.•°« هِبِّي يَا رِيحَ الإِيـ مَّ ـانْ »°•.
.. د/خالد أبو شادي ..
سفينة نفسك شاردة في بحر الدنيا .. تائهة تلتمس المأوى .. أغواها الشيطان ملياًً .. في كل غداة وعشياً .. لكن الله برحمته .. أهداك طريق هدايته ...
فتهب ريحٌ قدسية .... تبذر في القلب الإيمان
وتزيل الغفلة تطويها .... تهزم أجناد الشيطان
وشراع الخير ستنشره .... لتعود إلى بر أمان
وهناك سيحلو مرسانا .... في أطيب عيش وجنان
كم تزن عند الله ؟!
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم , ثم أما بعد ...
هذه كلمات أبثها إليكم في هذا الوقت العصيب الذي استأسد فيه الباطل , وتكالبت علينا الأمم , وضاقت بنا السبل , ودب فينا الوهن , فإذا بعذابات المؤمنين لا حد لها , وإذا بكل جرح من جراحاتنا لا يكاد يندمل إلا وفي الجُعبة عشر جراحات , فقد انتشرت ظاهرة الغثائية في عموم المسلمين , وعمت مجتمعاتنا الشخوص الخاوية والرموز التافهة , وقام الأصفار مقام الرجال , وأفتى التافه في أمر العامة , حتى صح فينا وصف العشماوي:
ملياركم لا خير فيه كأنما .... خطت وراء الواحد الأصفار
والدليل: انظر حولك وفتش عن شبابنا فأين تجدهم ؟! ستجدهم إما في النوادي والأسواق يبحثون عن صيد ثمين ويتلهفون على فريسة جديدة , وإما على المدرجات الرياضية يشاهدون معارك وهمية ويهتفون بأبطال مزيفين , وإما على الأرصفة في الشوارع يقتلون الأوقات ويقتلون معها الشهامة والنخوة والمروءات .
انظر حولك وفتش عن بناتنا لتجدهن في الأسواق يعرضن اللحم على الهر , ويكشفن السلعة للمشتري , أو في بيوتهن خلف سماعات الهاتف يمزقن الفضيلة , أو مع مجلات وروايات تنشر أوهام الحب والرذيلة , أو أمام شاشات وأفلام تثير الشهوات وتشعل الغريزة , أما ليلهن .. فلذات وآهات وزفرات وحسرات .
فهل هذه الأمة تستحق النصر ؟! فيالها من حسرة لامست أفئدة المخلصين فأطارت النوم من أجفانهم وغرست الهم في أعماقهم , ننتسب لرسول على قمة أولي العزم من الرسل ثم يكون هذا حالنا ؟! ننتمي إلى رسول كان من عزمه أنه إذا نامت عيناه لم ينم قلبه ثم نغرق في سباتنا !! رسولنا الذي كان من عزمه أنه لم يتثاءب في حياته قط , رسولنا الذي كان من عزمه أنه كان إذا عمل عملا أثبته وظل مواظبا عليه حتى الممات ..
ولكن ورثة هذا النبي على دربه سائرون , ومن شعلة عزمه يقبسون , لذا فالواحد منهم بعشرة أو بمائة أو بألف أو بأكثر من ذلك أو أقل , كل بحسب علو همته وإخلاص نيته وصدق عزيمته وشدة بأسه .
لذلك كانت تربية الله للمؤمنين مبنية على هذا الأساس: التطلع إلى أعلى المقامات والوصول إلى أشرف المنازل . قال سبحانه وتعالى على لسانهم : ( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرَّيُّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلمُتَّقِنَ إِمَاماً ) الفرقان:74
ولم يقل واجعلنا من المتقين , لأن إمامة المتقين هي قدر الصالحين وأمنية المؤمنين وأمل الأمة إن هي أرادت التخلص من حالة الضعف و الذل المهين .
