قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾[1].
تَأَمَّلْ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿ وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا ﴾، لتعلمَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْبُدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَسْجُدُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، قَالَ العُلَمَاءُ: اتِّخَاذُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا أَرْبَابًا: سُجُودُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ.
وَقَدْ رَأَينَاهُم رَأْي العَينِ يَسْجُدُونَ للقَسَاوِسَةِ والرُّهْبَانِ دَاخِلَ كَنَائِسِهِم.
وَنَوعٌ آخرُ مِنْ أَنْوَاعِ العِبَادَةِ للْأَتْبَاعِ والرُّؤَسَاءِ يَقَعُ فيه كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، هَذِهِ العِبَادَةُ هِي طَاعَةُ هَؤلَاءِ الْأَتْبَاعِ وَالرُّؤَسَاءِ فِيمَا يأَمَرُونَهُمْ بِهِ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى، وَتَرْكِ مَا ينَهَوْنَهُمْ عَنْهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وهِي عِبَادَةٌ كَالركوعِ والسُّجُودِ، والصَّلَاةِ والصِّيِامِ؛ فَإِنَّ العِبَادَةَ هي كَمَالُ الطَّاعَةِ مَعَ كَمَالِ الحُبِّ والذُّلِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا ﴾[2].
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: «يَا عَدِيُّ اطْرَحْ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ»، فَطَرَحْتُهُ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةَ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ ﴾، حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، فَقُلْتُ: إنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونُهُ، ويُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟» قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: «فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ»[3].
وهَذَا النَّوعُ مِنَ العِبَادَةِ أعني كَمَالَ الطَّاعَةِ للِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، لَيسَتْ قاصرةً عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، بلْ كُلُ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ ذلك فهُو عَبْدٌ لهَذَا الِمَخْلُوقِ شَاءَ أَمْ أَبَى، وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ.
والعجيبُ أَنَّ بعضَهُم يجْهَرُ بِذَلِكَ؛ فيقولُ مُبَرِّرًا طَاعَتَهُ لغَيرِ اللهِ فِيمَا حرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(أَنَا عَبْدُ الْمَأْمُورِ).
نَعَم هُو عَبْدٌ للمَأمُورِ، وليسَ عَبْدًا للَّهِ تَعَالَى؛ ولوْ كَانَ عَبْدًا للَّهِ تَعَالَى مَا قدَّمَ علَى طَاعَتِهِ تَعَالَى أحدًا؛ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ»[4].
أَمَا يَخْشَى أُولَئِكَ أَنْ يُقَالَ عَنْهُم يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
﴿ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ﴾؟[5].
....................
[1] سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الآية/ 64.
[2] سُورَةُ التَّوبةِ: الآية/ 31.
[3] رواه الترمذي -أَبْوَابُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَابٌ: وَمِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ، حديث رقم: 3095، والطبراني في الكبير- حديث رقم: 218، بسند حسن.
[4] رواه أحمد -حديث رقم: 20653، الطبراني في الكبير- حديث رقم: 381، والأوسط- حديث رقم: 4322، بسند صحيح.
[5] سُورَةُ الصَّافَّاتِ: الآية/ 22، 23.
شبكة الالوكة