حاورني وحاورته.. وشكا لي وشكوت له..
وتداعت الهموم تتنفس، وتجد فسحة لها من صدر ضاق بها.. إلى صدر اتسع لها!
حدثني بمرارة عن التجائه للعزلة كثيراً؛ جرّاء ما يلقى من أذى الناس..
فقلت له: في العزلة أحياناً منافع ومآرب للنفس.. فلا بأس بها لمن لا يطيق أذى الناس!
وأخبرته أني – مثله – قد أحن إليها كثيرا وأنا في زحام من الأشغال التي لا تتيح الاعتزال..!
لكنه سرعان ما استدرك وذكّر نفسه وإياي بقول رسول الهدى، وخير من صبر على الأذى،
صلى الله عليه وسلم: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل
من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" (رواه أحمد عن ابن عمر
رضي الله تعالى عنهما، وصححه الألباني).
ثم نحا بنا الحديث إلى منعطف وعر..! عندما يشتد الأذى فتستبد بالمؤذي إرادةٌ الشر بك،
وتعميه وتصمه، فلا يذكر دنوَ الأجل، ويُزيّن له سوءُ العمل، فيمعن في انتقاصك وهو
يحسب أنه يحسن صنعاً، ويصنع خيراً!!
وهل مداخل الشياطين على الصالحين إلا من جنس ذلك؟!
إنه لا يفتأ يزيّن له الشيطان من الإنس والجان أنه يريد الإصلاح ما استطاع، فيسمّي له
الهمز واللمز وصفاً للواقع! ويظهر له الغيبة والنميمة نصحاً، وأن مواطن استعماله لهذه
البلايا هي من المواطن المرخّص بها في الشرع..! وهلم جرّاً من الآفات في سلسلة يمسك
بعضها ببعض؛ حتى ترديه في هوة سحيقة من التمادي في الهوى!
فينسيه هواه أنه "لا يدخل الجنة قتّات" يسعى بالنميمة بين طرفين؛ فلا يذوب قلبه فرَقاً
من ذلك الوعيد الرهيب، ويتأول له بأدنى الحيل النفسية التي ترضي هواه؛ ليوقع بفلان
عند فلان!
وينسيه أن الغيبة "ذكرك أخاك بما يكره" وإنْ كان فيه ما تقول!
لكنه لا يراها كذلك، ويعسر على لسانه التخلص منها، ورحم الله الإمام ابن حجر العسقلاني
إذ يقول: "الغيبة هي الداء العضال، والسم الذي في الألسن أحلى من الزلال"!
إلى غيرها من الآفات.. والحيل.. واتباع الهوى!
ثم صعدت وصاحبي إلى قمة المناقشة وذروة سنامها.. إلى أمر جد عسير على النفس.. وقليل فاعله!
إلى العفو.. ليس عمن ظلم ثم تركك ومضى، بل إلى العفو عمن مازال سادراً في أذاه، وهل تطيق نفس العفو عن ذلك؟!
وتألم صاحبي كثيراً وهو يروي لي عمن بالغ في أذيته بكل ما استطاع؛ حتى ألجأه إلى
الدعاء عليه ثلاث ليال - وهو يبكي بين يدي ربه – أن يخرس لسانه الذي تطاول عليه
بعظيم الأذى، فلم يلبث أن رآه يبكي وهو يرى الناس من حوله وهو لا يستطيع أن يكلمهم!
يقول صاحبي: لقد بكيت لحاله كثيرا.. لكن لا أخفيك.. لقد شفا ما جرى بعضَ ما في نفسي!
ثم عاد يتساءل: هل من سبيل حقاً إلى العفو عمن مازال أذاه متتابعاً، وهل تطيق النفس ذلك؟!
قلت له: هنا يبدو الفرق بين الدعاء على من ظلمك والدعاء له..!
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلقد كان يدعو لقومه
وهو يلقى منهم أشد الأذى ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
فإن لم تطق نفسك هذا المرتقى الصعب، فإليك تجربة أحدِ منْ لقي مثل ما لقيت.. ونلقى،
فنازعته نفسه بين سؤال ربه دفع الأذى عنه، ورغبته في ألا يدعو على ظالمه؛ فهداه
قلبه – بإذن ربه – إلى أن يدعو له بما ينفعه، ويدعو في الوقت نفسه بدفع الأذى عنه؛
ثقة ويقيناً بموعود مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء؛ فكان يدعو: اللهم ألهم فلانا من خشيتك ما تحول به بينه وبين أذيتي..
اللهم أورثه ندماً ينفعه عندك وأرى معه نصرتى... إلى نحو ذلك.
يقول الرجل: فوالله لقد رأيت بعيني عجائب آثار هذا الدعاء؛ فجمع الله لي الخيرين: العفو
عمن ظلمني وأن أدعو له من جهة، وكف أذاه عني من جهة أخرى. وإني في ذلك كله لأتمثل قولاً كريماً أجد فيه دواء قلبي، هو قول الله جل وعلا: {وَجَعَلْنَا
بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (الفرقان/20). قال القرطبي: "أي أن الدنيا دار بلاء وامتحان, فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة
لبعض على العموم في جميع الناس... {أَتَصْبِرُونَ} يعني أم لا
تصبرون؟... {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} أي بكل امرئ وبمن يصبر أو يجزع, ومن يؤمن ومن لا يؤمن, وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدي"
(اهـ). فكفى بربي خبيراً بصيراً وحسيباً ووكيلاً.. وكفى بكتابه لقلبي دواء!
وهنا التفت لصاحبي لأختم حديثي معه قائلاً: هل جرّبت هذا الدواء؟!!!
