الحمد لله الذي شرع لعباده العبادات والمعاملات، وأباح لهم من المآكل والمشارب الطيبات، وخصَّهم بخير رسله وأفضل البريات، فأرشدهم بقوله: ((إنما الأعمال بالنيات))، وأصلي وأسلم على نبيه ورسوله محمد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات؛ أما بعد:
فهذه خلاصة في أحكام النية، جمعتها من كلام أهل العلم، وذلك لعِظَمِ قدر النية وأثرها في الأعمال صحة وقبولًا، وقد رتبتها في نقاط متتالية ومسائل متوالية، وأكثرت فيها من نقولات السلف والعلماء؛ رجاءَ عظم نفعها، والله أسأل أن ينفعني وإخواني بها؛ إنه جواد كريم.
المسألة الأولى: حقيقة النية:
أ- لغة: قال الإمام الفيومي رحمه الله في (المصباح المنير): "مِن: نوى ونويته وأنويه: قصدته".
ب- اصطلاحًا:
1) قال الإمام ابن رجب رحمه الله في (جامع العلوم والحكم): "هي قصد القلب".
2) قال الإمام زكريا الأنصاري رحمه الله في (الحدود الأنيقة): "قصد الفعل مقترنًا به".
3) قال الشيخ عبدالرحمن عبداللطيف حفظه الله في (مذكرة القواعد الفقهية 1): "الإرادة المتوجهة نحو الفعل؛ ابتغاءً لوجه الله تعالى، وامتثالًا لحكمه".
المسألة الثانية: أهمية النية:
أ- قال الإمام ابن القيم رحمه الله في (إعلام الموقعين): "فهي رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي عليه يُبنى؛ فإنها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابع لها يُبنى عليها، يصح بصحتها، ويفسد بفسادها، وبها يُستجلَب التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة".
ب- قال الإمام ابن رجب رحمه الله في (جامع العلوم والحكم): "حظ العامل من عمله نيته، فإن كانت صالحة فله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد، فعليه وزره".
من أقوال السلف في تعظيم قدر النية:
1) قال إبراهيم النخعي: "لم يكن عبدالرحمن بن يزيد النخعي يعمل شيئًا إلا بنية، حتى أنه كان يشرب الماء بنية".
2) قال داود الطائي: "رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية، وكفاك بها خيرًا وإن لم تصب".
3) قال ابن المبارك: "رُبَّ عمل صغير تعظمه نية، ورب عمل كبير تحقره نية".
4) قال يحيى بن أبي كثير: "تعلموا النية؛ فإنها أبلغ من العمل".
5) قال مطرف بن عبدالله: "صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية".
6) قال أبو عبدالله أحمد بن حنبل: "يا بني، انوِ الخير؛ فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير".
7) قال زيد الشامي: "إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى الطعام والشراب".
المسألة الثالثة: المقصود بالنية في كلام العلماء:
قال الإمام ابن رجب رحمه الله في (جامع العلوم و الحكم):
"والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين؛ أحدهما: بمعنى تمييز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلًا، وتمييز صيام رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظف، ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيرًا في كلام الفقهاء في كتبهم.
والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو الله وحده لا شريك له، أم غيره، أم الله وغيره، وهذه النية هي التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيرًا في كلام السلف المتقدمين".
المسألة الرابعة: هل النية ركن أو شرط في العبادات؟
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري حفظه الله في (شرح منظومة القواعد لابن سعدي):
"هذا مما وقع الخلاف بين الفقهاء فيه؛ فمنهم من يرى أنها شرط كالحنابلة، ومنهم من يرى أنها ركن كالشافعية، وبعض الفقهاء يقول: إن ذكر النية في أول الفعل يعتبر شرطًا، واستصحاب حكم النية أثناء الفعل يعتبر ركنًا، وإذا تقرر لنا أن النية تسبق الفعل، فإنها تكون حينئذٍ شرطًا، وأما النية التي تقارن الفعل فإنها ركن في العبادة"؛ [بتصرف يسير].
المسألة الخامسة: شروط النية:
قال الإمام السيوطي في كتابه (الأشباه والنظائر) [بتصرف]:
1) الإسلام، ومن ثَمَّ لم تصح العبادات من الكافر.
2) التمييز: فلا تصح عبادة صبي لا يميز، ولا مجنون.
3) العلم بالمنوي: قال البغوي وغيره: "فمن جهل فرضية الوضوء أو الصلاة لم يصح منه فعلها، وكذا لو علم أن بعض الصلاة فرض ولم يعلم فرضية التي شرع فيها".
ألَّا يأتي بمنافٍ، فلو ارتد في أثناء الصلاة أو الصوم أو الحج أو التيمم، بطل.
