إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

قواعد العطاء

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قواعد العطاء

    الخطبة الأولى
    الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد مَن جلَّ عن زوجٍ وكفءٍ وولد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه من خلقه وخليلُه، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وجاهد في الله حقَّ جهاده، فجزاه الله عنَّا خير ما جزى نبيًا عن أُمته، وسلم تسليمًا كثيرًا.

    أمَّا بعد:
    فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فمن اتقى الله وقاه، ومن توكَّل عليه كفاه، فاتقوا الله: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة:281].

    إخوتي في الله، في دنيا مليئةٍ بالابتلاءات والمصائب والنكَبات، وتبدُّلِ الأحوال خلق الله الإنسان، جعل له مفاتيحَ يخرج بها من الضِّيق والابتلاء، أعرَضُ هذه المفاتيح وقْعًا، وأجلُّها مكانةً ومنزلةً وأثرًا، الإحسان مع الخلق والإحسان مع الخالق، جعل الله الإحسان إلى الخلق سبب لزوال النكَبات والمصائب والابتلاءات، فإذا ما نزل على إنسان بلاء وادْلهمَّت عليه لأْواءُ، ويسَّر الله له طريقًا إلى الإحسان إلى الناس، كان ذلك عنوان زوال ذلك البلاء من حياته؛ قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ [الليل:5-6-7].

    اليسرى: تيسيرُ أمورٍ في الدنيا والآخرة، ولك أن ترحلَ في كل الآيات التي وردت في كتاب الله، تصفُ حال المحسنين، وتتأمَّلها وتتدبرها، لن أقفَ أمامها لكنْ أذكِّرك بها: ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأنعام:84]، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾[يوسف:90]، ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن:60]، ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف:56]، ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس:26].

    صاحبُ الإحسانِ مع الناس هو صاحبُ الراحةِ والطمأنينةِ في الدنيا والآخرة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «مَن نَفَّسَ عن مُسلِمٍ كُرْبةً من كُرَبِ الدُّنيا، نَفَّسَ اللهُ عنه كُرْبةً من كُرَبِ يومِ القيامة»؛ أخرجه مسلم، ﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر:9].

    قال ابن القيِّم: (فما استُجلِبت نِعَم الله واستُدفِعت نِقَمه بمثل طاعته والإحسان إلى خلقه)، إذا ادْلهمَّ عليك البلاء واشتدت عليك اللأواء، فافتح أبواب الإحسان إلى الخلق، هناك بإذن الله جلَّ في علاه ستُرفع عنك المصائب والنكَبات، لكنْ لك أن تتأمَّل قواعد الإحسان إلى الخلق، وأنا أستقرأ النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ظهرتْ لي جملة من القواعد عندما نريد أن نُحسن، قواعد الإحسان إلى الخلق قواعد العطاء سمِّها ما شئت، يجبُ أن تتأمَّلها وهي لبُّ حديث هذه الخطبة.

    القاعدة الأولى: العطاءُ للآخرين هو عطاءٌ لرب العالمين، لا يريد الإنسان من وراءه جزاءً ولا شكورًا: ﴿ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان:9]، ولتحقيقِ هذه القاعدة جاءت النصوصُ الشرعيةُ تؤدِّبُ وتعلِّمُ وتصنعُ إنسانًا يُحسن إلى الآخرين ولو أساؤوا إليه؛ قال عليه الصلاة والسلام: «أفضلُالصدقةِ الصدقةُعلىذيالرَّحِمِالكاشِحِ»؛ صححه الألباني.

    الرَّحِم: قريب، كاشح، ما معنى كاشح؟ قال العلماء: (الذي يُضمر لك العداوة)، أفضل الصدقة أتصدق على قريب أعرفُ أنَّه يُضمر لي العداوة وينتظرُ مني أن أَسْقط، ثم يستهزأ بي، وربَّما يؤلِّب الأسرة عليَّ، أفضل الصدقة أتصدق على هذا الكاشح، نعم، حتى تعرف أنْ يكون عطاؤك لله وليس للبشر.

