الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد أمرنا الله تعالى بالكسب والسعي في طلب الرزق الحلال، ويسَّر طلب الرزق لعباده، ولذلك قال سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].
وأمر الله تعالى باختيار الطيب مما في الأرض، فقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51].
وبالمال يقضي الإنسان حاجاته، ويلبي به رغباته، ولذلك يتعلق به قلبه ويحبه كثيرًا؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 20].
والمال نعمة عظيمة إن أحسن المسلم كسبه وإنفاقه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعَمرُو بن العاص: يا عمرُو، إنِّي أُريدُ أن أَبعثَك على جَيشٍ فيُغنِمَك اللهُ، وأَرغَبَ لك رغبةً منَ المالِ صالحةً، قال عمرو: قُلتُ: إنِّي لم أُسلِمْ رغبةً في المالِ، إنَّما أَسلَمْتُ رغبةً في الإسلامِ، فَأكونَ معَ رَسولِ اللهِ، فَقال: يا عمرُو، نِعْمَ المالُ الصَّالحُ للمَرءِ الصَّالح)؛ رواه البخاري في الأدب المفرد.
ولكننا أيها الأحبة مسؤولون عن نعمة المال من جهتين، سيسألنا الله تعالى عن كسبه وسيسألنا عن إنفاقه، فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عَن عُمُرِه فيمَ أفناهُ وعن جسدِهِ، فيم أبلاهُ، وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ، وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وفيم أنفقَهُ)؛ رواه الترمذي وصححه الألباني.
أيها الأحبة الكرام، لقد تساهل كثير منا معشر المسلمين في الكسب وأخذ المال من غير حلِّه دون مبالاة ولا خوف من الله تعالى، حتى ظن بعض الناس أن الحلال ما حل في أيديهم، فيأكل الحرام وربما يطعم أبناءه من المال الحرام عياذًا بالله، ولقد أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لاَ يُبَالِي المَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الحَلاَلِ أَمْ مِنَ الحَرَامِ»؛ رواه البخاري في صحيحه.
أيها الأحبة في الله، الكسب المحرم يوجب على آكله النار عياذًا بالله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنَ السُّحْتِ، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ)؛ رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني.
وعن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخلُ الجنَّةَ جسدٌ غُذِيَ بحرامٍ)؛ صحَّحه الألباني في صحيح الترغيب 1730، وقال: صحيح لغيره عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
• والكسب المحرم يمنع إجابة الدعاء، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟"؛ رواه مسلم في صحيحه.
• الكسب المحرم سبب لمحق البركة من المال، أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: ((البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا))؛ رواه البخاري ومسلم.
هناك صور متعددة من المكاسب المحرمة، ومنها:
1- المعاملات المحرمة كالربا: والربا من كبائر الذنوب ومن أشدها إثمًا، قَاْلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]، ولقد جاء التحذير من خطورة الربا أو التعامل به في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ"؛ رواه مسلم.
وقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، رَجُلًا يَسْبَحُ فِي نَهَرٍ دم، وَيُلْقَمُ الْحِجَارَةَ، فَسَأَلْتُ مَا هَذَا؟ فَقِيلَ لِي: "آكِلُ الرِّبَا"؛ متفق عليه.
2- ومن المكاسب المحرمة الاختلاس من المال العام: كاختلاس شيء من أموال الدولة ولوكان شيئًا يسيرًا، وهو من الغلول الذي قال الله فيه: ﴿ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 161].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنِ اسْتَعْمَلْناهُ مِنكُم علَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنا مِخْيَطًا فَما فَوْقَهُ، كانَ غُلُولًا يَأْتي به يَومَ القِيامَةِ)؛ رواه مسلم.
3- ومن المكاسب المحرمة ما يكسبه الإنسان عن طريق الاحتيال أو الغش، ومن الغش عدم الإفصاح عما في السلعة من عيوب تنقص قيمتها، وهذا يقع كثيرًا في تعامل الناس مع بعضهم طمعًا في الحصول على أكبر نسبة من المال، وإن كان ذلك بالإضرار بالغير، فاتَّق الله يا عبد الله، ولا ترضَ لغيرك ما لا ترضاه لنفسك، واعلم أن البركة في الصدق والأمانة، وأما كتمان العيب في السلعة، فهو سبب لمحق البركة في المال، وإن كان ظاهره الكثرة.
