د.عائض القرني
أكتب هذه المقالة من باريس في رحلة علاج الركبتين ... وأخشى أن أتهم بميلي إلى الغرب وأنا أكتبُ عنهم شهادة حق وإنصاف، ووالله إن غبار حذاء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أحبُ إليّ من أميركا وأوروبا مجتمِعَتين .. ولكن الاعتراف بحسنات الآخرين منهج قرآني، يقول تعالى: « ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ».
وقد أقمت في باريس أراجع الأطباء وأدخل المكتبات وأشاهد الناس وأنظر إلى تعاملهم ... فأجد رقة الحضارة، وتهذيب الطباع، ولطف المشاعر، وحفاوة اللقاء، حسن التأدب مع الآخر، أصوات هادئة، حياة منظمة، التزام بالمواعيد، ترتيب في شؤون الحياة ... أما نحن العرب فقد سبقني ابن خلدون لوصفنا بالتوحش والغلظة.
وأنا أفخر بأني عربي؛ لأن القرآن عربي والنبي عربي، ولولا أن الوحي هذّب أتباعه لبقينا في مراتع هبل واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ... ولكننا لم نزل نحن العرب من الجفاء والقسوة بقدر ابتعادنا عن الشرع المطهر.
نحن مجتمع غلظة وفظاظة إلا من رحم الله، فبعض المشايخ وطلبة العلم وأنا منهم جفاة في الخُلُق، وتصحّر في النفوس، حتى إن بعض العلماء إذا سألته أكفهرَّ وعبس وبسر، الجندي يمارس عمله بقسوة ويختال ببدلته على الناس، من الأزواج زوج شجاع مهيب وأسدٌ هصور على زوجته وخارج البيت نعامة فتخاء، من الزوجات زوجة عقرب تلدغ وحيّة تسعى، من المسئولين من يحمل بين جنبيه نفس النمرود بن كنعان كِبراً وخيلاء حتى إنه إذا سلّم على الناس يرى أن الجميل له، وإذا جلس معهم أدى ذلك تفضلاً وتكرماً منه ... الشرطي صاحب عبارات مؤذية، الأستاذ جافٍ مع طلابه ...
فنحن بحاجة لمعهد لتدريب الناس على حسن الخُلُق .. وبحاجة لمؤسسة لتخريج مسئولين يحملون الرقة والرحمة والتواضع، وبحاجة لمركز لتدريس العسكر اللياقة مع الناس، وبحاجة لكلية لتعليم الأزواج والزوجات فن الحياة الزوجية ... المجتمع عندنا يحتاج إلى تطبيق صارم وصادق للشريعة لنخرج من القسوة والجفاء الذي ظهر على وجوهنا وتعاملنا.
في البلاد العربية يلقاك غالب العرب بوجوه عليها غبرة ترهقها قترة، من حزن وكِبر وطفشٍ وزهق ونزق وقلق، ضقنا بأنفسنا وبالناس وبالحياة ... لذلك تجد في غالب سياراتنا عُصي وهراوات لوقت الحاجة وساعة المنازلة والاختلاف مع الآخرين ... وهذا الحكم وافقني عليه من رافقني من الدعاة، وكلما قلت: ما السبب ؟ ... قالوا: الحضارة ترقق الطباع.
نسأل الرجل الفرنسي عن الطريق ونحن في سيارتنا فيوقف سيارته ويخرج الخارطة وينزل من سيارته ويصف لك الطريق وأنت جالس في سيارتك، نمشي في الشارع والأمطار تهطل علينا فيرفع أحد المارة مظلته على رؤوسنا، نزدحم عند دخول الفندق أو المستشفى فيؤثرونك مع كلمة التأسف، أجد كثيراً من الأحاديث النبوية تُطبَّق هنا، احترام متبادل، عبارات راقية، أساليب حضارية في التعامل.
بينما تجد أبناء يعرب إذا غضبوا لعنوا وشتموا وأقذعوا وأفحشوا ... أين منهج القرآن:
- «وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن » الإسراء/53
- « وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما » الفرقان/63
- « فاصفح الصفح الجميل » الحجر/85
- « ولا تصعّر خدّك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور، واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير » لقمان/ 18،19
- وفي الحديث: « الراحمون يرحمهم الرحمن » رواه الترمذي وقال حسن صحيح
- و « المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده » رواه البخاري
- و « لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا . وكونوا إخوانا . كما أمركم الله » رواه مسلم
عندنا شريعة ربّانيّة مباركة لكن التطبيق ضعيف، يقول عالم هندي: ( المرعى أخضر ولكن العنزة مريضة).
تعليق