فضائل الاستغفار:
فقد جاءت الأدلة الكثيرة الصريحة الصحيحة من القرآن والسنة المصرحة بفضل الاستغفار والمبينة لمنافعه وأجره وفضله وحسن عاقبته، وفيما يلي الإشارة إلى طرف مما يناله المستغفر باستغفاره في الدنيا والآخرة.
أ- دفع البلاء وصرف العذاب:
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء والبلاء يعتلجان بين السماء والأرض فيغلب الدعاء البلاء». ثبـت في الصحيــح عن أبي موسى الأشعري ر قال: خسفت الشمس فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد فصلى بأطول قيام وركوع وسجود رأيته قط يفعله وقال: «هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته ولكن يخوف الله بها عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره واستغفاره».
وقد جاء الحث على الاستغفار والتوبة عند حصول القحط والجدب والحاجة إلى الغيث، كما في قولـه سبحانه: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴾(نوح:10-11)، وروى ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار».
وقال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ (يونس:98) فكان الاستغفار والتوبة من أسباب صرف العذاب ورفع ودفع البلاء عنهم. وقال سبحانه وتعالى: ﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ﴾ (الفرقان: 77).
والاستغفار دعاء وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الداعي يستجاب لـه ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ومن وجوه الاستجابة صرف السوء، وجاء في سورة الأنفال قوله تعالى في شأن قريش: ﴿ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ (الأنفال:33)، فقد ذكر المفسرون أنهم كانوا يطوفون بالبيت ويقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. ثم يقولون: غفرانك. غفرانك، فأنزل الله هذه الآية قال ابن عباس كان فيهم أمانَين: النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار. وقيل: إنهم لما قالوا ﴿ وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ (الأنفال: 32) فلما ندموا على ما قالوا، وقالوا: غفرانك اللهم. فنزلت هذه الآية.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بقولـه ﴿وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ هو استغفار المؤمنين المستضعفين الذين كانوا بين ظهراني المشركين بمكة.
قلت: وعلى كلا التقديرين فالقصة تدل على فضل الاستغفار، وأنه مما يصرف الله به العذاب ويرفع به البلاء؛ لأنهم انتفعوا بالاستغفار سواء كان منهم أو ممن بين ظهرانيهم من المؤمنين. وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن فضالة بن عبيد ر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله عز وجل».
ب/ الاستغفار من أسباب إجابة الدعاء:
المستغفر مقلع عن معصيته، خائف من ذنبه، معتذر إلى ربه، منتظر لعفو الله ومغفرته وإحسانه ولطفه، وقد تبرأ من الحول والقوة إلا بالله، وقد استيقن أنه لا ملجأ له من الله إلا إليه، فهو في هذه الحالة أحرى ما يكون لإجابة الدعاء لأنه الله سبحانه
ـ لكمال كرمه وإحسانه ومحبته للمغفرة ـ يفرح بتوبة عبده ويستبشر باستغفاره؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت. ولكن ليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء إلا أعطاه».
وإذا نال العبدُ المغفرة من الله فسلم من شر ذنوبه وفاز بالقرب من الله،فإن ما بعد طلب المغفرة من المسائل أحرى بالإجابة؛ فقد روى مسلم أيضاً في صحيحه (2735) عن أبي هريرة ر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم ـ ما لم يستعجل ـ».
ج/ قرب الله تعالى من المستغفر:
وقد جاء التنبيه على قرب المستغفر ربه وأن تقديم الاستغفار بين يدي الدعاء من أسباب استجابة الله للعبد وتفضله عليه بالمغفرة وجزيل الهبة في قصة صالح عليه السلام عندما دعا قومه ثمود إلى الله وذكرهم بحقه، وحثهم على استغفاره، وبَيَّنَ أنه سبحانه قريب منهم يستجيب لهم إذا أخلصوا لـه في الدعاء وصدقوا في التضرع كما في قوله تعالى: ﴿ فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾(هود: من الآية61)، وقد قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾(النساء:110) وفي ذلك الإرشاد إلى قرب المستغفر من ربه، وأن توفيق الله للعبد للاستغفار عنوان على الفوز بالمغفرة واستجابة الدعوة.