وهذا النوع من الخلق مارجح في الميزان إلا لعلو إيمانه وشدة يقينه وعمق تربيته ومتانة رصيده ولأنه سما حتى جاوز السما وعلا كي ما يدرك العُلا فقد أثار إعجاب النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى فاض إعجابه على من حوله من أصحابه فقال مفاخراً: (( أي الخلق أعجب إليكم إيمانا ؟ قالوا:الملائكة . قال: وكيف لا يؤمنون وهم عند ربهم ؟ قالوا: فالنبيون . قال: وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟ قالوا: فنحن . قال: وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ قالوا: فمن يا رسول الله ؟ قال: " ألا إن أعجب الخلق إلىَّ إيماناً لقوم يكونون من بعدكم يجدون صُحُفاً فيها كتاب يؤمنون بما فيها " ))
حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (3215) .
واعجب معي من خبر أحدهم وهو شيخ الإسلام ابن تيمية لمَّا قيل له: قد أمر السلطان بنفيك إلى قبرص أو قتلك أو سجنك فقال: والله إن بي من الفرح والسرور ما لو قُسَّم على أهل الشام لوسعهم , والله إني كالغنمة ما تنام إلا على صوف , إن نُفيتُ إلى قبرص دعوتُ أهلها إلى الإسلام , وإن سُجنتُ خلوتُ بعبادة ربي , وإن قُتلتُ فأنا شهيد .
وما أحوجنا اليوم إلى هذا الصنف من الرجال , ليثقلوا ميزان الأمة ويرجحوا كفتها ويصدوا عدوها ويعيدوا كرامتها , وليس بضارهم إن كانوا ندرة في هذا الزمن فإنها ندرة الجوهر في سوق الطلب , ولمعة الذهب تستحق التعب , وليس من وصول إلى هذا الصنف من الأبطال الأفذاذ إلا عن طريق إنتفاضة إيمانية تزيل ما تراكم فوقنا من غبار الذلة ودثار الضعف .
هنا جاءت هذه الريح الإيمانية لتساهم ولو بالكلمات والأسطر في صناعة هذا الجيل الرباني الفريد وتقتلع من قلبه حشائش الشهوات وبذور الملهيات , لتغرس بدلا منها بذور الإيمان وزهوره اليانعات , وتروي بدمع الخشية شجرة الشجاعة ونبتة المكرمات .
نعم .. هَبَّتْ ريح الإيمان على الأمة اليوم لتعصف بالجبن وتطيح بالخور وتذهب بالسكون , هَبَّتْ لتقتلع آثار الشيطان وأركان الشهوات ولعاعات الدنيا وسفالات النفوس , هَبَّتْ من عمق الألم وشدة المعاناة لتعلن أن الروح الجديدة قد ولدت والفجر الوليد قد بدأ وأنوار الطريق علت في الأفق تهدينا السبيل .
وهي مع هبوبها تسألك: أتدري ما سر المشكلة ومفتاح الحل وروح القضية وأصل المعاناة ؟! ثم تقوم بالإجابة عليك عاصفة قوية: إنه أنت .. لو صح دينك وقوى إيمانك .. لو علت همتك وخنس شيطانك .. لو عاشت مروءتك ومات عجزك .. لرأيت العجب , ولكنكم قوم تستعجلون !! الأمة تحتضر وبيدك قارورة الدواء , تموت وعندك أسباب الشفاء , فهلا انتفضت انتفاضة الريح وقمت قومة الأسد الجريح ؟! لتصلح ما فسد وتبني ما انهدم , وتبعث الحياة في قلبك ثم في قلب من حولك , وتستقيم على الجادة ثم تدعو غيرك إلى الإستقامة , وتنقذ نفسك ثم تمد يد المساعدة إلى كل محتاج , هذا وإلا ... فالهوان في الدنيا والهلاك في الآخرة .
... يتبع إن شاء الله بأُولى نسمات هذه الريح الإيمانية ...
( النَّسَمَة الأُولى: " الذنوب جراحات وآلام " )
تعليق