وفي صحيح مسلم أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ مَرَّ علَى صُبْرَةِ طَعامٍ، فأدْخَلَ يَدَهُ فيها، فَنالَتْ أصابِعُهُ بَلَلًا، فقالَ: ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ؟ قالَ: أصابَتْهُ السَّماءُ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: أفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعامِ كَيْ يَراهُ النَّاسُ، مَن غَشَّ فليسَ مِنِّي))، وفي رواية: ((مَن غَشَّنا فليسَ مِنَّا)).
4- ومن المكاسب المحرمة هدايا العمال أو الموظفين التي يتلقونها ممن يتعاملون معهم وهي رشوة في صورة هدية، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل كان عاملًا على الزكاة وقد أُهديت له هدية: (مَا بَالُ العَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، «ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ» أَلا هَلْ بَلَّغْتُ" ثَلاَثًا)؛ رواه البخاري ومسلم.
قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: «كانت الهدية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، واليوم رشوة»؛ البخاري.
هذه الهدايا تفسد نية وعمل الموظف، أو المسؤول، وتجعله يقدم من لا يستحق التقديم لا لشيء إلا لأنه قدم هدية، وتجعله يتعاطف مع الظالم فيؤيِّده، أو على الأقل يتغاضى عنه، فلا شك أنها تغير النفوس.
5- ومن المكاسب المحرمة أخذ أموال الناس بالباطل، كمن يأخذ دينًا أو نحوه، ثم لا يعدي الدائن حقه؛ إما أن ينكر ما عليه، أو بمماطلته بالسداد، ولنعلم أنه لا يحل أخذ مال الغير إلا عن طيب نفسه ولو كان عودًا من أراك؛ كما قال النبي صلى الله وسلم، ويزداد الإثم حين يكون أخذ المال الحرام بالحلف بالله زورًا لتضييع الحقوق، وهضم الأموال؛ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ"، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَإِنْ كان قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ"؛ أخرجه مسلم والنسائي واللفظ له.
فانظروا رحمكم الله كيف أن أخذ عود السواك بغير حق، كان سببًا من أسباب دخول النار والعياذ بالله، فكيف بمن يسرق أكبر من السواك، وقد قال تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ [البقرة: 188].
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَها يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ"؛ أخرجه البخاري.
أيها الأحبة في الله، لو نظرنا في سِيَر السلف رضوان الله عليهم، لوجدناهم يخافون أشد الخوف من المال الحرام، بل من المال المشتبه به، فهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان لا يأكل إلا من كسبه، وفي يوم من الأيام جاءه غلامه بشيء فأكل منه، ثم قال الغلام لأبي بكر: أتدري ما هذا، فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لرجل في الجاهلية، فأعطاني، فأدخل الصديق أصبعه في فيه، وجعل يقيء حتى ظن أن نفسه ستخرج.
وهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه شرب لبنًا فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ فقال: مررت بإبل الصدقة وهم على ماء، فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء.
كانوا يتركون كثيرًا من الحلال خشية الوقوع في الحرام، ومرة كان يوزن بين يدي عمر بن عبدالعزيز مسك للمسلمين، فأخذ بأنفه حتى لا تصيبه الرائحة، فلما سئل عن ذلك قال: وهل ينتفع منه إلا بريحه.
فاحذَر أيها المسلم من كل كسب خبيث، ولا تَغرنَّك الدنيا الفانية، فإنها حطام زائل، وسراب خادع، ولذة عابرة، واعلم أنك إن اتَّقيت الله رزقك من حيث لا تحتسب، وبارك لك فيما رزقك، كما وعدك ربك سبحانه بقوله: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق: 2].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إنك لن تدع شيئًا اتقاءَ الله تبارك وتعالى، إلا آتاك الله خيرًا منه)؛ رواه أحمد وصحَّحه الألباني.
وأعلم أن القليل الحلال خير من الكثير الحرام، ولا تغتر بمن استدرجه الله، فأغدق عليه الأموال وهو لا يتورع عن الحرام، فإن الله يُمهل ولا يهمل، وليس كثرة المال دليلًا على رضا الله عن العبد. وختامًا نقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغِنَى عن كثرة العَرَض، ولكن الغِنَى غِنى النَّفْس)؛ رواه البخاري ومسلم.
نسأل الله أن يصلح أحوالنا، وأن يُغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبدالهادي بن صالح محسن الربيعي
شبكة الالوكة
تعليق