د/ الحكمة من تقديم الاستغفار على الدعاء:
جاء تقديم الاستغفار على الدعاء في بعض المواضع في الكتاب والسنة، ومن أدلة ذلك ما جاء في قصة سليمان عليه السلام قال:﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ ﴾(ص:35)، وقولـه تعالى: ﴿ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ﴾ (آل عمران: من الآية193).
وروى مسلم في صحيحه (2697) عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: كان الرجل إذا أسلم علّمه النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات: «اللهم اغفر لي، وأرحمني، وأهدني وعافني وارزقني» ». رواية لـه أيضاً قال: «قل: اللهم اغفر لي وارحمني وارفعني واهدني وارزقني
ففي هذه النصوص من الفوائد:
1- تقديم الاستغفار على الدعاء في بعض الأحوال، لأنه نوع اعتذار وإظهار لغاية الانكسار بين يدي الله والافتقار إليه.
2- أن المذنب والداعي لا يقتصر على سؤال المغفرة فقط بل يسأل الله من واسع فضله وجزيل عطاياه فإن يدي الله سحاء الليل والنهار وخزائنه ملأَى لا تغيضها ـ أي تنقصها ـ نفقه.
3- وأن على الداعي أن يلح في الدعاء ويعظم الرغبة ويعزم المسألة فإن الله لا مكره له ولا يتعاظمه شيء أعطاه.
هـ/ الاستغفار من أسباب طول العمر مع الخير فيه:
ومن فضائل الاستغفار وثمراته التي ينالها المستغفر والتي جاء التصريح فيها في القرآن أن الاستغفار سبب لامتداد العمر وانفساح الأجل في خير الله تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ (هود: من الآية3) فإن أحد الوجهين الذين فسرت بهما الآية أن معنى: يمتعكم: يعمركم. فإن أصل الإمتاع الإطالة. قال في معجم مقياس اللغة (49/5): الميم والتاء والعين أصل صحيح يدل على منفعة وامتداد مدة في خير، يقولون حبل ماتع: أي جيد تمتد المدة به. ويقولون متع النهار: أي طال. ويقال متع الله فلاناً: أي أطال عمره وجعله ينعم في عيشه وقواه. ومتع الله: أي أبقاه لأهله وذويه يستمتعون بصحبته ويأنسون به، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه (2663) عن عبد الله بن مسعود ر قال: قالت أم حبيبة رضي الله عنها: اللهم متعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنكِ سألتِ الله لآجال مضروبة، وآثار موطوءة، وأرزاق مقسومة. لا يعجل الله منها شيئاً قبل حله، ولا يؤخر منها شيئاً بعد حله، ولو سألت أن يعافيك من عذاب النار وعذاب القبر لكان خير لك».
قلت: والغرض من سياق هذا الحديث هنا الاستشهاد على أن المتاع يطلق ويراد به طول العمر في خير، فهو انتفاع ممتد الوقت فمعنى قولـه تعالى: ﴿ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا﴾أي: يبقيكم بقاء في عافية إلى وقت وفاتكم ولا يستأصلكم بالعذاب كما استأصل الأمم التي كانت قبلكم من أهل القرى الذين كفروا. فإن هذه الآية نزلت خطاباً لهذه الأمة وتحذيراً لها أن تأخذ مأخذ الأمم المكذبة قبلها ولهذا ختمت الآية بقولـه: ﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾.
