنْ تَأَمَّلَ ذَلِكَ وَآمَنَ بِهِ حَقَّ إيمَانِهِ ذَهَبَ عَنْهُ دَاءُ الْوَسْوَسَةِ وَالْإِصْغَاءِ إلَى شَيْطَانِهَا .
وَفِي كِتَابِ ابْنِ السُّنِّيِّ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { مَنْ بُلِيَ بِهَذَا الْوَسْوَاسِ فَلْيَقُلْ : آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ ثَلَاثًا ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُهُ عَنْهُ } .
وَذَكَرَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرُهُ نَحْوَ مَا قَدَّمْته فَقَالُوا : دَوَاءُ الْوَسْوَسَةِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ خَاطِرٌ شَيْطَانِيٌّ ، وَأَنَّ إبْلِيسَ هُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُقَاتِلُهُ ، فَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُ الْمُجَاهِدِ ؛ لِأَنَّهُ يُحَارِبُ عَدُوَّ اللَّهِ ، فَإِذَا اسْتَشْعَرَ ذَلِكَ فَرَّ عَنْهُ ، وَأَنَّهُ مِمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ نَوْعُ الْإِنْسَانِ مِنْ أَوَّلِ الزَّمَانِ وَسَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِحْنَةً لَهُ ؛ لِيُحِقَّ اللَّهُ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ .
وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي فَقَالَ : ذَلِكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ ، فَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِك ثَلَاثًا ، فَفَعَلْت فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي .
وَفِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَطَاءٍ قَالَ : ضَاقَ صَدْرِي لَيْلَةً لِكَثْرَةِ مَا صَبَبْت مِنْ الْمَاءِ ، وَلَمْ يَسْكُنْ قَلْبِي فَقُلْت : يَا رَبِّ عَفْوَك ، فَسَمِعْت هَاتِفًا يَقُولُ : الْعَفْوُ فِي الْعِلْمِ ؛ فَزَالَ ذَلِكَ عَنِّي ا هـ .
وَبِهِ تَعْلَمُ صِحَّةَ مَا قَدَّمْته أَنَّ الْوَسْوَسَةَ لَا تُسَلَّطُ إلَّا عَلَى مَنْ اسْتَحْكَمَ عَلَيْهِ الْجَهْلُ وَالْخَبَلُ وَصَارَ لَا تَمْيِيزَ لَهُ ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ الِاتِّبَاعِ وَلَا يَمِيلُ إلَى الِابْتِدَاعِ .
وَأَقْبَحُ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُوَسْوَسُونَ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ شَيْخِهِ رَبِيعَةَ - إمَامِ أَهْلِ زَمَنِهِ - : كَانَ رَبِيعَةُ أَسْرَعَ النَّاسِ فِي أَمْرَيْنِ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَالْوُضُوءِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ غَيْرَهُ - قُلْت : مَا فَعَلَ .
وَكَانَ ابْنُ هُرْمُزَ بَطِيءَ الِاسْتِبْرَاءِ وَالْوُضُوءِ ، وَيَقُولُ : مُبْتَلًى لَا تَقْتَدُوا بِي .
وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ بُلِيَ بِالْوَسْوَسَةِ فِي الْوُضُوءِ ، أَوْ الصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ إذَا سَمِعَ الذِّكْرَ خَنَسَ ؛ أَيْ : تَأَخَّرَ وَبَعُدَ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ - رَأْسُ الذِّكْرِ وَلِذَلِكَ اخْتَارَ صَفْوَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ - مِنْ أَصْحَابِ التَّرْبِيَةِ وَتَأْدِيبِ الْمُرِيدِ - قَوْلَ ( لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ) لِأَهْلِ الْخَلْوَةِ ، وَأَمَرُوهُمْ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا ، وَقَالُوا : أَنْفَعُ عِلَاجٍ فِي دَفْعِ الْوَسْوَسَةِ الْإِقْبَالُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا شَكَوْت إلَى الدَّارَانِيِّ الْوَسْوَسَةَ فَقَالَ : إذَا أَرَدْت قَطْعَهُ فَمَتَى أَحْسَسْت بِهِ فَافْرَحْ فَإِذَا فَرِحْت انْقَطَعَ عَنْك فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَى الشَّيْطَانِ مِنْ سُرُورِ الْمُؤْمِنِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ إنَّمَا يُبْتَلَى بِهِ مَنْ كَمُلَ إيمَانُهُ ؛ فَإِنَّ اللِّصَّ لَا يَسْرِقُ مِنْ بَيْتِ لِصٍّ مِثْلِهِ ا هـ .
وَهَذَا إنْ سَلِمَ فَهُوَ فِي الْوَسْوَاسِ فِي الْعَقَائِدِ ؛ لِمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَحْضُ الْإِيمَانِ .
عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ ابْنَ عَرَفَةَ قَالَ إنَّمَا يُبْتَلَى بِهِ فِي الدِّينِ مَنْ أَخَذَهُ تَقْلِيدًا دُونَ مَنْ عَرَفَ بَرَاهِينَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَسْوَاسَ شَكٌّ وَهُوَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ الْمُسْتَنِدِ إلَى دَلِيلٍ لِكَوْنِهِ ضِدَّهُ .