المسألة السادسة: مسألة: هل يُشرع التلفظ بالنية؟
قال الإمام ابن رجب رحمه الله في (جامع العلوم والحكم):
"ولا يجب التلفظ بما في القلب في شيء من العبادات، وخرج بعض أصحاب الشافعي له قولًا باشتراط التلفظ بالنية للصلاة، وغلطه المحققون منهم، واختلف المتأخرون من الفقهاء في التلفظ بالنية في الصلاة وغيرها؛ فمنهم من استحبه، ومنهم من كرهه، ولا يُعلَم في هذه المسائل نقل خاص عن السلف، ولا عن الأئمة إلا في الحج وحده؛ فإن مجاهدًا قال: إذا أراد الحج، يسمي ما يهل به، وروي عنه أنه قال: يسميه في التلبية، وهذا ليس مما نحن فيه، فإن ((النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر نسكه في تلبيته، فيقول: لبيك عمرةً وحجًّا))، وإنما كلامنا في أنه يقول عند إرادة عقد الإحرام:
اللهم إني أريد الحج أو العمرة، كما استحب ذلك كثير من الفقهاء، وكلام مجاهد ليس صريحًا في ذلك، وقال أكثر السلف، منهم عطاء وطاوس والقاسم بن محمد والنخعي: تُجزِئه النية عند الإهلال، وصح عن ابن عمر أنه سمع رجلًا عند إحرامه يقول: اللهم إني أريد الحج أو العمرة، فقال له: أتُعلِم الناس؟ أوليس الله يعلم ما في نفسك؟ ونص مالك على مثل هذا، وأنه لا يستحب له أن يسمي ما أحرم به، حكاه صاحب كتاب (تهذيب المدونة) من أصحابه، وقال أبو داود: قلت لأحمد: أتقول قبل التكبير - يعني: في الصلاة - شيئًا؟ قال: لا، وهذا قد يدخل فيه أنه لا يتلفظ بالنية، والله أعلم".
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري حفظه الله في (شرح منظومة القواعد لابن سعدي):
"لا شك أن محل النية هو القلب، وأن التلفظ بها بدعة، أما كون محل النية القلب، فلأن هذا المعقول منها، ولم يقع خلاف في ذلك، لكن هل يصح مع نية القلب أن نعقد النية باللسان؟ نقول: الأصل في العبادات التوقيف والرجوع إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم والمتابعة له في ذلك، ولم يَرِدْ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلفظ بشيء من نواياه في العبادات، ولم يقل: اللهم إني نويت أن أصلي لك الصلاة الفلانية، فحينئذٍ يكون من جهر بالنية وتلفظ بها مخالفًا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومما يتعلق بذلك أن بعض العلماء ذكروا أنه يشرع التلفظ بالنية في أمرين:
الأول: في نسك الحج لحديث: ((لبيك اللهم عمرة))؛ [حديث جابر عند مسلم]، وحديث: ((لبيك الله حجًّا))؛ [حديث عمر عند البخاري].
الثاني: ذبح الهدي والأضحية؛ لحديث: ((اللهم هذا منك وإليك))؛ [حديث أنس في الصحيحين].
والصحيح: أن هذه الأقوال ليست تلفظًا بالنية، بل هي نسك وذكر وارد في أول العبادة؛ ولذلك لا يشرع للإنسان في بدء المناسك أن يقول مثلًا: اللهم إني نويت حج القِران أو التمتع أو الإفراد؛ لأن هذا مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك لا يشرع أن يقول: اللهم إني نويت أن أذبح الذبيحة الفلانية، وهذا هو التلفظ بالنية"؛ [يتصرف يسير].
المسألة السابعة: مبطلات النية:
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري حفظه الله في (شرح منظومة القواعد لابن سعدي):
"مبطلات النية:
1) قطعها: فمن صلى وفي أثناء الصلاة قطع نيته، فحينئذٍ تبطل نيته، ولا تصح صلاته.
2) التردد فيها: لأن غير الجازم لم تتحقق عنده نية جازم صحيحة، إلا أن الفقهاء استثنَوا عددًا من المسائل وقع التردد فيها؛ نتيجة لعسر الجزم بالمنويِّ، ومثَّلوا لذلك بمن نسي صلاة من صلوات يوم ما، ولا يدري أي الصلوات هي التي نسيها، قالوا: يشرع له أن يصلي خمس صلوات للخروج من الواجب بيقين.
3) الانتقال بالنية لما هو أعلى منها: فمن نوى نفلًا مطلقًا ثم نوى قلب صلاته إلى صلاة فرض لم يصح؛ لأن الفرض أعلى من النفل، بخلاف من نوى العكس، فإن جماهير أهل العلم يصححونها"؛ [بتصرف يسير].