ففي صدر هذه الآية التنبيه على أثر الاستغفار في حياة المستغفر وأنه من أسباب امتداد عمره في عافية وسلامة من السوء والمكروه حتى يحين الأجل الذي قدره الله لوفاته كما قال تعالى:﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾(الأعراف:34) ومما يؤيد هذا الوجه ما جاء من الآيات في معناه كقولـه تعالى: ﴿ وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ (يونس: من الآية 98) وقولـه: ﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ﴾ (الشعراء:205) فإن قوله حين وسنين في معنى قولـه: ﴿ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ (البقرة: من الآية282) في الدلالة على امتداد العمر إلى الأجل الذي كتبه الله تعالى وحدد سببه، فإذا طال عمر الإنسان مع الاجتهاد في العمل الصالح والاستغفار والتوبة من القبائح صار ذلك خيراً لـه لقولـه صلى الله عليه وسلم «المؤمن لا يزيد عمره إلا خيراً»، وقولـه صلى الله عليه وسلم: «خيركم من طال عمره وحسن عمله».
و- الاستغفار من أسباب سعة الرزق وهبة الولد:
وقد وردت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى أول سورة هود: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾فقد فسّر المتاع الحسن بأنه النافع من سعة الرزق ورغد العيش كما ذكر المفسرون ـ رحمهم الله تعالى ـ أن من القوة التي وعد بها هود قومه من قولـه: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾ (هود: من الآية 52) أي قوة في النعم من الخصب والمال والولد.
قيل: إن الله حبس عنهم المطر وأعقم الأرحام ثلاث سنين فلم يولد لهم ولد فقال لهم هود: إن آمنتم أحيا الله بلادكم، ورزقكم المال والولد.
وقد جاء في سورة نوح النص على أن الاستغفار مما يستنزل به الرزق ويطلب به الولد كما في قولـه تعالى: ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾ (هود: من الآية52)، وقال تعالى: ﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أنهارا
وفي المسند 248/1 عن عبدالله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكثر من الاستغفار جعل الله لـه من كل هَمٍّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزق من حيث لا يحتسب».
وفي تفسير القرطبي 302/18: شكا رجل إلى الحسن البصري الجدب فقال: استغفر الله. وشكا إليه آخر الفقر فقال: استغفر الله، وشكا إليه ثالث عدم الولد فقال: استغفر الله. فقيل لـه في ذلك فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله تعالى يقول في سورة نوح وذكر الآيات الآنفة الذكر. وهذا من فقهه وفطنته رحمه الله تعالى.
ز/ تنزل الغيث وحصول الخصب:
الاستغفار من الأسباب التي يُستنزل بها الغيث ويطلب بها الخصب والبركة في الزرع والثمار والمواشي وغيرها، روى بعض المفسرين رحمهم الله أن نوحاً عليه السلام لما كذبه قومه حين دعاهم زمناً طويلاً وأصروا على ما هم عليه من الكفر والعناد حبس الله عنهم المطر فهلكت مواشيهم وزروعهم فأتوا نوحاً فاستغاثوا به فقال: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ (نوح: 10- 12) فنبههم عليه السلام بأن الاستغفار يدفع الله به القحط والجدب وينزل به الغيث والبركة في الأرزاق والزروع والثمار حمنا واسقنا، فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسُقُوا.
ح/الاستغفار من أسباب الزيادة في قوة الشخص وقوة الجماعة:
وقد جاء التنبيه على هذه الثمرة الاستغفار والتذكير بهذه النعمة من الله في قصة عاد على لسان نبيهم هود عليه السلام حيث خاطب قومه داعياً إلى الله ناصحاً مذكراً ومرشداً لهم قائلاً: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾ (هود: من الآية52)، وكانت عاد أمة مشهورة بطول الأجسام وبسطتها، وعظم الخلق والشدة في القوة حتى أصابهم الغرور في ذلك، وعتوا عن أمر ربهم، وعصوا رسولَه ،ظانين أنهم يستطيعون بقوتهم دفع العذاب الذي أنذرهم به رسولهم فقالوا ﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ فرد الله عليهم بقوله: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ (فصلت: من الآية 15) أي أن الذي خلقهم على هذه الصفة وأعطاهم تلك القوة قادر على أن ينزعها منهم ويأتيهم العذاب بقوة أشد من قوتهم التي يفتخرون بها؛ لأن الاستغفار يجمع بين اعتراف الإنسان بنعم الله عليه وعجزه عن مقابلتها بحقها واعترافه بذنبه وظلمه لنفسه وسؤاله من الله الستر والعفو والإعانة على القيام بحق، فإن العبد لا حول لـه ولا قوة إلى ذلك إلا بالله تبارك وتعالى، فتضمن الاستغفار والشكر الذي وعد الله فاعله بالمزيد ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾(إبراهيم: 7)، فأرشدت الآية الكريمة إلى أن الاستغفار من أسباب حفظ النعم وزيادتها وكمال التمتع بها ﴿ وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ (الروم: 6).
