رسـالـة
عاد من سفره على عجل... بعدما سمع بخبر اقتراب العدو من بلدته الصغيرة... هناك في بيته الريفي الصغير، ترك ابنته "منى" في عقدها الأول وأمها "جميلة" حاملا، تحلم بابنها البكر لكي يحمل عنها بعض تبعات أبيه عند غيابه... لا أحد لهما بعد الله هناك سواه، مما أوقد وساوسه وأذكى نار الحيرة في قلبه، فأهل البلدة أدرى بشعابها... بمداخلها و مخارجها... أما هم، فمنذ نزوحهم إليها، لا يعرفون عنها سوى أنها قرية هادئة... فتحت ذراعيها لأسرة شاعر شريد... لفظته أشجان الوطن المسبي من أيك إلى أيك... ومن منفى إلى منفى... في رحلة تيه لا تنتهي...
وصل على عجل، يسبقه قلبه وعيناه... يتفحص الطرق... والمنعرجات.... والجدران... والبوابات... لا أثر للحياة هناك... جسده المتلظي يتحرك بلا إحساس ولا ارادة... اتجه رأسا الى البيت الذي تركه هناك... أمام شرفته، حيث ودعهما آخر مرة، وهو يهم بالسفر... عاد وكله أمل في أن يستقبلاه... كما ودعاه آخر لحظة... لكن، ما بال حديقة البيت ساكنة صامتة؟؟؟ وكأن ريحا مدمدمة مرت من هناك... وجد باب السياج مفتوحا... مد يده المرتعشة ليدير مزلاج الباب، فوجده مهشما محكم الإغلاق.... وبأعلاه ثبتت ورقة بيضاء بسكين مغروز وسطها بإحكام... انتزعها في لمحة عين، ثم أسرع إلى حجرة "منى"... فوجد أثاثها مبعثرا... ولعبها مشوهة... انهار فوق سريرها المقلوب مرخى الكتفين، بسط الورقة البيضاء في ذهول وخوف... إنه خط ابنته...إنها "منى"...
وطفق يقرأ وعيناه لا تكادان تبينان الحروف الهاربة الخائفة، ودموعه تزيدها ركاكة وإبهاما:
(( أبي... ها أنت تعود بحول الله، وأتمنى لك السلامة كي تحكي لنا أحداث رحلتك الأخيرة، عما قلته في شان الوطن والحرية والكرامة، عن مواقف إخواننا وأشقائنا في اللغة والدين والحضارة.
أبي، إني أعلم كم سيؤلمك غيابنا، ولكن... أن تعلم خير لك من أن تظل أسير القلق وطريد الحيرة والندامة... أبي... هاهم اقتحموا قريتنا ضحى... والناس ينظرون... حاصرونا أياما مثل الدهر... منعونا فيها الخبز والماء... الحليب والدواء... بل حتى الضحك والبكاء... مازال الناس يهرعون... مازال الناس يهربون... يبكون ويستنجدون... إلا نحن... أمي الآن تحكم إغلاق الباب، فهي خائفة قلقة، أما أنا، فجلست إلى مكتبي... ووضعت صورتي صحبتك أمامي... لأكتب لك هذه الكلمات على عجل... وعبر زجاج النافذة... أرقبهم وهم يركضون... يصيحون كالوحوش المتعطشة للدماء... من بيت إلى بيت... ومن حجرة إلى حجرة... يأسرون ويقتلون... يسلبون ويضربون... يشتمون ويفتشون... أمي تذهب وتجيء... لا تدري ما تفعل... ولا حتى ما تقول... تضمني تارة... وتتركني أخرى... لذا كثرت في رسالتي الخربشات...
أبي... لست خائفة... لست أدري لماذا؟ أحس وكأن لي رغبة في الضحك والبكاء معا... أهو خوف من نوع آخر... لطالما علمتني دروس رباطة الجأش وحسن الصبر والشجاعة... لذا، قررت ألا أتململ من مكاني هذا حتى أطعنهم بقصائدك العصماء... وبشعارات الحب والوطن... لن أتراجع وقد سقط من سقط... وجبن من جبن...
أبي... هاهم يقتربون من بيتنا... كسروا باب جارنا... اقتادوه كما نفعل بأضحيتنا... وفعلوا به كما نفعل بها... أراه ينتفض كانتفاضها... ترى هل سيسلخونه كما نسلخها؟ ... يأكلونه كما نأكلها؟... لست أدري... زوجته تستغيث... وددت لو أذهب لمساعدتها لردهم عنها لكن أمي أغلقت علي الباب، وأمرتني ألا أتفوه بكلمة حتى يمروا... أبي... ازدادت دقات قلبي... أربعة منهم يتجهون صوب بيتنا... أمي تدعو و تنتحب في خفاء... مازلت عاكفة على مكتبي... أناملي لا تطاوعني للكتابة... لكن مع ذلك سأحاول مهما كلفني من عناء...
أبي... أبي... إنهم يطرقون... إنهم يصرخون... إنهم يكـ... يكـ.. يكسرون كل شيء امامهم يتهشم، الخشب... الزجاج... الجدران و الآذان...
أبي... امي تصرخ... لست أدري ما أصابها... لا أريد عصيانها ومخالفة أوامرها... أضع أصابعي الصغيرة في أذني كي لا أسمعها... عيناي تذرف الدموع بلا انقطاع ... حرارة حسمي تلهبني... أطرافي ترتعد... باب حجرتي يتحرك... يرتج... سقطت سترتي المعلقة على مشجبه... سأهوي تحت السرير... أنفاسي تتقطع... لا أرى سوى أحذية سوداء ملطخة كحذاء جزار قريتنا... سقطت دميتي قربي... سأحتضنها إنها خائفة متوجسة... واسيتها بقبلة خرساء...ثم أخفيت رأسها الصغير بين ذراعي العاريتين... وصرخت في سر خافت:
- الجند على بابي أماه...
...
...
...
وبكل نعوت الفسق رموني يا أماه...
هتكوا ستري...
داسوا لعبي...
قدوا قمصاني يا أبتاه...))
ابتلت لحيته وتخضبت بفيض حزن ودموع... فمرر يده المرتعشة على عينيه ليجلو الرؤيا ويواصل:
(( ما زلت أكتب... لا أرى السطر وأكتب... فمعذرة أبي... فطالما علمتني قواعد الخط وضرورة احترام الحروف... فهاهم يتجاوزون حدودنا... ويقتحمون بيوتنا... ولا يخطئهم أحد...
وددت لو أني بمكتبك الآن، لعلي أعثر على سلاحك المدمر، الذي طالما حدثتني عنه... ألم تقل لي يوما أن الكلمة سلاح خطير يفوق مداها قصف طائرة أو قذيفة مدفع... فلماذا لا تسعفنا الآن الكلمات يا أبتي.. لماذا... لماذا...؟ ))
تلاشى السؤال، وبهتت الحروف... وانسحقت... فقرب الورقة إلى عينيه... وبأحرف غائرة انتهت الرسالة:
(( أبي... معذرة فقد نفذ الحبر من قلمي... والصبر من كياني... ولا أستطيع إتمام الكلمات ...))
اصطكت ركبتاه واضطربت جوانحه وعيناه تسقطان على بقعة دم حمراء ختمت بها الرسالة، اندفع كسيل عارم لا يلوي على شيء، جمع حقائبه ومزق خطبه... امتشق غضبه وتلمس مسدسه... ثم خرج من دائرة الحلم، يحمل آلامه ويجتر آلاف الأسئلة... عن جدوى القول... عن جدوى الفعل... في عالم تعصف به ريح المنون...
تعليق