المسألة الثامنة: السلف ومعالجة النية:
معالجة النية وتخليصها من شوائبها هو الهدف الأسمى من كل ما مضى، وهو أصعب ما يختص بأمور النية، وهذه باقة من كلام السلف رحمهم الله حول علاجها، أسأل الله أن يعيننا على ذلك:
1) قال سفيان الثوري: "ما عالجت شيئًا أشد عليَّ من نيتي، لأنها تتقلب عليَّ".
2) قال يوسف بن أسباط: "تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد".
3) قيل لنافع بن حبيب: "ألا تشهد الجنازة؟ فقال: كما أنت حتى أنوي، ففكر هنيهة ثم قال: امضِ".
4) قال فضيل بن عبيد: "خصال ينفعك الله بهن: إن استطعت أن تعرِف ولا تُعرَف فافعل، وتسمع ولا تُسمَع فافعل، وإن استطعت أن تجلس ولا يُجلَس إليك فافعل".
5) قال مطرف بن عبدالله: "لأن أبيت نائمًا وأصبح نادمًا أحب إليَّ من أن أبيت قائمًا وأصبح معجبًا".
6) قال أبو حازم: "اكتم حسناتك كما تكتم سيئاتك".
7) قال الأعمش: "كان عبدالرحمن بن أبي ليلى يصلي، فإذا دخل عليه الداخل نام على فراشه".
8) قال الربيع بن خثيم: "كل ما لا يُراد به وجه الله يضمحل".
9) قال مالك بن دينار: "إذا تعلم العالم العلمَ لله كسره، وإذا تعلمه لغير العمل زاده فخرًا".
10) قال محمد بن واسع: "إن الرجل ليبكي عشرين سنة، وامرأته معه لا تعلم".
11) قال سفيان الثوري: "طلبت العلم فلم يكن لي نية، ثم رزقني الله النية".
12) قال الفضيل بن عياض: "ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيَك الله منهما".
13) قال إبراهيم بن أدهم: "أي دين لو كان له رجال! من طلب العلم لله، كان الخمول أحب إليه من التطاول".
14) قيل لحمدون القصار: "ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ فقال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن تكلمنا لعز النفس، وطلب الدنيا، وقبول الخلق".
15) قال ابن قتيبة الدينوري: "كان طالب العلم فيما مضى يسمع ليعلم، ويعلم ليعمل، ويتفقه في دين الله لينتفع وينفع، وقد صار الآن يسمع ليجمع، ويجمع ليذكر، ويحفظ ليغلب ويفخر".
المسألة التاسعة: النية في طلب العلم:
قال الشيخ وحيد عبدالسلام بالي حفظه الله في مقدمة كتابه (بداية المتفقه):
"النوايا التي ينويها طالب العلم:
1) أن يتعلم ليعبد الله على بصيرة؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾ [يوسف: 108].
2) أن يتعلم لأن طلب العلم عبادة؛ وفي الحديث: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة))؛ [مسلم].
3) أن يتعلم العلم لكي تصيبه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفي الحديث: ((نضَّر الله امرأً سمع منا شيئًا فبلغه كما سمعه، فرب مبلِّغ أوعى من سامع))؛ [رواه الترمذي وحسنه].
4) أن يتعلم لكي يرفعه الله بالعلم درجات؛ قال تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11].
5) أن يتعلم ليصل إلى مقام الخشية؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
6) أن يتعلم ليبلِّغَ العلم لمن يجهله؛ وفي الحديث: ((بلِّغوا عني ولو آية))؛ [البخاري].
7) أن يتعلم ليدل الناس على الخير؛ وفي الحديث: ((من دعى إلى هدًى، كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا))؛ [مسلم]"؛ [بتصرف يسير].
المسألة العاشرة: القواعد المتعلقة بالنية:
ذكر الفقهاء رحمهم الله عدة قواعد فقهية تتعلق بالنوايا، تدخل في عامة أبواب الشرع من عبادات ومعاملات؛ وهذه أهمها:
1) الأمور بمقاصدها أو الأعمال بالنيات.
2) العبرة بالقصد والمعنى لا باللفظ والمبنى.
3) لا ثواب إلا بنية.
4) كل ما كان له أصل فلا ينتقل عن أصله بمجرد النية.
5) الأيمان مبنية على الألفاظ والمقاصد.
6) مقاصد اللفظ على نية اللافظ.
7) إدارة الأمور في الأحكام على قصدها.
8) المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعادات.
الخاتمة:
وبعد هذه الخلاصة:
فإن الموفق من أعانه الله على إتْباعِ العلم بالعمل، فالعلم بلا عمل جنون، والعمل بلا علم لا يكون، فأسأل الله أن يجعل هذه الخلاصة عونًا لعباده على سلوك سبيل مرضاته، والقرب من جناته؛ إنه جواد كريم، وصلى الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
شبكة الألوكة
تعليق