بها ، وقد جاء في الحديث القدسي الصحيح قولـه تعالى: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورِجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه»رواه البخاري 292/11. أي يحفظه الله تعالى في هذه القوى فيمتعه بها ويوفقه لاستعمالها في طاعته.
وإذا قوي الإيمان قويَ الجسمُ والهمة، واتسع الطموح وعظم الإنتاج حيث يصبح الإنسان حقيقةً حارثاً وهمّاماً ضارباً في الأرض يبتغي من فضل الله من رزق القلوب ورزق الأبدان، ومجاهداً في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ومعداً لذلك ما استطاع من قوة، وقوة الأفراد قوة للأمم، وبذلك تقوى الأمة وتعظم هيبتها ويكثر خيرها؛ فتصبح عظيمة المكانة بين الأمم مرهوبة الجانب معززة مكرمة ممكنة في الأرض ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: من الآية40).
ط- الاستغفار سبب لرحمة الله تعالى ومودته:
بالرحمة يحصل المطلوب، ومن الرحمة أن يسدد الله العبد ويوفقه في الأقوال والأفعال مع ما يعطيه من خير ويصرف عنه من سوء في الدنيا والآخرة ولا يحيط به إلا الله، وقد جاء التنبيه على هذه الجائزة الكريمة والثمرة المباركة للاستغفار في موعظة صالح نبي الله عليه السلام لقومه حين دعاهم إلى توحيد الله، ونهاهم عن استعجال العذاب، وحثهم على سؤال الله العافية وأرشدهم للاستغفار، ولما فيه من مظهر العبودية وكمال التذلل والافتقار إلى الله عز وجل﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ (النمل:46) أي هلا تتوبون وتستغفرون إلى الله من كفركم فيغفر لكم ربكم عظيم جرمكم ويصفح لكم عن عقوبته إياكم على ما قد أتيتم من عظيم الخطيئة، ﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ يقول: ليرحمكمربكم باستغفاركم إياه من كفركم (من تفسير بن جرير 171/19).
فالاستغفار من أسباب الرحمة ومن دواعي المحبة من الله تعالى لعبده، وإذا أحب الله عبده ورحمه حبَّب إليه أهل السماء ووضع لـه القبول في الأرض، ونجّاه من العذاب، وصرف عنه البلاء وزاده من فضله من كل خير دنيوي وأخروي ﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ (آل عمران: 74)
والإستغفار يكون سبباً في دخول الجنة
وذلك لأنهم هم الذين استجابوا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فإنه سبحانه أخبر عن نفسه أنه يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ (آل عمران:133).
وفي صحيح البخاري 129/11 عن أبي هريرة ر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر لـه».
وفي صحيح مسلم أيضاً 2577 حديث أبي ذر القدسي الطويل وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم«قال الله تعالى: يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم».
وأخبر سبحانه أنه يغفر أي خطيئة لمن استغفره منها ما لم يتلبس موانع المغفرة كالشرك والكفر، فإنه لا بد من التوبة منها أولاً أما ما دونها فإنه قابل للمغفرة ﴿ إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ (النساء:48)
نسأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى أن يجعلنا ووالدينا وأهلينا وذرياتنا وذوينا وأحبابنا منهم بمنه وكرمه وجوده وإحسانه.
تعليق