وتداعت الهموم تتنفس، وتجد فسحة لها من صدر ضاق بها.. إلى صدر اتسع لها!
حدثني بمرارة عن التجائه للعزلة كثيراً؛ جرّاء ما يلقى من أذى الناس..
فقلت له: في العزلة أحياناً منافع ومآرب للنفس.. فلا بأس بها لمن لا يطيق أذى الناس!
وأخبرته أني – مثله – قد أحن إليها كثيرا وأنا في زحام من الأشغال التي لا تتيح الاعتزال..!
لكنه سرعان ما استدرك وذكّر نفسه وإياي بقول رسول الهدى، وخير من صبر على الأذى،
صلى الله عليه وسلم: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل
من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" (رواه أحمد عن ابن عمر
رضي الله تعالى عنهما، وصححه الألباني).
ثم نحا بنا الحديث إلى منعطف وعر..! عندما يشتد الأذى فتستبد بالمؤذي إرادةٌ الشر بك،
وتعميه وتصمه، فلا يذكر دنوَ الأجل، ويُزيّن له سوءُ العمل، فيمعن في انتقاصك وهو
يحسب أنه يحسن صنعاً، ويصنع خيراً!!
وهل مداخل الشياطين على الصالحين إلا من جنس ذلك؟!
إنه لا يفتأ يزيّن له الشيطان من الإنس والجان أنه يريد الإصلاح ما استطاع، فيسمّي له
الهمز واللمز وصفاً للواقع! ويظهر له الغيبة والنميمة نصحاً، وأن مواطن استعماله لهذه
البلايا هي من المواطن المرخّص بها في الشرع..! وهلم جرّاً من الآفات في سلسلة يمسك
بعضها ببعض؛ حتى ترديه في هوة سحيقة من التمادي في الهوى!
فينسيه هواه أنه "لا يدخل الجنة قتّات" يسعى بالنميمة بين طرفين؛ فلا يذوب قلبه فرَقاً
من ذلك الوعيد الرهيب، ويتأول له بأدنى الحيل النفسية التي ترضي هواه؛ ليوقع بفلان
عند فلان!
وينسيه أن الغيبة "ذكرك أخاك بما يكره" وإنْ كان فيه ما تقول!
لكنه لا يراها كذلك، ويعسر على لسانه التخلص منها، ورحم الله الإمام ابن حجر العسقلاني
إذ يقول: "الغيبة هي الداء العضال، والسم الذي في الألسن أحلى من الزلال"!
إلى غيرها من الآفات.. والحيل.. واتباع الهوى!
ثم صعدت وصاحبي إلى قمة المناقشة وذروة سنامها.. إلى أمر جد عسير على النفس.. وقليل فاعله!
إلى العفو.. ليس عمن ظلم ثم تركك ومضى، بل إلى العفو عمن مازال سادراً في أذاه، وهل تطيق نفس العفو عن ذلك؟!
وتألم صاحبي كثيراً وهو يروي لي عمن بالغ في أذيته بكل ما استطاع؛ حتى ألجأه إلى
الدعاء عليه ثلاث ليال - وهو يبكي بين يدي ربه – أن يخرس لسانه الذي تطاول عليه
بعظيم الأذى، فلم يلبث أن رآه يبكي وهو يرى الناس من حوله وهو لا يستطيع أن يكلمهم!
يقول صاحبي: لقد بكيت لحاله كثيرا.. لكن لا أخفيك.. لقد شفا ما جرى بعضَ ما في نفسي!
ثم عاد يتساءل: هل من سبيل حقاً إلى العفو عمن مازال أذاه متتابعاً، وهل تطيق النفس ذلك؟!
قلت له: هنا يبدو الفرق بين الدعاء على من ظلمك والدعاء له..!
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلقد كان يدعو لقومه
وهو يلقى منهم أشد الأذى ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
فإن لم تطق نفسك هذا المرتقى الصعب، فإليك تجربة أحدِ منْ لقي مثل ما لقيت.. ونلقى،
فنازعته نفسه بين سؤال ربه دفع الأذى عنه، ورغبته في ألا يدعو على ظالمه؛ فهداه
قلبه – بإذن ربه – إلى أن يدعو له بما ينفعه، ويدعو في الوقت نفسه بدفع الأذى عنه؛
ثقة ويقيناً بموعود مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء؛ فكان يدعو: اللهم ألهم فلانا من خشيتك ما تحول به بينه وبين أذيتي..
اللهم أورثه ندماً ينفعه عندك وأرى معه نصرتى... إلى نحو ذلك.
يقول الرجل: فوالله لقد رأيت بعيني عجائب آثار هذا الدعاء؛ فجمع الله لي الخيرين: العفو
عمن ظلمني وأن أدعو له من جهة، وكف أذاه عني من جهة أخرى. وإني في ذلك كله لأتمثل قولاً كريماً أجد فيه دواء قلبي، هو قول الله جل وعلا: {وَجَعَلْنَا
بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (الفرقان/20). قال القرطبي: "أي أن الدنيا دار بلاء وامتحان, فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة
لبعض على العموم في جميع الناس... {أَتَصْبِرُونَ} يعني أم لا
تصبرون؟... {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} أي بكل امرئ وبمن يصبر أو يجزع, ومن يؤمن ومن لا يؤمن, وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدي"
(اهـ). فكفى بربي خبيراً بصيراً وحسيباً ووكيلاً.. وكفى بكتابه لقلبي دواء!
وهنا التفت لصاحبي لأختم حديثي معه قائلاً: هل جرّبت هذا الدواء؟!!!
تعليق