وَقَالَ الْعَارِفُ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ : إذَا كَثُرَ عَلَيْك الْوَسْوَاسُ فَقُلْ : سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْخَلَّاقِ { إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } ، أَذْهَبَ اللَّهُ عَنَّا سَائِرَ الْمَضَارِّ وَالْمَخَاوِفِ وَالْفِتَنِ ، وَأَنَالَنَا كُلَّ خُلُقٍ حَسَنٍ ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِ وِلَايَةِ أَهْلِ النِّعَمِ وَالْمِنَنِ إنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ [ الفتاوى الفقهية الكبرى 2/51 ] .
التخلص من وسوسة الشيطان :
يتم التخلص من هذه الوسوسة وذلك في النقاط التالية :
الأولى :
تحريك جذوة الإيمان التي في فؤادك بأن ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، قال تعالى : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) التكوير/29 ، وما الموت إلا من قضاء الله وقدره الذي لا حيلة لابن آدم في دفعه ، أو الحيلولة
دون وقوعه ، قال تعالى : ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) يونس /49 ، وقال تعالى : ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) النساء / 78
وإذا كان كذلك فإن الخوف من الموت لا يؤخر ولا يقدم ، ولن تجني منه سوى النكد والأسى ، فلن يأتيك أجلك إلا إذا أراد الله في وقته المعلوم ، لن يتقدم عن ذلك ، سواءً خفت من الموت أو لم تخف ، وسواءً فكرت في نهايتك كيف ستكون أم لا ، كل مافي الأمر أنك لن تجني من خوفك هذا إلا ضيق الصدر ونكد المعاش ، وهذا خلاف ما أراد الله للمؤمنين من الحياة الهانئة المستقرة المطمئنة قال تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل /97 .
الثانية :
تذكر لطف الله بعباده المؤمنين ورحمته بهم ، فإنه الودود الرحيم الغفور ، الذي سبقت رحمته غضبه ، يمن على العاصين بالمغفرة الواسعة ، قال تعالى : ( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ) النساء /147
والمؤمن موعود بالجنة إذا مات ، فلا يحول بينه وبين الجنة إلا الموت ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (ما من عبد يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار ) رواه مسلم 47
الثالثة :
كن دائم التوكل على الله تعالى في كل أمورك ، واعلم أن في التوكل قطعاً لدابر الوسوسة وحسماً لمادتها ، وإذا عزمت على فعل فلا تلتفت إلى الخلف ، وإذا شعرت بهذه الهواجس فالجأ إلى الله تعالى بالاستعاذة قال تعالى : ( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) الأعراف/200
الرابعة :
ارفع رأسك للأمام وابدأ حياتك اليومية بكل ثبات ويقين ، وباشر كل أعمالك بنشاط وطمأنينة ، فكم في هذه الدنيا من المبشرات التي تبعث الأنس والطمأنينة في النفوس لتألف نظرة مشرقة متفائلة ، تعيد للإنسان الأمل وتزرع في النفس اليقين .
الخامسة :
عليك بكثرة الدعاء أن يطرد الله عنك هذه الوساوس ، ادعه بكل خشوع وتضرع ، مظهراً له العجز والفقر ، وثق تماماً أنه يجيبك على ذلك ، قال تعالى : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) البقرة /186
وأما الذين يموتون بسبب الحوادث ؛ فلا يدل موتهم بهذه الطريقة على سوئهم أبداً ، بل ربما مات بهذه الطريقة من هو في عداد الصالحين ، وتأمل هذا الحديث النبوي الشريف الذي سيعينك على إزالة هذا الإشكال ، قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) رواه البخاري
فانظر إلى من يموت بالغرق ، أو يموت بالحرق ، أو من يموت بالهدم أليس كل ذلك مما يفزع ، ولكن ذلك لم يدل على سوئهم ، بل سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم شهداء ، وهي قمة الكرامة والشرف ، فليس طريقة الموت مؤشراً على سوء الميت ، ولكن الله تعالى بحكمته يقضي أن يموت بعض الناس بهذا ،ربما لكي يرفع منازلهم في الجنة ، أو ليكفر عنهم ذنوبهم ، أو لحِكم أخرى لا نعلمها .
السادسة :
البعد عن المعاصي والمخالفات التي هي سبب تسلط إبليس على بني آدم ، قال الله
تعالى: ( إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ) النحل/ 99 .
فالوسوسة نوع من المرض ، عافانا الله وإياك منه ، وهي من تسلط الشيطان على الإنسان ليُدْخِل عليه الهم والحزن والكرب والضيق .
والوسوسة أنواع ، فمن ذلك : الوسوسة في الطلاق ، فيظن الموسوس أنه طلق زوجته ، ويحدِّث نفسه بالطلاق ، ويعتريه الشك هل تلفظ بالطلاق أم لا ؟ هل طلق أو لا ، ويبقى في حيرة من أمره ، مع أنه لا يريد طلاق زوجته ولا يرغب في ذلك .
وبعضهم إذا تكلم بكلمة معينة أو لم يَرُدَّ على زوجته ، ظن أن الطلاق يقع بذلك ، وأن هذا كناية عن الطلاق ، وكل هذا وهم لا حقيقة له ، وربما شعر أن الكلمات خرجت من فمه وأنه سمعها . فمثل هذا المبتلى حتى لو فرض أنه تكلم بكلام مسموع ، فما دام أنه موسوس ، ولم يُرِد الطلاق إرادة حقيقية ، فلا يقع طلاقه ، هذا معنى كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله المنقول في فتاوى إسلامية .
تعليق