    القاعدة الثانية: الأقربون أَولى وابدأ بمن تعول، أزمة أننا نُضحِك الآخرين ونحسن إلى الآخرين، ونسرُّهم ونجلس معهم ونؤانسهم، والأقربون في منْأى عنَّا، أبٌ مهموم، أمٌّ مكلومة، أختٌ منْسيَّة، ابنٌ يشعر بقسوة، زوجةٌ مهجورة، ثم يأتي هذا الإنسان البطل في العطاء يُحسن إلى صديق العمل ويتبسم في وجه الجار من أجل العطاء، وأقربُ الناس إليه يُصْلَون بكيده ليل نهار، القاعدة في العطاء: ابدأ بمن تعول.

    القاعدة الثالثة: حياتك فرصة، إذا بقيَ النَّفَس يتردد فهي فرصةٌ لكي تُحسن؛ لأنَّه في لحظة المغادرةِ لهذه الدنيا أولُ شيء يستذكره الإنسان ويطلبُه من الله أنْ يُمنح فرصةً للعطاء: ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾، ماذا أصنع في الأجل القريب؟ ﴿ فَأَصَّدَّقَ ﴾ [المنافقون:10]، أُحسِن، أُعطي، تَمنَّى ذلك في لحظةٍ قد انتهت فيها كلُّ تلك الأماني.

    القاعدة الرابعة: العطاءُ في الصحةِ والعافيةِ والقوةِ، أعظم من العطاء في المرض في الضَّعْف في نهاية العُمر؛ لأنَّ الإنسان بدأ يرى ملامح الموت، قال عليه الصلاة والسلام لَمَّا سُئل: «أَي الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَصَحِيحٌشَحِيحٌ،تَخْشَىالفَقْرَوَتَأْمُلُ الغِنَى، وَلَا تُمْهِلَ حتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، أَلَا وَقَدْ كانَ لِفُلَانٍ»؛ متفق عليه، فالعطاءُ في الصحة أقوى.

    أسأل الله أن يرزقَنا وإياكم مفاهيمَ العطاءِ والإحسانِ إلى الآخرين، أقول ما تسمعون، وأستغفرُ الله لي ولكم من كلّ ذنبٍ فاسْتغفروه، فيا لفوزِ المستغفرين.

    الخطبة الثانية
    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعده، أما بعد:
    إخوتي في الله، أُوصيكم ونفسي بتقوى الله.

    القاعدة الخامسة في العطاء: أعظمُ العطاء: العطاءُ مما آتاك الله: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ﴾ [القصص:77]، فصاحبُ المال أعظم العطاء فيه العطاءُ في ماله، وصاحبُ المنصِب أعظم العطاء فيه العطاءُ من منصبه، وصاحبُ الجاه بين الناس والعلاقة مع الناس أعظم العطاء عنده أنْ يبذُل ذلك الجاه، فكلُّ أمر آتاك الله منه أعظمُ العطاء أنْ يكونَ مما آتاك الله.

    القاعدة السادسة: العطاءُ من حاجةٍ وفقرٍ وقلةِ ذات يدٍ، أعظم أجرًا عند الله وأثقلُ في الميزان: «سَبَقَدِرْهَمٌمِائةَأَلْفِدِرْهَمٍ»؛كما أخبر عليه الصلاة والسلام عن تصدُّق الفقراء،حسَّنه الألباني، ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ ﴾ فقر؟﴿ خَصَاصَةٌ ﴾[الحشر:9]، أشدُّ أنواع الفقر: ﴿ خَصَاصَةٌ ﴾، وهذا يؤْثِرُ على نفسه.

    القاعدة السابعة: إذا سخَّرك الله لتكونَ مِفتاحًا للعطاء للآخرين، وتدلَّ الناس على العطاء، فهذا دليلُ منزلةٍ عند الله، وإذا كنتَ مغلاق العطاء، ولا تعطي وتمنع الناس من العطاء بأفعالك وكلماتك، أو تصد الناس عن العطاء، فهذه أسوأ المنازل في التعامل مع الله.

    تدخلُ جماعةٌ من مُضَر في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام في مسجده وعليهم الفقر، يتألَّمُ لحالهم ويخطبُ في الناس ويحثُّهم على الصدقة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «تَصَدَّقَ رَجُلٌمِندِينَارِهِ،مِندِرْهَمِهِ،مِنثَوْبِهِ،مِنص َاعِ بُرِّهِ،مِنصَاعِ تَمْرِهِ، حتَّى قالَ، ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ »،«قالَ - راوي الحديث -: فَجَاءَ رَجُلٌمِنَالأنْصَارِ بصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قدْ عَجَزَتْ، قالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِمِنطَعَامٍ وَثِيَابٍ، حتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ، كَأنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: مَنسَنَّفيالإسْلَامِسُنَّةًحَسَنَةً،فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُمَنعَمِلَ بهَا بَعْدَهُ،مِنغيرِ أَنْ يَنْقُصَمِنأُجُورِهِمْ شيءٌ»؛ رواه مسلم.

    أن تكونَ مفتاحَ عطاء، تدلُّ الناس على العطاء، منزلةٌ عظيمةٌ عند الله جلَّ في علاه.

    القاعدة الثامنة: كَفُّ شرِّك عن الناس أعظم من عطائك للناس، مِنَ الناس من يبذُل مالًا أو جاهًا أو علاقات، ثم هو يؤذي، يتطاول، يظلم، يُشعِر الناس بضَعفهم، هذا في المنزلة عند الله أسوأ؛ لأنَّ كفَّ الشر أعظم منزلة عند الله، قال عليه الصلاة والسلام: «المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ»؛ رواه البخاري.

    فقبل أن تفكرَ في العطاء فكِّر أنْ يسلَمَ الناس من شرِّك، وفي اللحظة التي يعطي الإنسان فيها الآخرين، ثم يمنُّ ويتفضل، ويُشعِرهم بالدُّونية، وما زال يذكِّرهم بعطاء السنوات الماضية، وقفتُ معك في المكان الفلاني، أتنسى جميلي عليك في المكان الفلاني، اذهب خذ أجرَك ممن أردتَ أن تأخذ منه أجرك في الدنيا، فلن يكون لك شيء عند الله؛ لأنَّك منَنْتَ على الناس بصدقةٍ قصدتَ بها وجه الله تعالى.

    القاعدة التاسعة: العطاء أبواب وليس بابًا واحدًا، فلا تتخيَّلوا بكلماتي أنَّني فقط أريدكم أن تذهبوا وتُخرجوا من أموالكم وإن كان إخراج المال أمره عظيم، لكنْ هذا يُخرج من ماله، هذا يعفو عن الناس، هل تعلم أنَّ العفو عن الذين أخطؤوا بحقك وأساؤوا في جنابك، وتطاولوا على عِرضك، العفو عنهم من أعظمِ أنواع العطاء عند الله جلَّ في علاه؟ أن تحفِّز الناس على أمر سعوا فيه، أن تبتسم لهم، أن تسألَ عن أحوالهم، أن تقفَ مع شأنهم، أن تذهبَ إليهم تواسيهم، أن تقفَ في أفراحهم، هذا كلُّه عطاء، ليس العطاءُ بابًا واحدًا وإنما هو أبواب.

    القاعدة الأخيرة: أعظمُ العطاءِ أن تدلَّ الناس على القرآن، أعظمُ العطاءِ أن تُصلح دين الناس، أن تفتحَ للناس طريقًا يدلُّهم على الله، وأسوأ الذين يمنعون العطاء الذين يحرمون الخيرَ عن الناس أو يكونوا أبوابَ شرٍّ على الناس، فلا يُرسل مقطعًا في مجموعة أو ينشر شيئًا للناس مما يُبعد الناس عن دين الله، هو شخصٌ يدلُّ الناس على الله ولا يحرم الناس عن أبوابِ الخير، هنا ستكونُ صاحبَ عطاء، وإن كنتَ صاحبَ عطاء رُفع عنك البلاء.

    أسألُ الله العليَّ العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى - أنْ يرزُقَنا وإياكم الفقه في دينه والعمل بكتابه والتأسي بسنةِ نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلني وإياكم من أصحابِ العطاءِ ظاهرًا وباطنًا، ألا وصلُّوا وسلِّموا على البشير النذير والسراج المنير، فإنَّ الله أمركم بذلك في كتابه قائلًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب:56].





    د.فؤاد صدقة مرداد

    شبكة الالوكة

يعمل...
X